1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. ماقیل حول السید
  6. /
  7. منهج السید عبدالآعلی السبزواری فی التفسیر

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمّد وآله الطاهرين.

فقد يؤلف بعض المفسرين (موسوعة) تفسيره، ولكنّه لا يُعد مفسراً بمعنى الكلمة بقدر ما يكون ناقلاً وناسخاً، فلا يملك منهجاً تفسيرياً رصيناً ومنقّحاً، بل لا يملك منهجاً أصلاً، وبعضهم وإن توفر لديه المنهج التفسيري بيد أنّه حوّل أدواته إلى أهداف ووسائله إلى غايات ولم يتقدم خطوة على طريق كشف مقاصد القرآن الكريم. حتّى ساد ذلك على مسيرة التفسير خلال قرون متطاولة.

إلا أنّ ذلك لا يعني رد المحاولات التفسيرية الرائدة التي حقّقت تقدماً في عالم التفسير، وقد بذل المفسرون جهوداً كبيرة على مدى قرون متطاولة، وليس مقصودنا من هذا البيان الانتقاد للتفسير، فإنّ كلّ واحد من المفسرين قد تحمّل المشاق والأتعاب الكبيرة حتّى صنّف كتاباً شريفاً في التفسير.

ويُعد سماحة آية الله العظمى فقيه عصره «السيّد عبد الأعلى الموسوي السبزواري قُدّس سرّه الشريف» من روّاد المفسرين الموسوعيين في تفسير القرآن الكريم، وأردت أن أقدم بحث دراستي عن منهج السبزواري وعند اطلاعي على دراسة مفصلة حول منهج السيّد السبزواري للدكتور عبد الرؤوف عبد الغفور، وحيث أنّ الدكتور قد تناول بعض جوانب المنهج للتفسير السبزواري ورأيت فيه المادة الدسمة، وفي الحقيقة هذا ما أثلج قلبي حين وضع الخطوط العريضة ورسم بعض ما يدور في خاطري من جوانب المنهج للتفسير. وقد حاز السيّد السبزواري على لقب (مفسراً) وبجدارة، ويعد (مواهب الرحمن في تفسير القرآن) (الموسوعة) الفريدة من نوعها ـ في نظرنا ـ حسب المقاييس العلمية والميزان السليم ومنهجه التفسيري الواضح لأصحاب الخبرة، ولهذا ارتئيت أن أنشر هذه الدراسة عسى أن نؤدي حق هذا السيّد الجليل الذي بحق خدم الإسلام والمسلمين ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) حشره الله مع الأئمّة في الفردوس، سائلين من الله التوفيق إلى سماحة ولده البار سماحة السيّد علي الموسوي السبزواري تكملة وتحقيق هذا السفر الكريم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

من الواضح أنّ عملية التفسير للقرآن الكريم ـ إذا كانت تتناول المضمون العام لنص ـ تتطلب أداتين رئيسيتين هما: الثقافة الشرعية والثقافة الفنّية، أمّا الأداة الأولى فتتمثل في التوكؤ على النصوص التفسيرية الواردة عن المعصومين، وما يواكبها من عملية الاستدلال في استكشافها هذه الدلالة أو تلك، مضافاً ـ وهذا ما يهب عملية التفسير مزيداً من القيمة ـ إلى التوكؤ على مطلق القنوات الثقافية التي تلقي إنارات فلسفية ونفسية واجتماعية الخ. على العملية المذكورة،. أمّا الأداة الفنّية فتتمثل في الارتكان على الحاسّة الجمالية لدى المستكشف، بما في ذلك إلمامه بأهم المبادئ النظرية للفن.

طبيعياً، ثمّة تفاوت بين باحث وآخر بالنسبة إلى الثقافة الفنية التي يمتلكها من حيث كونها موروثة أو جديدة (كالبلاغة ومبادئها مثلاً)، وكذلك بالنسبة إلى الثقافة الثانوية ونعني بها: المبادئ النفسية والاجتماعية والاقتصادية الخ، حيث إنّ الركون إلى الثقافة الحديثية تهب النص أبعاداً أكثر تغلغلاً إلى خفاياه.

وفي ضوء هذه الحقائق نتجه إلى إحدى الشخصيات المعاصرة في كتابها التفسيري الكبير (مواهب الرحمن.) لملاحظة مدى إسهامها في الميدان المشار إليه، فنقول: إنّ شخصيات من أمثال الطوسي والطبرسي وسواهما من عصور الموروث قد توفرت على دراسة النص القرآني الكريم، كما أنّ الطباطبائي وغيره في الأزمنة المعاصرة قد اتجه إلى الحقل المذكور أيضاً، فيما تتميز هذه الشخصيات بتناولها للدلالة العامّة من النص، وبالتوفر على دراسته كاملاً (أي جميع السور القرآنية)، وبكونها على نحو التفصيل، فضلاً عن العمق والشمولية في أمثلة هذه الدراسات. وممّا لا تردد فيه أنّ شخصية «السبزواري» تنتسب بدورها إلى هذه السلسلة من الأسماء الرائدة في كتابه التفسير الشامل.

وإذا كان الطوسي والطبرسي من الموروثين يتماثلان من جانب في منهجهما التفسيري ويفترقان من جانب آخر، ويفيد المتأخر من المتقدم من جانب ثالث، ويضيف جديداً من جانب رابع. فإنّ الطباطبائي والسبزواري من المعاصرين تطبعهما السمات المذكورة ذاتها، أي: التماثل والاستقلال والتأثر والحدة. وبما أنّنا لا نعتزم القيام بدراسة مقارنة بين هذا المفسر أو ذاك بقدر ما نستهدف مجرد التعريف أو العرض لطابع الدراسة التفسيرية لدى السبزواري، حينئذ يتعين علينا الوقوف عند منهجية كتابه ومادته، ومن ثمّ مدى إسهامه في إثراء عملية التفسير.

تتميز لغة الباحث بالألفة والإحكام خلافاً لما نلحظه من ركاكة أو عتمة أو التواءات تعبيرية لدى بعض المشتغلين في المؤسسة الحوزوية، وهو أمر يدعو إلى الدهشة، خاصّة إذا عرفنا أنّ الباحث يكتب بلغته الثانوية. على أنّ الحقيقة الأخرى ـ فيما ينبغي لفت النظر إليها ـ هي أنّ المؤلف يجمع بين أسلوبي الكتابة: لغة العامّة والخاصّة، أي: اللغة التي يفهمها القارئ العادي واللغة التي يفيد المتخصص منها فحسب في حقل المصطلح الفلسفي والكلامي والأصول أو الحوزوي بنحو عام. طبيعياً، قد يرتطم القارئ العادي أو المتوسط باللغة الاصطلاحية، فيما تقع عليه سلسلة متابعته التشويقية للدلالات الواضحة التي يتوفر الباحث عليها، إلا أنّ ورودها عابرة في القسم الأول من عملية التفسير، وتكثيفها فحسب في الأقسام الأخرى التي يحمل كلّ واحد منها عنواناً ثانوياً أو مستقلاً، يخفف الوطأة المشار إليها. وفي تصورنا أنّ منهج المؤلف في الجمع بين الأسلوبين هو الخيار الوحيد لتحقيق الهدف من دراسة النص، ونعني بها الإفادة للقراء جميعاً،. لكن مع ذلك، كان من الممكن مثلاً أن يفك المصطلح نفسه ويكتبه باللغة المألوفة، وبذلك يفيد القارئ المتوسط أيضاً.

الكتاب عامّة، يمكن شطره إلى قسمين: القسم الأول منه، هو التناول الرئيس للنص، يدرجه المؤلف ضمن عنوان (التفسير)، وأمّا القسم الآخر فيتضمن حقولاً ثانوية مثل: بحث (دلالي) (روائي) (فلسفي) (كلامي) (عرفاني) (اجتماعي) (أخلاقي) (تاريخي) (فقهي) (علمي) الخ.

وهذا النمط من المنهجية له مسوغاته دون أدنى شك، حيث أنّ القسم الأول منه هو الذي يتكفل بتوضيح الدلالة العامّة للنص، فيما يحقق الأشباع الرئيس لعملية القراءة، بينما يتكفل الآخر منه بالإشباع الثانوي للقارئ.

أنّ تناول المادة التفسيرية يتضمن بالضرورة (منهجية) خاصّة أيضاً،. لذلك فإن عرضنا لهذا الجانب لا ينفصل من خلاله منهج التناول عن مادته، بمعنى أنّ تركيزنا سوف ينصب على المادة وطريقة تناولها، وهو أهم ما نعنى به في قراءتنا لهذا الكتاب.

1 ـ الخطوة الأولى للمؤلف:

هي انتقاءه لمقطع قرآني قد يكون مجموعة آيات أو آية واحدة حسب الفكرة الجزئية التي تنطوي الآيات أو الآية عليها، فمثلاً في استهلاله لسورة البقرة ينتخب مقطعاً يتألف من خمس آيات؛ نظراً لانطوائها على فكرة جزئية هي سمات (المتّيقن)، بينما نجده في تناوله لآخر السورة مثلاً ينتخب مقطعاً ينحصر في آية واحدة هي آية (المداينة) نظراً لانطوائها على فكرة جزئية أيضاً: هي المداينة وما يستتبعها من الكتابة والشهادة ونحوهما. طبيعياً قد تكون الآية الواحدة يستغرق حجمها سطوراً كثيرة حتّى لتقرب من الصفحة الواحدة كالآية المذكورة، وقد لا تستغرق السطر أو السطرين كآية (الانفاق) التي توسطت آيتي (تفضيل الرسل) و(آية الكرسي) اللتين يستغرق حجم كلّ واحدة منهما أربعة أسطر، حيث أنّ الحجم لا يتدخل في تحديد (فكرة) المقطع المنتخب بقدر ما تشكل الفكرة تحديد ذلك.

وفي تصورنا، أنّ تناول النص القرآني الكريم من خلال (المقاطع) وليس من خلال الآيات (المستقلة) هو أشد المناهج صلابة في عملية التفسير، سرّ ذلك أنّ النص القرآني الكريم ليس مجرد آيات ينفصل بعضها عن البعض الآخر، بقدر ما ترتبط كلّ آية بما سبقها ولحقها من الآيات، كما أنّ السور القرآنية عامّة ترتبط أجزاؤها بعضها مع الآخر، وهذا يعني أنّ (المقطع) هو الأسلوب الأقوم في دراسة النص بصفة أنّ السورة الكريمة: إمّا أن تتضمن فكرة جزئية واحدة كما هي سنّة السور القصار في الغالب، أو تتضمن مجموعة من الأفكار الجزئية كما هي سنّة السور الكبار، وحينئذ بما أنّ (المقطع) هو المظهر المعبر عن (الفكرة الجزئية)، حينئذ يتعين على الباحث أن يتناول النص من زاوية فكرتها الجزئية متمثلة في (المقطع)، وهذا ما توفر عليه الباحث في دراسته التي نحن في صددها، ممّا يهبها مزيداً من الأهمية دون أدنى شك.

وممّا تجدر الإشارة إليه، أنّ الدراسة التفسيرية تتضخم أهميتها بنحو أشد إذا كان التناول للنص يتم من خلال البناء الهندسي العام للسورة جميعاً، أي: ملاحظة المقاطع من حيث ارتباط بعضها مع الآخر، وإخضاعها لخيط فكري عام يجمع بينها، سر ذلك هو: أنّ النص القرآني الكريم ليس مجرد مقاطع أو آيات ينفصل بعضها عن الآخر كما قلنا، بل هو ينتظم في هيكل هندسي خاص هو: (السورة القرآنية) ممّا يعني أنّ لكلّ سورة (موضوعاتها) الخاصة بها من جانب، وبناءها الهندسي الذي ينتظم أجزاءها من جانب آخر، فضلاً عن تناسب عناصرها اللفظية والإيقاعية والصورية مع موضوعاتها من جانب ثالث. إلا أنّ ممّا يؤسف له أنّ الدراسات التفسيرية قديماً وحديثاً لم تتجه إلى دراسة البناء العام للسورة بقدر اهتمامها منصبّاً على جزئياتها فحسب؛ خلا بعض الإشارات العابرة إلى ارتباط بعض المقاطع ببعضها الآخر في شرائح محدودة من السورة تحت عنوان (النظم)، ويبدو أنّ المؤلف له وجهة نظر خاصة في هذا التناول، حيث يوضح لنا في مقدمة كتابه سبب عدم اهتمامه ببناء السورة قائلاً: (لم أتعرض لبيان النظم بين الآيات، وذلك لأنّ الجامع القريب في جميعها موجود وهو تكميل النفس أو الهداية، ومع وجوده لا وجه لذكر النظم بين الآيات، لأنّ الغرض القريب بنفسه هو الجامع والرابط بين الآيات).

والحق، أنّ ما أوضحه المؤلف في هذا الصدد صائب إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الهدف من النص هو التعريف بمبادئ الله تعالى وأنّ القارئ يلم بها على نحو الاجمال (كما لو قرأ آية الانفاق في سبيل الله تعالى، وعمل بها)، إلا أنّ الكلام هو على تعميق المبادئ في نفسها والطرائق الفنّية التي يسلكها النص في تحقيق هذا الهدف، فعندما نواجه (في سورة البقرة مثلاً) أنّ النص تعرض إلى الانفاق في مواقع متفرقة من السورة ولم يجمعها في مكان واحد، أو أنّه عندما تعرض إلى قضية (الإماتة والإحياء) وكرّرها في مواقع مجتمعة حيناً (كقصص نمرود والمار على القرية وتقطيع الطيور) ومتفرقة حيناً آخر (كالبقرة التي أحييت، والألوف الذين هربوا من الموت وأحياهم الله تعالى)، أمثلة هذا التكرار لقضية الإماتة والإحياء ليس الهدف منها مجرد لفت النظر إلى قدرته تعالى، وإلا لجمعها في آيات متجاورة جميعاً، بيد أنّ تفريقها في مواقع متنوعة من السورة إنّما يساهم في تعميق الهدف وتركيزه في ذهن القارئ بنحو لا شعوري أو شعوري، وذلك من خلال المعرفة بطرائق الاستجابة لدى الإنسان وكيفية تأثره بهذا الهدف أو ذاك، وهذا ما يتجسد ـ في جملة ما يتجسد به ـ في جعل القارئ (يتداعى) بذهنه من هذا الموضوع إلى موضوع آخر من خلال (التماثل) أو (التضاد) بين بعض جزئياتهما، أو جعله (يتدرج) في تصعيد عواطفه حيال هذه القضية أو تلك من خلال آلية المشار إليها، فضلاً عمّا نعرفه جميعاً (في حقل للمعرفة النفسية) أنّ القارئ لأي نص عندما ينتهي من قراءته، حينئذ يتحسس بأنّ انطباعه ينغرس في ذهنه من خلال المجموع العام الذي قرأه، فمثلاً عندما نقرأ سورة الكهف نتحسس بأنّها تركت انطباعاً عاماً في أذهاننا هو (نبذ زينة الحياة الدنيا) وذلك من خلال قصص أهل الكهف الذين نبذوا الزينة المذكورة، ومن خلال قصة (صاحب الجنّتين) الذي تشبث بزينة الحياة الدنيا، ومن خلال قصة (ذي القرنين) الذي ملك شرق الأرض وغربها ولم يغتر بذلك على عكس صاحب الجنّتين، ومن خلال الآيات التي سبقت القصص ولحقتها حيث تكرر مجيئها في مواقع متفرقة من السور مثل {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً}([1]) ومثل {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}([2]) ومثل {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}([3]). إنّ تكرار الآيات المرتبطة بالزينة، وتكرار القصص المرتبطة بها، وجعلها في أماكن متفرقة، وإرداف الآية بالقصة حيناً كما هو ملاحظ في قصة الكهف، حيث سبقتها الآية الكريمة {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً}([4])، وحيث أنّ الارتباط بين الآية والقصة هو: إرداف النظرية بالتطبيق، أي الإتيان بحادثة عن نبذ زينة الحياة بعد الإتيان بالآية المطالبة بذلك، كلّ هذا يشكل طرائق فنّية لتعميق الهدف وهو (نبذ زينة الحياة الدنيا) وذلك من خلال البناء الهندسي للسورة، وصلة أجزائها؛ بعضها مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه، وأيّاً كان، يعنينا أن نتابع موقف الباحث من هذه الظاهرة، حيث لحظناه يقدم وجهة نظر عن الأسباب التي دعته إلى عدم الارتكان إلى (النظم) بين الآيات بيد أنّنا نجده في الغالب ـ عندما يتناول (مقطعاً) جديداً من السورة ـ لا يتردد من ربطه بما سبقه أو يلحقه من المقاطع، مع ملاحظة أنّ هذا «الربط» ينحصر في الإشارة إلى الموضوعات السابقة والشروع في موضوعات جديدة مع التلميح حيناً إلى الأسباب الفنّية لعملية الربط.

المهم، أنّ الباحث ـ ونحن في صدد الحديث عن خطوته التفسيرية الأولى؛ وهي: انتخابه لمقطع من السور ـ يبدأ ذلك عادة بتبيين موضوعاته المرتبطة بما سبقها، ثمّ إردافه بعرض الخطوط العامّة له.

ومن الواضح أنّ انتخاب المقطع قد يكون استهلالاً للقسم الجديد من السورة أو امتداداً لمقاطعة ذاتها، ففي سورة البقرة مثلاً عندما ينتقل من قسمه الأول (وهو الخاص بذكر المؤمنين والكافرين والمنافقين) إلى قسمه الثاني المتضمن مطالبته تعالى بعبادة الناس إيّاه وتذكيرهم بمعطياته الإبداعية، يستهله الباحث بالقول: (بعد أن ذكر سبحانه فيما تقدم أصناف خلقه وهم المؤمنون المهتدون الفائزون، والكافرون الذين اختارون الكفر فطبع بذلك على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، والمنافقون.

