تقدم ما يعتبر في الشاهد، و البحث هنا في ما يعتبر في تحقق أصل الشهادة، و المناط كله هو اليقين و العلم، لقوله تعالى وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ۱، و قوله تعالى إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ۲، و غيرهما من الآيات المباركة، و قول نبينا الأعظم صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم حين سئل عن الشهادة فقال: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع»۳، و قول الصادق عليه السلام: «لا تشهد بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك»4، مضافا إلى إجماع المسلمين، و أصالة عدم الاعتبار إلا بعد العلم و اليقين، و أن الشهادة من الحضور، و المنساق منه هو الحضور في المدارك الحسية الظاهرية.
(مسألة ۱): يعتبر فيها اليقين و العلم القطعي (۱)، و لا فرق فيه بين أن يستند حصول العلم إلى المبادئ الحسية و الحواس الظاهرية أو إلى مبادئ أخرى مما تكون متعارفة بين الناس و موجبة لحصول العلم و اليقين لديهم و لم يردع عنها الشرع (۲). نعم لو حصل له العلم من الجفر و الرمل و نحوهما مما يكون غير متعارف لا اعتبار به (۳).
لأن المراد بالعلم و اليقين و الشهود في الكتاب و السنة، ما يوجب سكون النفس و هو الاطمئنان، لا العلم و اليقين المنطقي، الذي يكون مقابلا له، فكما أن الحجج المعتبرة الشرعية من الأمارات و الظواهر و القواعد العامة و الخاصة، و الأصول المعتبرة الحكمية أو الموضوعية، أعم من العلم المنطقي، و إلا لاختل النظام و تعطل الكتاب و السنة عن الاستفادة، و انقرضت الأحكام من بين الأنام لقلة العلم المنطقي، خصوصا مع ازدياد الشبهات بمرور الأعصار و الأيام، فكذا في المقام، فيكون المراد بقوله تعالى: (العلم، و الحق) كما مر، و بقول النبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: (الشمس)، و بقول الصادق عليه السّلام: (كالكف) في معنى الشهادة، كما مر، الوضوح في الحجية و الاعتبار و الاستناد و الاطمئنان و سكون النفس إليه فعلا، بل هذا هو المراد من العلم في عرف العامة مطلقا، فتنزّل الأدلة الشرعية عليه، إلّا مع القرينة على الخلاف، و هي مفقودة.
و استدل من قال بالاختصاص بالعلم الحاصل من المدارك الحسية بأمور:
الأول: الأصل، أي أصالة عدم الحجية إلّا في مورد العلم.
الثاني: الإجماع.
الثالث: ظواهر الأدلة.
و الأول محكوم بالإطلاقات و العمومات. و الثاني على فرض اعتباره أول الدعوى في هذه المسألة الخلافية العامة البلوى، و مرّ أن المراد بالأخير ما يوجب الاطمئنان و سكون النفس.
الرابع: قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في موثق السكوني: «لا تشهد بشهادة لا تذكرها، فإنه من شاء كتب كتابا و نقش خاتما»٥.
و فيه أن مفهومه جوازها بما ذكرها، و هو مطلق يشمل جميع أنحاء الذكر.
الخامس: مكاتبة جعفر بن عيسى، قال: «جعلت فداك، جاءني جيران لنا بكتاب زعموا أنهم أشهدوني على ما فيه، و في الكتاب اسمي بخطي قد عرفته، و لست أذكر الشهادة، و قد دعوني إليها، فاشهد لهم على معرفتي أن اسمي في الكتاب و لست أذكر الشهادة؟ أو لا تجب الشهادة عليّ حتى اذكرها، كان اسمي (بخطي) في الكتاب أو لم يكن؟ فكتب: لا تشهد»٦.
و فيه: أن السائل فرض في السؤال عدم معرفة الشهادة فلم تتم الحجة على الشهادة لديه، و لا ريب في أن الاسم و الخاتم أعم من ذلك، خصوصا مع عدم معرفة صاحبهما بأصل الشهادة، و يشهد للتعميم خبر عمر بن يزيد قال:
«قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: الرجل يشهدني على شهادة فاعرف خطي و خاتمي، و لا أذكر من الباقي قليلا و لا كثيرا، فقال لي: إذا كان صاحبك ثقة و معه رجل ثقة فاشهد له»۷.
لأن هذا هو المتيقن مما استدلوا به على المنع مما تقدم.
(مسألة ۲): كل ما حصل به العلم و لم يردع عنه الشرع تجوز الشهادة به في كل مورد حصل للشاهد العلم بالمشهود به من دون اختصاص بمورد دون آخر (٤).
لوجود المقتضي و فقد المانع، فتشمله الأدلة بلا محذور و مدافع.
و ما يظهر من جمع- منهم المحقق رحمه اللَّه في الشرائع- من الاختصاص بموارد تسعة: النسب، و الملك المطلق، و الوقف، و النكاح، و الموت، و الولاء، و العتق، و الرق، و الولاية، فإن أرادوا التخصيص بها فلا وجه له، و إن أرادوا الغالب، مع أنه ذكر أغلب الموارد في رواية يونس عن الصادق عليه السلام قال: «سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق، أ يحل للقاضي أن يقضي بقول البينة إذا لم يعرفهم من غير مسألة؟ فقال: خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات، و التناكح، و الذبائح، و الشهادات، و المواريث، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه»۸، فيستفاد منها أن الحصر في الخمسة ليس حقيقيا، بل هو غالبي، كما مر.
(مسألة ۳): في كل مورد حصل للشاهد العلم بنفس السبب دون المسبب تصح له الشهادة بالأول دون الآخر (٥).
