1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. ماقیل حول السید
  6. /
  7. الطاف الباری

إلى سلالة الشرف الباذخ، والمجد المؤثل مفخرة العلماء والأعلام في حاضرة العلم الكبرى النجف الأشرف زناد الفضل الواري سماحة السيّد علي الموسوي السبزواري دام ظلّه أقدم هذا المجهود المتواضع في إحياء ذكرى والده العظيم سيّد الطائفة وإمام المجتهدين السيّد السبزواري الكبير قدس سره.

راجيا قبوله والتفضل بقبول العذر عن القصور والتقصير.

أتت سليمان يوم العرض قبرة
وأنشدت بلسان الحال قائلة
تهدي إليه جرادا كان في فيها
أنّ الهدايا على مقدار مهديها

الحمد الله الذي رفع العلم والعمل الصالح أقدار العلماء العاملين، وقصر خشيته عليهم في محكم الذكر المبين فقال وهو أصدق القائلين: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) تقديراً لفضلهم، وتقويماً([1]) لعلوّ شرفهم وإشادة بعظيم مقامهم، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين مدينة علم الله تعالى محمّد المصطفی صلی الله علیه و آله وعلى بابها المأتي منه([2]) صلّى الله عليهما وعلى آلهما الطاهرين.

وبعد: فلا أحسبني تهيبت موضوعا ممّا قُدِر لي أن أجيل يراعي فيه كتهيبي في الكتابة عن (شخصية الإمام سليل الأئمة السيّد السبزواري قدس سره) ما عسى أن يقول القائل مهما بلغ من بلاغة اللسان وبراعة البيان في رجل من طراز الإمام آية الله العظمى، صفوة الفقهاء والمجتهدين، وإمام أهل العرفان الواصلين، وقرم جهابذة المحققين وعلم الأصوليين، وواسطة عقد السادات الأشراف من آل طه وياسين مولانا الفقيه الأعظم الحاج السيّد عبد الأعلى الموسوي السبزواري قدّس الله روحه، ونوَّر ضريحه.

أجل لقد رأيتني على ساحل بحر محيط تنحسر الأبصار دون الإحاطة بساحله الآخر فكيف بمخر عبابه؟!..

إن الإمام السيّد السبزواري طيّب الله ثراه (أمّة وحده) بكل ما لهذه الكلمة من مداليل فهو في العلم والفقاهة والأصول والتفسير والعرفان وعلوم الحديث ومعرفة الرجال والفلسفة والأخلاق والورع وسائر الخصوصيات التي أنفرد بها عن أعلام زمانه آية الآيات، وحجة الحجج، و(القدر المتيقن) من مصاديق قول جدّه صلی الله علیه و آله: العلماء ورثة الأنبياء.

وكلّ خصلة من هاتيك الخصال الكريمة والخصائص المميزة يستنفد الحديث عنها مداداً كثيراً وصحفاً أكثر ولا أظن الواصف ـ بعد ذلك ـ مستغرقاً تلك الأوصاف أو مستوفياً جوانب العظمة في شخصية سيّدنا الإمام رضوان الله عليه.

وأين الثريا من يد المتناول؟!!

([1]) يقال: تقويم الشيء ولا يقال: تقيمه لأنّ الفعل واوي وأصل الياء في القيمة (واو) سكنت وكسر ماقبلها فانقلبت (ياءً).

([2]) فيه الإشارة إلى قوله صلی الله علیه و آله: أنا مدينة العلم وعلي بابها وقد زعم بعض النواصب خذلهم الله أنّه موضوع ـ دفعاً بالصدر ـ من غير حجة فردّ عليهم جماعة من حفاظ أهل السنّة كالحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفي سنة 852 هـ والحافظ السيوطي المتوفي سنة 911 هـ والثاني جزم بصحّته.

وللعلامة المحدث الكبير الشيخ أحمد بن محمّد بن الصديق الغماري الشافعي المتوفي سنة ۱۳۸۰ هـ كتاب نفيس في تصحيح هذا الحديث سمّاه (فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي) عرض فيه أقوال أئمة الجرح والتعديل وأعلام الرواية والدراية وألزم المحدثين من أهل السنّة بقواعدهم الحديثية في الحكم بصحته بالشواهد والمتابعات (والحق ينطق منصفاً وعنيداً).

هو الإمام السيّد عبد الأعلى ابن العلامة الحجة السيّد علي رضا ابن العلامة السيّد عبد العلي ابن السيّد عبد الغني ابن السيّد محمّد ابن السيّد حسين([1]) ابن السيّد علي بن السيّد مسعود المعروف بـ(عيشي) ابن السيّد إبراهيم ابن السيّد حسن ابن السيّد شرف الدين ابن السيّد مرتضى ابن السيّد زين العابدين ابن السيّد محمّد ابن السيّد أحمد ابن السيّد محمّد ابن السيّد أحمد ابن الفقيه محمّد شمس الدين ابن أحمد بن علي ابن أبي الغنائم محمّد بن أبي الفتح الأخرس ابن أبي محمّد بن إبراهيم بن أبي الفتيان ابن عبد الله بن الحسن بركة بن أبي الطيّب أحمد بن الحسن بن محمّد الحائري ابن إبراهيم المجاب بن محمّد العابد ابن الإمام موسى الكاظم علیه السلام بن الإمام جعفر الصادق علیه السلام بن الإمام محمّد الباقر علیه السلام بن الإمام علي زين العابدين علیه السلام ابن الإمام الحسين السبط علیه السلام ابن مولانا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام.