دعا سبحانه وتعالى في هذه الآيات الناس إلى التوحيد والعبادة حتّى تستعد نفوسهم إلى التقوى، ثمّ عدّد جلائل نعمه في السماء والأرض).

فالملاحظ هنا، أنّ الباحث ربط بين قسمي السورة من حيث تسلسل موضوعاتها، وهو ربط يختلف عن (الربط العضوي) الذي يعني تنامي موضوعات، وارتكانها إلى سببية، وخضوعها إلى وحدة تنتظمها الخ.

من خلال بناء النص هندسياً، خلا إشارته السريعة إلى (التقوى) حينما قال: (حتّى تستعد نفوسهم إلى التقوى) بصفة أنّ المقطع الأول من السورة قد تناول سمة (المتقين) فتكون الدعوة إلى عبادته تعالى في القسم الجديد من السورة استعداداً لتجسيد السمة المذكورة في السورة.

إلا أنّ المؤلف حين ينتقل إلى القسم الثالث من السورة (وهي قصة آدم (عليه السلام)) لم يتعرض إلى صلتها بالقسم السابق، حيث يستهل ذلك بالقول: (شروع في بيان قصة خلق آدم، والغاية من خلقه وعصيانه، وهبوطه إلى الأرض).

وعند انتقاله إلى القسم الرابع من السورة (وهو الحديث عن بني إسرائيل) يصله بالقسم السابق عليه، فيستهله بالقول: (بعد أن ذكر سبحانه خلق الإنسان وحالاته وأطواره خاطب طائفة خاصّة وهم اليهود وبدأ بذكرهم لأنّهم أقدم الطوائف التي أرسل فيهم الأنبياء والرسل وأنزل فيهم الكتب، وهم أول طائفة من الأمم هبطوا إلى ذروة المقام الإنساني إلى درك حضيض البهيمة).

من النماذج المتقدمة نستخلص: أنّ المؤلف يحاول حيناً أن يصل بين أقسام السورة، وحيناً يمزج صمتاً حيال ذلك؛ إمّا تحفّظاً في استشفاف الصلة أو قناعته بعدم ترتب الفائدة على ذلك ويهمنا أن نقف على مستويات استكشافه ـ بعد ذلك ـ للأسرار الفنّية الكامنة وراء الصلة بين جزئيات هذا النص. من ذلك مثلاً وقوفه عند البناء الفنّي لأقصوصة البقرة حيث أنّ القصة بدأت في عرض حوادثها ومواقفها من وسطها (وهو الأمر بذبح بقرة) ثمّ ارتدت إلى البداية وعبرت الوسط وتحدثت عن النهاية {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}([5]) في حين أنّ تسلسلها الواقعي هو: حادثة قتل لأحد الأشخاص، والاختلاف في معرفة قاتله، واللجوء إلى موسى (عليه السلام) في معرفة ذلك، وذبح البقرة، وإحياء القتيل. وقد علّق المؤلف على هذا الجانب قائلاً: (والمنساق من مجموع الآيات المباركة أنّ قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}([6]). مقدّم على قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ}([7]) تقدم العلّة على المعلول، وإنّما أخر مظاهر الكلام لمراعاة الفنون الأدبية المحاورية التي منها: الاهتمام بذكر المتقدم وتهيئة النفوس للاصغاء إليه فيكون أدعى للبحث عن معرفة السبب، وجعله كلاماً مستقلاً في توجيه الأسماء والأذهان. ومنها توجيه الخطاب ابتداء إلى نبيّنا الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعدم ذكر البقرة في التوراة فلم يكونوا مأنوسين به).

ممّا لا نقاش فيه أنّ استخلال المؤلف لنمطين من أسرار البناء القصصي المذكور ينطوي على ملاحظات صائبة وذات قيمة فنّية. ويمكننا ـ إذا أردنا وصل ذلك بالبناء العام للسورة ـ فضلاً عن البناء الجزئي لهذه القصة أن نضيف إلى ذلك؛ بأنّ ملاحظة سورة البقرة يدلنا على أنّه من حيث محاورها الفنية تركز على جملة من الأهداف، منها: الاتقاء أو التقوى التي تخللت عصب السورة جميعها منذ قسمها الأول وحتّى قسمها الأخير الخاص بالأحكام حيث ذيّل كلّ واحدة منها بمفهوم التقوى أو الاتقاء، ومنها:

التركيز على سلوك الإسرائيليين بحيث استغرق ثلث السورة تقريباً. ومنها: ظاهرة الإماتة والإحياء حيث سبقت الإشارة إلى أنّ جملة من القصص ومواقع السورة تناولت الظاهرة المشار إليها. وأولى القصص هي قصة البقرة التي ذيّلت نهايتها بقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى}([8])، فبملاحظة هذا التعقيب على قضية إحياء الموتى، وبملاحظة إحياء القتيل نستكشف بأنّ القصة تستهدف لفت الأنظار إلى عملية (الذبح) بصفتها بؤرة تتجمع عندها ظاهرة إحياء القتيل، مضافاً إلى ذلك أنّ القصة جاءت في سياق الحديث عن تمرد الإسرائيليين، ونعمه ـ تعالى ـ عليهم، وتمردهم على النعم المذكورة حيث كشفت القصة عن ترددهم في عملية الذبح {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}([9]) فضلاً عن البقرة ذاتها تقترن في تصوراتها بقيمة خاصة، فيجيء الاستهلال بالذبح له مسوغاته الفنّية حينئذ.

وأيّاً كان، فنحن إذا تابعنا محاولات الباحث في ربطه بين أجزاء النص، نجده عند وقوفه على قصة أخرى هي قصة (الملأ من بني إسرائيل) يستهلها بعملية ربط بين مقطع سابق عليها يتحدث في آيتين عن القتال والانفاق {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}([10]) {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً.}([11]) وبيّن القصة الجديدة فيقول: (الآيات الشريفة نزلت عقيب الأمر بالقتال والترغيب إلى القرض الحسن وبذل النفس والمال في سبيل الله تعالى وتبيين مورداً خاصّاً ممّا يمكن أن ينطبق عليه ما ورد في الآيتين السابقتين من جميع الجهات التي بيّنها سبحانه وتعالى).

إنّ هذا الربط بين مقطعي السورة ينطوي على ملاحظة دقيقة إذ أخذنا بنظر الاعتبار أنّ المطالبة بشيء وإردافه بشيء حسّي أو واقعي كالصورة أو القصة مثلاً يعد واحداً من أسرار البناء الهندسي للنص، لذلك فإنّ إشارة الباحث إلى ظاهرتي القتال والانفاق وارتباطهما بحادثة عسكرية تتطلب قتالاً وانفاقاً، تظل متسمة بالدقة دون أدنى شك.

هذا إلى أنّ عملية الربط ـ كما سبقت الإشارة ـ تأخذ أشكالاً متنوعة من الخطوط التي تنتظمها، ومن جملتها: أن يختم المقطع السابق بفكرة تشكل تمهيداً لمقطع لاحق يستهدفه النص، وهذا من نحو المقطع الذي نحن في صدده، حيث انتقل النص من الحديث عن قصة طالوت التي ختمت بحادثة عسكرية قداها داود (عليه السلام) فيما عقّب النص بأنّه (عليه السلام) ممّن أتاه الله تعالى الملك والحكمة، وختمها بمخاطبته للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}([12])، هذا الاختتام عن ظاهرة (المرسلين) جعله النص استهلالاً لمقطع جديد يتحدث عن مطلق الرسل {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا الخ}([13]) فيما تحدث المؤلف عنه قائلاً: (بعدما ذكر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة وجوب الجهاد في سبيل الله وإقامة الحق، وقد ضرب الله عزّ وجلّ لذلك مثلاً من الأمم الماضية ليعتبر به المؤمنون.

وختم الكلام بالمرسلين الذين هم واسطة الفيض. ذكر في هذه الآية الشريفة أنّ تلك ميزهم الله تعالى الخ).

فالملاحظ هنا أنّ الباحث قد انتبه إلى الخيط الرابط بين المقطعين من خلال خاتمة وبداية المقطعين، إلا أنّ البناء الهندسي للمقاطع لا يقتصر في الواقع على مجرد الرابط بين نهاية مقطع وبداية آخر، بل يظل خيطاً مشتركاً في الأفكار الجزئية المطروحة بين المقطعين أيضاً، وإلا لكان الأمر مجرد (تداع) من فكرة إلى أخرى، ومع أنّ (التداعي) ـ من الزاوية النفسية والفنّية ـ يشكل في الآداب المعاصرة واحدة من التقنيات التي يحرص المشتغلون في الأعمال الأدبية الضخمة على التوكؤ عليه: تحقيقاً لتمرير مختلف أهدافهم التي يطرحونها، ممّا تستدعي صياغة لعشرات الموضوعات في نص شعري أو قصصي أو مسرحي واحد، إلا أنّه في الآن ذاته (أي: التداعي) يتجاوز مجرد التشابه أو التجانس بين ظاهرتين إلى التماس خيط فكري ينتظم موضوعات النص جميعاً أو غالباً، وهو أمر يلحظه المعني بدراسة البناء العام لسور القرآن الكريم.

وإذا كانت ظاهرة (التداعي) واحدة من أسرار البناء الهندسي للنص، فإنّ (التكرار) يشكل ظاهرة أو وسيلة أخرى من أشكال البناء المذكور. فمثلاً قد التفت الباحث إلى تكرار ظواهر معينة (كظاهرة الإنفاق مثلاً) في مواقع متفرقة من السور، ومنها: ما سبقت الإشارة إليه ونعني بها: عرض قصة طالوت عقيب المطالبة بالانفاق والجهاد. ومنها: ما لحظه الباحث من تكرار المطالبة بالانفاق عقيب آية (تفضيل الرسل) المتضمنة لاختلاف المجتمعات، حيث علّق على المقطع الجديد: أمر سبحانه وتعالى فيما تقدم بالانفاق بأسلوب لطيف فيه التحبب والترغيب والعناية بالمنفقين، وعقّب هنا الأمر بالانفاق للمؤمنين خاصّة بأسلوب آخر فيه الترهيب وذلك لأنّ الآية الأولى كانت بعد الأمر بالقتال في سبيل الله تعالى وأخبار الأمم الماضين، فالمقام يقتضي الترغيب، إلا أنّ هذه الآية وردت {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ}([14]) بعد اختلاف الأمم وامتثالهم بعد ما جاءتهم البينات فاقتضى الترهيب، أو لاختلاف النفوس فإنّ أكثر الناس لا يفيدهم الترغيب إن لم يكن مقروناً بالترهيب، فأمر سبحانه بالإنفاق قبل أن تنقطع الأسباب. الخ).

والحق أنّ سمة (التكرار) تضطلع بأكثر من وظيفة فنّية، فهي إضافة إلى ما سبق توضيحه، تجسد أقوم وسيلة لأحكام العمارة الفنية للسورة، حيث نجد أنّ سورة كالبقرة عبر تضمنها عشرات من الموضوعات المختلفة تظل ـ كما سبقت الإشارة ـ منطوية على محاور رئيسية يتكرر بعضها عشرات المرات (مثل سمة التقوى)، وبعضها (مثل ظاهرة الإماتة والإحياء) يتكرر مرات متعددة بعضها يرد في هيكل قصصي، وبعضها يرد في التعقيب على قصة أو موقف. وهذا النمط من التكرار المشكل لأحد محاور السورة، تتمثل وظيفته الفنّية في كونه واحداً من شبكات رئيسة تتلاقى عندها عشرات الخطوط، أو لنقل: كونه واحداً من ثلاثة أو أربعة أنهار كبيرة تتلاقى عندها الروافد الصغيرة وتصب فيها. وكنّا نتمنى لو أنّ المؤلف صب جانباً من اهتماماته التفسيرية الضخمة على هذه المحاور، إلا أنّه ـ كما ذكر في مقدمة تفسيره ـ اقتنع بأنّ المهم هو تحقق الهداية وتكميل النفس من النص فيما لا ضرورة إلى رصد العمليات الرابطة بين أجزائه. لذلك نجده عندما يتجه إلى مقطع يتضمن ظاهرة الإماتة والإحياء (مثل قصة البقرة) و(قصة نمرود) و(تقطيع الطيور) و(إماتة أحدهم مائة سنة وإحيائه) و(الألوف الذين قال لهم موتوا ثمّ أحياهم) يتناولها بمنأى عن كونها أحد محاور السورة الكريمة التي تنتظم عمارتها، بل يتناولها على نسق تناوله لسائر الموضوعات، فمثلاً عند استهلاله للمقطع الذي يتحدث عن الظاهرة الأخيرة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}([15]) عقّب قائلاً: الآية الشريفة في أسلوبها الرائع وبلاغتها الخلابة تبين آية من الآيات الإلهية التي وقعت في الأمم السابقة وقد ذكرها سبحانه وتعالى في ختام آيات الأحكام لتثبيت ما ورد فيها من الأحكام التي لوحظ فيها مصلحة الفرد والنوع، وتوطئة لما يأتي من الآيات التي تدعو إلى بذل النفس والانفاق. وتبين أنّ جميع التدبيرات الأرضية تحت إرادة السماء وهي التي تحفظ الإنسان من جميع الشرور والأخطار، فيجب شكره ولكن أكثر الناس لا يشكرون).

لا تردد في أنّ الباحث قد استخلص دلالات النص بمهارة فائقة تكشف عن ضخامة تذوقه الفني، سواء أكان ذلك من حيث ربطه (أي النص) بما سبقه وبما يلحقه (أي قوله: «وتوطئة لما يأتي من الآيات التي تدعو إلى بذل النفس والإنفاق» أو كان ذلك في استكشافه لدلالة أنّ الأمر رهن إرادته تعالى. بيد أنّنا لو حاولنا أيضاً ربط النص بمحوره الذي يشكل واحداً من ثلاثة أو أربعة محاور تنتظم السورة المذكورة، لوجدنا أنّ النص يستهدف تركيز الفكرة المذكورة (الإماتة والإحياء) بنحو رئيس وإنّ ما ذكره المؤلف يجسد سمات ثانوية من حيث صلتها بالبناء الهندسي للنص (وليس من حيث أهمية الموضوع) طالما نعرف جميعاً أنّ القرآن الكريم يجعل أحد الموضوعات رئيساً في سورة ويجعله ثانوياً في سورة أخرى، ويجعله ضمنياً في سورة ثالثة.

إنّ هذه الحقائق يمكن ملاحظتها أيضاً في مواجهتنا لمقاطع أخرى من سورة البقرة تتحدث عن (الإماتة والإحياء) متمثلة في محاجة إبراهيم (عليه السلام) مع نمرود، والمار على القرية، حيث عقّب المؤلف على ذلك قائلاً: إنّ هذه الآيات (وقد جاءت عقب آية الكرسي): (تبين توحيد الله ـ تبارك وتعالى ـ وقدرته وعنايته لعباده المؤمنين، فإنّه عزّ وجلّ بعد أن أثبت لنفسه التوحيد ومهام الصفات العليا مثل القيومية المطلقة والربوبية العظمى والولاية على أهل الإيمان ووعدهم بإخراجهم من الظلمات إلى النور، ضرب في هذه الآيات أمثلة لبيان ولايته على المؤمنين وهدايته وبيّن أنّ هناك هداية تحصل بالحجة كالتي مع إبراهيم (عليه السلام). وهداية بالمشاهدة كالتي حصلت مع ذلك المؤمن الكريم الذي مرّ على قرية. ولهذا كانت هذه الآيات مرتبطة بالآيات السابقة واللاحقة في كونها من مظاهر توحيده عزّ وجلّ وولايته وقدرته).

وفي تعقيب المؤلف على آية {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}([16]) قال: (الآية الشريفة تؤكد ولاية الله تعالى على المؤمنين ورعايته لهم بإخراجهم من الظلمات إلى النور، وفيها إرشاد إلى أنّ إبراهيم وسائر الأنبياء العظام صلوات الله عليهم من العروة الوثقى التي لابدّ من الاستمساك بها).

إنّ هذه الاستخلاصات التي انتهى الباحث إليها تنطوي على قدر كبير من الأهمية، من حيث ذهابه إلى الخيط الرابط بين هذه القصص الثلاث وبين الآيات التي سبقتها (آية الكرسي وما بعدها) هو: كون القصص نماذج معبرة عن مضمون آية الكرسي متمثلاً في إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور، وفي أنّ إبطال هذه القصص تجسد للعروة الوثقى. بيد أنّ السؤال هو: لماذا جاءت هذه القصص منصبة على ظاهرة «الإماتة والإحياء»؟ الإجابة على هذا السؤال تنحصر في دراسة البناء الهندسي للسورة، فيما قلنا بأنّ ظاهرة (الإماتة والإحياء) هي أحد المحاور المهمة التي تتسرب في أجزاء السورة جميعاً. وهذا هو أحد المسوغات التي تحملنا على مطالب المعنيين بشؤون التفسير على أن يتناولوا الهيكل العام للسورة أيضاً دون الاقتصار على تفسير الجزئيات، لأنّ التفسير الجزئي لا يملك إجابة على الأسرار الفنّية الكامنة وراء هذه الظاهرة أو تلك عندما تتكرر في مواقع متنوعة من السورة عندما تتجاوز مع بعضها الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.

