ينبغي تقديم أمور.
الأول: الخيار لغة عبارة عن اختيار فعل أو الترك أو إبقاء شيء أو ازالته و بهذا المعنى اللغوي العرفي ورد في الكتاب و السنة قال تعالى وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ۱، و قوله تعالى وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا۲، و يسمى الخير خيرا لتعلق الاختيار به و للترغيب إلى اختياره في مقابل الشر، فليس للشرع و للفقهاء فيه اصطلاح جديد في مقابل العرف و اللغة.
نعم، يستعمل في العرف و اللغة في جميع الموارد، و في اصطلاح الفقهاء في موارد خاصة فالفرق بينهما بالعموم و الخصوص لا بحسب المفهوم كما هو واضح فتشمل جميع العقود التي تكون لكل واحد من المتعاقدين أو لأحدهما فقط سلطة إبقاء العقد و حله بلا فرق بين المعاوضات و غيرها على ما يأتي من التفصيل في النكاح و غيره.
الثاني: مقتضى الوجدان تقوم الاختيار و جميع ما يتفرع منه بنحو من السلطة و الاستيلاء فيكون الخيار لدى العرف و العقلاء نحو حق خاص لصاحبه فليس من مطلق الترخيصات العرفية و لا من الحكم الشرعي حتى لا يكون لصاحبه تسليط عليه فيكون جميع العقود الجائزة الحكمية خارجا عنه تخصصا، إذ ليس فيها حق و سلطنة لأحد على الإبقاء و الحل و إنما الجواز فيها حكم إلهي و لا ربط له بمشية المتعاقدين و إرادتهما و اختيارهما أبدا. كما أنه ليس الخيار ملكا بالمعنى المصطلح عليه و هو الاستيلاء و السلطة المطلقة على الشيء كملكية البائع للثمن و المشترى للمثمن، بل هو حق خاص و هو أيضا من مراتب السلطنة و الاستيلاء و الفرق بينه و بين الملك بالشدة و الضعف و يكفي الشك في تحقق الملكية في عدم حصولها، لأن حصول المرتبة الضعيفة من السلطنة معلوم و الزائد عليها مشكوك و مقتضى الأصل عدم الحصول. و تعبير بعض الفقهاء بملك فسخ العقد و إبقائه لا يدل على انه ملك، إذ المراد بقوله:
«ملك فسخ العقد» هو مطلق الاستيلاء و السلطنة و لا ريب في كونهما أعم من الملك الاصطلاحي الذي هو في مقابل الحق.
الثالث: الاختيار و جميع ما يتفرع منه متقوم بطرفين في حد ذاته أي الفعل و الترك و قد أثبتوا ذلك بالأدلة في فن الكلام و الحكمة مضافا إلى الوجدان و هو يحكم بأن أحد طرفيه ثبوتي و الآخر عدمي فهو في الواقع كذلك و إن عبر في الظاهر عن العدمي بالتعبير الوجودي أي: الفسخ و الإبرام أو وجودي و عدمي أي الفسخ و تركه، مع انه لا يترتب على هذا النزاع ثمرة عملية بل و لا علمية معتنى بها بعد وضوح المقصود عند سواد الناس و عامتهم.
الرابع: من أهم الأصول النظامية بين الناس اهتمامهم بإبرام عهودهم و عقودهم و القرارات المعاملية الجعلية بينهم، فيستنكرون خلف الوعد فيما بينهم فضلا عن نقض العقد و العهد فيرون بفطرتهم ان بناء العقود و العهود و القرار المعاملي على الثبات و اللزوم إلا ما خرج بالدليل يعني: ان طبعها من حيث العقد و الشد و الربط اللزوم مع قطع النظر عن الجهات الخارجية.
و بعبارة أخرى: ذات العقد- من حيث هو عهد و قرار خاص بين المتعاقدين- اللزوم كما يقال: الأصل في الجسم أن يكون كرويا و كذا بناء العقد من حيث بناء العقلاء فيه على اللزوم و الاستقرار و في مثل هذه الأمور العامة البلوى يكفي عدم ثبوت الردع شرعا و لا نحتاج إلى التقرير و مع ذلك قد ورد التقرير بطرق شتى أشرنا إليها في أول المعاطاة۳، فلو تعرضنا لها في المقام لاستلزم التكرار من دون أن يكون فيه شيء زائد على ما تقدم و الظاهر عدم الاحتياج إلى التفصيل و التكرار، لأن وقوف العقلاء لدى التزاماتهم و ثباتهم عليه أوضح لديهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه فيصح أن يستدل به لا أن يستدل عليه.
الخامس: أصالة اللزوم الثابتة لدى العقلاء في عهودهم و عقودهم من الأصول الكلية النظامية سواء عدت في الفقه من الأصول اللفظية أو العملية و هي تجري في جميع موارد الشك في اللزوم و عدمه سواء كان منشأ الشك في الشبهة الكلية أو في الشبهة الموضوعية ما لم تكن امارة على الخلاف أو أصل موضوعي كذلك كما هو الشأن في جميع موارد الأصول الكلية فلا يتمسك بها مع الأمارة أو الأصل الموضوعي على الخلاف، فلو انعقد العقد جائزا ثمَّ شك في عروض اللزوم لسبب من أسبابه لا تجري فيه أصالة اللزوم، لوجود استصحاب الجواز و هو أصل موضوعي و كل أصل موضوعي مقدم على الأصل الحكمي هذا في غير مورد التنازع و التخاصم و أما فيه فيأتي تفصيله في كتاب القضاء إن شاء اللّه تعالى.