ووسائط هذا النسب الشريف من الفقيه محمّد شمس الدين إلى الإمام موسى الكاظم علیه السلام منقولة من كتاب (عمدة الطالب في أنساب([2]) آل أبي طالب) للعلامة النسّابة السيّد أحمد بن علي جمال الدين الحسني الداودي الحلّي المعروف بابن عنبة المتوفي سنة 828 هـ ، والذي في مشجرة السادة الأجلاء آل الخرسان النجفيين زاد الله في شرفهم أنّ السيّد الحسن بركة هو ابن السيّد معصوم بن أبي الطيّب أحمد، اعتماداً على (تحفة الأزهار) للسيّد ضامن بن شدقم الحسيني الأعرجي المدني المعاصر للسيّد مسعود عيشي.

وقد نصّ السيّد الداودي صاحب (العمدة) أنّ السيّد معصوماً هو ابن أبي الطيب أحمد وأنّ الحسن بركة أخوه لا ولده قال في (العمدة) ص ۲۱۸: ومعصوم بن أبي الطيّب هو جد (آل معصوم) بالحلّة والحائر، والحسن بركة بن أبي الطيّب هو جد (آل الأخرس).. فتأمل.

وأمّا السيّد علي بن السيّد مسعود عيشي فقد ذكره العلامة الفقيه النسّابة آية الله السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي المتوفي في مدينة قمّ المقدّسة سنة 411 في مشجراته التي رسمها للسادة آل الكتابجي في طهران ونصّ على أنّ عقبه في سبزوار وكلاته.. وذكر من عقبه السيّد عبد الغني ابن السيّد محمّد ابن السيّد حسين ابن السيّد علي المذكور، وهو الجدّ الثاني لسيّدنا الإمام السيّد السبزوار على ما جاء مسطورا في (المشجر الوافي) للسيّد الجليل المعاصر دام توفيقه.

وبيت سيّدنا المترجم له رضوان الله عليه من أعرق بيوتات العلم والفقه والشرف والسيادة والورع والتقوى في بلدة سبزوار، برز فيه غير واحد من أعلام الفضل والفقاهة والورع منهم والده العلامة الفقيه الورع السيّد علي رضا الموسوي الافقهي السبزواري رضوان الله عليه.

ومن مشاهير أهل هذا البيت الطاهر: العلامة الفقيه الكبير السيّد عبد الله ابن السيّد حسن ابن السيّد عبد الرحيم بن السيّد الميرزا علي أصغر ابن السيّد عبد الغني الموسوي السبزواري المعروف بالبرهان ترجم له العلامة الإمام الطهراني في (نقباء البشر) من موسوعته (طبقات أعلام الشيعة) ووصفه بأنّه (عالم فاضل وواعظ متبحر بارع من سلالة علوية شريفة معروفة بالرقي والمجد وفي أجداده علماء أعلام) وكان من أساتذته العلامة الفقيه السيّد حسين بن محسن العلوي السبزواري، وبرع في الفقه وأصوله والكلام وغيرها من العلوم وأصبح من رجال الفضل المشاهير وأعلام الخطابة والوعظ والإرشاد. له آثار منها رسالة في البداء، والكوكب الأسعد في مولد سيّدنا محمّد صلی الله علیه و آله، وتقريرات أساتذته، وغاية الإفادة في أسرار الشهادة، وحقيقة الإبداع في تفسير آية الخلافة، واللطمة على منكري العصمة.

ومن هذه الأسرة الشريفة: العلامة الفقيه الكبير آية الله السيّد فخر الدين ابن السيّد علي رضا الموسوي السبزواري المتوفى في سنة 1403 ه، وهو أخو سيّدنا الإمام السبزواري قدس سره.

وكان من الفضل والورع والسلوك على جانب كبير، وكان آية من آيات المولى تبارك وتعالى في جمال السيرة وطيب السريرة ومفخرة من مفاخر الإسلام في هذا العصر.

وأمّا نسبته: (السبزواري) فإلى مدينة سبزوار المدينة العريقة بالولاء والتشيّع، العامرة بأهل العلم ورواد الفضيلة في كلّ عصر وجيل. وكانت في القديم (قاعدة بيهق) الصقع الواقع بين نيسابور وفارس وهي من بلاد الشيعة الإمامية قديماً وحديثاً وأهلها في التشيّع أشهر من أهل خاف وباخرز في التسنن كما حكاه المحدث القمّي عن آية الله السيّد بحر العلوم في ترجمة (البيهقي) من (الكنى والألقاب) 2/102.

وهي اليوم في الشمال من إيران في ولاية خراسان وتقع إلى الغرب من نيسابور.

([1]) أرسل إلي العلامة حجّة الإسلام السيّد محمّد نجل الامام السيّد جمال جمال الدين الكلبايكاني الشهير بـ(السيّد محمّد جمال الهاشمي) رحمة الله علیه نسبه الشريف في ورقة مع بعض السادة الأشراف من أصدقائنا موصولاً بالسيّد حسين ولم يزد عليه وذكر أنّ بينه وبين السيّد مسعود عيشي اسماً واحداً، ولم يتيسر لي يومئذ متابعة الموضوع وغير مستبعد أن يكون المذكور في نسبه هو المذكور في سلسلة نسب سيّدنا الامام السبزواري قدس سره والله العالم بحقائق الأمور.

([2]) سمّاه المؤلف في خطبة كتابه: (عمدة الطالب في نسب آل أبي طالب) لكن الذي جرى عليه الطابعون: (…في أنساب) بالجمع، واللفظان صحيح.

