و هو: من أهم الأمور النظامية الابتلائية للإنسان منذ ظهوره على وجه الأرض إلى أن يرث اللّه الأرض و من عليها، و لا يختص بزمان دون آخر و لا بمكان دون آخر بل يعم مشارقها و مغاربها على اختلاف الأمم و الأديان و لا بد من بيان أمور.
الأول: الفقه الإسلامي- بل فقه كل مذهب و ملة سماوي- إما أن يبحث عن بيان وظيفة الإنسان بينه و بين اللّه تعالى أو لا.
و الثاني: إما أن يبحث عن تنظيم الوظائف الفردية أو الاجتماعية أو لا، و الثاني إما متقوم بطرفين أو لا. و الأول هو العبادات و الثاني السياسيات و الثالث العقود و الرابع الإيقاعات، و قد بذل العقلاء بفطرتهم التي أودعها اللّه تعالى فيهم غاية جهدهم منذ عصور متوغلة في القدم في الوصول إلى هذه الأمور فلم يصلوا إليها إلا برسل إلهية و رسالات سماوية تكون لهم خير رفيق إلى هذا الطريق.
ثمَّ أن المعروف بين الفقهاء في تقسيم الفقه إنه إما عبادات، أو معاملات، أو أحكام- كالصيد و الذباحة و الأطعمة و الأشربة و الإرث و نحوها- أو سياسيات- كالحدود و الديات و القصاص و التعزيرات و نحوها- و قالوا: ان العبادات أقسام ثلاثة.
الأول: العبادات بالمعنى الأخص، و هي المتقومة بقصد القربة التي لا تصح بدونها.
الثاني: العبادات بالمعنى الأعم، و هي تشمل كل ما يصح فيه قصد القربة فيخرج المكروه بالذات و المحرم، و تشمل العبادات بهذا المعنى جميع الفقه أي: العبادة الشأنية الاقتضائية.
الثالث: الأمور الحسبية التي تتقوم بأشخاص خاصة- كالقضاوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- و حيث انها تنظيم للبلاد و شؤون العباد بما شاء اللّه و أراد يصح أن تسمى عبادة من هذه الجهة.
كما إن المعاملات تطلق على معان ثلاثة.
الأول: ما لا يتقوم بقصد القربة فيشمل بهذا الإطلاق جميع أبواب الفقه إلا خصوص العبادات بالمعنى الأخص.
الثاني: ما يتقوم بالمتعاقدين فيختص بخصوص العقود فقط و لا تشمل الإيقاعات.
الثالث: كلما يحصل بالإنشاء الفعلي أو القولي فيشمل جميع العقود و الإيقاعات، و كل ذلك اصطلاح و لا مشاحة فيه قلّ أو كثر.
ثمَّ ان العقود إما إذنية- كالوديعة و العارية و الوكالة في الجملة- أو عهدية تنجيزية- كالبيع و الرهن و النكاح و نحوها- أو عهدية تعليقية- كالسبق و الرماية و الجعالة- أو من العهدية و الإذنية، كالإجارة فإنها بالنسبة إلى نقل المنفعة عهدية و بالنسبة إلى العين إذنية.
و أصل العقود متقومة بالعهد إلا أن له مراتب متفاوتة ادنيها الإذنية، و أعلاها التنجيزية اللازمة و ما بينهما متوسطات. و من قال: إن العقد هو العهد المؤكد أراد المرتبة الكاملة من العهد دون مراتبه الدانية المشتركة معها في مطلق العهدية.
الثاني: موضوعات الأحكام إما أمور تكوينية، أو تعبدية صرفة أو عرفية، أو من الموضوعات المستنبطة، و قد يكون من الأمور المركبة من الوجدان و الأصل و جل موضوعات المعاملات بل كلها من القسم الثالث لأنها كانت معهودة بين الناس فوردت الشريعة عليها ثمَّ حددها بحدود و قيود، و لذا جرت سيرة الفقهاء على التمسك بالعمومات و الإطلاقات فيها ما لم يثبت الردع عنها شرعا إلا إذا كانت مشكوك الصدق عند العرف فلا يصح التمسك بها حينئذ.