وأيّاً كان، فنحن لا نزال مع المؤلف في خطوته التفسيرية الأولى، ونعني بها: انتخابه لمقطع من السورة، واستهلاله الحديث عنه بتبين صلته بما سبقه أو يلحقه من المقاطع أولاً، ثمّ التعريف المجمل بمضمون المقطع ثانياً،. وما تقدم من الكلام كان في صدد العرض لممارسة المؤلف في نطاق ربطه بين مقاطع النص. أمّا ممارسته في نطاق التعريف المجمل بمضمون النص، فأحسب أنّ ما عرضناه من نماذج ممارسته كاف في التعرف على منهج المؤلف. ومع ذلك يحسن بنا أن نعرض لبعض النماذج الأخرى نظراً للأهمية التي تنطوي عليها.

ولعلّ النموذج الذي ختم به المؤلف ممارسته لسورة البقرة (ونعني به: الآيتين اللتين ختمت بها السورة) يجسد منهج المؤلف بوضوح في خطوته التفسيرية الأولى (انتخاب مقطع، وربطه بالمقاطع الأخرى، والتعريف به إجمالاً)، يقول المؤلف: الآيتان الشريفتان من جلائل آيات القرآن الكريم تشتملان على مضامين عالية جمعت فيها مجامع الكمال وفيها أدب العبودية ونهاية الخضوع والتذلل لله تعالى في أسلوب بليغ جذاب، وفيهما خلاصة ما تضمنته هذه السورة الشريفة التي كان الغرض المتحصل منها: الإيمان بالله تعالى والعبودية له عزّ وجلّ، والإيمان برسله وما أنزل عليهم والطاعة له عزّ وجلّ بالائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه، والانتقاء عمّا يوجب سخطه وعذابه، والاقرار بالبعث والنشور، وفيها قصص أهل الكتاب للعبرة واللجوء إليه سبحانه وتعالى، عمّا أصابهم بسبب تمردهم وطغيانهم.

ومن بديع أسلوب هذه السورة أنّها بدأت بالهداية للمتقين وختمت باللجوء إلى الله تعالى لطلب الهداية والغفران والإذعان بالطاعة الذي هو أمل المتقين، فيكون أول السورة كالعلّة الفاعلية وآخرها كالعلّة الصورة أو المادية للأولى، وهما كالعلّة الغائبة لنظام التشريعات المساوية نزلتا على من هو علّة غائية لنظام الخليقة والتكوين، وقد ختمتا بطلب النصرة على القوم الكافرين، وهي غاية دعوة الأنبياء والمرسلين المؤمنين بالله تعالى ومضمونها من القضايا العقلية التي تحكم بها الفطرة، وفي الآيتين فضائل وآثار مهمة نبّهت إليها السنّة الشريفة، ولعلّ منزلتهما عند الله تعالى كأنّنا في كنز تحت العرش).

عرضنا هذا النموذج الذي يتّسم بالطول، نظراً لافصاحه عن تذوق الباحث في انتخابه لمقطع من السورة، وطريقة تلخيصه لمضمون المقطع، وعملية ربطه بسواه من المقاطع، أمّا تلخيصه فيعد تعريفاً مجملاً بمضمونها من جانب، وتقويماً للأفكار المطروحة فيها من جانب آخر، وحثّاً على الإفادة منها في تعديل السلوك البشري من جانب ثالث.

وبهذا يحقق المؤلف أكثر من وظيفة عبادية من خلال هذا الأسلوب، بحيث يحمل القارئ ـ ليس على أن يعي دلالة المقطع فحسب ـ بل على التفاعل مع الأفكار المطروحة فيه، وهو أهم هدف فكري يلتمسه المؤلف في ممارسته العلمية، وأمّا ربطه للمقطع بالهيكل الهندسي العام للسورة فيعد من أهم ملامح خطوته التفسيرية الأولى؛ حيث ألمح (من خلال مصطلحه المنطقي أو الفلسفي) أو ما يصطلح عليه (من خلال اللغة الأدبية) إلى عملية (النمو العضوي) للسورة من حيث بدايتها، وتنامي موضوعاتها، والسببية الكامنة وراء ذلك.

2 ـ الخطوة التفسيرية الثانية التي ينتهجها المؤلف:

هي صياغة عنوان عام هو (التفسير) حيث يدرج ضمنه الممارسة التفصيلية في عملية التفسير، أي: التفصيل لما أجمله في خطوته الأولى.

ومنهجه في هذه الخطوة هو: تفكيك المقطع أو الآية إلى جمل أو فقرات، يضطلع بتناول كلّ واحدة منها على حدة، ثمّ يصل بينها بطبيعة الحال، ثمّ يختمها بعنوان عام تحت مصطلح (والمعنى) حيث يلخص بها مضمون الجملة أو الفقرة.

وهذا يعني أنّ منهجه في هذه الخطوة التفسيرية الثانية ينطوي على ثلاثة خطوط هي:

1 ـ عملية التفكيك.

2 ـ التفسير المفصل.

3 ـ التلخيص.

وهذا المنهج له أهميته المنسحبة على القارئ من دون أدنى شك، حيث يتعرف القارئ على جزئيات المقطع أولاً (بما يواكبه من عناصر إضاءة متنوعة نتحدث عنها بعد قليل)، ثمّ ما يقدمه المؤلف إلى القارئ من (المعنى العام) للجزئية المذكورة، بحيث يتعرف على دلالتها العامّة بوضوح.

ويجمل بنا أن نستشهد بنموذج أو أكثر في هذه الخطوة التفسيرية وخطوطها المشار إليها، بصفة أنّ هذه الخطوة هي الأكثر لصوقاً بعملية التفسير، وإنّ ما سبقها تمهيد لها، وإنّ ما لحقها (بنحو ما ستعرض له لاحقاً هو تذييل لها).

إنّ الجملة أو الفقرة التي يستهل المؤلف حديثه عنها، يتناولها أولاً من خلال البعد اللغوي، أي: التعريف بمفرداتها لغوياً، وهذا من نحو:

{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}([17]) (المرة من المرور بمعنى الاجتياز والمضي)، ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم مفردة وتثنية وجمعاً، قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ}([18]) وقال تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}([19]). وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ}([20]) والمراد بها في المقام: التكرار والوقوع مرّة بعد أخرى.

ومادة (مسك) تأتي بمعنى التعلق والحفظ والاعتصام، قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ}([21]) وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ}([22]) الخ.

والمسك ـ بالفتح ـ الإهاب لأنّه يمسك البدن، والمسك ـ بفتحتين ـ الأسوار لاستمساكها باليد، والمسك بالكسر ـ دم الغزال ـ وهو عطر مخصوص ـ سمّي به لمساك عطره وبقائه مدة كثيرة، ومن الحديث «فم الصائب أحب عند الله من ريح المسك».

ومادة (سرح) تأتي بمعنى الاطلاق والإرسال، قال تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ}([23]) الخ.

واضح من النموذج المتقدم أنّ الباحث يعنى بالمفردة لغوياً كلّ العناية بحيث يتناولها جميع المفردات في النص، فيعرض إلى أصلها أولاً، وإلى صيغها ودلالاتها المتفاوتة ثانياً، وإلى معناها المعجمي ثالثاً، ويلتمس لها استخداماً قرآنياً رابعاً.

هذه الخطوط الأربعة من التناول اللغوي تحقق جملة فوائد منها: الوقوف على دلالة المفردة معجمياً ودلالتها في النص وهو الهدف الرئيس من قراءة النص، ومنها ما يشكل أهدافاً ثانوية يفيد القارئ منها مثل دلالاتها وصيغها المختلفة.

وممّا يزيد من إثراء الخبرة اللغوية لدى القارئ، عرض الباحث لإشكالات لغوية (كالدلالات المتضادة مثلاً) وانسحاب ذلك على دلالاتها الشرعية (ومنها: الدلالة الفقهية مثلاً) وهذا ما نجده في النموذج الآتي عبر شرحه للجزئية القائلة: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}([24]) حيث قال: (وقروءة جمع القرء، ويجمع على الأقراء أيضاً، فعن نبيّنا الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) Sأقعدي عن الصلاة أيام اقرائك« ومادة Sقرء» تدل على الجمع والاجتماع. ويطلق هذا اللفظ على نفس الحيض كما مرّ في قول نبيّنا الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كما يطلق في حالة الانتقال من الحيض إلى الطهر بحسب الوضع كما عن جمع من اللغويين، ولا يطلق على نفس الطهر لأنّ المرأة الطاهرة التي لا ترى أثر الحيض لا يقال لها ذات قرء فهو من الأضداد).

بعد ذلك ينتهي الباحث إلى أنّ المقصود منه هو الطهر، ويشير إلى بعض آراء العامّة الذاهبة إلى أنّ المقصود منه هو الحيض، يعقّب على القول الأخير: (ولكن المناقشة فيه ظاهرة، لأنّ اللفظ المشترك إن وقع في استعمال مقروناً بقرينة تدل على أحد معنييه لا يكون ذلك دليلاً على أنّه كلّ ما استعمل فيه هذا المشترك ـ دل بلا قرينة على التعيين ـ يكون المراد منه ما استعمل فيه مع القرينة وهو خلاف المحاورات العرفية، ولا يقول به أحد في نظائر المقام، والقرينة في الحديث المروي عن نبيّنا الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أنّ المراد من الاقراء الحيض ظاهرة، وأمّا قول علي (عليه السلام) فهو ـ مضافاً إلى كونه قاصراً سنداً ـ أنّه معارض بغيره ممّا هو أقوى منه من جهات. الخ).

هدفنا من هذا النموذج أن نستشهد بمهارة الباحث اللغوية، وإفادته القارئ بإغناء خبرته في هذا الجانب، وأهمية هذه العناية بالبعد اللغوي من حيث انسحابه (في الإشكالات اللغوية) على الدلالة الفقهية وسواها بالنحو الذي لحظناه.

ما تقدم من الممارسة اللغوية، يمثل مرحلة أولى من هذه الخطوة التفسيرية. أمّا المرحلة التي تليها فهي: دلالتها النصّية، أي: الشرح وبيان الدلالات الفكرية التي يتضمنها المقطع، وهذا ما نلحظه مثلاً في ممارسته لجزئية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}([25]) حيث يقول: (مادة «حفظ» تأتي بمعنى المواظبة على الشيء والاقبال عيه مرّة بعد أخرى) وهذه هي المرحلة اللغوية. وأمّا الدلالة النصّية فيضيف إلى ذلك قائلاً: (والمحافظة على الصلوات هي المواظبة عليها بإقامتها في أوقاتها بحدودها وشرائطها والاقبال عليها بالاخلاص والخشوع والخضوع، فالمحافظة أخص من مطلق الإتيان، لأنّ الحفظ عبارة عن التفقد والتعهد والرعاية).

وإنّما عبّر سبحانه وتعالى بهذا اللفظ المشعر بفعل الآيتين لبيان أنّ كلّ من حافظ على الصلاة وأدّاها على ما هي عليه في الواقع هي أيضاً تحافظ على رعايته، فهي تردعه عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}([26]) وفي السنّة الشريفة من ذلك الشيء الكثير.

وللصلاة أنحاء من الوجودات والمظاهر، فهي في هذا العالم مركبة من جملة من الأعراض، من عالم آخر لها وجود مستقل تمدح فاعلها وتشفع له أو تذمه وتلعنه، وفي نشأة أخرى؛ غيب الغيوب تكون من صنع الله تعالى لا يعلمها إلا هو.

والصلوات في الإسلام من أهم العبادات التي أمر الناس بها، فهي عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها، وأعدادها كثيرة، والواجب منها).

النموذج أعلاه يوضح لنا منهج المؤلف في دراسته لجزئية المقطع، فهو يشرح بوضوح معنى المواظبة على الصلاة، متمثلاً في إقامتها بأوقاتها، كما يستخلص دلالات أخرى تتواكب مع الصلاة في أوقاتها مثل إقامتها بحدودها، والاقبال عليها بالاخلاص والخشوع، ويستدل على ذلك بدلالتها المعجمية، ويستكشف منها انطواءها على فعل الاثنين (أوقات الصلاة وشرائطها) من خلال استدلاله الذاهب إلى أنّ المحافظة على الصلاة تقترن بالضرورة على المحافظة على رعاية شرائطها، متوكئاً بذلك على نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف.

كما يعرض لنا جوانب أخرى من الصلاة وما يواكبها من الانعكاسات الدنيوية والأخروية في ممارستها، مثلما يعرض لنا أهمية هذه الممارسة وتميزها عن العبادات الأخرى، ويعرض لنا أيضاً واجبها ومندوبها على النحو الخاطف.

وهذا يعني: إنّ المؤلف عندما يتناول هذه الجزئية أو تلك، يتناولها بنحو مفصل يتجاوز به دلالتها النصّية إلى ما يربط بها من ظواهر عبادية واجتماعية ونفسية. الخ، فيما لو لحظنا من النموذج المتقدم تحليلاً للظاهرة العبادية.

وأمّا أمثلة تحليلية أو شرحه للظواهر الاجتماعية كما في تعقيبه على فقرة {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}([27]) حيث أوضح بأنّها تتضمن (أتقن القوانين المتكلفة لأهم ما يناط به النظام الاجتماعي بالنسبة إلى الفرد والنوع بأحسن بيان وأعذب أسلوب وأجمع كلام تبتهج له وتطمئن إليه القلوب. وتتجلى من هذه الكلمة أهمية النظام العائلي في الإسلام، وهي تنص على مساواة الرجل مع المرأة في الحقوق، والمماثلة في الوظائف إلا ما اختص به أحدها بما ورد في الشريعة به).

وعقّب على الفقرة بعدها {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}([28]): (والإسلام مع أنّه سوّى بين النساء والرجال قد أعطى للرجال درجة عليهن. وإعطاء هذه الدرجة للرجال من الأمور الفطرية. فإنّ المجتمع يحتاج إلى من يعتمد عليه فيما يطرأ من المخاطر والاختلاف ومن يحميه عنها ويقدر على تنفيذ ما يراه من المصلحة والانفاق عليه، والحياة الزوجية لا تخرج عن هذه السنّة بل احتياجها إلى الرجل أشد فهو الذي يتحمل الصعاب في تحصيل النفقة والمطالب بحماية المرأة والأولاد، ولذا أمر الشارع المرأة بتنفيذ أوامره).

ومن أمثلة تحليلية للظواهر النفسية تعقيبه على فقرة {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ}([29]) بهذا النحو: (أي: أنّ ذكركم لهنّ أمر غريزي قهري، والله تعالى أصلح لهذا الأمر الفطري بما هو صلاح لكم، فإنّ الشرائع الإلهية تراعي الميول الفطرية ولا تحطمها وإنّما تضبطها وتهذبها حتّى تستقيم معها الحياة السعيدة الصالحة للبشرية، فرخص لكم التعريض لهنّ وإخفاء الرغبة في نكاحهنّ دون ذكرهنّ باللسان حفظاً للآداب وصوناً لجرح المشاعر).

إنّ هذه الفقرات تنطوي على ملاحظة نفسية دقيقة من حيث تحديدها للبعد الغريزي في تركيبة البشر، والتأكيد على ضرورة ضبطها وتعديلها دون كبتها الخ، ممّا تضفي على عملية التفسير مزيداً من الحيوية كما هو واضح.

والحق أنّ التحليل العبادي والاجتماعي والنفسي تتحدد مستوياته أو أبعاده لدى المؤلف كما أشرنا عندما يتناولها بالتفصيل في الحقول اللاحقة الخاصّة بها، بيد أنّنا أردنا أن نحدد مستويات ممارسته في هذه المرحلة التفسيرية التي تعنى بتحليل وشرح المقطع دلالياً بما يواكب هذه الشرح من ظواهر نفسية واجتماعية وعبادية الخ. على نحو الاختصار.

هذا إلى أنّ مهارة الباحث تتألق أيضاً عندما يمارس عملية (تذوق فنّي وعلمي) ـ في هذه المرحلة من التفسير ـ وذلك من خلال استكشافه (أو استظهاره؛ حسب تعبير المؤلف نفسه) للأسرار الدلالية والبلاغية التي يشرح بها المقطع، حيث تتفاوت الحاسة الذوقية من باحث إلى آخر حسب خبرته الشخصية في هذا الميدان. ومع أنّ هذا الجانب أيضاً يتبلور في الخطوة التفسيرية الثالثة (بحث دلالي. الخ)، إلا أنّه يشكل جزءاً من مرحلته التفسيرية التي نحن في صددها الآن؛ بصفة أنّ هذه المرحلة هي تناول كلّي للمقطع وما يسبقه أو يلحقه هو تمهيد وتفصيل له، ممّا يفرض علينا متابعة مستوياته لدى المؤلف.

إنّ استكشاف الدلالة لدى المؤلف يتم من خلال البنية اللفظية ذاتها أو خلال موقعها من النص من حيث تقديم اللفظة أو العبارة وتأخيرها، ومن حيث ذكرها وحذفها ومن حيث تعريفها وتنكيرها الخ ممّا يتناول عادة في البلاغة الموروثة (والحديثة أيضاً).

ومن نماذج النمط الأول (أي الوقوف عند البنية اللفظية) نواجه مثلاً استشفافه لعبارتي (ربّي) و(الله) تعالى عند إبراهيم (عليه السلام) في محاججته مع نمرود {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ. الخ}([30]).

علّق المؤلف على محاورة إبراهيم (عليه السلام) الأولى: (إنّما قال إبراهيم (عليه السلام) (ربي) لاعتراف الجميع بأنّ ربّ إبراهيم هو الله تعالى).

وعلّق على محاورته الأخرى: (وإنّما عدل (عليه السلام) عن الرب. لأنّ الربوبية قد صارت واضحة بإقامة الحجة عليها في المرة الأولى، فالتفت الخليل (عليه السلام) إلى أنّه تعالى معبود الكل كما أنّه رب الكل).