أن لكن التنبيه على ذلك لا يخلو من فائدة، راجع (عمدة الطالب) ص 19 من الطبعة النجفية.

وُلِد رضوان الله تعالى عليه في يوم الغدير المبارك ـ الثامن عشر من ذي الحجة الحرام ـ سنة 1329 هـ([1]) في مدينة سبزوار، وقد شاء المولى تبارك وتعالى أن يضفي على هذا المولود النجيب جلابيب اليمن والخير والبركة إذ اختار لولادته ذلك اليوم العظيم الذي أكمل به الدين وأتمّ النعمة على المسلمين بولاية خير الخلق بعد رسول الله صلّى الله عليهما وعلى آلهما المعصومين.

عيد به اجتمعت ولاية حيدر
وبيمنه (وترا) أتى في عالم الـ
وولادة المولى الفقيه الاروع
ـأعياد في بركاته (لم يشفع)

([1]) هذا هو الصحيح في تاريخ ولادته قدس سره وقد كتبه بيده الشريفة على نسخة من الصحيفة السجادية المقدّسة ونقله العلامة السيّد محمّد الكركاني في (الكراس) الذي ألّفه بعد وفاة السيّد الامام. وقد ورد في الرسالة الموسومة بـ(لمحة موجزة من حياة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيّد عبد الأعلى الموسوي السبزواري) من تأليف الأستاذ علي محمّد مهدي مدير مكتب مجلة المواقف البحرينية، والرسالة الموسومة بـ(جذوة مقتبسة من حياة المرجع الكبير… السيّد عبد الأعلى الموسوي السبزواري) لمؤلفها العلامة الشيخ محمّد حسين ابن الشيخ عبد الغفار الانصاري أنّ وفاته في 18 ذ.ح سنة 1328 هـ وكلّ ذلك اشتباء لا يعاج به.

ممّا لا يكاد يختلف فيه إثنان، ولا يباين ما أقرّه الحس والوجدان هو تأثير النشأة الأولى للطفل في تحديد سلوكه وتعيين معالم شخصيته بصرف النظر عن تشخيص (هوية([1]) تلك النشأة) فالتأثير حاصل على كلّ حال، هذه هي القاعدة ولا عبرة بالاستثناء الذي لا تنخرم القاعدة بمثله([2]).

وقد فتح سيّدنا المعظم طاب ثراه عينيه في ذلك البيت الطاهر الذي:

يكاد من هيبه ألا تطوف به حتّى الملائك لولا أنّهم خدم

البيت الذي ورث الشرف والسؤدد والعلم والعمل والزهد والورع من سادة الخلق محمّد وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وتجسدت فيه معاني الفضيلة والخير والصلاح بأبهى صورها وأبهج حبرها.

فكان مصداق العبارة المشهورة (خير خلف لخير سلف). وكان لسان حال أهل هذا البيت الشريف لا يفتأ يردد قول سيّدنا الشريف الرضي الموسوي رضوان الله عليه:

ما عذر من ضربت به أعراقه
ألا يمد إلى المكارم باعه
حتّى بلغن إلى النبي محمّد
وينال منقطع العلا والسؤدد؟!

نشأ سيّدنا رضوان الله عليه نشأة صالحة وأنبته الله نباتاً حسناً في ذلك الجو العابق بأشذاء رياض التقوى المضمخ بعبير النفحات القدسية والفيض الربّاني الذي كان يغشى تلك العراص الطاهرة فيجعل منها روضة باسقة الأفنان متهدلة الأغصان بثمار الفضيلة والعرفان. وشبّ ذلك الطفل المبارك تحت رعاية أب جليل القدر، عالي المقام، مشهود له بالفضل والورع والعلم والشرف الأصيل والمحد الأثيل هو العلامة الفقيه السيّد علي رضا الموسوي الأفقهي السبزواري طيّب الله ثراه ومن الطبيعي أن يتأثر الولد بأبيه ويقفو خطاه ويجري في مداه ويهتدي بهداه إذا كان الوالد من طراز السيّد علي رضا السبزواري ذلك والولد من طراز السيّد عبد الأعلى عليهما رضوان الملك الأعلى.

بأبه أقتدى عدي في الكرم ومن يشابه أبه ما ظلم

وما أن شبّ عن الطوق وتفتحت لتلقي العلوم والمعارف مداركه حتّى أخذ والده المقدس بضبعه نحو سلوك النهج اللاحب والسبيل المهيع لارتشاف ضروب العلم والتزود من فنون المعرفة من مناهلها المترعة.. وكان له ما أراد.

([1]) الهوية مصدر أو اسم صناعي (متأخر) مأخوذ من (هو) فهو بضم الهاء. والعامّة وكثير من الخاصّة (خاصّة الأدباء) يفتحونها وما ذلك بصواب.

([2]) ليراجع في تفصيل هذه الجملة كتاب (الطفل بين الوراثة والتربية) للعلامة الخطيب الشيخ محمّد تقي الفلسفي رحمه الله وليس هو تحت يدي عند كتابة هذه السطور.