الثالث: ما له التحقق الواقعي أقسام أربعة.
الأول: الذات الواجب بذاته تعالى و تقدس الذي هو عين الواقع و حقيقته.
الثاني: ما يكون في ذاته و بغيره كالجواهر بأنواعها من الروحاني و الجسماني فإنها موجودات مستقلة فتكون بذاتها و حيث إن لها علة فتكون بغيرها.
الثالث: ما يكون في غيره و بغيره كالأعراض بأقسامها، حيث إنها تحتاج إلى المعروض فتكون في غيرها و لها علة فتكون بغيرها.
الرابع: الاعتباريات التي تقوم بها النظام و لها واقعية اعتبارية، و ليست من الجواهر لعدم الاستقلال في تحقق ذواتها في الخارج، و لا من الاعراض لعدم تقومها بالموضوع، فهي برزخ بين الجوهر و العرض فمن حيث عدم التقوم بالموضوع تشبه الجوهر، و من حيث عدم التحقق الخارجي الاستقلالي تشبه العرض، فهي متحققة بالغير لاحتياجها إلى العلة و متحقق في ذاتها أي: في الاعتبار لا في الذات حتى تكون كالجواهر، و جميع الأحكام التكليفية و الوضعية من هذا القبيل على ما يأتي من الشرح و التفصيل.
و بضميمة المعاني الربطية التي أثبتناها في الأصول التي هي في الغير و بالغير و للغير تصير الأقسام خمسة، و لكن ليس لها تحقق استقلالي و كلامنا فيما له التحقق الاستقلالي و لو اعتبارا.
إن قيل: هذا مخالف لما ثبت في فن المعقول من عدم إمكان خروج ممكن من الممكنات عن إحدى المقولات فالقول بتحقق الاعتباريات باطل.
يقال: إن قولهم صحيح في الموجودات الحقيقية دون الاعتبارية، و هي خارجة عن مورد بحثهم مطلقا.
الرابع: جميع المنشئات من العقود و الإيقاعات لها جهتان.
الأولى: جهة الإضافة إلى المنشئ (بالكسر)، و من هذه الجهة تكون من الأعراض كالكيف المسموع إن كان الإنشاء قوليا أو الفعل إن كان فعليا فيما يصح الإنشاء بالفعل كالمعاطاة مثلا، و من حيث نفس الإنشاء القائم بالنفس يكون كيفا نفسانيا، و يصح أن تكون من مقولة الإضافة أيضا لأنها تصاحب عامة المقولات.
الثانية: جهة الإضافة إلى المنشإ (بالفتح) تكون من الاعتباريات، و لا بأس بأن يجتمع في شيء واحد مقولات شتى و بذلك يمكن أن يجمع بين الكلمات، فمن يقول بأنها من مقولة الإضافة أراد الجهة الأولى، و من يقول بأنها من مقولة الكيف أراد الجهة الثانية فراجعها فإنها مشوشة كما لا يخفى.
الخامس: لا ريب في أن الألفاظ موضوعة لطبيعي المعنى فقط بلا دخل لأنحاء الوجودات و آثارها فيه أبدا، فإنها تدور مدار العلل الخارجية و مقتضياتها و هي خارجة عن إرادة الواضع و عن خصوصيات الوضع، و لا ربط له بها و على هذا فطبيعي مفهوم البيع شيء، و البيع باعتبار وجوده الإنشائي شيء، و البيع باعتبار تعقّب القبول و تمامية الأثر شيء آخر، و حينئذ فمن يقول باعتبار تعقب القبول في البيع لأنه المتبادر منه و لعدم صحة السلب عنه، فإن أراد ذلك بحسب الوجود الخارجي و مقام الفعلية فلا اشكال فيه، و هو متفق عليه بين الكل و هو المتبادر منه لهذه الجهة. و لا يصح السلب منه أيضا، و أما إن أراد ذلك بحسب مقام ذات طبيعي البيع من حيث هو مفهوم خاص في مقابل سائر المفاهيم، فلا ريب في عدم اعتبار ذلك، لانسلاب جميع الخصوصيات عن المفاهيم في مرتبة الوضع كما هو معلوم.