السادس: العقود الدائرة بين الناس على أقسام.
الأول: ما هو لازم بنحو العلة التامة فلا معنى لجعل الخيار فيه أبدا لخروجه عن تحت استيلاء المتعاقدين كالنكاح فاللزوم فيه ذاتي حكمي لا خيار فيه إلا في موارد خاصة عينها الشارع تأتي في كتاب النكاح.
الثاني: ما هو جائز اقتضائي كالهبة إلى غير ذي الرحم و الزوج و الزوجة مع بقاء العين فإن الجواز فيها اقتضائي حكمي و قالوا: إنه لا وجه لجعل الخيار فيها، لأنه لغو بعد كون الجواز من مقتضيات ذاتها.
و فيه: إنه لا مانع من تعدد السبب بنحو التبدل و التعاقب، مع أن له أثر و هو ثبوت الإرث، لأن الخيار حق يورث بخلاف نفس الجواز الثابت للعقد لأنه حكم و لا يورث.
و أما اشتراط اللزوم في العقود الجائزة في ضمن عقد لازم آخر فلا مانع منه إلا إذا ثبت أن الجواز فيها بنحو العلية التامة المنحصرة بحيث لا تتغير و لا تتبدل و الشك فيها يكفي في عدم ثبوتها.
الثالث: اللزوم الحقي كنوع المعاوضات فإن اللزوم فيها إنما هو لأجل الحق الذي حصل من القرار المعاوضي المتحقق بينهم، فيكون اختيار هذا الحق أنهم إن شاؤوا أبقوه على حاله و إن شاؤوا أزالوه بجعل الخيار.
الرابع: الجواز الحقي و هو في مورد تحقق شرط الخيار في اللزوم الحقي، و يأتي تفصيل هذا الإجمال في مستقبل المقال إن شاء اللّه تعالى.
السابع: الالتزامات المعاملية الدائرة بين الناس و القرارات الجعلية الرائجة بينهم تدور مدار الاحتفاظ بمالية أموالهم و الوصول إلى مقاصدهم و أغراضهم، فالقرار الجعلي الواقع بين المتعاقدين و إن كان واحدا صورة، لكنه منبسط في الواقع على التزامات كثيرة حسب الأغراض النوعية المعاملية، كالالتزام بعدم العيب، و عدم التأخير، و عدم تخلف الشرط، إلى غير ذلك من موارد الخيارات، و مع ثبوت الخلل في أحد تلك الالتزامات يختل الالتزام العقدي إلا مع الدليل على الخلاف، لأن هذه الالتزامات ملحوظة بنحو الواحد الانبساطي، كانبساط وجوب الصلاة مثلا عليها من أول التكبيرة إلى آخر التسليمة، فجميع الخيارات المذكورة في كتب الفقهاء مطابق للقاعدة، لا أن تكون مخالفا حتى نحتاج إلى التماس دليل لكل واحد منها بالخصوص حتى خيار الحيوان لأن الأغراض المعاملية بالنسبة إلى الحيوان مختلفة لا يطلع عليها إلا بعد تملكها و الاستيلاء عليها. و كذا خيار المجلس أيضا، لأن تجدد الرأي من الأمور النوعية في المعاوضات و قد حدد الشارع زمانه بالمجلس، فالزمان فيه و في خيار الحيوان فيه تعبد و تحديد شرعي لا أن يكون أصلهما كذلك، كما ان أصل السفر أمر عرفي و لكن تحديده بحدّ خاص و قيود خاصة شرعي، و للمقام نظائر كثيرة في الفقه.
نعم، الانحلال في الأغراض الشخصية لا يكون موجبا لاختلال الالتزام المعاملي و الا لاختل نظم المعاملات لكثرة الأغراض الشخصية و اختلافها اختلافا كثيرا.
و بالجملة إن الخيارات حقوق اعتبرها العرف و العقلاء عند عروض أسباب خاصة و ليس في أصلها تعبد شرعي و إن كان ذلك في بعض حدودها و قيودها و أحكامها على ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.
الثامن: قد أنهى الشهيد في اللمعة الخيارات إلى أربعة عشر و هي: خيار المجلس، و خيار الحيوان، و الشرط، و التأخير، و ما يفسد ليومه، و الرؤية، و الغبن، و العيب، و التدليس، و الاشتراط، و الشركة، و تعذر التسليم، و تبعض الصفقة، و التفليس. و المعروف التعرض لسبعة منها، و عن المحقق في الشرائع ذكر خمسة منها، و عن بعض ذكر ثمانية، و ليس ذلك خلافا و إنما هو من الاكتفاء بالأهم، كل بحسب نظره.