شاءت إرادة المولى تبارك وتعالى أن تتهيأ لهذا الفتى النجيب أسباب الترقي والعروج إلى ذرى المراتب الشريفة في علوم الشريعة الغرّاء بما قيض له في مطلع حياته المباركة من بيأة([1]) علمية مشبّعة الأجواء بنفحات الفيوضات الربّانية زاخرة بأساطين العلماء وأئمة الفقهاء من أعلام (مدرسة أهل البيت علیهم السلام). وكانت الدراسات الفقهية والأصولية في مدينة سبزوار يومئذ قائمة على قدم وساق وقد ترعرع سيّدنا المعظم في كنف البيت العلمي الرفيع الذي أخذ من هاتيك الدراسات الراقية بالنصيب الأوفى وغنم من بركات علوم آل محمّد صلی الله علیه و آله الحظ الأوفر، مع ما ازدانت به رحاب ذلك البيت الطاهر من نجوم الهداية والكواكب اللامعة من جهابذة المحققين والعرفاء المتألهين. وقد شملته عناية الله تعالى ورعايته فكان منذ نعومة أظفاره مطمح الأنظار وقبلة ذوي الفراسة ومنتجع الأخيار:

وكم من صغير لاحظته عناية من الله فأحتاجت إليه الأكابر

وكان من أوائل أساتذته:

والده العلامة أعلى الله مقامه إذ درس عليه المقدمات وجملة من السطوح فقهاً وأصولاً على قواعد المدارس العلمية الراقية من حيث التدرج في معارج المعارف فكان والده المقدس وأستاذه الأول يغذيه من مناهل الحكمة المترعة بجواهر المعارف ويتعاهده بالتربية الإسلامية العالية لما أنس فيه من قوة المدارك وسلامة الذوق والنبوغ المبكر والمواهب اللافتة للأنظار.. كيف لا وقد:

غمرته من منن الكريم فواضل
و(مهذب الأحكام) أكبر شاهد
فتجسدت بـ(مواهب الرحمن)
لعلو رتبته على الأقران

([1]) هكذا يكتبها المحققون من علماء اللغة برسم الهمرة على الألف لكونها مفتوحة مع سكون ما قبلها. ورسمها على الكرسي (البيئة) وإن كان شائعاً إلا أنّه خلاف القاعدة.

ثمّ طمحت نفسه الشريفة إلى المزيد من العلم والمعرفة فيمم وجهه شطر مشهد الإمام أبي الحسن الرضا علیه السلام وكانت مدينة مشهد في ذلك الأوان حاضرة من حواضر العلم فألقى رحاله في جوار ثامن الأئمة علیه السلام وحضر عند جماعة من أعلام الفضل في تلك المدينة المقدسة وممن حضرتنا أسماؤهم منهم:

  1. الأديب النيسابوري الأول أخذ منه الأدب.
  2.  آية الله الشيخ محمّد حسن البرسي أخذ منه الفقه والأصول.
  3. آية الله السيّد آغا الحكيم أخذ منه الفلسفة والحكمة.
  4. آية الله السيّد محمّد العصار أخذ منه الفلسفة والحكمة أيضاً.
  5. الإمام العارف بالله صاحب الكرامات الباهرة الشيخ حسن علي الاصفهاني (المقدادي)([1]) فقد حضر سيّدنا الأجل قدس سره دروس هذا العالم المقدس واقتبس من أنوار معارفه وكان هذا الشيخ الجليل من أئمّة السالكين وأصحاب الأحوال والمقامات العرفانية العالية وكانت له كرامات ومكاشفات عجيبة منها أنّه كان في أحد مجالس تدريسه كتاب (الصافي) في التفسير للفيض الكاشاني رحمة الله علیه وبينما كان يقرر الدرس إذ أغمض عينيه فجأة وقطع الكلام وكأنّه غط في نوم عميق فلم يجرأ أحد من تلامذته على أن ينبهه إلى أن مرّ وقت غير قصير ثمّ فتح عينيه وهو يردد: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)، واعتذر عن الدرس فألحّ عليه أحد تلامذته بالسؤال لمعرفة السبب فلم يجب بشيء ويقول تلميذه وخليفته في السلوك والعرفان سيّدنا الإمام السبزواري قدس سره:

بعد ما علمت أنّ وراء هذه الحالة سرّاً عجيباً زدت بالإلحاح عليه كثيراً وكان يرفض خلالها الجواب إلى أن أقنعته فقال: إنّي كنت قد حضرت جنازة أحد المشايخ والصلحاء في النجف الأشرف وكنت في تشييعه كما يقول السيّد السبزواري: وكنا نحن في مشهد الرضا علیه السلام فبادرت إلى ورقة وكتبت اليوم والساعة بالضبط ومرّ وقت إلى أن جاء من تيقنت منه أنّ ذاك الشخص نفسه كان قد مات وشيّع في نفس ذلك اليوم والوقت.

والكرامات لأصحاب المقامات كالمعاجز للأنبياء والمرسلين مما قام الدليل عليه من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ومن السنّة المشرفة وإجماع أهل الحق ولا ينكرها إلا من طمس الله على بصيرته وأعمى قلبه (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).

([1]) أخشى أن تكون هذه النسبة إلى الصحابي الجليل المقداد بن عمرو البهرائي القضاعي الشهير بـ(المقداد بن الأسود – الكندي) رضوان الله عليه وهو منقرض على ما قاله المحققون من أئمة النسب ومنهم ابن حزم الأندلسي الظاهري المتوفى سنة 456 هـ في كتابه (الجمهرة) وقد انتسب إليه اشتباها جماعة من الأعلام منهم آل طحال من رجال الإمامية والوزير القمي (وزير الناصر العباسي) والتنسي الفقيه المالكي، وهذا الأخير سرد نسبه الحافظ السيوطي المتوفى سنة 911 هـ في كتابه (نظم العقيان في أعيان الأعيان). والله العالم.