و بذلك يمكن الجمع بين الكلمات، فمن يقول باعتبار تعقب القبول فيه أي: من حيث الوجود الخارجي و مقام الأثر، و عليه لا فرق بين تعقب القبول و سائر الشرائط المعتبرة في ترتب الأثر. و من يقول بعدم الاعتبار أي: بلحاظ المفهومية من حيث هي.
نعم، لو كان مفهوم البيع في مرتبة ذاته متقوما بالغير كالإضافيات المحضة لكان له وجه، و لكنه ليس كذلك.
و خلاصة الكلام: إن للإيجاب مراتب متفاوتة كما أن لتعقب القبول أيضا كذلك.
الأولى: صدور الإيجاب لغوا و عبثا بلا قصد جدي و لا إرادة حقيقية كما إذا قال لغوا: بعت داري بلا قصد الإنشاء و بلا قابل في البين أصلا و لم يقل أحد باعتبار تعقب القبول فيه.
نعم، ربما ينسبق إلى الذهن القبول من جهة الأنس الذهني بالإيجاب و القبول الحقيقي الخارجي، و لكنه ليس من التعقب الحقيقي، بل عبور ذهني من جهة أنسه بما في الخارج فيكون كالأخبار بإيجاب البيع كذبا مع علم المخاطب بأنه كاذب، ففرض تعقب القبول حينئذ عبوري ذهني لا أن يكون حقيقيا خارجيا.
الثانية: ما إذا ثبت القصد الجدي في الإيجاب و إنشائه مع عدم قابل في البين و لا وجود شرائط النقل و الانتقال لا العرفي منها و لا الشرعي، و هذه الصورة كالصورة الأولى لا وجه لتعقب القبول مع الالتفات إلى ذلك إلا بنحو ما تقدم من العبور الذهني الغير المستقر.
الثالثة: ثبوت القصد الجدي إلى الإيجاب و إنشائه و وجود القابل و قبوله مع تحقق الشرائط العرفية للنقل و الانتقال دون الشرعية، و لا ريب في تحقق المرتبة من مراتب التعقب بالقبول حينئذ كما لا ريب في عدم تحقق المرتبة الحقيقية الواقعية شرعا.
الرابعة: عين الصورة الثالثة مع تحقق الشرائط الشرعية أيضا، و لا ريب في تحقق التعقيب بالقبول من كل جهة و ثبوت الأثر كذلك، و حينئذ فإن أراد من يقول بأن البيع عبارة عن الإيجاب المتعقب بالقبول ترتب الأثر الشرعي أي:
الملكية الاعتبارية الحاصلة بالعقد، فلا ريب في أنه أخص من مطلق تعقب القبول، فلا وجه لقوله من هذه الجهة و إن أراد مجرد تعقب القبول و لو بنحو العبور الذهني و من دون حصول الملكية الاعتبارية و النقل و الانتقال الخارجي فهو حق في الجملة، و بذلك يمكن أن يجمع بين الكلمات أيضا، فراجع و تأمل و إن بعد عن ظواهر بعضها.
السادس: مما تعارف بين الناس الملك، و الحق، و الحكم فيرون لأنفسهم ملكا و فيما بينهم حقوقا و في شريعتهم حكما، و لا اختصاص لذلك بملة الإسلام بل يعم جميع الأنام، و الملك من البديهيات في وجدانهم، فيرونه إنه الاستيلاء و السلطة المطلقة على المملوك.
و في مورد الحق يرون نحوا من الاستيلاء و السلطة أيضا، فيكون الفرق بينه و بين الملك بالشدة و الضعف.
و ما يقال: من أنه لا فرق بين الحق و الحكم إلا بالاعتبار فلا يكون التقسيم ثلاثيا بل يكون ثنائيا، الملك و الحكم مخالف لوجدان الناس و استعمالات الفقهاء، كما سيأتي.
و أما الحكم فلا يرون فيه الاستيلاء و السلطة أبدا و لو بأضعف أنحائه، و إنما هو ترخيص محض من الحاكم بالنسبة إليه، فيقولون: هذه أراضي لا أبيعه إلا بثمن كذا- مثلا- لأنه ملكي، و هذا المكان حقي لأن فيه رحلي، و لي أن أصلي في هذا المكان- مثلا- لأن اللّه أباح لي ذلك، و الأول: مثال الملك، و الثاني: مثال الحق، و الأخير: مثال الحكم.