إنّ هذا الاستشفاف له أهميته وطرافته؛ خاصّة أنّ المؤلف في المواقع السابقة ذكر الفارقية بين العبارتين، مضافاً إلى ما ذكره هنا من ياء المتكلم ودلالتها الانتسابية، واستتباع المحاججة ذكر كلمة (الله) تعالى في المحاورة الثانية.

بيد أنّ بعض استشفافاته من الممكن مناقشتها، ومنها مثلاً تعقيبه على فقرة {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً}([31]) في قصة المار على القرية، حيث قال: (والظاهر أنّ المراد من العظام هي: عظام الموتى المجاورين له وعظام الحمار، ولا ينافي ذلك جعله آية للناس، ولم يجعل إحياء موتى أهل القرية آية، فإنّ الظاهر أنّ الله تعالى جعله محور إثبات ذكر هذه الحكاية،  بلا فرق بين عظام موتى أهل القرية، وعظام خصوص الراكب والمركوب).

إنّ التدقيق في القصة من خلال إشارتها إلى الطعام والشراب والدابّة، يقتادنا إلى أنّ سياقه يفرض أن يكون المطالبة بالنظر إلى العظام: عظام الراكب أو المركوب دون أهل القرية، وبقرينة أنّ كلاً من الطعام والشراب والدابّة قد أشير إليها بمطالبة خاصّة، حينئذ فإنّ المطالبة الثالثة تكاد تنحصر في الراكب.

طبيعياً، قد يثار السؤال: إذا كان البطل فاقداً لبدنه؛ كيف يستطيع أن يشاهد عظامه وقد التحمت وكسيت باللحم؟ وإذا شاهدهما عائدين إلى بدنه؛ فلماذا التبس عليه الأمر وقال: لبثت يوماً أو بعض يوم؟

والإشكالية نفسها ترد في حالة الذهاب إلى أنّ المقصود من ذلك عظام الدابّة؛ من حيث التباس الأمر عليه، بيد أنّ بقرينة ما ذكرناه، مضافاً إلى نص مأثور عن المعصومين (عليهم السلام)، يتعزز الاتجاه الذاهب إلى أنّ العظام هي عظام البطل. والمهم، أنّه لولا النص المأثور والقرينة السابقة، لكان الاستشفاف الذي لحظناه عند المؤلف هو الأقرب إلى التذوق الفنّي حيث أنّ الموتى ما داموا هم مورد التساؤل، فإنّ المطالبة بالنظر إلى عظامهم؛ تكون أقرب إلى الواقع.

وأيّاً كان الأمر، فإنّ الغموض الفنّي في هذا النص وسواه هو الذي يهبه مزيداً من الأهمية، طالما نعرف أنّ الفن العظيم هو ما يرشح بعده دلالات بحيث يستخلص منها كلّ متذوق بما يتناسب وخبرته الفنّية.

من هنا نجد أنّ المؤلف نفسه يخضع تفسيره لأكثر من دلالة يستخلصها من دون أن يرسو دائماً على دلالة محدودة، وهذه سمة الباحث المتمكن من دون أدنى شك؛ ما دام النص ذاته يشب بتنوع دلالاته، مضافاً إلى أنّ (الحذر) ـ خاصّة حيال القرآن الكريم ـ يفرض على الباحث في حالات كثيرة أن يخضع تفسيره لظاهرة الاحتمالات المتنوعة، وهذا ما نلحظه ـ كما قلنا ـ لدى المؤلف، فمثلاً عند تفسيره لمقطع {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}([32]) يعقّب عليه: (وجملة {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}([33]) في موضع التعليل، يصح أن يكون تعليلاً للمحاجة يعني أنّ ما حاج نمرود إبراهيم؛ لأنّه أتى نفسه ملكاً، فأورثه الكبر والعجاب فحمله على الغرور.

ويحتمل أن تكون الجملة في مقام بيان كفر أنّ نمرود للنعمة التي أنعم الله تعالى عليه في الدنيا، فهو بدل أن يؤمن بالله تعالى ويشكره عليها أدعى الربوبية.

ويصح إرجاع الضمير في قوله تعالى {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}([34]) إلى إبراهيم (عليه السلام) فيكون المراد المعنوي لا الظاهري الإضافي، ويدل عليه قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}([35]).

لا شكّ أنّ في كلّ واحد من هذه الاحتمالات الثلاثة، تظل موضع قبول وتقدير ممّا يكشف ذلك عن ضخامة تذوقه الفنّي بما يواكبه من الدقة والعمر في استشفاف الدلالات المتنوعة بالنحو الذي لحظناه.

وإذا ندع هذا الجانب، ونتجه إلى ما يواكب الاستشفاف من ظواهر التقديم والتأخير أو الذكر والحذف أو التعريف والشكر ونحوها، نجد أنّ المؤلف يتناولها بنفس التمكن والدقة وعمق التذوق الفنّي. فبالنسبة إلى التقديم والتأخير مثلاً، يعقّب على آية {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ}([36]) قائلاً: (وإنّما قدّم سبحانه الهزم مع أنّه يكون بعد قتل جالوت عادة للدلالة على سرعة استجابة دعائهم) و(أخّر ذكر القتل ليكون ما ذكره عزّ وجلّ لداود من الفضائل على وتيرة واحدة ونسق متحد).

إنّ هذه الملاحظة الفنّية لها أهميتها الكبيرة بالنسبة إلى البناء الهندسي لعمارة النص أو القصة؛ وخاصّة فيما يتصل بالتمهيد الفنّي أو النقلة الفنّية من قصة طالوت إلى رسم شخصية أخرى هي شخصية داود (عليه السلام)، إضافة إلى ما ذكره المؤلف من أنّ التأخير لعملية القتل إنّما تمّ من خلال (التقديم) بعملية الهزيمة، فيكون التأخير هنا منطوياً على سمة مزدوجة؛ التأخير في ضرورة تقديم الهزيمة عليه ولضرورة التمهيد أو النقلة إلى رسم داود (عليه السلام). هذا إلى أنّه يمكننا أن نضيف إلى ما ذكره المؤلف من تقديم الهزيمة بسبب سرعة استجابة الدعاء، نضيف إلى ذلك أنّها تشكل تسريعاً إلى نحو الإجمال، وإنّ عملية القتل جاءت تفصيلاً للإجمال المشار إليه، فالمهم هو إبراز الهزيمة، أمّا تفصيلها فيجيء في مرحلة ثانوية كما هو واضح.

وأمّا بالنسبة إلى ظاهرة (الذكر والحذف)، فإنّ المؤلف في الغالب يركز على (الذكر)، وأمّا (الحذف) فلا يشير إلى أسبابه بل يشير إلى مضمونه بعبارة يكررها هي (ويستفاد من الآية الشريفة) أي: إنّما حذفه نص هو ما استفاده المؤلف، مثل ما حذفه النص ـ في قصة طالوت ـ من تفصيلات كثيرة تتصل بالمعركة وملابساتها ومنها: موافقة الإسرائيليين على مقترحات نبيّهم بعد الاعتراض، والتوجه إلى ساحة المعركة، حيث عقّب المؤلف قائلاً: (ويستفاد من الآية الشريفة: أنّ بني إسرائيل بعد أخذ المواثيق من نبيّهم وفوا بما قاله لهم واتخذوا طالوت ملكاً عليهم، فنظم الجنود ورتبهم حسب درجاتهم ومراتبهم واستعرضهم الخ).

واضح، أنّ هذه التفصيلات لا وجود لها في القصة (أي: أنّ النص حذفها لأسباب فنّية) تتصل بالاقتصاد اللغوي وبجعل القارئ مساهماً في عملية الكشف الفنّي.

وأمّا (الفكر) فإنّ المؤلف ـ كما قلنا ـ يركز عليه ويلتمس له تعليلات متنوعة تنم عن مدى تذوقه ومهارته في هذا الميدان، ومن ذلك مثلاً تعقيبه على قصة إبراهيم (عليه السلام) وتقطيعه الطيور الأربعة غير سؤال القائل: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}([37]) قائلاً: «إنّ الفرض المقصود من السؤال هو مشاهدة كيفية إحياء الأموات المدلول عليها بقوله: {تُحْيِي الْمَوْتَى}([38])» حيث تدل هنا العبارة على: (إحياء الجمع الكثير من الأموات بعد تلاشي أجزائها واستمالتها وتبدلها إلى صورة أخرى، فإنّ إحياء هذا الجمع أمر يستبعده الذهن بادئ الأمر، ولذلك كان الجواب مشتملاً على قيود خاصّة دخيلة في استيفاء الغرض المقصود).

(والقيود التي أخذها الله عزّ وجلّ هي أن تكون مورد الإحياء طيوراً وأن تكون أربعة، وأن تكون إحياء الأموات، وأن يجعلها مأنوسة به، وأن يقتلها ويقطعها ويمزج أجزائها، وأن يفرق الأجزاء على الجبال المتباعدة، وأن يدعوهنّ باجتماعهنّ عنده، وأن يكون كلّ ذلك بيد إبراهيم (عليه السلام) وبمباشرة من نفس السائل).

إنّ هذا النص التفسيري يفصح عن ضخامة تذوق المؤلف ومهارته في اكتشاف الأسرار الفنّية المدهشة وراء (الذكر) للتفصيلات التي سردها المؤلف لنا بالنسبة إلى عناصر القصة: إحداثاً وإبطالاً وبيئات ومواقف، وهي ملاحظات فنّية قلّما ينتبه عليها المعنيون بشؤون التفسير.

ومن ملاحظاته الفنّية في هذا الميدان فيما يتّسم بعضها بالتفصيل كما هو طابع الملاحظة المتقدمة، وبعضها يتّسم بكونه خاطفاً مثل تعليقه على مقطع يتصل بصلاة الخوف وبما يليها من الأمن عبر قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}([39]) قائلاً: (ولعلّ الوجه في وجوب ذكر الله تعالى في هذه الحالة، لأنّ الناس غالباً بعد زوال الخوف يذكرون الأشخاص ويفتخرون بالألقاب والأعمال، فأمرهم عزّ وجلّ بذكر الله تعالى لأنّه المنعم الحقيقي والسبب الواقعي في زوال الخوف، وقد أنعم الأمن والأمان والخير والإحسان، فيجب).

إنّ أمثلة هذا التعليل ـ في المطالبة بذكر الله تعالى في حالة الأمن بعد حالة الخوف من حيث استتباع الحالة الأولى تشاغلاً بالدنيا لتنطوي ـ كما كررنا ـ على ملاحظات ذات قيمة جديرة بالتبجيل، بما تنطوي عليه من تحليل نفسي واجتماعي، وبما تتضمنه من إدراك ذكي للصلة بين (ذكر) هذه الظاهرة وبين التركيبة البشرية في سلوكها المشار إليه، وبالنسبة إلى ظاهرتي (التعريف) و(الإبهام)، فإنّ المؤلف يتوفر أيضاً على استشفاف الدلالات الفنّية لهما بنجاح، ومن ذلك مثلاً: التعريف باسم إبراهيم (عليه السلام) وإهمال نمرود، وإبهام اسم المار على القرية واسم القرية ذاتها، معللاً ذلك بقوله: (وإنّما ذكر سبحانه إبراهيم وأبهم اسم الذي مرّ على القرية واسمها والقوم الذين كانوا يسكنون فيها، تعظيماً لإبراهيم (عليه السلام). ولأنّ الغرض هو بيان كيفية الهداية والموعظة، ولا يحتاج إلى ذكر الأسماء بعد استيفاء الغرض من ضرب المثل، أو لأنّ الأحياء بعد الإماتة من الأمور المستبعدة عند الناس والمستعظمة عندهم فاقتضى الحال أن يكون الكلام بلحن الاستهانة والاستصغار)، وبالنسبة إلى نمرود وإبهام اسمه، قال: (ولم يصرح سبحانه باسم تحقيراً، ويمكن أن يراد به كلّ من كفر سواء كان نمرود أو من حضر في مجلسه).

أخيراً، قبل أن نعبر هذه المرحلة من الخطوة التفسيرية لدى المؤلف، يجدر بنا أن نقف أيضاً عند نماذج من استشفافاته البلاغية في حقل العنصر «الصوري» ونعني به: التشبيه والاستعارة والكناية أو الرمز ونحوها من الظواهر التي يرسل بها المؤلف علاقات التماثل أو التضاد فيما بينها.

وبما أنّ الباحث تظل عنايته الأولى تفسيرية الطابع، أي إبراز الدلالة في النص، حينئذ فإنّ توكؤه على العنصر الصوري لا يتجاوز النطاق المذكور، لذلك نجده عندما يواجه الصورة أمّا أن يخطف بها عابراً كما هو ملاحظ عند تناوله لمقطع {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}([40]) حيث عقّب: (والعقدة من العقد بمعنى الشد وهما والعهد بمعنى واحد.

وفي الآية استعارة بليغة حيث شبّه عقد النكاح بالعقد التي يعقد بها أحد الحبلين بالآخر، وجعلها أمراً قلبياً، لبيان أنّ هذه الأمور من الاعتبارات العقلائية التي يقوم عليها نظام المجتمع).

فالمؤلف قد اكتفى بالإشارة إلى جمالية الاستعارة من حيث مماثلة عقد الزواج بالحبل المعقود.

ونجده حيناً آخر يتعامل معها كآية مفردة ترشح بأكثر معنى مثل تعقيبه على مقطع {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً}([41]) قائلاً: «المراد باستيقاد النار هو إيقادها للاهتداء بنورها أو الاستضاءة به» وعلى مقطع {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}([42]) المراد به الأعم من النور الظاهري الذي كان من إيقاد النار، والنور المعنوي الذي هو الإسلام. فإنّ المنافق المتمادي في الغي والضلالة ومزاولته للأعمال الشريرة حصلت على طبيعة ثانية أوجبت إطفاء نور الفطرة والأعراض عن الإيمان) ومقطع {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}([43]) (أي صيّرهم في الظلمات لا يبصرون شيئاً، ويستفاد من حث المتعلق وسياق الآية الشريفة أنّ الله تعالى أذهب جميع مراتب النور عنهم في الدنيا والآخرة).

فالملاحظ هنا، أنّ تعامل المؤلف مع هذه الصورة يماثل تعامله مع أية عبارة مباشرة، مترجماً الصورة الرامزة إلى دلالتها المباشرة أو المعنى الثانوي إلى معناه الأولي وهو أمر يتناسب بطبيعة الحال مع منهجه التفسيري كما قلنا.

وقد يفسر الصورة بشيء من التفصيل، مصحوباً بالاحتمالات الفنّية التي تشي الصورة بها، وهذا ما نلحظه مثلاً في مواجهته لصورة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ}([44]) يعقّب قائلاً: (أي: لا يقوم في أمور المعاش والحياة بالوجه الصحيح والنهج القويم، وذلك لأنّ الإنسان بل سائر الحيوان قد أودع الله تعالى في قوة يميز بها الخير من الشر والنافع من الضار. فإذا اختلت هذه القوة الداركة المميزة اختلت أفعاله وحركاته وأحكامه فلا يرشد إلى الصحيح منها والنافع: كالصروع الذي فقد فيه التمييز، فلا يقوم في معيشته بالوجه الصحيح النافع).

(ويمكن أن يكون مسّ الشيطان موجباً لاختلال نظمه وخبط في أموره في جميع النشأت، ففي هذا العالم يغلب عليه الوهم والخيال فيرى كالمصروع، وفي موقف الحشر يراه جميع الناس كذلك، لأنّه عالم ظهور الحقائق والصرائر للجميع، فيحشر المرابي كالمصروع) وفي مواجهته للصورة اللاحقة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}([45]) يعلق: أي أنّ أكلهم للربا واستحلالهم له، أو أنّ الدليل على كونهم خابطين خرجوا عن جادة الصواب أنّهم قالوا في قياس باطل إنّما البيع مثل الربا ولم يقولوا إنّما الربا مثل البيع الذي هو أقرب إلى الذهن، فقد أمكن الخبط في نفوسهم وظهر الاختلال على أفكارهم وأقوالهم، فكان المعروف والمنكر لديهم سيّان، وقد شبّهوا الربا الذي هو خلاف الفطرة المستقيمة بالبيع الذي هو المعروف بين العقلاء وهما متباينان، ولكن الخبط الذي استقر في نفوسهم جعلوا المأمور به كالمنهي عنه، وهو قياس مع الفارق).

ممّا لا تردد فيه، أنّ هذا الاستشفاف للسورة يتميز بدقة اللاحظة وطرافتها خاصّة عندما ربط بين قول المرابين «البيع مثل الربا» بدل العكس وبين الخبط الذي يسمهم، أي بين الصورتين (الخبط) و(مثليه البيع للربا) وترتب الثاني على الأولى، فما دامت السورة الأولى تسمهم بالاختلال، فحينئذ لابدّ من اختلالهم أيضاً في صياغة الأقوال أو مسوغات عملهم.

وهكذا نجد أنّ المؤلف في استشفافاته البلاغية يتّسم بالطابع ذاته في سائر استخلاصاته التفسيرية التي وقفنا عندها في المرحلة التي نتحدث عنها.

المرحلة الأخيرة من الخطوة التفسيرية:

تتمثل في تلخيصه للمقطع الذي شرح مفرداته لغوياً أولاً، وشرحه دليلاً ثانياً، ويختمه بالتلخيص ثالثاً.

