البحث فيه تارة بحسب الأدلة الخاصة، و أخرى بحسب القواعد العامة و فيها التعرض لمفاد الأصل العملي.
أما الأول: فليس في البين إلّا الإجماعات المستفيضة، بل المتواترة التي نقلوها. و فيه أولا: أنّها حاصلة مما ارتكز في أذهانهم من عدم وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، و عدم الجزم بثبوت الاستحباب النفسي للطهارة الترابية في صورة فقدان الماء.
و ثانيا: أنّ المتيقن منها عدم العلم ببقاء العذر إلى آخر الوقت خصوصا مع احتمال صيرورته فاقد الطهورين في الوقت.
و أما الثاني: فعمدة الوجه فيه أنّ وجوب المقدمة غيريّ تبعيّ منبعث عن ذيها، و لا وجه للوجوب الغيريّ التبعي قبل وجوب ذي المقدمة، و قد أجيب عنه بوجوه تعرضنا لها مع ما يرد عليها من الخدشة في الأصول، و لعلّ أحسن تلك الوجوه و أسلمها عن الإشكال: أنّ الأحكام الشرعية اعتبارات صحيحة عقلائية، و ما يتعلق بها من حدود موضوعها و قيودها جزءا كانت أو شروطا يكون تحت استيلاء الشارع و اختياره كيف ما شاء، فله أن يجعل المتقدم أو المتأخر مشمولا لما جعله من الحكم الاعتباري و لا محذور فيه، لفرض كونه تحت اختياره بأيّ نحو يريد، و لا وجه لجريان أحكام العقليات الدقية على الاعتباريات الشرعية الصحيحة.
و لنا أن نقول أيضا: إنّ لوجوب المؤقتات مرتبتين:
الأولى: ما تختص بما بعد الوقت.
الثانية: ما يتعلق بها من حيث الاحتفاظ بمقدماتها، و هي غير مختصة بما بعد الوقت، و هذا التحليل عرفي لا مانع منه ثبوتا، و طريق الإثبات حكم العقل بحفظ غرض المولى مهما أمكن، و على أيّ تقدير إتيان المقدمة قبل وقت ذيها، سواء كان بحكم العقل لحفظ الغرض أو لتصوير الوجوب الشرعي بأيّ وجه أمكن لا اختصاص له بمقدمة دون أخرى، بل يجري في المقدمات كلّها فينحصر دليل عدم جواز التيمم قبل الوقت بالإجماع- لو تمَّ و شمل الإتيان به- قبله حتّى للتهيؤ، و هو مشكل، لعموم المرسل: «ما وقّر الصلاة من أخّر الطهارة لها حتّى يدخل وقتها»۱.
لأنّ شموله للتيمم مما لا ينكر، كما أنّ عدم كون التيمم في ظرف صحته مندوبا نفسيا أشكل، لأنّه طهور و هو محبوب على كلّ حال، لأنّ اللّه يحب المتطهرين.
و أما مفاد الأصل العملي فالمسألة من صغريات التشريع و قد أثبتوا بالأدلة الأربعة عدم جوازه، و لكن الظاهر أنّه لا تصل النوبة إليه مع المحبوبية المطلقة للطهارة بأيّ مرتبة من مراتبها و لو كانت ترابية مع ثبوت موضوعها.
هذا لباب الكلام في المقام، و للقوم كلمات لا بأس بالإشارة إليها مع مناقشتها.
فنقول: اختلفت أقوالهم في حلّ هذه المسألة، فمن قائل: بأنّ الوقت شرط للواجب لا الوجوب، فهو فعليّ و إن كان الواجب استقباليا، و من قائل: بأنّ ذي المقدمة مشروط بالوقت دون المقدمة، و من قائل: بأنّ الاشتراط بالوقت من الشرط المتأخر فالوجوب يصير فعليا، و من قائل: بأنّ التوقيت شرط لحاظيّ و ليس بخارجي و اللحاظ قرين المشروط فيرجع إلى الشرط المقارن، و من قائل: بأنّ المقدمة واجبة بالوجوب التهيّئي تحفظا على ذي المقدمة و الاهتمام به.
و الكل مخدوش إن لم يرجع إلى ما ذكرناه. إذ الأول خلاف ظاهر الأدلة، و الثاني تفكيك بين التابع و المتبوع بلا دليل عليه، بل الدليل على بطلانه لأنّ وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها مطلقا فلا وجه للتفكيك بينهما.
و الثالث مخالف لما ثبت في محلّه من لزوم تقدم العلة على المعلول بجميع أجزائها و جزئياتها و سائر جهاتها، و الأخير يحتاج إلى دليل إن لم يرجع إلى ما ذكرناه.
و يمكن تصحيح جميع ما ذكروه بأنّ مرادهم ما أشرنا إليه و إن قصرت عبارتهم في مقام الأداء، فالقصور في التطبيق لا في المراد الواقعي لأنّ لزوم الاهتمام باحتفاظ الغرض فطريّ لكلّ أحد، و تهيئة المقدمات من الاحتفاظ على الغرض مما لا يخفى على أحد، و هو أيضا من الفطريات غير القابلة للتشكيك، فمن يدعو ضيفا في الليلة المستقبلة يهيئ مقدمات الضيافة قبلها بيوم أو أكثر، و هذه الفطرة السليمة جارية في الوضوء و الغسل و التيمم و نحوها، و الشرع لا يتعداها، بل قررها و أمضاها، لأنّه دين الفطرة التي فطر الناس عليها.
و عن بعض مشايخنا (قدّست أسرارهم) دفع الإشكال من أصله: بأنّ وجوب ذي المقدمة من قبيل العلة الغائية لوجوب المقدمة، فلا محذور أصلا في البين، لا من قبيل العلة الفاعلية حتّى يلزم محذور تقدم المعلول على العلة فتحصل العويصة، هذا بعض الكلام بما يناسب المقام، و قد تعرضنا له في الأصول في مباحث مقدمة الواجب، فراجع.
إن قيل: اللابدية العقلية مما لا ريب فيه بحكم الفطرة و البحث في إحراز الوجوب الشرعي، و على فرض إحرازه لا أثر له مع اللابدية العقلية. يقال:
اللابدية العقلية من طرق إحراز الوجوب الشرعي إذ الشارع لا يتخطّى بناء كافة العقلاء و يكفي في الأثر إتمام الحجة و تقرير حكم العقل و التأكيد له.