ثمَّ انّه كل حق قابل للإسقاط و النقل إلا ما خرج بالدليل، للسيرة العقلائية على ذلك و إرسال الفقهاء له إرسال المسلمات، و كل حكم لا يقبل الاسقاط و النقل مطلقا، للإجماع، و لعدم كونه تحت اختيار المكلف.
و يمكن أن يكون نفس الحق غير قابل للنقل و الانتقال و الاسقاط، و لكن باعتبار متعلقه يقبل ذلك كله، و قد تقدم في أحكام الأموات۱، بعض الكلام و يأتي في الموارد المناسبة إتمام المقال.
و أما لو شك في شيء إنه حكم أو حق، أو كان شيء ذو جهتين فمقتضى الأصل عدم سقوطه بعد ثبوته و عدم تحقق النقل و الانتقال بالنسبة إليه، و لا يصح التمسك بالعمومات و الإطلاقات، لكونه من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه.
نعم، لو علم قابليته للنقل و الانتقال و الاسقاط.
عرفا و شك في ذلك شرعا، فتشمله العمومات و الإطلاقات لتنزلها على العرفيات، فالموضوع محرز حينئذ.
السابع: الملكية الاعتبارية التي يقوم بها النظام.
تارة: يحصل بلا إرادة و اختيار كما تحصل بالإرث بموت المورّث.
و أخرى: تحصل بأمر قصدي قائم بشخص واحد- كالملكية الحاصلة بالحيازة في المباحات الأصلية.
و ثالثة: تحصل بسبب قصدي ينتسب به إلى تمليك الغير بلا احتياج إلى المطاوعة و القبول، كالملكية الحاصلة بالوصية بناء على عدم اعتبار القبول فيها.
و رابعة: تحتاج إلى المطاوعة و القبول كما تحصل في البيع و نحوه، فالملكية واحدة و إن اختلفت أطوارها و شؤونها. و لها أيضا أقسام أخر من الاستقلالية، و التبعية، و الطلقية، و المحجورة بأسبابها التي يأتي التعرض لها إن شاء اللّه تعالى.
الثامن: العقود الناقلة بين الناس ثلاثة لا رابع لها، ناقل العين، و ناقل المنفعة، و ناقل الانتفاع.
و الأول: إما بيع، أو هبة، أو صلح، أو قرض و سيأتي تعريف البيع و إن العوض مأخوذ في قوامه و تحققه، و أما الهبة فهي متقومة بالمجانية عند المتعارف من الناس و ظاهر الفقهاء أيضا ذلك، و العوض في الهبة المعوضة شرط خارج عن قوامها فهي مباينة مع البيع من هذه الجهة، و الصلح متقوم بالتسالم و العوض خارج عن حقيقته فيختلف عن البيع و الهبة. و أما القرض فهو: تمليك بالضمان مثلا أو قيمته، فهو أيضا مخالف مع الجميع.
و أما الثاني: فهو الإجارة و المساقاة و المزارعة بأنواعها كما يأتي إن شاء اللّه تعالى، لأنهما إما إجارة النفس للعمل أو إجارة الأرض أو الشجر للعمل فيهما، و يمكن إدخال النكاح في الإجارة أيضا، و قد ورد في المنقطع «انهن مستأجرات»۲. و في الدائم و إن ورد «إنما يشتريها بأغلى الثمن»۳، و لكن لا بد من حمله على بعض المحامل فللإجارة أنواع، النكاح الدائم و المنقطع من أحديها.
و الأخير: هو العارية و يأتي تفصيل ذلك كله في محله إن شاء اللّه تعالى.
ثمَّ إن المتعارف بين الناس في البيع، بل في مطلق المعاوضات ان التقابل بين المالين، إلا أن في البيع يكون ذلك من قوام ذاته، و في غيره يكون من الشرط الخارج عنه.