وفي سنة 1348 هـ وهو في التاسعة عشرة من عمره الشريف هاجر إلى حاضرة العلم الكبرى مدينة العلم والعلماء ودار الأبرار والصلحاء النجف الأشرف لمجاورة مرقد جدّه مولى المتّقين ويعسوب الموحدين وإمام العلماء والعارفين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ولزيادة الترقي في العلوم والمعارف الإلهية، وغني عن البيان ما في مجاورة إمام الأئمة وباب مدينة علم الله تعالى سلام الله عليه من البركة والتوفيق لمن أخلص النيّة ومحض القربة وآثر الآجلة على العاجلة وطلب العلم لوجه الله تعالى لا ليماري به السفهاء ويطلب به الدنيا ممن هم شر من تحت أديم السماء([1]) (ومن عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم) (واتقوا الله ويعلمكم الله) وأمّا الذي اتخذ العلم وسيلة للمكاسب المحرّمة وذريعة لحطام الدنيا الزائل فعلمه جهل وسعيه نكد ووبال عليه إذ (العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل) وهو من مصاديق قول إمام الحكماء وسيّد الأتقياء أمير المؤمنين علیه السلام: (قصم ظهري رجلان من الدنيا، رجل عالم فاسق ورجل جاهل القلب ناسك، هذا يصد بلسانه عن فسقه، وهذا ينسكه عن جهله فاتقوا الفاسق من العلماء والجاهل من المتعبدين أولئك فتنة كلّ مفتون) وما أحق هذا (النمط) من المنتسبين إلى العلم من غير عمل بقول القائل:

قالوا فلان عالمٌ فاضلٌ
فقلت لما لم يكن عالما
فاكرموه مثلما يرتضي
(تعارض المانع والمقتضي)

وإن سيّدنا الإمام السبزواري قد حباه الله تعالى من التوفيق والتسديد والألطاف المترادفة والمبشرات المتتابعة في طليعة حياته المباركة ما يشهد به القاصي والداني، وما وصل إلى ما وصل إليه من العالية في العلم والتقى والعرفان و… و… و… إلا بخلوص النيّة وسلامة الطوية والعزوف عن زخارف الدنيا ومغرياتها وطلبه العلم لوجه الله تعالى.

واعمل لوجه واحد يكفيك كلّ الأوجه

([1]) وقد أجاد في تحرير هذا المعنى من قال:

سجدنا للقرود لقاء دنيا
وما ظفرت أنا ملنا بشيء
حوتها دوننا أيدي القرود
حويناه سوى ذاك السجود

تشرف سيّدنا المعظم طاب ثراه بالمثول بمدينة جدّه الإمام أمير المؤمنين علیه السلام وكانت يوم أن دخلها (السيّد) تعج بأعلام الفضل ومهرة المدرسين وكانت (مستويات) طلبة (السطوح) أرقى بكثير من مستويات بعض من يحضر (البحوث الخارجية) في العصر الراهن كما يعرف ذلك جيدا كل من ثافن هؤلاء وأولئك وكان سيّدنا أعلى الله مقامه يوم دخوله النجف قد أتقن المقدمات واستعد لحضور البحوث العالية فانجفل إلى حلقات الدرس وحضر عند أكابر الأساتذة وأعاظم الجهابذة من البدور الزاهرة في أفق ربوع الغري الطاهرة ومن مشاهير أساتذته ومشايخه في الفقه والأصول في النجف المعلى:

  1. الإمام المؤسس المحقق آية الله العظمى الميرزا الشيخ محمّد حسين النائيني قدس سره ذلك العلم الخفاق الذي أنجب بتلامذته فكان منهم أكابر المجتهدين ومراجع الفتوى وأعاظم المدرسين.
  2. الإمام آية الله العظمى السيّد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني المرجع العام للإمامية في زمانه قدس سره.
  3. الإمام آية الله العظمى الأصولي المحقق الشيخ أغا ضياء العراقي قدس سره.
  4. الإمام آية الله العظمى المحقق الشيخ محمد حسين الاصفهاني قدس سره.

وأمّا في الفلسفة والحكمة فقد حضر عند:

  1. الإمام آية الله العظمى الشيخ محمّد حسين البادكوبي قدس سره.

وفي العرفان حضر عند:

  1. الإمام الحجة السيّد علي القاضي الطباطبائي التبريزي قدس سره.

وفي الأخلاق والتفسير كان حضوره على:

  1. الإمام الحجة الشيخ محمّد جواد البلاغي الربعي النجفي صاحب (آلاء الرحمن في تفسير القرآن) قدس سره.

ولا مشاحة أنّ من كتب له التوفيق بحضور بحوث أولئك الأعلام والارتواء من مناهل علومهم الزاخرة الموفية على سح الغمام لابدّ أن تسمق في العلم رتبته ويسمو في محافل الفضل قدره، ومن أولى من الإمام السيّد السبزواري بالحصول على هذه المزية والفوز في تحقيق هذا المعنى بالصورة المرضية؟! وحقّاً أقول: إنّ السيّد رضوان الله عليه كان من أمثل تلامذة (مدرسة النائيني والعراقي والأصفهاني) رضوان الله عليهم، وإنّ في مصنافاته وآثاره وجملة مآثره ممّا يأخذ بالأعناق في إثبات صحة هذه الدعوى. وإذا ذكر (الأفذاذ) من خرّيجي تلك (المدرسة العظيمة) فإنّ السيّد رضوان الله عليه يأتي في (رأس القائمة) من غير شك، ولئن كان التلامذة (النجباء) امتداداً لأساتذتهم (النبغاء) سيرةً وسلوكاً، وتمثيلاً حقيقياً لأشخاصهم علماً ومعرفةً و(وجوداً ثانياً) لهم هدياً وسمتاً فإنّ (السيّد) قدس سره هو المصداق الكامل لهاتيك المعاني السامية.

والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى

من سبر أحوال السيّد الإمام السبزواري قدس سره أو ألمّ ببعض خصائص سيرة الشريفة وعايشه أيام تصديه للتدريس وإلقاء البحوث الخارجية ظهر له ظهوراً بيّناً أنّ للسيّد منهجاً خاصّاً وفلسفة متميزة واختياراً مستمداً من تجاربه الخاصّة واستقرائه المتكامل في كيفية التدريس وإعداد المؤهلين إلى درجات العلم الراقية ويتلخص ذلك (المنهج السديد) الذي كان السيّد قدس سره واضع أسسه ورافع لوائه بأنّ العبرة فيمن يحضرون (مباحث الأستاذ) إنّما هي بالكيف لا بالكم وليس هذا المنهج ببدع من مناهج ذوي الآراء الصائبة والأفكار الثاقبة فقد أطبقت كلمتهم على صحة هذه (القاعدة) واطرادها في الأجيال وعدم انخرامها حتّى مع فرض اجتماع الأمرين (الكيف والكم). كما أنّ منهج السيّد أعلى الله مقامه في التربية والأخلاق وترقية الدارسين في مدارس الورع وتزكية النفوس وتهذيبها وتنقيتها من أوضار الرعونة البشرية جاء مترابطاً مع منهجه في تدريس علوم الشريعة المقدسة فكما يجب على (الطالب) أن يترقى في (العلم) يجب عليه أيضاً أن يترقى في (الأخلاق) ومن ألمع تلامذة هذا (المنهج) ممن نهل من معارف (إمام العلم والعرفان) السيّد السبزواري قدس سره:

  1. آية الله السيّد محمّد بن السيّد مصطفى الموسوي الشهير بـ(كلانتر) عميد جامعة النجف الدينية اليوم الذي هو من كبار العلماء وأفاضل حوزة النجف العلمية.
  2. آية الله الشيخ محمّد صادق السعيدي وهو من أفاضل الأساتذة ومن المدرسين الجهابذة في الفقه والأصول والتفسير في مشهد الرضاء علیه السلام.
  3. آية الله الشيخ الميرزا محمّد علي التبريزي وهو من كبار أساتذة الفقه والأصول.
  4. آية الله الشيخ محمّد مهدي الكرماني الذي كان من علماء مدينة (جيرفت) في كرمان ودهادها الأمائل.
  5. آية الله الشيخ محمّد الأصفهاني وهو من كبار علماء أصفهان.
  6. حجة الإسلام المرحوم السيّد جلال الدين الحسيني اليزدي صاحب كتاب (الحجة العليا في شرح العروة الوثقى) من تقريرات أبحاث أساتذة السيّد السبزواري قدس سره.
  7. حجة الإسلام السيّد جمال الدين الاستربادي صاحب كتاب (المحجة العظمى في شرح العروة الوثقى) تقريراً لأبحاث أستاذه السيّد السبزواري قدس سره.
  8. العلامة الحجة السيّد محمّد جواد فضل الله الحسني العاملي.
  9. حجة الإسلام الميرزا الشيخ محمّد علي التوحيدي.
  10. حجة الإسلام الشيخ رمضان علي القوجاني الذي هو من كبار علماء قوجان.
  11. حجة الإسلام الشيخ مرتضى الغروي الطهراني من كبار علماء طهران.
  12.  نجله المرحوم آية الله السيّد محمّد السبزواري الذي كان من أساتذة الفقه والأصول في النجف الاشرف.
  13.  نجله آية الله السيّد علي السبزواري وهو اليوم من الأساتذة المبرزين في الفقه الأصول ومن أعلام الحوزة العلمية البارزين في النجف الأشرف دام ظلّه.

وقد ذكر بعض من ترجم لسيّدنا الإمام قدس سره أنّ السيّد رضوان الله عليه كان يختلف عن بقية المجتهدين في عدد دروسه وأبحاثه التي يلقيها كلّ يوم إذ أنّ العادة الجارية لهم هو أن يكون ثمة بحث فقهي واحد وبحث أصولي في اليوم، أمّا هو فقد كان له صباحاً بحث في الفقه وعصراً بحث آخر في الفقه وبحث أصولي([1]) وكان درسه عندما شرع في إلقاء البحث الخارج ينعقد أولا في مدرسة الآخوند الكبرى الواقعة في شارع الرسول صلی الله علیه و آله واستمر في إلقاء محاضراته العالية في هذا المكان نحواً من عشر سنين، ثمّ نقل الدرس إلى مدرسة القوام الواقعة خلف مسجد الشيخ الطوسي قدس سره واستمر هناك نحواً من أربع سنين، ثمّ انتقل إلى مسجد الحويش حيث واصل القاء دروسه فيه إلى أن انقطع عن التدريس بسبب مرضه. وكان سيّدنا المعظم رضوان الله عليه يمرن تلامذته على ممارسة النقاش والمباحثة والمراجعة وينمي فيهم روح الإنصاف في الحكم للشيء أو عليه ويحرص أشد الحرص على وجوب انصرافهم إلى مدارسة العلم وعدم تضييع الوقت من غير فائدة (فالعلم إن أعطيته كلّك أعطاك بعضه)([2]) ولا يتوقف الوصول إلى درجات الفضل العالية والاجتهاد المطلق إلا على دراسة اللغة والنحو والصرف والمنطق والفقه والأصول والحديث والرجال والدراية والحكمة والكلام فحسب بل يتوقف ذلك أيضاً ـ كما أفاد بعض مشايخنا ـ على حصول الملكة القدسية والموهبة الربّانيّة ولا حيلة للإنسان فيها بل هي نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء نعم للدرس والتدريس وحضور الأبحاث الخارجية والقعود أمام المشايخ والأساتذة للاستفادة والاستيضاح والتأليف والتصنيف تمام الدخل في حصول تلك الملكة كما أنّ للأعمال الصالحة وتطهير الباطن بالأخلاق الفاضلة والرياضات والمجاهدات وسائر العبادات كالصلاة والصيام والمداومة على الطهارة مدخلية في التأثير لكونها موجبة لصقل النفس الموجب لإشراق الأنوار والعلوم عليها وقد ألمّ بهذا المعنى الشيخ الرئيس ابن سينا فيما نسب إليه:

هذّب النفس بالعلوم لترقى
إنما النفس كالزجاجة والعقـ
فإذا أشرقت فإنّك حي
وترى الكل فهي للكل بيت
ـل سراج وحكمة الله زيت
وإذا أظلمت فإنّك ميّت

ويقرر سيّدنا الإمام قدس سره نظرته السديدة ورأيه الصائب في توجيهاته المنشورة في تضاعف مصنفاته كما كان يقررها في حلقات تدريسه ومجالسه الشريفة فيما ينبغي لطالب العلم من سلوك السبيل القويم والمنهج اللاحب الصوى الذي يوصله إلى مبتغاه من الانتظام في سلك رواد الفضيلة وطلاب فقه آل محمّد صلی الله علیه و آله والظفر بالحصول على أسمى الدرجات والمراتب العلمية مقرونة بالورع الاعتقاد من شواهد ما ألمعنا إليه ما جاء في موسوعته الكبرى (مهذب الأحكام) (16/212ـ213) عند قول الماتن: إنّ طلب الرزق ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة ـ الوجوب والحرمة الاستحباب والكراهة والإباحة ـ وكذلك طلب العلم ينقسم حكمه إلى الأحكام الخمسة وعند المزاحمة وفقد المرجح من كلّ جهة يرجح طلب الفقه.. الخ إذ قال السيّد رضوان الله عليه معلقاً وشارحاً لقول أمير المؤمنين علیه السلام: (أيّها الناس اعلموا أنّ كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألا وإنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إنّ المال مقسوم مضمون لكم قد قسّمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه). ويشهد له قول أبي جعفر علیه السلام: (قال رسول الله صلی الله علیه و آله: يقول الله تعالى “وعزّتي وجلالي وكبريائي ونوري وعظمتي وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت عليه أمره ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم أعطه منها إلا ما قدرت له، وعزّتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائكتي وكفلت السموات والأرضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر وأتته الدنيا وهي راغمة”. وتشهد له التجربة والتأمل في حالات العلماء الماضين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين لأنّهم كانوا في نهاية الفقر الذي لا يتصور فوقه فقر وقد اختاروا طلب العلم واستقاموا في ذلك فكفاهم الله شؤون دنياهم وتلك سنّة الله التي قد جرت في عباده (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) ولو أردنا أن نذكر في ذلك بعض ما شاهدناه في أنفسنا ورأيناه من مشايخنا العظام لصار ذلك كتاباً مستقلاً وفي يسير من الكثير عبرة لمن اعتبر. انتهى كلامه قدس سره.

إنّ سيّدنا الإمام السبزواري عليه رضوان الباري كان نسيج وحده وقريع زمانه في العلم والعمل والسلوك العرفاني وما سيرته الشريفة إلا امتداد لسيرة أجداده الأئمّة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد كان في حركاته وسكناته وفي خلواته وجلواته موضع تجليات خالقه يفيض عليه من بوارق أنواره وشوارق أسراره ما هو خليق به (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) وإذا التمس (المثل الأعلى) في علماء الطائفة المحقة في عصرها الأخير فلا يصاب إلا في مثل شخصية (الإمام السيّد عبد الأعلى) وإنّ العلماء المحققين بله طلاب العلم ليجدون في (كلمته الذهبية) التي نقلناها آنفاً ضالتهم المنشودة وبغيتهم المقصودة فهي على وجازة ألفاظها حافلة بالمعاني الجليلة متضمنة لحقائق المعارف القدسية التي يستهدي بها مَنْ مَنّ الله تعالى عليه بنفاذ البصيرة وسلامة السريرة وإخلاص النيّة وسداد النظر في عواقب الأمور. وقد أعرب سيّدنا قدس سره عن حقيقة نفسه وهو الصادق في كلّ ما يقول ويفعل وتركها كلمة مدوية في عالم رواد الفضيلة وسدنة الشرع الإلهي لتكون لهم أسوة صالحة ومثلاً يحتذى ومن هنا كانت (مدرسة الإمام السيّد السبزواري) رضوان الله عليه النموذج الأمثل لدارس العلوم الراقية ونبراساً تنجاب به حنادس (النزعات الشهوية) والأكدار البشرية.

([1]) جذوة مقتبسة من حياة السيّد بقلم الشيخ محمّد حسين الأنصاري.

