قد أطالوا القول في الدهن المتنجس، مع إنه لا تستحق الإطالة، إذ الكلام فيه.
تارة: بحسب العمومات و الإطلاقات.
و أخرى: بحسب الأدلة الخاصة.
أما الأولى: فمقتضاها جواز بيعه إن كان فيه غرض صحيح غير منهي عنه شرعا، أي غرض كان سواء كان هو الاستصباح أو تدهين آلات المكائن أو نحو ذلك، و ظاهرهم الإجماع على الجواز حينئذ من غير خلاف بينهم.
و أما الثانية: فمقتضى الأخبار الجواز أيضا، ففي صحيح ابن وهب- على ما في التهذيب- عن الصادق عليه السّلام: «قلت له: جرذ مات في سمن، أو زيت، أو عسل؟ قال عليه السّلام: أما السمن و العسل فيؤخذ الجرذ و ما حوله و الزيت يستصبح به يبيع ذلك الزيت، و يبينه لمن اشتراه ليستصبح به»4٥، و في صحيح الحلبي قال:
«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفارة و الدابة تقع في الطعام و الشراب فتموت فيه، فقال عليه السّلام: إن كان سمنا أو عسلا أو زيتا فإنه ربما يكون بعض هذا، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله و كله، و إن كان الصيف فارفعه حتى تسرج به، و إن كان بردا فاطرح الذي كان عليه، و لا نترك طعامك من أجل دابة ماتت عليه»4٦، و قريب منه موثق أبي بصير مشتملا على قوله عليه السّلام: «و إن كان ذائبا فأسرج به، و أعلمهم إذا بعته»4۷، و في خبر إسماعيل بن عبد الخالق. قال: «سأله سعيد الأعرج السمان و أنا حاضر عن الزيت و السمن و العسل تقع فيه الفارة فتموت كيف يصنع به؟
قال عليه السّلام: أما الزيت فلا تبعه إلا لمن تبين له فيبتاع للسراج، و أما الأكل فلا. و أما السمن فإن كان ذائبا فهو كذلك، و إن كان جامدا و الفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها و ما حولها، ثمَّ لا بأس به، و العسل كذلك إن كان جامدا»4۸.
و هذه الأخبار موافقة للقاعدة من جهة طرح ما حوله و أكل البقية مع الجمود، كما إنها موافقة لها من جهة الاستصباح و الإسراج، أو البيع لهما، و ما هو مخالف للعمومات و الإطلاقات أمران.
الأول: ما يظهر منها من وجوب الإعلام.
الثاني: كون الاستصباح تحت السماء، لمرسل المبسوط: «روى أصحابنا انه يستصبح به تحت السماء دون السقف»4۹، مع خلو الأخبار على كثرتها و كونها في مقام البيان عن هذا القيد.
و البحث في هذه الأخبار من جهات.
الأولى: هل صحة البيع مشروط بالأخبار بالنجاسة، فلو باع بدونه يكون باطلا.
و بعبارة أخرى: البحث بالنسبة إلى الحكم الوضعي، مقتضى الأصل و الإطلاق عدم اعتباره فيها، خصوصا مع علم المشتري بالنجاسة أو كون الاستصباح هو المنفعة الغالبة فيهما، لأن هذا كسائر العيوب، فكما إنه ليس الأخبار بالغيب شرطا لصحة البيع، فكذا في المقام، و لا يجوز التمسك بإطلاق هذه الأخبار، للشك في شمولها لهذه الصورة.
و دعوى: أن البيع مع عدم الاخبار يكون باطلا إذا كان الاستصباح المنفعة النادرة، لوقوع العوض بإزاء المتنجس و المنفعة النادرة ملقاة بالكلية.
مخدوش: لأن العوض إنما يقع بإزاء ثبوت المنفعة الواقعية علم به المشتري أو لا، كما في جميع الموارد و المفروض ثبوته.
نعم، له الخيار من الجهة العيب.
الثانية: هل يعتبر قصد المنفعة المحللة في صحة البيع أو لا؟ و الأقسام أربعة.
الأول: اعتبار شرط المنفعة المحللة.
الثاني: اعتبار قصدها و لو لم يشترط.
الثالث: كفاية وجودها الواقعي و لو لم يقصد و لم يشترط.
الرابع: كون قصد المنفعة المحرمة مانعا عن الصحة لا أن يكون قصد المحللة شرطا لها.