و لكن الشقوق العقلية أربعة: كون التقابل بين المالين، و كونه بين الفعلين، و كونه بين الفعل و المال أو العكس، و الظاهر بل المعلوم إن الفعل طريق إلى المال، لا أن يكون له موضوعية خاصة في مقابل المال فيرجع جميع الأقسام إلى القسم الأول.
التاسع: المشهور بين الفقهاء إن ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيحة فأشكل عليه.
أولا: بأن نزاع الصحيح و الأعم إنما هو في المجعولات الشرعية و المعاملات إمضائية لا شرعية حتى يجري فيه النزاع المعهود.
و ثانيا: إنه لا يصح التمسك بالإطلاقات و العمومات على هذا، لكونها مجملة بناء على الصحيح، لأن له مراتب شتى و لم يعلم أي مرتبة فيها أريد، فلا وجه للتمسك بها حينئذ، مع إن بناء الفقهاء على التمسك بها مطلقا.
و الحق إن أصل هذا النزاع و الإشكال ساقط.
أما الأول: فلأنه المراد بالصحيح: الصحيح الاقتضائي لا الفعلي من كل جهة فيجامع الأعم أيضا.
و أما الثاني: فلأنه ليس النزاع مختصا بالمجعولات الشرعية بل مورده المستعملات الشرعية أعم من التأسيسية و الإمضائية، مع انّا قد أثبتنا في محله من إنه لا تأسيس للشارع في الألفاظ مطلقا، و على فرض صيرورة الألفاظ مجملة بناء على الصحيح لا يضر بالتمسك بها لأنه إجمال واقعي، و لا يضر ذلك بكونها مبينة عند العرف فهي من حيث كونها مبينة عند العرف تكون مورد الأدلة الشرعية، فكل صحيح عرفي صحيح شرعي إلا ما خرج بالدليل الخاص و كل ما صدق عليه البيع- مثلا- عند العرف صح التمسك بإطلاق دليله أيضا لتنزل الأدلة على العرفيات مطلقا.
نعم، لو شك في الصدق العرفي لا وجه للتمسك بها حينئذ، و لا فرق بعد ذلك كله بين كون الألفاظ مستعملة في الأسباب أو في المسببات، و ذلك لمكان الاتحاد العرفي بينهما.
العاشر: مقتضى الوجدان إن في كل عقد جهات ثلاثة.
الإيجاب و القبول القائم بالمتعاقدين من حيث صدور كل منهما مستقلا من الموجب و القابل، و العهد و العقد الذي يكون مظهرا للإيجاب و القبول خارجا، و العنوان البسيط الاعتباري الذي هو الأثر لذلك كله. و المسبب عن جميع ذلك و هو البيع، و الصلح، و الهبة، و النكاح إلى غير ذلك.
و هذه الجهات الثلاثة.
تارة: تلحظ مستقلا و مع قطع النظر في كل واحد منها عن الآخر.
و أخرى: تلحظ المجموع من حيث المجموع و لكل واحد من هذين اللحاظين آثار و أحكام يأتي التعرض لها إن شاء اللّه تعالى. و نسبة العنوان البسيط إلى كل واحد من الإيجاب و القبول و العقد نسبة الأثر التوليدي إلى مؤثرة عند اجتماع شرائط التأثير، كاجتماع شرائط التأثير في الأفعال و الشرائط الوضوئية و الغسلية في حصول الطهارة، و ما كان له هذا العرض العريض و هذه الجهات و الملاحظات فلو عرّف من بعض جهاته لا وقع لتكثير الاشكال عليه مع إن هذه التعريفات من شرح الاسم و من جهة لا من كل جهة، و قال في الجواهر و نعم ما قال رحمه اللّه: «لم نجد فيما وصل إلينا من كتب الأصحاب تعريفا له جامعا مانعا».
الحادي عشر: المتعارف في البيوع مطلقا كون المبيع عينا، و عليه إجماع الفقهاء أيضا فقالوا: إن البيع لنقل الأعيان بل جعلوه الأصل في ذلك، و الإجارة لنقل المنفعة، و العارية لنقل الانتفاع، و المراد بالعين هنا في مقابل المنفعة و الحق فتشمل العين الشخصية الخارجية و الكلي المشاع و الكلي في العين كصاع من صبرة و الكلي الذمي و الدين، و يأتي تفصيل كل ذلك إن شاء اللّه تعالى في محله، و لو أطلق البيع على بيع المنفعة يكون بنحو من المجاز و العناية.