وهذه المرحلة هي أقصر الحقول التفسيرية حجماً، إلا أنّها أكبر الحقول فائدة؛ نظراً لأنّها تقدم حصيلة نهائية لمضمون المقطع وهو المطلوب الرئيس لدى القارئ، طالما نعرف جزم بأنّ القارئ ستتوزع اهتماماته بين ما هو لغة وما هو مفردة وما هو استشفاف أو احتمال أو الخ، وإذا بالباحث يقتاده بعد هذه الرحلة في أكثر من حقل، إلى المحطة الأخيرة التي يجني من خلالها ثمر قراءته. ويمكن ملاحظة هذه المرحلة الختامية التي تحمل عنوان (والمعنى: ) وفي نماذج من نحو تعقيبه على مقطع {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}([46]) حيث يختم ذلك (بعد أن يتحدث لغوياً ودلالياً كما لحظناه بالنسبة إلى هذا المقطع قبل صفحات) بقوله: (والمعنى: أنّ المطلقات ينتظرن ويمسكن بأنفسهنّ عند قبول الزوج حتّى يرين ثلاثة أطهار).

وفي تعقيبه على المقطع بعده {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ}([47]) يختتمه بالقول:

(والمعنى: لا يحل النساء أن يكتمن ما خلقه الله تعالى في أرحامهنّ من الحيض أو الحمل استعجالاً للخروج من العدة وإضراراً بالزواج في رجوعه أو تطويلها لأجل النفقة).

وهكذا بالنسبة إلى غالبية المقاطع التي يتناولها وفقاً للمراحل الثلاث بالنحو الذي لحظناه.

الخطوة التفسيرية الثالثة (والأخيرة):

لدى المؤلف هي ـ كما سبقت الإشارة ـ تظل بمثابة «ملحق» للخطوة التفسيرية الثانية، كما كانت الخطوة التفسيرية الأولى بمثابة «تعريف» أو «تمهيد» للخطوة الثانية.

وتتميز الخطوة التفسيرية الثالثة بكونها (إضاءات) تحقق مزيداً من الفائدة بالنسبة إلى القارئ الخاص أو القارئ المعني بتفصيلات أكثر من النص، وإلا فإنّ القارئ يحقق إشباعه من خلال الخطوة الثانية التي لحظناها.

الخطوة الثالثة: تضمن حقولاً ـ سبق أن أشرنا إليها ـ مثل (بحث دلالي) (أدبي) (روائي) (فلسفي) (كلامي) (عرفاني) (اجتماعي) (تاريخي) (علمي) (أخلاقي) (قرآني) (فقهي).

هذه الحقول ـ كما قلنا ـ تعقب كلّ مقطع يتناوله المؤلف (وليس كلّ جزئية) إلا أنّها لا تطرد في كلّ المقاطع بقدر ما يتطلبه المقطع ذاته، فقد يقتصر المؤلف على (بحث ) واحد (كالبحث الروائي) أو (الفقهي) أو الدلالي الخ. وقد يتجاوزه إلى حقلين أو أكثر كما هو ملاحظ مثلاً في المقطع المتضمن لآيتين {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}([48]) {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ}([49]) كي حيث تضمن ستة بحوث هي: بحث أدبي، بحث دلالي، بحث روائي، بحث فقهي، بحث علمي، بحث عرفاني.

المهم أنّ كلّ واحد من هذه البحوث يتناول شريحة محددة من المقطع وينقل إنارة على جوانبها؛ تفصيلاً أو عابراً بنحو يشكل إمّا توضيحاً لمّا ذكره في الخطوة التفسيرية الثانية، أو إضافة جديدة، أو تكراراً من خلال الإشارة المجردة إليها. ونحسب إن وقفنا عند كلّ (بحث) منها سيوضح الخصائص التفسيرية لهذه الخطوة التي نحن في صددها.

إذاً: لنقف عند كلّ واحدة منها، ونبدأ ذلك بالحديث عن:

يجيء البحث الدلالي مباشرة بعد الخطوة التفسيرية الثانية، والسبب في ذلك هو أنّ هذا البحث امتداد للخطوة التفسيرية المذكورة، بصفة أنّ هذه الخطوة تفسير دلالي أو تفسير لمضمون النص، وحينئذ فإنّ ما تعقبه مباشرة يظل عملية امتداد لما سبقها إلا في حالة تطلبها بحثاً لغوياً، فحينئذ يتقدم البحث اللغوي عليه اتساقاً مع المنهج التفسيري لديه، حيث قلنا أنّه يبدأ بالتحليل اللغوي ثمّ بالتحليل الدلالي. وعلينا ملاحظة هذه الخصيصة مثلاً في بحثه اللغوي والدلالي للمقطع الذي تحدث عن قصّتي إبراهيم مع نمرود والمار على القرية، حيث طرح مسائل لغوية تتصل بالموصول والفعل المضارع والظرفية الخ، فهي مسائل تتصل بالدلالة النحوية للعبارة، بينما يطرح الدلالة المعجمية في خطوته التفسيرية الثانية، ممّا يعزز ذهابنا إلى أنّ الملحق اللغوي لا يعني به إلا الخاصة، ولكنّه ينطوي ـ كما كررنا ـ على الفائدة دون أدنى شك.

بيد أنّ المهم هو ما يطرحه المؤلف من وجهات النظر في الحقل الدلالي حيث تتضخم الفائدة لدى القارئ بنحو واضح، ففي سياق الموضوع الذي نتحدث عنه، نجد أنّ المؤلف يطرح سبعة عشر ملاحظة نقتطف بعض فقراتها مثل:

الأول: إنّما ذكر الله تعالى قصة خليله بعد آية الكرسي للإشارة إلى أنّ مثل الخليل هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها وبواسطة مثله يخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور، وإنّ نمرود وأمثاله من الطواغيت هم الذين يخرجون الناس من النور إلى الظلمات.

الثاني: يستفاد من الآيات الشريفة أدب المحاجة مع الخصم. وقد بيّن الله تعالى كيفية المحاجة مع الظالمين أيضاً.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}([50]) أنّ هذه المحاجة وقعت بعد أن رضاه الله تعالى وأوصله إلى مقام حقّ اليقين.

الرابع: إنّما خصّ الشمس بالذكر لأجل إنّها كانت من جملة المعبودات عنده.

الخامس: يظهر من قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}([51]) أنّه ليس من الحالات الذاتية ولا لما طلبه إبراهيم (عليه السلام).

السادس: يستفاد من قوله تعالى: {نْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}([52]) أنّ سبب طغيانه ودعواه أن رأى لنفسه الملك والسلطة والنفوذ.

السابع: يدل قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}([53]) من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}([54]) أنّ المار على هذه القرية قد أبدى إعجابه عن كمال قدرته جلّت عظمته ونهاية اقتداره فيكون اعترافاً بالحيرة. ويدل على ما ذكرناه في ذيل الآية الشريفة {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}([55]).

التاسع: إنّما أبهم تعالى اسم القرية واسم النبي الذي مرّ عليها بل وزمان القصة لأنّ المراد إظهاره القدرة التامّة وإنّها غير مختصة بوقت دون آخر أو بمكان دون آخر، والأسلوب البلاغي يقتضي عدم ذكر جهات القصة غير الدخيلة.

العاشر: يحتمل أن يكون قوله تعالى: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}([56]) بياناً لقصر المدة التي لبث فيها بعد أن رأى الآيات أو إشارة إلى عظم الآيات التي رآها من الله تعالى فتكون المدة الطويلة بالنسبة إليها قصيرة.

الحادي عشر: أنّ الوجه في تكرار كلمة «انظر» في الآية الشريفة أنّ في كلّ واحدة من الموارد الثلاثة عرضاً خاصّاً. فالأول لبيان دفع ما يتوهم من قصر المدة. والثاني لبيان طول المدة. والثالث لبيان كيفية البعث.

الثاني عشر: يدل قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا}([57]) على كمال قدرته على الموجودات، وإنّ قدرته على إيجاد الروح تستلزم قدرته على جميع ما دون ذلك.

الثالث عشر: يصح أن يكون المراد من العظام في قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ}([58]) جنس العظام الشامل.

الرابع عشر: إنّ هذه الآية المباركة والتي بعدها تصوير خارج لحقيقة المعاد التي صعب على الأفهام قبولها.

الخامس عشر: تدل هذه الآية الشريفة وأمثالها على صحة الرجوع إلى هذه الدنيا بعد الموت.

السادس عشر: يصح أن يستدل بهذه الآية المباركة الدالة على تجدد القرية وبعث أهلها على صحة القاعدة العقلية التي أذعن بها الكل من أنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فجرى ذلك بالنسبة إلى كلّ قرية.

السابع عشر: استفاد من قوله تعالى: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}([59]) استمرار علمه من أول الأمر بقدرته تعالى، ولكن تأكد علمه بما شاهده من الحوادث).

إنّ هذا النص الطويل الذي استشهدنا ببعض فقراته، يفصح عن منهجية المؤلف في خطوته التفسيرية الثالثة، متمثلة في استخلاصه الدلالات الثانوية بالقياس إلى ما استخلصه سابقاً في خطوتيه التفسيريتين، فمثلاً ذكر في خطوته التفسيرية الأولى أنّ النص أردف آية الكرسي التي تحدثت عن إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور وهدايته للمؤمنين ، بأنّ «هناك هداية تحصل بالحجة والبرهان كالتي مع إبراهيم (عليه السلام). وهداية للمشاهدة والعيان كالتي حصلت مع ذلك المؤمن الكريم الذي مرّ على قرية».

فهناك قابل بين موقفين لحقيقة واحدة؛ لكن أحدهما موقف استدلالي عقلي، والآخر حسّي تجريبي.

وأمّا في خطوته التفسيرية الثانية، فلم يشر إلى هذا الجانب، بينما أضاف في خطوته التفسيرية الثالثة استخلاصاً آخر هو: المقابلة بين شخصيتين تجسد إحداهما الإخراج من الظلمات إلى النور، والأخرى بالعكس، كما أبرز جوانب ثانوية أخرى كأدب المحاجة مع الخصم مطلقاً ومع المنحرف، وإنّ إبراهيم (عليه السلام) وقعت محاجته بعد وصوله إلى درجة اليقين في الإيمان، وأنّ تخصيص إبراهيم (عليه السلام) لظاهرة الشمس لاحتلالها أهمية عند المنحرفين، الخ. هذا إلى أنّه أبرز جوانب فنّية مثل استخلاصه الفنّي للسر الكامن وراء إبهام اسم المار على القرية واسمها وزمان الحادثة. الخ.

طبيعياً، أنّ الظاهرتين الفنّيتين الأخيرتين (التكرار) و(الابهام) ـ كما شاهدنا ذلك في نصوص سابقة ـ قد يطرحها الباحث في خطوته التفسيرية الثانية، وكذلك غيرها من الظواهر البلاغية أو الدلالية ممّا يعني أنّ «البحث الدلالي» لا يتناول الظواهر الثانوية فحسب، بل يتناول أيضاً ما لا يجد له المؤلف سياقاً في خطوته التفسيرية الرئيسة فيرجئه إلى الخطوة الثالثة، إلا أنّه في الحالتين: يستكمل الباحث عملية تفسيره الشامل من خلال ما يفرضه عليه البحث من سياقات مناسبة لهذا الطرح أو ذاك، أو من خلال ما يجده ثانوي الأهمية كأدب المحاجة أو المرحلة العبادية عند إبراهيم (عليه السلام). الخ.

بيد أنّ ما تجدر ملاحظته هنا، أنّ البحث الدلالي لا يتمخض لمضمون أو دلالة العبارة لدى المؤلف بل يتداخل مع البحوث الأخرى كالبحث الأدبي أو الفنّي كما لحظنا، ويتداخل مع بحوث أخرى كالبحث الفقهي وغيره،. فمثلاً نجده قد طرح بحثاً فقهياً في البحث الدلالي عقّب فيه على فقرة {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}([60]) قائلاً: (ربما يستدل بقوله تعالى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}([61]) على صحة خطوته التفسيرية الرئيسة (أي الثانية) لم يشر إلى هذا الجانب، بينما نجده في خطوته التفسيرية الثالثة يضيف استخلاصاً جديداً هو تجسيد القصة الأولى لعملية الاستمساك بالعروة الوثقى من خلال شخصية إبراهيم (عليه السلام) «وبواسطة مثله يخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور، وأنّ نمرود وأمثاله من الطواغيت هم الذين يخرجون الناس من النور إلى الظلمات»؟ استقلالها في النكاح من دون مراجعة الولي. وهذا صحيح بالنسبة إلى البالغة الرشيدة الكاملة، وأمّا بالنسبة إلى غيرها فالدليل لا يشملها، وإنّ التمسك بالآية المباركة فيها من التمسك بالدليل في الموضوع المشكوك وهو باطل عند الجميع، وقد فصّلنا البحث في الفقه، ومن شاء فليراجع النكاح من المهذب (ويقصد به كتابه الفقهي: مهذب الأحكام).

واضح، أنّ هذه الملاحظة؛ فقهية، ويناسبها حقل (بحث فقهي) لا «بحث دلالي» طالما لحظنا أنّ المؤلف في بحثه الدلالي يتناول «المعنى» في دلالته الرئيسية والثانوية والهامشية (أي معنى العبارة، وإيحاءاتها المتنوعة، وما تتواكب معها من ظواهر مرتبطة بها بشكل أو بآخر. ولعلّ كون الجزئية التي يتناولها في البحث حكماً شرعياً، هي التي تسوغ للمؤلف أن (يداخل) بين البحثين؛ الدلالي والفقهي،. يدلنا على ذلك أنّ الباحث في تناوله مثلاً لجزئية {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}([62]) يعلق عليها في البحثين: الدلالي والفقهي بملاحظة مشتركة من جانب (وهي الملاحظة الفقهية) وبملاحظة مستقلة هي الملاحظة الدلالية، ففي حقل (بحث دلالي) يقول المؤلف: (يدل قوله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}([63]) على كمال عطفه وشدة اهتمامه عزّ وجلّ ببقاء العصمة الأولى حيث عبّر تعالى (بردهن) دون غيره، فجعل للزوج حق الرد باعتبار الحالة التي قبل الطلاق فكأنّها لم تطأ، ولا حق للمرأة في المعارضة، ولا منافات في ذلك مع القول بأنّ للزوج حقّاً في المطلقة ولسائر الخطاب حقّاً أيضاً، ولكن الرد لا يتحقق إلا مع الزوج الأول في العدة.

ويستفاد من هذه الآية الشريفة رجحان المراجعة وحسنها، ويدل عليه العدول عن التعبير بالزوج إلى البعولة لاخراج غير المدخول بها والترغيب في المراجعة وتذكر الحالة السابقة والعصمة الأولى).

هذا ما ورد في حقل (بحث دلالي)، أمّا ما ورد في حقل (بحث فقهي) فقد جاء على هذا النحو: (يدل قوله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}([64]) أنّ الزوج إذ طلب الرجوع لا حق للمرأة في معارضته في ردّها)، فالإشارة إلى عدم حق المعارضة وردت في كلا البحثين: الدلالي والفقهي، إلا أنّها في البحث الأول وردت ضمن الحديث عن ظاهرة دلالية عامّة، بينما تناولها مستقلة في البحث الأخير.

وقد يقتصر تناوله في الحقلين على الظاهرة الفقهية دون الإشارة إلى الدلالة، وهذا من نحو ما طرحه في (بحث دلالي) بالنسبة إلى جزئية {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}([65]) حيث قال: (يدل قوله تعالى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ}([66]) بملازمة على اعتبار قولهن إذا أخبرن بما في أرحامهن من الحيض والطهر والحمل.

ولعلّ ما ورد في الأحاديث: «إنّ الله فوّض إلى النساء ثلاثة أشياء: الحيض والطهر والحمل» مستفاد من هذه الآية الشريفة، وقد سيق ذلك مساق القاعدة الكلّية، وأجمع الفقهاء على اعتبار قولهنّ في هذه الثلاثة ما لم يعلم الكذب وهو موافق للقاعدة النظامية المذكورة في الفقه من أنّ «كلّ من استولى على شيء فقوله معتبر فيما استولى عليه» ولهذا القاعدة موارد كثيرة في فقه المسلمين).

وأمّا في حقل (بحث فقهي) فقد ورد: (يدل قوله تعالى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ}([67]) على قبول قولهن في أخبارهن بما في أرحامهنّ من الحمل والحيض والطهر، ولا يختص الحكم بخصوص الحمل كما ذكره بعض الفقهاء لأنّ هذا الرد الزجر الشبيه يناسب أن يكون على كتمان الحمل، ولكن إطلاق اللفظ يشمل جميع ما ذكر).

بيّن أنّ استخلاص«اعتبار قولهن» هو الظاهرة المطروحة في الحقلين، كلّ ما في الأمر أنّ الباحث ركّز في أولهما على عنصر الملازمة على اعتبار قولهن (والملازمة ربما لشيء بما هو دلالي) واستفادة الأحاديث الشاملة للحيض والطهر بدورهما من الآية الكريمة، بينما ركّز في حقله الفقهي على شمولية إطلاق اللفظ لهما.

ومهما يكن فلا مشاحّة في أمثلة هذا التداخل، لولا أنّ المؤلف نفسه حريص على فرز الحقول المذكورة بعضها عن الآخر. والمهم هو: أنّ الباحث في استخلاصه للدلالات الإضافية التي خصص لها (البحث الدلالي) ـ خاصّة فيما يتصل بتناوله لآيات الأحكام التي يقترن استخلاص دلالاتها الأسلوبية بشيء من الصعوبة ـ يوفق بنحو ملحوظ في استخلاص ذلك. فلو عدنا إلى تعليقه على جزئية {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}([68]) لوجدنا أنّ استشفافه لكلمة (ردهن) وكلمة بعل) ينطوي على مهارة فائقة في اقتناص الدلالات القائمة على تينك الكلمتين، فكلمة (الرد) وجدها المؤلف وكأنّها توحي بدلالة الاستمرارية في العلاقة بين الطرفين أو وكأن العلاقة لم تقطع خلال العدة، وكلمة «البعل» دون «الزوج» وجدها توفي بإخراج غير المدخول بها من العلاقة المذكورة.، وهكذا.