و مقتضى الأصل و الإطلاق عدم اعتبار الأولين إلا أن يدل دليل عليه و هو مفقود، إذ ليس في البين إلا مثل هذه الأخبار، و لا ظهور لها في ذلك بل و لا إيماء إليه كما يأتي في الجهة الثالثة، لأن المقابلة و المعاوضة إنما وقعت بين المالين الواقعيين، و هما الثمن و الدهن من جهة الاستصباح شرط ذلك في العقد أولا، وقع القصد إليه أولا.
و بالجملة: المعاملة مقصودة لا محالة و هي منطبقة على الجهة المحللة شرعا، فالجهة المحللة مقصودة تبعا إجمالا و إن لم يقصد تفصيلا، و لا دليل على اعتبار أزيد من هذا القصد، و أما قصد المنفعة المحرمة فلا ريب في كونه تجريا، و لكن كونه مانعا عن الصحة يحتاج إلى إثبات تقديم هذا القصد على إمكان وقوع المعاملة بين الجهتين المحللتين واقعا، كما في بيع الغاصب لنفسه حيث يقولون بإمكان تصحيحه بإجازة المالك، و في المقام قصد أصل المعاملة حاصل بلا إشكال، و فيها جهة محللة كما هو المفروض، و قصد المنفعة المحرمة لا ينافي وقوع القصد بالنسبة إلى المحللة أيضا و لو إجمالا، و ترجيح قصد المنفعة المحرمة على قصد المحللة و الحكم بالفساد يحتاج إلى دليل و هو مفقود، بل مقتضى أصالة الصحة عند الشك الحكم بالصحة إلا إذا انطبق عليه عنوان آخر يوجب الفساد.
نعم، لو كان بحيث لم يتحقق منه قصد أصل المعاملة يتجه الفساد حينئذ.
و لكن، يظهر من شيخنا الأنصاري رحمه اللّه البطلان مطلقا، حيث قال:
«و بالجملة فكل بيع قصد فيه منفعة محرمة بحيث قصد أكل الثمن أو بعضه بإزاء المنفعة المحرمة كان باطلا، كما يومي إلى ذلك ما ورد في تحريم شراء الجارية المغنية و بيعها».
أقول: جزمه رحمه اللّه بالبطلان من مجرد الدعوى و الإيماء مخدوش، لأن في مورد الجارية المغنية يكون التباني العقدي منهما بالنسبة إلى الغناء و هو غير مجرد القصد مع إنه منصوص كما سيأتي فيكون من القياس.
و الحاصل: إنه إن تمَّ إجماع على إن مجرد قصد المنفعة المحرمة يوجب البطلان، أو انطبق عنوان آخر عليه من العناوين المبطلة فهو، و إلا فإثباته بحسب الدليل فيما لو كانت في البين منفعة محللة مشكل جدا.
الثالثة: وجوب الإعلام إما تكليف نفسي أو مقدمي للتنزه عن النجاسة فيما يشترط فيه الطهارة، أو إرشادي محض من باب الإرشاد إلى عيب المبيع.
أما الأول: فلا وجه له، إذ لا حكمة له في المقام إلا إذا كان من التسبيب إلى أكل الحرام و كان ذلك حراما.
و الثاني: صحيح في ما إذا كان الدهن و السمن مما تعارف استعمالهما في الأكل، و كان ذلك تسبيبا إلى استعمال الحرام الواقعي، بل يمكن أن يكون واجبا نفسيا حينئذ لوجوب ترك التسبيب إلى القبيح لو لم نقل بأنه أيضا من مجرد الإرشاد إلى حكم العقل و ليس بوجوب مولوي.
و أما لو كانت منافعه الشائعة غير الأكل بحيث لم يتحقق تسبيب عرفي فلا وجه للوجوب النفسي و لا المقدمي لغرض عدم المقدمية عرفا، فيتعين الأخير و هو الإرشاد إلى العيب، و في وجوب الإرشاد إلى مطلق العيب كلام يأتي في خيار العيب إن شاء اللّه تعالى.
الرابعة: نسب إلى المشهور وجوب الاستصباح بالدهن النجس تحت السماء، و لا يمكن إتمام هذا الحكم بحسب القواعد العامة، لأن دخان النجس ليس بنجس، كما تقدم في كتاب الطهارة، و احتمال تصاعد الأجزاء الدهنية بالحرارة منفي بالأصل، مع إنها متلاشي في الفضاء و لا يبقى لها عين حتى يجب الاجتناب عنها، و الدليل منحصر بمرسل المبسوط المتقدم و هو قاصر عن إثبات الوجوب، و إن صلح للاحتياط الندبي.