و أما العوض فيصح بكل ما له غرض صحيح غير منهي عنه شرعا- منفعة كان أو حقا أو شيئا آخر- سواء كان قابلا للنقل و الانتقال أو الإسقاط أو لا، كما لو باع شخص شيئا لزيد بعوض أن يصلي زيد فرائضه اليومية، مثلا، و حيث أن في العوض غرض عقلائي صحيح يصح و يصدق عرفا البيع فتشمله الإطلاقات و العمومات قهرا، و لا مانع في البين من إجماع أو نص، أو شاهد عقلي، كما يصح أن يكون العوض حقا قابلا للنقل أو للإسقاط و إن لم يقبل النقل.
الثاني عشر: البيع ينحل إلى أمور خمسة: الإنشاء القائم بالطرفين قوليا كان أو فعليا على ما سيأتي تفصيله، و المبادلة الحاصلة بينهما، و الملكية الحاصلة لهما، و الالتزام النوعي منهما على التسليم و التسلم، و حق الامتناع عند امتناع الآخر و كل التزام بيعي يشتمل على هذه الأمور عند العقلاء كافة، و إذا نظرنا إلى الأثر الحاصل من تلك الأمور يكون بسيطا، و إذا نظرنا إلى نفس هذه الأمور يكون مركبا فيصير النزاع في البساطة و التركب لفظيا لا معنويا، و يكفي فيها عدم ثبوت الردع عنها شرعا في هذا الأمر العام البلوى، و قد ورد التقرير بأنحاء شتى يأتي التعرض لها إن شاء اللّه تعالى، و من أراد تعريف البيع بالحد الجامع لا بد له و إن يأتي بما يشمل على تمام هذه الجهات، و لم أر في تعريفاتهم ما يشمل عليها فيعلم من ذلك أن مرادهم مجرد الإشارة الإجمالية إلى خاصة من خواصه فقط، و منه يعلم سقوط جملة كثيرة من الإشكالات في المقام.
الثالث عشر: البيع متقوم عرفا بتبديل الملكية و المالية بحسب الغالب و بينهما تلازم عرفا، و إن كان الفرق بين المال و الملك بحسب الدقة بالعموم من وجه فقد يجتمعان- كدارنا و ثيابنا و كتبنا مثلا- و قد يكون الشيء مالا من دون أن يكون ملكا كالكلي قبل الاستقرار في الذمة، و المباحات قبل الحيازة، و عمل الحر قبل وقوع المعاوضة عليه، فحيثية المالية و صف بحال الذات و ينتزع من الشيء باعتبار كونه مما يميل إليه النوع و يبذل بإزائه المال، و قد يكون ملكا من دون أن يكون مالا كحبة من الحنطة و الشعير، و شعرة من الغنم و البعير، فالملكية من قبيل الوصف بحال المتعلق فينتزع من الشيء باعتبار الإضافة الوجدانية و الاستيلاء.
الرابع عشر: لفظ الشراء من الأضداد فيطلق على فعل البائع المعبر عنه في الفارسية ب (فروختن)، و على فعل المشتري المسمى ب (خريدن)، و من الأول قوله تعالى وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ4، و من الثاني قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ٥، و لكن الغالب استعمال البيع في فعل البائع، و الشراء في فعل المشتري إلا مع القرينة على الخلاف.
الخامس عشر: للعقود مطلقا شروط عامة لنفس العقد، و للمتعاقدين، و للعوضين، و شروط خاصة تختص ببعض العقود بالخصوص، و كذا للإيقاعات شروط عامة و لبعضها شروط خاصة، و نحن نتعرض للشرائط العامة لجميع العقود هنا (في البيع) و إذا وصلنا إلى العقود الأخر نحيلها على المقام، كما إنا نذكر الشروط العامة للإيقاعات في الطلاق إن شاء اللّه تعالى، و نحيل البقية عليه و من اللّه الاعتصام.