أنّ أمثلة هذا الاستشفاف من خلال اللغة الفقهية في النص لتفصح عن ضخامة تذوق المؤلف للعبارة الفنّية، ممّا يهب تفسيره مزيداً من الأهمية كما هو بيّن.

لكن قبل أن نغادر هذا الحقل (بحث دلالي) ينبغي أن نكرر الإشارة إلى أنّ أمثلة هذا الاستشفاف لا تنفصل عن الجانب الفنّي أو البلاغي للنص طالما نعرف بأنّ (المعنى) تتداخل فيه العناصر المضمونية والفنّية، بصفة أنّ انتخاب العبارات ينتمي إلى ظاهرة (الأسلوبية)، والأخيرة تعني: السمة الفنّية أو البلاغية).

لذلك نجد الباحث (يداخل) بين ذينك العنصرين كما هو ملاحظ في النماذج السابقة. وهذا ما يقتادنا إلى الإشكالية التي وجدناها بالنسبة إلى (تداخل) البحثين: الدلالي والفقهي للأسباب التي أوضحناها في حينها، ونجدها الآن متداخلة مع حقل آخر.

([1]) الكهف: 7.

([2]) الكهف: 46.

([3]) الكهف: 28.

([4]) الكهف: 7.

([5]) البقرة: 72.

([6]) البقرة: 72.

([7]) البقرة: 67.

([8]) البقرة: 73.

([9]) البقرة: 71.

([10]) البقرة: 190.

([11]) البقرة: 245.

([12]) البقرة: 252.

([13]) البقرة: 253.

([14]) البقرة: 254.

([15]) البقرة: 243.

([16]) البقرة: 260.

([17]) البقرة: 229.

([18]) يونس: 12.

([19]) التوبة: 101.

([20]) الفرقان: 72.

([21]) الحج: 65.

([22]) الزخرف: 43.

([23]) الأحزاب: 49.

([24]) البقرة: 228.

([25]) البقرة: 238.

([26]) العنكبوت: 45.

([27]) البقرة: 228.

([28]) المصدر السابق.

([29]) البقرة: 235.

([30]) البقرة: 258.

([31]) البقرة: 259.

([32]) البقرة: 258.

([33]) المصدر السابق.

([34]) البقرة: 258.

([35]) النساء: 54.

([36]) البقرة: 251.

([37]) البقرة: 260.

([38]) المصدر السابق.

([39]) البقرة: 239.

([40]) البقرة: 235.

([41]) البقرة: 17.

([42]) البقرة: 17.

([43]) المصدر السابق.

([44]) البقرة: 275.

([45]) البقرة: 275.

([46]) البقرة: 228.

([47]) المصدر السابق.

([48]) البقرة: 228.

([49]) البقرة: 229.

([50]) البقرة: 258.

([51]) المصدر السابق.

([52]) المصدر السابق.

([53]) المصدر السابق.

([54]) البقرة: 259.

([55]) المصدر السابق.

([56]) المصدر السابق.

([57]) المصدر السابق.

([58]) البقرة: 259.

([59]) المصدر السابق.

([60]) البقرة: 230.

([61]) المصدر السابق.

([62]) البقرة: 228.

([63]) المصدر السابق.

([64]) المصدر السابق.

([65]) البقرة: 228.

([66]) المصدر السابق.

([67]) المصدر السابق.

([68]) البقرة: 228.

إنّ هذا الحقل لدى الباحثين يشمل كلا البحثين: اللغوي والبلاغي، ومع أنّ البحوث الحديثة تفصل أحدهما عن الآخر تماماً: بصفة أنّ اللغة (فقهها أو نحوها، والخ) لا علاقة بكثير من عناصرها بما هو (فن) كعنصر (الصورة) مثلاً حيث لا علاقة بقدرة المنشئ للعبارة النحوية السليمة بقدرته على انتخاب الصورة الفنية. أيضاً، وأحداهما غير الأخرى. ولكن إذ لوحظت اللغة من جوانب أخرى، بصفتها ـ من جانب ـ الأداة الرئيسة للمنشئ الأدبي، وبصفة أنّ عناصرها الثانوية من (إيقاع) وغيره، أو عناصرها المعنوية من تقديم أو تأخير وذكر أو حذف، وتفصيل أو إجمال الخ ذات صلة بمهارة المنتج الأدبي، حينئذ فإنّ المسوغ الجامع لهما قد يفرض فاعليته في هذا الميدان. وأيّاً كان، فإنّ المؤلف في حقل (بحث أدبي) يطرح هذه المسائل اللغوية خالصة، وحيناً آخر يشفعها بمسائل بلاغية. وهذا الأخير يمكن ملاحظته (أي: طرح المسائل اللغوية والبلاغية) في المقطع الذي سبق أن وقفنا عنده {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}([1]) حيث استهله بالقول: (قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}([2]) جملة خبرية في مقام الإنشاء. وهو أبلغ من الإنشاء في الطلب والإيجاب. وفي كلمة «بأنفسهن» من البلاغة والإبداع ما لا يخفى، فإنّها بإيجازها تشتمل على معان دقيقة بالإشارة والتلويح فإنّ فيها ترك التصريح إلى ما تشوق النساء إليه والاكتفاء بالكناية عمّا يرغبن فيه وعدم ايئاسهن مع اجتناب إخجالهن وتوقي تنفيرهن أو التنفير منهن، فإنّ الكلام في المطلقات وهن معرضات للزواج وخلوهن عن الأزواج، ولا بدّ من ضبط النفس ومنعها أن تقع في الشهوة المحرمة.

ولولا هذه الكلمة لما فاد اللطائف الدقيق.

والتاء في «بعولتهن» زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة وهو شاذ لا يقاس عليه ويعتبر في السماع.

وقوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}([3]) منصوب على أنّه مفعول به على تقدير.

وإنّما ذكر العدد مؤنث «ثلاثة» باعتبار لفظه.

وفي قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}([4])  في ذلك نوع من الاستخدام الذي هو من المحسنات الكلامية وهو عبارة أن تكون الكلمة لها معنيان فيذكر أحدهما ثمّ يراد بالضمير الراجع إليها معناه الآخر.

ثمّ أنّ قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ}([5]) التفات عن خطاب الجمع إلى خطاب المفرد.ثمّ إلى الجمع. ثمّ إلى المفرد، كلّ ذلك لتنبيه المخاطب ورفع الكسل في الأصغاء وتنشيط الذهن الخ).

من النموذج المتقدم نتبين طريقة الباحث في تناوله للمسائل اللغوية والبلاغية في حقله (بحث أدبي). بيد أنّ استكشافاته البلاغية تظل متّسمة بأهمية أكثر دون أدنى شك، خاصّة عندما يخضعها للتفسير النفسي، وهو ما نلحظه بوضوح في تعقيبه على كلمة (بأنفسهن) حيث استكشف من هذه العبارة ارتباطها بالعمليات النفسية (حيث لا يتحقق مثل هذا الارتباط في عبارة أخرى أو في حالة الحذف) وما يقترن بها من السلوك بالنحو الذي فصل الحديث عنه.

ومع أنّ الباحث يتوكأ على المبادئ البلاغية الموروثة كالاستخدام والالتفات ونحوهما ممّا لحظناه في النموذج المتقدم، إلا أنّ تذوقه الفني يتجاوز الدائرة الموروثة ليعبر بها إلى تخوم الفن الحديث أحياناً، وهو ما يهب ـ كما كررنا ـ تفسيره مزيداً من القيمة.

([1]) البقرة: 228.

([2]) المصدر السابق.

([3]) المصدر السابق.

([4]) المصدر السابق.

([5]) البقرة: 229.

من الواضح، أنّ البحث الفقهي ينحصر في آيات الأحكام المباشرة أو غير المباشرة، مثل آية {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}([1]) فيما عقّب المؤلف على الجزئية المذكورة، بقوله: (استدل الفقهاء بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ}([2]) لاثبات الإباحة المطلقة في جميع الأشياء إلا ما دلّ دليل بالخصوص على تحريمه، وتمسكوا بغيرها من الآيات المباركة أيضاً على ما سيأتي، والروايات، بل وبالعقل، يبينوا في علم الأصول ما يتعلق بذلك».

ومثل جزئية {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ}([3]) حيث عقّب عليها قائلاً: (قد استدل بالآية الشريفة {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ}([4]) على إباحة الأشياء وحلّيتها وجعلوها أصلاً عبّروا عنه بأصالة الإباحة العقلية والنقلية، وقد حررنا البحث عنه في كتابنا (تهذيب الأصول) فلا وجه للتعرض هنا بعد ذلك كما استدل بها على أنّ الرزق يطلق على الحلال فقط لأنّ الأمر يدل على الإباحة في المقام، وحيث لا يتصور الإباحة في الحرام فلا يصدق عليه الرزق.

ولكن يرد عليه من شرط ظهور اللفظ في شيء إحراز كون المتكلم في مقام بيان ذلك الشيء وإقامة الحجة عليه وهو غير محرز في المقام، ويكفي في عدم صحة التمسك بالاطلاق الشك في ذلك على ما هو المتعارف في المحاورات، وقد حررنا ذلك في أصول الفقه).

يعنينا من هذين النموذجين أن نعرض لطريقة المؤلف في التعامل الفقهي مع النص، وإذا كان الباحث يتعامل بتفصيل في دلالات النص المتنوعة كالبحث الدلالي أو الفلسفي أو الاجتماعي الخ ـ كما سنرى ـ فإنّه في ممارسته الفقهية يتعامل على العكس من البحوث الأخرى، حيث يعرض للجوانب الفقهية عابراً إلا سياقات خاصّة فيما يحيل القارئ ـ كما رأينا في النموذجين ـ إلى مؤلفاته الفقهية والأصولية، بل نجده أحياناً لا يبدي وجهة نظره الفقهية حيال الظاهرة بل يكتفي بالإشارة إلى أقوال الفقهاء؛ كما لاحظنا ذلك بالنسبة إلى وجهة نظره حيال «الإباحة» في النموذجين المتقدمين. ولعلّ السر في ذلك: أنّ الممارسة الفقهية تتطلب العملية الاستدلالية فيها صفحات طوالاً من عرض الأدلة ومناقشتها فيما لا تنسجم مع طبيعة ممارسته التفسيرية التي يُعنى فيها بتقديم الدلالة العامّة للنص، فضلاً عن كون الممارسة الفقهية لا تهم إلا القارئ الخاص، لذلك نجده إمّا أن يدعها تماماً، وإمّا أن يشير إليها من خلال عرضها فحسب، أو يحيلها إلى مؤلفاته، أو يعرض لها عابراً: كما لحظنا ذلك عند حديثنا عن (بحثه الدلالي) الذي تخلله طرح بعض المسائل الفقهية والاستدلال العابر حيالها. وفي هذا السياق (أي الاستدلال العابر) يقتصر حيناً على الدليل القرآني وحده أو مشفوعاً بالدليل العقلي أو الأصل العملي، وحيناً آخر بالدليل الروائي: كما هو ملاحظ في الممارسة الآتية:

(قد يستدل بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}([5]) على عدم جواز دخول الكفار والمشركين في المساجد بتقريب أنّه إذا استولى عليها المسلمون وحصلت تحت سلطانهم فلا يمكّنون الكافر حينئذ من دخولها.

والصحيح أنّ الآية الشريفة وحدها لا تدل على ذلك إلا بضميمة قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}([6]). وقول نبيّنا الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إلا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان» بعد الإجماع على عدم الفرق بين المشرك وغيره من الكافرين، وكذا سائر المساجد من هذه الجهة.

ثمّ أنّه قد يستمسك بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}([7]) على جواز التوجه إلى غير القبلة من عدة موارد، وقد ذكرنا أنّ ذلك من باب التطبيق، وهي:

الأول: جواز صلاة النافلة على الدابّة أينما توجهت، كما في صحيح حريز عن أبي جعفر (عليه السلام): «أنزل الله هذه الآية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}([8]) في التطوع خاصة، وصلّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إيماء على راحلته أينما توجهت به، حيث خرج إلى خيبر وحين رجع من مكّة وجعل الكعبة خلف ظهره»، وروى مسلم عن أبي عمر «كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصلي وهو مقبل من مكّة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه»، ورواه في الدرّ المنثور عن جماعة.

الثاني: صحة صلاة الخوف والتحير كما روى زرارة عن الصادق (عليه السلام): «لا يدور إلى القبلة»، وروى الترمذي عن أبي ربيعة: Sكنّا مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سفر في ليلة مظلمة فلم ندرِ أين القبلة فصلّى كلّ رجل منا على حياله، فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}([9]).

الثالث: جواز سجود التلاوة لغير القبلة، رواه الصدوق في العلل عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام): «يسجد حيث توجهت دابّته».

الرابع: عد قضاء صلاة الفريضة إذا صلّيت خطأ لغير القبلة، فقد روى في الفقيه عن الصادق (عليه السلام)).

بيّن أنّ هذا النمط من الاستدلال الواضح بالكتاب وإردافه بالدليل النقلي دون إثقاله بالأداة الأصولية والرجالية ومناقشة الآراء (وحتّى في هذا النطاق، فإنّ بعض النصوص وفرت لإدارة النص القرآني كرواية حريز وابن ربيعة، ومجرد الإشارة إلى السنّة والإجماع والعقل (مثل تعقيبه على آيات الربا «تدل الآيات الكريمة على حرمة الربا. ويدل على ذلك السنّة الشريفة وإجماع المسلمين ودليل العقل» أو التوكؤ العابر على الأداة الأصولية (مثل تعقيبه على فقرة {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى}([10]) (تجب الإعادة في الصدقات الواجبة لو كانت بعنوان المن والأذى ولا تجزي لقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا}([11]) والنهي في العبادة يوجب الفساد كما ثبت في محله). وكلّ ذلك يكشف لنا عن أنّ منهج الباحث ـ في البحث (الفقهي) ـ بنحوه المشار إليه، يتناسب تماماً مع الطابع التفسيري لكتابه من حيث الوضوح وعمومية الإفادة وإبراز المضمون العام للنص.

ولا يفوتنا في النهاية أن نشير إلى أنّ منهجه فيه (بحث فقهي) يتجانس مع الخط العام للبحوث الأخرى من حيث تقسيمها إلى نقاط وأعداد يخضعها لعملية الاستفادة من النص القرآني واستكشاف دلالاته، فمثلاً نجده قد أبرز في (بحثه الفقهي) عن آيات الربا اثنتي عشرة ملاحظة من نحو:

ـ تدل الآيات الكريمة على حرمة الربا.

ـ الربا ممّا اجتمع فيه حق الله وحق الناس، فهو محرم من).

ـ الربا إمّا قرضي أو معاملي.

ـ ظاهر قوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ}([12]) سقوط الضمان بالنسبة إلى ما مضى إذا أتلفه.

ـ إطلاق قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}([13]) يشمل كلّ زيادة ربوية سواء كانت عيناً أم منفعة.

ـ يدل قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى}([14]) على رفع حكم الربا فيما إذا لم تبلغه الحجة الظاهرة الخ).

وبهذا النمط من التنظيم للظواهر المطروحة فقيهاً، يحافظ الكاتب على (وحدة) منهجيته، ممّا يضفي على تفسيره مزيداً من الأهمية كما هو بيّن.

([1]) البقرة: 29.

([2]) البقرة: 29.

([3]) البقرة: 60.

([4]) البقرة: 60.

([5]) البقرة: 114.

([6]) التوبة: 28.

([7]) البقرة: 115.

([8]) المصدر السابق.

([9]) المصدر السابق.

([10]) البقرة: 264.

([11]) المصدر السابق.

([12]) البقرة: 275.

([13]) البقرة: 278.

([14]) البقرة: 275.

يجي البحث الروائي واحداً من الأبواب الثابتة في حقول التفسير عند الباحث، حيث يرد غالباً بعد البحث الدلالي لكل مقطع تفسيري، وهذا الحقل بدوره يتضخم حجمه أو يضئل بقدر ما يتحمله المقطع من جانب، وبقدر ما تتطلبه الرواية من تعليق أو شرح أو صمت حياله من جانب آخر، وطبيعة هذا الحقل هي: أنّ الباحث يقدم الروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) بالنسبة إلى تفسيرهم للنصوص القرآنية، كما أنّه يحرص على تقديم الروايات (العامّة) أيضاً، والخط العام لهذا الحقل هو إيراد الروايات التفسيرية فحسب، إلا أنّه حيناً آخر يقدم الروايات الحائمة على النص أيضاً، أي: يورد الرواية التي تتحدث عن فضل هذه السورة أو تلك أو هذه الآية الكريمة أو تلك، أو يقدم روايات تحوم على الموضوع ذاته حتّى لو لم تكن تتضمن الإشارة إلى النص القرآني، الخ، ولعلّ تقديمه للحقل الروائي عن آيات الربا في سورة البقرة ما يوضح هذا الجانب حيث قال: (ونحن نتعرف في هذا البحث إلى بعض الروايات التي وردت في حرمة الربا، وبعض ما ورد في موضوع الربا، والإشارة التي وردت في الأخبار، كما ننقل الروايات التي وردت في تفسير مفردات الآية المباركة).

بيد أنّ المهم هو كيفية تعامله على هذا الحقل أي الرواية!.

ـ المؤلف حيناً ينسج صمتاً حيال الرواية ويكتفي بتقديمها فحسب، مثل ما أورده على مقطع {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}([1]) قائلاً:

بحث روائي:

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}([2]) قال: «أن تحسن صحبتهما».