فيقول- مثلا- استفاض عندي أن هذا وقف، و لا يقول: هذا وقف، لفرض حصول العلم له بالاستفاضة دون أصل الوقفية، فلا بد و أن يشهد بما هو المعلوم دون غيره.
(مسألة ٤): في موارد الحجج الشرعية تأسيسية كانت أو إمضائية، و قواعدها خاصة كانت أو عامة، و كذا الأصول المعتبرة موضوعية كانت أو حكمية- تصح الشهادة بما ينساق منها من الاعتذار الظاهري (٦). دون الحكم الواقعي (۷).
لأنه المعلوم بعد فرض حجيتها و اعتبارها بما أقيم عليها من الأدلة العلمية القاطعة، فيكون المشهود به علميا قطعيا، فيشهد أن هذا ملكه بمقتضى يده أو تصرفه مثلا، و لا يشهد بالملكية الواقعية، و لكن عن الصادق عليه السلام في خبر ابن وهب: «الرجل يكون في داره ثمَّ يغيب عنها ثلاثين سنة، و يدع فيها عياله، ثمَّ يأتينا هلاكه و نحن لا ندري ما أحدث في داره، و لا ندري ما أحدث له من الولد، إلا إنا لا نعلم أنه أحدث في داره شيئا، و لا حدث له ولد، و لا تقسم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار، حتى يشهد شاهد عدل أن هذه الدار دار فلان بن فلان، مات و تركها ميراثا بين فلان و فلان، أو نشهد على هذا؟ قال: نعم، قلت: الرجل يكون له العبد و الأمة فيقول: أبق غلامي أو أبقت أمتي، فيؤخذ بالبلد، فيكلفه القاضي البينة أن هذا غلام فلان لم يبعه و لم يهبه، أ فنشهد على هذا إذا كلفناه و نحن لم نعلم أنه أحدث شيئا؟ فقال: كلما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته، أو غاب عنك لم تشهد به»۹، و عنه عليه السلام أيضا: «الرجل يكون له العبد و الأمة قد عرف ذلك فيقول: أبق غلامي أو أمتي، فيكلفونه القضاة شاهدين بأن هذا غلامه أو أمته و لم يبع و لم يهب، أ نشهد على هذا إذا كلفناه؟
قال: نعم»۱۰، و يمكن حملهما على صورة وجود القرينة الموجبة للعلم مع أن الأخير معارض بما في ذيل الأول.
لعدم العلم به إلّا للَّه الذي هو عالم السر و الخفيات.
نعم في الأحكام الضرورية الأولية الواقعية، تصح الشهادة العلمية القطعية، كما هو معلوم.
(مسألة ٥): لو ثبت شيء بالاستفاضة و شهد الشاهد بها تقبل الشهادة (۸)، و أما متعلقها فلا تقبل الشهادة به (۹).
لوجود المقتضي- و هو السماع بالنسبة إلى الاستفاضة- و فقد المانع، فتشمله الأدلة.
لعدم تحقق العلم به. نعم إن دلّ دليل من الخارج على تحقق المتعلق بنفس الاستفاضة، فالظاهر الجواز.
(مسألة ٦): لو وجد الحاكم شهادة الشهود مكتوبة في ورقة موقّعة بخاتمهم لا يصح الاعتماد عليه (۱۰)، و كذا لا يجوز للشاهد الشهادة بمضمون ورقة وجدها (۱۱)، إلّا إذا حصل العلم و اليقين بصحتها من كل جهة (۱۲).
لأعمية الشهادة من مطابقة الخط و الخاتم لواقع المشهود به.
للأصل، و ما تقدم من مكاتبة جعفر بن عيسى۱۱.
بحيث يصح الاعتماد عليه من كل جهة، فحينئذ يجوز لوجود المقتضي و فقد المانع، و كذا الكلام في مثل المسجلات الصوتية أو التصويرية.
(مسألة ۷): إذا سمع الأعمى صوتا و علم بصاحبه تجوز شهادته فيه تحملا و أداء، و كذا لو شهد الأصم فعلا و كذا الأخرس إن عرف الحاكم إشارته (۱۳)، و مع الجهل يحتاج إلى مترجمين عدلين (۱٤).
كل ذلك لإطلاق الأدلة، و عمومها، و ما دلّ على أن إشارة الأخرس كنطقه مع الافهام عرفا۱۲. نعم لا تقبل شهادة الأعمى في المبصرات، و الأصم في المسموعات، إذا كان ذلك حين التحمل.
لأصالة عدم الاعتبار إلّا بذلك.
(مسألة ۸): لو غلب على الشاهد السهو أو النسيان لعارض من مرض أو غيره لا يجوز الاعتماد على شهادته (۱٥).
لفرض عدم إحراز الحاكم الشرعي الشهادة على ما هي عليه، إلّا إذا احتفت بقرائن خارجية توجب صحتها، و عدم عروض السهو و النسيان في خصوصياتها.
- سورة الإسراء: ۳٦.
- سورة الزخرف: ۸٦.
- الوسائل: باب ۲۰ من أبواب الشهادات الحديث: ۲.
- تقدم في صفحة: ۱٦۷.
- الوسائل: باب ۸ من أبواب الشهادات الحديث: 4.
- الوسائل: باب ۸ من أبواب الشهادات الحديث: ۲.
- الوسائل: باب ۸ من أبواب الشهادات الحديث: ۱.
- الوسائل: باب ۲۲ من أبواب كيفية الحكم.
- الوسائل: باب ۱۷ من أبواب الشهادات الحديث: ۲.
- الوسائل: باب ۱۷ من أبواب الشهادات الحديث: ۳.
- تقدم في صفحة: ۱۸۸.
- راجع صفحة: ۱۱4.