وفي الكافي أيضاً عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}([3]) هذا النص يوضح بجلاء موضوعات (البحث الروائي) مع ملاحظة أنّ النقطة الأخيرة (أي نقل الروايات التي وردت في تفسير مفردات الآية الكريمة) تظل هي سمة غالبة على تعامله مع الرواية «قولوا للناس حسناً، ولا تقولوا إلا خيراً حتّى تعلموا ما هو».

وعن العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام): «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم» بيد أنّ غالب هو أنّ المؤلف يعقّب على الروايات بحسب ما يتطلبه السياق، فقد يكتفي بالإشارة إلى أنّه تقدم في حقل التفسير أو الدلالة بما يدل على مضمون الرواية، أو يحيل القارئ إلى أبحاث لاحقة؛ ولكنّه في أكثر ممارساته (يعقّب) أو يشرح أو يناقش، أمّا تعليقاته فتنصب على جملة ملاحظاته يحسن بنا أن نستشهد لها بنماذج سريعة أولاً، ثمّ استخلاصها بعد ذلك، فمن نماذجه عن البسملة: (عن نبيّنا الأعظم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما رواه فريقان: «كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» وعن الصادق (عليه السلام): «لا ندعها ولو كان بعدها شعر».

أقول: يحمل الخبر الأول على الأفضلية جمعاً بينهما.

عن أبي جعفر (عليه السلام): «إذا قرأتها فلا تبالي إلا تستعيذ».

أقول: (ويظهر منه أنّه عند دوران الأمر بين البسملة والاستعاذة تكون البسملة أولى).

وعن الصادق (عليه السلام): «من تركها من شيعتنا أمتحنه الله بمكروه».

أقول: (يظهر منه ومن جملة من الأخبار أنّ ترك المندوب وفعل المكروه فيه آثار خاصة فضلاً عن ترك الواجب وفعل المحرم)، ومن نماذجه عن فقرة {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}([4]).

عن الصادق (عليه السلام) في قوله الله عزّ وجلّ: «وعلم» قال: «الأرضين والجبال والشعاب والأودية».

عن داود بن سرحان قال: Sكنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت: جعلت فداه قوله تعالى: «وعلم»، فقال (عليه السلام): «الفجاج والأودية».

أقول: الأمثلة التي ذكرها (عليه السلام) من باب المثال لمّا كان موجوداً في زمان آدم (عليه السلام) لا الحصر)، ومن نماذجه: تعقيبه على روايات «روح القدس» قائلاً: (فما ورد في السنّة المقدسة في تفسير روح القدس من أنّه جبرائيل ملك أعظم منه، أو روح يؤيد الأنبياء والمرسلين يمكن إرجاع جميع ذلك إلى شيء واحد).

ومن نماذجه: تعقيبه على روايات المفسرة لفقرة {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}([5]) فيما ذكر بعضها أنّها «إقبال الرجل على صلاته ومحافظته على وقتها» وذكر بعضها الآخر أنّها «الدعاء في الصلاة حال القيام»، وعقّب على الأولى «من معاني القنوت: الرعاية، وما ورود في الرواية يكون من باب التطبيق» وعلّق على الأخرى «إنّ ذلك من باب التطبيق؛ فلا تعارض في الدين أصلاً».

ومن نماذجه: تعقيبه على روايات متنوعة من الخاصّة والعامّة تشير إلى أنّ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً}([6]) نزلت في الإمام علي (عليه السلام)، وأنّها متواترة بين المسلمين، ثمّ يورد روايتين عامّتين تشيران إلى شخوص آخرين، قائلاً عن الأولى: (على فرض صحة الرواية لا بأس بكونه من أحد المصاديق ويكون علي (عليه السلام) رأس النزول ومنشأ، والبقية من باب التطبيق) ويفصّل في النهاية (يمكن أن يقال بأن يكون للنزول منشأ انبساطي يكون بعض أفراده هو المنشأ الأول وينبسط على جميع ما يصلح لذلك، فما هو مورد النزول ووجهه في المرتبة الأولى هو علي (عليه السلام) فينطبق على غيره بحسب المراتب والشأن، إذ لا منافاة بين هذه الأخبار إذ لوحظ النزول بوجه انبساطي كلذي، وكان منشأه علياً (عليه السلام)).

ومن نماذجه: تعقيبه على الرواية الواردة في مجمع البيان: (عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ}([7]) هو شموئيل وهو بالعربية إسماعيل) قال: (الصحيح أنّ شموئيل هو صموئيل وليس إسماعيل، وقصور سند الحديث يغنينا عن البحث) وتعقيبه على رواية تتحدث عن مناقشة الإمام الرضا (عليه السلام) مع المأمون بالنسبة إلى عصمة الأنبياء، عقّب عليها:

(في سند الحديث علي بن محمّد الجهم وقد ضعّفه كلّ من تعرض له، فلا اعتبار بمثل هذا الحديث، وسياق المتن يدل على أنّه ليس من الإمام علي (عليه السلام)).

ومن نماذجه: تعقيبه على فقرة {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ}([8]) حيث عرض روايات متنوعة، بعضها يشير إلى نسخ الفقرة المذكورة بفقرة {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا}([9]) وعقّب:

(الروايات في النسخ وعدمه متعارضة، مع أنّ رواية النسخ قاصرة السند، وعلى فرض اعتبارها معارضة بالمثل، ومخالفة لظاهر الكتاب وفي مثل ذلك لا بدّ من أن يرجع إلى أصالة عدم النسخ عقلاً وشرعاً كما هو ثابت في محله)، أنّ النماذج المتقدمة تشكل خطوطاً عامّة لمنهج الباحث في ممارسته الروائية، ولعلّ أوضح خطوطه هو: الملاحظة أو التعقيب السريع أو المختصر للرواية؛ خلا ما يتطلبه الموقف حيناً من الإطالة وهو أمر ينسحب على كلّ ممارساته أي: إنّ القاعدة هي الاختصار، والاستثناء هو الإطالة على نحو ما سنوضح ذلك لاحقاً بيد أنّ المهم هو أن نعرض أولاً للخطوط المشار إليها، فنقول: التعامل مع الدليل الروائي ـ كما هو معروف في آية ممارسة فقهية أو غيرها ـ يتم حيناً من خلال كونها محكمة متناً وسنداً، أي وضوح دلالتها وعدم تضاربها مع الروايات أو الأدلة الأخرى، ثمّ تمامية سندها، وفي مثل هذه الحالة لا إشكالية في البين، إلا أنّ الإشكالية تبدأ مع إجمال أو اضطراب أو غموض الدلالة، أو مع تضاربها الظاهري أو الباطني مع الروايات الأخرى، أو مع اضطراب سندها. من هنا، تبدأ الخطوط العامّة لتعامل المؤلف مع الرواية، لكن بما أنّ خط المؤلف في تفسيره ـ وهذا هو حق بطبيعة الحال ما دامت مهمته الأولى تفسيرية وليست فقهية ـ هو الاستدلال المختصر جداً على نحو ما لحظنا، في بحثه الفقهي في الحقل السابق، حينئذ فإنّ تعامله مع الرواية يكتسب نفس الطابع، سواء أكان ذلك في ميدان توكؤه على أدوات الممارسة (الأداة الأصولية وسواها) أو مناقشة للآخرين.

ـ الخطوة الأولى في هذا الميدان هي تبسيط الواضح من الرواية أو توضيح ما غمض من الدلالة في هذه الرواية أو تلك، مثل توضيحه بأنّ ترك المندوب وفعل المكروب له آيات خاصّة، تعقيباً على ترك البسملة، أو توضيحه بأنّ البسملة أولى من الاستعاذة عند دوران الأمر بينهما.

ـ وأمّا التضارب بنمطية: الظاهري والباطني، فإنّ المؤلف يضطلع بتناول ذلك، مثل تعقيبه على خبري النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والإمام الصادق (عليه السلام) عن البسملة (يحمل الخبر الأول على الأفضلية جمعاً بينهما)، ومثل تعقيبه على روايات آدم بأنّها من باب المثال لمّا هو موجود في زمنه (عليه السلام) فلا تعارض، ومثل تعقيبه على الروايات المفسرة لروح القدس بأنّها تصب في رافد واحد، ومثل تعقيبه للروايات المفسرة لـ(قانتين) بأنّها من باب التطبيق، فلا تعارض في البين.

وفي هذا السياق، أي «التطبيق» ألف الباحث بين الروايات المتواترة بالنسبة إلى نزول الآية {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ}([10])، وتضاربها مع رواية مضطربة السند بالنحو الذي لحظناه، حيث أبدى مهارته في استخلاص قاعدة (تطبيقية) أسماها بـ(الانبساطية) موضحاً ذلك بأنّه من الممكن أن يكون للنزول منشأ أولي، ثمّ ينسحب على آخرين؛ كما هو بالنسبة لنزول الآية الكريمة في الإمام علي (عليه السلام)، وانسحابها على الآخرين بحسب مراتبهم (فلا منافاة بين هذه الأخبار إذ لوحظ).

أمّا في حالة التضارب الباطني بين الروايات، فقد لحظنا كيفية حلّه للتضارب بين الروايات القائلة بنسخ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً}([11]) لـ({وَإِنْ تُبْدُوا}([12]) موضحاً أنّ روايات النسخ معارضة لمثلها، ومخالفة لظاهر الكتاب، وإنّ القاعدة تقتضي الرجوع إلى أصالة عدم النسخ.

فالملاحظ هنا وهناك، أنّ جمعه بين الروايات المتضاربة ظاهرياً، أو ترجيحه للمتضاربة باطنياً أحد المرجحات الخ إنّما يتم بنحو الخاطف السريع الذي يتناسب ومهمتها التفسيرية؛ كما كررنا.

والأمر نفسه بالنسبة إلى تعامله مع السند، حيث لحظنا مثلاً تعامله مع رواية ابن الجهل وإسقاطها أساساً، وتعامله مع روايات أخرى بنحو قاطع أو تحفظ أو مقترض. إلا أنّ ما يثير الانتباه هو أنّ تعامله مع مراسيل الطبرسي والعياشي والقمّي وحتّى روايات (العامّة)، يمضي بسلام في حقله الروائي المزدحم بالعشرات منها دون أن يطرح أي تحفظ حيالها إلا في حالة معارضتها لما ينتهي إليه من وجهة نظره، بل أنّ الأمر ليصل إلى دجة إسقاط الرواية مقابل توثيقه لنص تاريخ أو اصطحاحي (مثل تشكيكه بما ورد في قصة طالوت بما يتصل ببعض إبطالها ومواقفها).

([1]) البقرة: 83.

([2]) المصدر السابق.

([3]) البقرة: 83 .

([4]) البقرة: 31.

([5]) البقرة: 238.

([6]) البقرة: 274.

([7]) البقرة: 246.

([8]) البقرة: 284.

([9]) البقرة: 286.

([10]) البقرة: 261.

([11]) البقرة: 286.

([12]) البقرة: 284.

يحتل البحث الكلامي والفلسفي لدى الباحث مساحة واسعة من حقوله التفسيرية، خاصّة في الخطوة التفسيرية الثالثة التي نحن في صددها، ممّا يكشف عن تخصصه في هذا الميدان.

وإذا كانت الحقول السابقة (بحث دلالي، أدبي، روائي، فقهي) تتّسم بالاختصار في الغالب، فإنّ البحث الكلامي والفلسفي يتّسم بالطول والاسهاب والتفصيل، حتّى أنّنا لنجد أنّ آية واحدة يرد فيها لفظ «الشفاعة» مثلاً وهي {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ}([1]) يعقّب عليها في حقل (بحث كلامي) ممّا يقارب الثلاثية صفحة يتحدث فيها عن (مفهوم الشفاعة) (الشفاعة في الإسلام) (الشفاعة في القرآن) (ثبوت الشفاعة) (الشفاعة في السنّة) (الشفاعة والإجماع) (الشفاعة والعقل) (الشفاعة وشروطها) (ما أورد على الشفاعة) (الشفاعة ومتعلقها) (زمان الشفاعة) الخ. وكذلك عندما يتناول موضوعات من أمثال (الأمر بين الأمرين) و(إمكان النسخ) ونحوهما ممّا يستغرق عشر صفحات أو اكثر أو أقل ولكننا في الوقت نفسه ـ نجد نماذج أخرى تتّسم بالاختصار اتساقاً مع منهجه بشكل عام، كما نلحظ نماذج يكتبها بلغة واضحة، وأخرى غلقة مضببة تبعاً لمتطلبات البحث.

وبما أنّ هذا الحقل (والحقول اللاحقة التي سنعرض لها بعد قليل، تظل أبحاثاً ثانوية الصلة بينها وبين عملية التفسير بالقياس إلى البحوث ذات العلاقة الوثيقة مع النص (كالبحث الروائي والفقهي والدلالي)، حينئذ نجد ضرورة في الاستشهاد بها إلا عابراً. فمن النماذج التي يرد فيها التناول عابراً ما طرحه المؤلف تحت عنوان «بحث كلامي» تعقيباً على آية {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}([2]) بعد أن ذكر في البحث الروائي بعض الأخبار التي تفسر ذلك (بما غاب عن حواسهم من الأمور التي يلزمهم الإيمان بها كالبعث والنشور)، والأخبار التي تقرر أنّ الله فطر عباده على التوحيد ـ حيث يشير في بحثه الكلامي إلى أنّ ثمة نزاعاً بين الكلاميين وهو: هل (من العمل على طبق الوظيفة الشرعية جزء مقدم لحقيقة الإيمان بحيث أنّ من لم يعمل بالوظيفة الشرعية لا إيمان له وإنّ له التصديق القلبي أو أنّ العمل بالوظيفة الشرعية خارج عن أصل التصديق).

ويجيب على ذلك: (أنّ للإيمان كمالاً ونقصاً وشدة وضعفاً) (والكفر له مراتب كمراتب الإيمان من حيث الشدة والضعف ومن حيث الكمال والنقص).

وينتهي من ذلك إلى القول (فإذا اجتمع الإيمان بالله تعالى قلباً والاقرار باللسان والعمل بما أمر الله، وترك ما نهي عنه، يكون موقناً، وإذا لم يتحقق قلباً وتحقق لساناً وعملاً يكون منافقاً، وإذا تحقق قلباً ولساناً ولم يتحقق عملاً يكون فاسقاً).

وهكذا يتناول الظاهرة بنحوها المختصر والواضح والبسيط: اتساقاً مع منهجه التفسيري.

والأمر كذلك حينما يتناول في حقل (بحث فلسفي) نفس الظاهرة، فيشير أولاً إلى أنّ الإنسان مركب من الروح والمادة، وإنّ الروح (نزلت من مقام شامخ ـ على ما يأتي ـ إلى حضيض المادة، والبدت مستعد إلى العروج من مرتبة الحضيض إلى أوج الروح، فصار الإنسان جامعاً للكمالين. فهو بفطرته لا يمكنه إنكار ما وراء المادة فالإيمان بالغيب الذي حث الله تعالى إليه هو إرجاع الإنسان إلى فطرته). وهكذا نجد الباحث يربط بين ظاهرة (الإيمان بالغيب وفطرية التوحيد) من خلال إشارته السريعة إلى تركيبة الإنسان؛ بلغة واضحة مختصرة بسيطة. وتبسط أحياناً، وقد يطرح ذلك من خلال لغة تتوكأ على المصطلح الفلسفي والكلامي اللذين يفقههما المتخصص فحسب، إلا أنّ القارئ بنحو عام يمكنه أن يقف على الحصيلة إجمالاً كما في بحثه الفلسفي عن صفات الله تعالى الواردة في آية الكرسي أو بحثه الفلسفي عن صفة (تكريمه) تعالى {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}([3])، أو بحثه الكلامي عن النسخ أو الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين، مع ملاحظة أنّ أدواته الكلامية والفلسفية تتكئ على الموروث غالباً مع تطعيمها أحياناً بالأداة الحديثة، حسب ما يتطلبه الموقف،. فمثلاً في تعقيبه على خلق آدم (عليه السلام) طرح عبر بحثه الفلسفي قضية إبداعه تعالى بآدم قال: (خلقه الله تعالى من الطين بهذه الهيأة المتميزة عن سائر المخلوقات استقلالاً من دون أن يكون مرتقياً من مخلوق آخر ـ نباتاً أو حيواناً ـ وتقتضي ذلك قاعدة «إمكان الأشرف» التي أسسها الفلاسفة في سلسلة الخليقة).

فهو في هذه الفقرات يتحدث عن مصطلح فلسفي موروث هو «إمكان الأشرف» إلا أنّه يربط ـ بعد ذلك ـ بين هذا الجانب وبين نظرية (النشوء والارتقاء والتكامل وبقاء الأصلح) حسب تعبيره، ويناقشها من خلال التجريب المفترض، ويدحض النظرية بلغة واضحة مختصرة، ممّا يهب تفسيره ـ كما كررنا ـ مزيداً من الأهمية خلال المخاطبة بلغة العصر.

([1]) البقرة: 254.

([2]) البقرة: 3.

([3]) البقرة: 253.

يظل البحث العرفاني والأخلاقي لدى المؤالف متواسقاً مع البحوث الأخرى من حيث الطرح والمنهج؛ مع ملاحظة أنّ القارئ يتحسس بأنّ تناول المؤلف لهذا الجانب يقترن بتفاعله مع المادة المطروحة أي يتحسس بعرفانية وأخلاقية الباحث، لنقرأ عبارات من نحو (تعقيبه على آيات الانفاق): (إنّ استغراق العبد في العبودية المحضة تلذذ من الجمال المطلق، واستشعار بالكمال الأرفع الأهم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}([1]) وفي مثل هذه المرتبة تتحد الحقيقة والفعل والفاعل، وحينئذ يقصر القلم عن البيان، والعبودية الحقيقية تظهر آثارها على العبد، فلا تصدر عن معصية ولا يخطر في بالغ غير رضا الرب. وإنّها إذ استولت على القلب فلا يشغله شاغل من الشواغل المادّية الدنيوية ولا يمنعه مانع من الانفاق في سبيل الله تعالى).

وفي تعقيبه على آية {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}([2]): (ولكلام الحق تعالى جذبات، وللقرآن كذلك، وللموعظة الصادرة عن أهلها جذبات بمراتبها المختلفة التي لا حد لها، ومع تحقق تلك الجذبة كيف يتصور الإكراه؟).

ويتبدى تفاعله مع الظاهرة حينما يرسم تفاعل الشخصيات المصطفاة مع حقيقة الله تعالى، مثل رسمه لشخصية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (عبر تعقيبه على الآيات الختامية بسورة البقرة في مخاطبتها للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)): (حقيقة هذه المخاطبة من الأمور التي لا يمكن تعريفها وتحديدها، فإنّهم مهما أمكن تعريف شيء من الأشياء أو الإشارة إليه بحد أو رسم لا يمكن ذلك في ما هو خارج عن المشاعر الإمكانية.

وكيف يعقل أن يقرن حالة ملاقاة الحبيب غير المتناهي في أية جهة من الجهات لحبيبه المتفاني فيه.

وكيف تحد حالة هي حالة مكالمة الحبيب لحبيبه مشافهة، وكلمات هي عين ما وقع بها التخاطب؟).

ومثل رسمه لشخصيته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (في تعقيبه على آية الكرسي: (الحضور عند الله جلّت عظمته من طرف الممكنات له مراتب كثيرة يمكن أن يقال بأنّها لا تتناهى. وأساس ذلك يرجع إلى حب الله تعالى بحيث يجري في الجوارح جريان الدم في العروق.

وأول من سلك بهذا المسلك العظيم ومشى في هذا الطريق الجليل الكريم إنّما هو سيّد الأنبياء وإمام المرسلين الذي هو أعظم أبواب رحمة الله لجميع العالمين حين نال بحبه له تعالى حياة أبدية حقيقية لا يتصور حياة أفضل وأشرف منها، فتأمل في قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أبيت عند ربّي يطعمني ويسقيني ربّي» فإنّ المحبوب يسقى مباشرة من حبيبه، فهل يتصور حياة ألذ وأوفى من هذه الحياة؟ ما أشد الحب، وما أفضل الحبيب وما أجل المحبوب؟ وفي مثل هذا الحب والحضور لا نوم ولا سنة وكيف ينام وهو بمحضر محبوبه وشهيده! كلا ورب الناس إنّ مقام الحب أعز وأمنع من أن يعرضه النوم) إنّ القسم المذكور (كلا) يشف عن مدى تفاعل الباحث مع ما يكتب.

وفي تعقيبه على مقطع تقطيع الطيور بالنسبة إلى رسمه لشخصية إبراهيم (عليه السلام): (فشرقت على قلبه الأنوار القدسية، فاتخذه الله خليلاً، وجعل الحبيب من نسله، فصار الخليل يفتخر بالحبيب، والحبيب يفتخر بالخليل لما بينهما من الجامع القريب من شروق النور الأزلي على قلبيهما والوصول إلى مقام الوصال، والينبوع الذي لا يعقل فيه النفاد وبمدبر حكيم لا يتصور فيه التغيير. فصدر منه العجائب والغرائب لأنّه مستمد من مدد الغيب الذي لا حد له، فيكون إحياء الموتى على يديه أيسر شيء).

وهكذا نجد من النماذج المتقدمة، أنّ الباحث يتفاعل أولاً مع كتابته، ويربط ذلك ثانياً بالمناسبة التي تفرزها، فقد ربط بين فقرة {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}([3]) وبين جذبات الحب التي لا يتصور الإكراه فيها، وربط بين آيات الانفاق وبين العبودية الحقيقية التي لا يشغلها شاغل دنيوي عن الانفاق في سبيله. وربط بين آية الكرسي في فقرة {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}([4]) وبين شخصية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالنسبة إلى حضوره عند الله تعالى وانعكاسات ذلك ـ بالمقابل ـ على سلوكه المتمثل في عدم نومه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو بمحضر محبوبه تعالى، وربط بين مقطع تقطيع الطيور وبين شخصية إبراهيم من حيث استيلاء العبودية على قلبه وإمحاء المسافة بينه وبين الله تعالى ومن ثمّ بيّن ذلك وبيّن العملية اليسيرة بالنسبة إليه وهي: إحياء الطيور وهكذا.

والطريف أنّ الباحث يحاول إيحاد جسور جديدة بين الكلمة أو الحادثة أو الموقف وبين التعديل للسلوك، ففي النص المتقدم عن تقطيع الطيور، ختمه الباحث بفقرات، منها: (ويمكن أن يستأنس من الآية الشريفة: أنّ لا بدّ للإنسان من أن يزيل عنه الخصال المذمومة ويميتهن في نفسه حتّى يتمكن من إحياء الموتى لأنّ في كلّ طير من تلك الطيور الأربعة خصلة مذمومة من العجب والحرص والكبر والشهوة ونحوها، وهي تدل على أنّ المؤانسة مع أولياء الله توجب الاعتدال في النفوس فيكون قوله تعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ}([5]) كناية العلو المعنوي الحاصل بمجرد هذه الإضافة).

والأشد طرافة، أنّ الباحث وهو يختم حقوله عن آيات الطلاق، يختمها بحقل (بحث عرفاني) استهله بالقول: (تقدم بعض ما يرتبط بطلاق الزوج لزوجته، وهو أمر مبغوض عند الخالق والمخلوق، وهناك طلاق آخر هو مجمع الكمالات الإنسانية وأهم طرق السير والسلوك إلى الله تعالى، وتتجلى أهميته في اجتماع (التخلية) عن الرذائل، و(التحلية) بالفضائل و(التحلية) بصفات الباري عزّ وجلّ فيه، وهو طلاق الدنيا وما سوى الله جلّ عظمته، وهو أيضاً مرّتان {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}([6]).

ثمّ يوضح ذلك على نحو ما لحظناه بالنسبة إلى تقطيع الطيور من حيث اقتناص الدلالة وتحويلها إلى الخط العرفاني وفق لغة خاصّة لها أمتاعها على أية حال.

([1]) السجدة: 17.

([2]) البقرة: 256.

([3]) البقرة: 256.

([4]) البقرة: 255.

([5]) البقرة: 260.

([6]) البقرة: 229.

وهذا كلّه فيما اتصل بالبحث العرفاني. وأمّا ما يتصل بالبحث الأخلاقي، فيظل امتداداً أو تفريغاً لما سبق، بصفة أنّ العرفان تصعيد للسمة الأخلاقية في صعيد التعامل الأخلاقي مع الله تعالى. والمهم، أنّ الباحث يطرح الظواهر الأخلاقية (كما هو دأبه في طرح جميع الظواهر) وفق خصائص، منها: سمة الوضوح والعمق والجدة. فمثلاً: عندما يتناول قضية (الصبر) تعقيباً على آية {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ}([1]) ينتبه على ملاحظة مهمة جداً هي: أنّ (الصبر) هو العصب الرئيس الذي تسري فيه غالبية أنماط السلوك، فنحن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ السلوك البشري يقوم على التجاذب بين الخير والشر بين العقل والشهوة، حينئذ فإنّ السلوك المطلوب هو ممارسة عملية خاصّة هي (تأجيل الشهوة) أو الرغبة المضادة لما هو خير أو عقل، وهذا (التأجيل) هو (الصبر) بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة، وإذا نقلنا هذه الحقيقة النفسية إلى النطاق العبادي نجدها منسجمة على نحو ما تناولها المؤلف في بحثه الأخلاقي حينما قال: (وللصبر أنواع وأفراد كثيرة كلّها من الفضائل، ولكلّ فرد اسم خاص به وضد مختص به، فيسمى الصبر في الحرب شجاعة وضده الجبن وفي المصيبة الصبر ـ بقول مطلق ـ وضده الجزع، وفي الحوادث المضجرة رحابة الصدر وضده الضجر، وفي الكلام يسمى كتماناً وضده الإذاعة والإفشاء، وإن كان الصبر على المفطرات سمّى صوماً وضده الإفطار وعن شهوة البطن والفرج سمّي عفّة وضده التهتك، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمّي حلماً ويضاده التذمر، وإن كان عن حطام الدنيا سمّي زهداً وضده الحرص، وفي المأكل والمشرب سمّي قناعة وضده الشره، وقد سمّى الله تعالى كلّ ذلك صبراً، وأشار إليه سبحانه في قوله: {وَالصَّابِرِينَ}([2]).

واضح أنّ الباحث في استظهاره المتقدم نقل الحقيقة النفسية التي ذكرناها (وهي تأجيل الشهوة) إلى مفهوم (الصبر) وتوجها بالإشارة إلى تسمية الله تعالى ذلك (صبراً)، وبهذا النمط من التحليل يكون الباحث قد توفر على معالجة الموضوع بطريقة جديرة بالتقدير.

([1]) البقرة: 45.

([2]) البقرة: 177.

 

ما تقدم تمثل بحوثاً متكثرة العدد، وهناك بحوثاً أقل عدداً مثل (بحث علمي) حيث يتناول المؤلف من خلاله مختلف ضروب المعرفة الإنسانية والعلمية (ومنها مثلاً: تناول الباحث لظاهرة السحر فيما وردت في المقطع {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ. الخ}([1]) حيث قدّم في هذا الحقل بحثاً علمياً عن السحر عرّفه بالقول: (وأمّا السحر بالمعنى العلمي فهو ضرب من التأثير النفسي المشوب بالفتنة، وإظهار ما ليس بواقع بصورة الواقع المعبر عنه في القرآن الكريم بالتخييل والخداع، قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ}([2]) بعد ذلك يقسم العلوم إلى مادية وروحية ومزيج منهما كالسحر يعقب: (من شدة اعتماده على الأثر النفسي يمكن لنا أن نقول أنّه في جوهره عمل نفسي له آثار مادية. ومن الواضح أنّ الأثر النفسي لا يمكن أنّ نفسي له آثار مادية. ومن الواضح أنّ الأثر النفسي لا يمكن أن يتحقق إلا في محل قابل ومستعد لقبول ما يصدر عن الساحر، ولذلك كان تأثيره في الإنسان محدوداً بالفرد الناقص من حيث المعرفة والكمال. ثمّ انقاد السحر وتأثيره في النفوس الضعيفة يتوقف على قوة الساحر، وأكاذيب يستعين بها على التأثير في وعي المسحور).

بعد ذلك يشير إلى ظواهر مماثلة كتحضير الأرواح والتنويم المغناطيسي ونحوهما ممّا يدرج ضمن أمثلة هذه الفعاليات مدى تأثيرها أو عدمه على المجتمعات، ويشير إلى موقف الأديان السماوية منها، وإلى موقف القرآن الكريم حيث أبطل السحر ـ كما يقول المؤلف ـ من جانبين: الأول إزالة الأثر النفسي تبعاً لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ}([3]) والآخر: إخفاقه أساساً حيث تشير الآيات الكريمة إلى أنّ السحرة لا يفلحون في سحرهم. هذا إلى أنّ الباحث لا ينفي فاعلية السحر في الجملة ويومئ إلى تأثير العين أو الحسد، وإلى أنّها ترد في سياقات خاصّة، وأنّ الفارق بين ما هو إيجابي فيها (كالمعاجز والخوارق والكرامات) التي تصدر عن المصطفين والأولياء، وبين ما هو سلبي كالصادرة عن الشياطين والسحرة والكهنة بأنّ الفارق بينها هو فارق في الدوافع والغايات والجهة.

المهم، أنّ الباحث ـ وهو يديل تفسيره للآية التي تتحدث عن السحر ـ إنّما يهب تفسيره قيمة مهمة حينما يعرض ويحلل هذه الظواهر عبر توسله بأدوات الثقافة الشرعية والعرفية.

وإذا تابعنا ممارسات المؤلف في (حقل علمي) نجده يطرح موضوعات من نحو (الانفاق) مثلاً، ويوضح مدى انعكاساته اقتصادياً واجتماعياً وتربوياً الخ، وموضوعات من نحو (الطلاق) يتحدث فيه عن التهم التي يوجهها البعض إلى موقف الإسلام من الطلاق، ويردها بالتركيز على الموقف المتحفظ إسلامياً حيال الطلاق وتأكيده ـ على الضد من ذلك ـ على الزواج.

والحصيلة أنّ حقل (البحث العلمي) يظل في واقعة امتداداً لحقول متنوعة حيناً، وتتمخض حيناً آخر إلى مسائل تتصل بضرب معين من المعرفة كما لحظنا ذلك بالنسبة إلى السحر.

وأمّا ما يتصل بحقل (بحث قرآني) فالملاحظ فيه أنّ النص يحصر حديثه في نطاق الآية القرآنية (كبحثه مثلاً عن الربا) فيما نعتقد أنّ إدراجه في حقول أخرى لا يترك أثراً سلبياً على منهجه ما دام المؤلف يوزع اهتماماته حسب ما يتطلبه التخصص في هذا الحقل أو ذاك.

أخيراً، ويواجهنا حقلان هما (بحث تاريخي) و(بحث اجتماعي)، وأمّا الحقل التاريخي فإنّ المؤلف يلقي من خلال إضاءات تاريخية على الحادثة أو الموقف أو البيئة التي رسمها المقطع القرآني الكريم، مثل تعقيباته على قصة طالوت، وقصة الألوف الذين ماتوا فأحياهم الله، وقصص الإسرائيليين وغيرهم ممّا أجملتها النصوص القرآنية الكريمة لأسباب فنّية وسردها التاريخ.

ويبقى حقل (بحث اجتماعي) فيما يجدر بنا أن نعرض له ـ في نهاية المطاف ـ بشيء من الحديث، بصفته يتضمن جانباً من التحليل والتفسير للظواهر الاجتماعية التي يفرزها المقطع القرآني الكريم، ويضطلع المؤلف بإلقاء الإنارة إلى جوانب من هذه الظاهرة أو تلك. فمثلاً: في بحثه الاجتماعي ـ تعقيباً على قصة طالوت حينما انتخب ملكاً لتنفيذ الحملة العسكرية ـ استثمر الباحث هذا الجانب ليطرح مفهوم (المؤسسة السياسية) أو الدولة، ويعرض وجهات النظر الأرضية حيال المؤسسة المذكورة وسببه نشوئها، فأشار إلى نظريات أربع: نظرية الانتخاب الإلهي، نظرية الانتخاب الطبيعي، نظرية التعاقد الاجتماعي، نظرية القوة. ومن الطبيعي أن يرفض المؤلف أية نظرية (أحادية) الجانب أي النظرية التي ترجع السبب إلى عامل واحد، حيث عقّب قائلاً: إنّ أصحاب كلّ نظرية من تلك النظريات إن أرادوا منها العلّية التامّة المنحصرة بحيث يمتنع تخلف المعلول عن العلّة فالفرض بعيد في غالب ما ذكروه، وإن أرادوا بيان مجرد الاقتضاء فإنّ الجميع صادق إذ يمكن أن يكون لشيء واحد مقتضيات كثيرة، وحيث أنّ العالم الذي نعيش فيه عالم الأسباب، وقد أبى الله تعالى أن يجري الأمور إلا بأسبابها فلابدّ من انتهاء الجميع إلى مشيئته وإرادته بنحو القضاء والقدر، والأديان الإلهية والكتب السماوية تحكم بأنّ السبب هو الله تعالى، قال عزّ وجلّ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ}([4]) ولكن ذلك لا ينافي أن يتحقق ما أراده الله تعالى بسبب من الأسباب الظاهرية، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}([5])، حيث أنّ مجرد كونه فرداً من الأفراد لم يكن مستحقاً للملك الظاهري، بل اجتمع فيه بعض الصفات التي وجبت استحقاق هذا المنصب، وممّا ذكرنا نعرف أنّ أكثر تلك النظريات ترجع إلى أمر واحد وهو أنّ الزعيم أو الملك إنّما يكون كذلك إذا اجتمعت فيه الشروط المطلوبة. هذا بالنسبة إلى الحكومة الظاهرية، وأمّا الحكومة الواقعية فلها شأن آخر لا يعلم أحد خصوصياتها إلا الله تعالى، قال عزّ وجلّ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}([6]).

إنّ هذا التحليل أو التفسير لظاهرة (الدولة) أو المؤسسة السياسية مع كونه يتناول (في فقراته الأخيرة) خصائص الحاكم وليس أسباب نشوء الدولة، إلا أنّه بشكل عام يفصح عن وجهة نظر خاصّة تربط بين نشوء الدولة من جانب وبين علاقة ذلك بالله تعالى والأسباب الطبيعية من جانب آخر، فعلماء الاجتماع الأرضيون المحدثون مثلاً متفقون في الغالب على عدم فاعلية (العامل الواحد)، والمؤلف يماثلهم في هذا الجانب، إلا أنّ الفارق هو بما أنّ علماء الاجتماع الأرضيين منعزلون عن السماء، فحينئذ لم يفقهوا من الظواهر إلا أسبابها الطبيعية، بينما ربط المؤلف بين الأسباب الطبيعية وبين إرادته تعالى، حيث أوضح بأنّ الظواهر تنتهي إليه بنحو القضاء والقدر واستشهد بآية {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ}([7]) إلا أنّه في الآن ذاته أشار الباحث إلى أنّ ذلك لا يتنافى مع إرادته تعالى بأن يجعل ذلك بسبب من الأسباب الظاهرية.

([1]) البقرة: 102.

([2]) طه: 66.

([3]) البقرة: 102.

([4]) آل عمران: 26.

([5]) البقرة: 247.

([6]) الأنعام: 124.

([7]) آل عمران: 26.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"