([2]) وعن بعض أهل العلم: لو كلّفت بشراء بصلة ما حفظت من العلم مسألة ومن حواشي هذا المعنى قول القائل:

إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ندمت على التفريط في زمن البذر

ممّا أجمعت عليه آراء العلماء المحققين أو كادت تجمع أنّ الإمام السيّد السبزواري قدس سره (أستاذ المدرسة الأصولية العرفانية الحديثية) في العصر الراهن فهو إمام المجتهدين وسيّد الفقهاء المتبحرين وعلم الأصوليين وقدوة العرفانيين والعيلم الفذ في (الرواية والدراية) وسائر الفنون الحديثية وله في الفلسفة الإسلامية الباع الأطول.. والفيصل في تحقيق معنى ما ذكرت هو الرجوع إلى مصنفاته وآثاره من مطبوع ومخطوط فهو رضوان الله عليه في كلّ ما كتب الإمام المقتفى أثره المرجوع إلى حكمه، المعتمد الذي يصار إلى رأيه إذا تباينت الآراء واشتبكت أسنة المنازعات.

حكم يفيء ذوو النزاع لحكمه وقضائه في النقض والابرام

والناظر ـ من أهل العلم ـ في مصنفاته على اختلاف موضوعاتها يرى فيها التحقيق البارع والإحاطة التامّة في الموضوع الذي يخوض فيه والشمولية المستوعبة لكلياته وجزئياته وتوابعه مع قوة الحجة، ووضوح المحجة وصحّة المقدمات المستلزمة لسلامة النتائج وصدق (البرهنة) والعرض الشائق([1]) الذي ينم على([2]) سلامة الذوق واستقامة السليقة وحسن الاختيار و(الدقة) المتناهية في تطبيق القواعد الأصولية والعقلية على مندرجاتها في أسلوب متين آخذ من البلاغة بأوثق الأسباب وأقوى العرى فلا حشو فيه ولا إطناب ممل مع سلامته من الايجاز المخل فهو الأسلوب الرشيق المتّسم بـ(اجاعة اللفظ وإشباع المعنى).

وما أعظم منّته وأقوى حجته في نقد الآراء ومحاكمة الأدلة والتمييز بين غثّها وسمينها وتصنيف مداليل ما قامت به الحجة ونصره الدليل كلّ ذلك بموضوعية تامّة ونزاهة ملحوظة وإنصاف مستغرق مطرد.. ومن شواهد علو مقامه في العلم والفقاهة هو أخذه العلم عن الأساتذة الرواد والمؤسسين الأفذاذ في الأصول والفقه كالإمام النائيني والإمام العراقي والإمام الأصفهاني والإمام البلاغي رضوان الله عليهم كما يدل على ذلك أيضاً من تخرج في مدرسته الأصلية من كبار العلماء وأمائل الفقهاء في النجف الأشرف وقم المقدسة ومشهد الرضا علیه السلام ففي هذه المدن اليوم وقبل اليوم كوكبة لامعة ونخبة طيّبة من أعيان تلامذته وطلابه الذين أداروا رحى التدريس في حياته وبعد وفاته وتخرج على أيديهم العلماء الأجلاء والمفكرون النابهون.

([1]) ولا يقال: الشيّق كما شاع غلطاً، لأنّ الشيّق هو المشتاق وليس هذا وضع استعماله.

([2]) ولا يقال: ينم عن.

حديث المعصومين عليهم الصلاة والسلام هو المدرك الثاني من مدارك الأحكام الشرعية عند الشيعة الإمامية أنار الله برهانهم وهو على المشهور أحد أقسام السنّة الثلاثة التي هي قول المعصوم وفعله وتقريره وقد يطلق على الأقسام الثلاثة اسم (الحديث) فيكون الحديث مرادفاً للسنّة، والحديث عند الإمامية كما هو عند سائر المذاهب الإسلامية سند ومتن وصحة السند بوثاقة رجاله المستلزمة لصحة متنه. قد نقل عن بعض الأجلاء من أعاظم الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أنّ المتن في كثير من الموارد يصحح السند عند من حباه الله تعالى الملكة الذوقية الخالصة والأنسة بأحاديث النبي والأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (فالحديث المعصومي) متميز عن غيره بما غمره الله تعالى من أنوار جلاله وأفاض عليه من أقباس أسراره فلا يجد الواقف عليه ـ إن كان من أئمة الفن وأعلام التحقيق في باب الدراية والرواية ـ مندوحة من البخوع لحكمه، وتفصيل هذه الجملة موكول إلى مظانه.

والسابر لمصنفات سيّدنا الإمام السبزواري رضوان الله عليه لا يعدم الدليل القاطع على بلوغه (درجة الإمامة) في علم الرواية والدراية كما هو كذلك في العلوم الأخرى كالفقه والأصول والتفسير وقد تميز قدس سره باختيارات لم يسبق إليها في هذا الباب فكان هو أبا عذرها وفارع بكرها. وممّا أختاره وامتاز به عن سائر الأعلام في باب أحوال الرجال أنّه عليه الرحمة والرضوان قطع بوثاقة أصحاب الإمام الصادق علیه السلام المنقطعين إليه والرواة عنه مستنداً إلى دليل له من العقل والعرف مرتكز أصيل وذلك أنّ أولئك الأصحاب بانقطاعهم إلى الإمام علیه السلام مع اشتداد سطوة فراعنة زمانه عليه وعلى من يلوذ به من شيعته وتضييقهم عليهم ومراقبتهم لهم في حلهم وترحالهم (وتظاهر الزمان عليهم) أعربوا عن شرف نحائزهم وخلوص إيمانهم وصدق ولائهم ومعرفتهم بحقوق إمام زمانهم فهم صفوة العباد في تلك الآماد، والممتثلون أمر مولاهم في قوله عز من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ). ومن كان بهذه المثابة فأخلق به أن يكون في أعلى درجات الوثاقة والمهابة.

وله رضوان الله تعالى في تقرير القواعد الحديثية واستفادة المطلوب من مشمولاتها منهج دقيق وطريقة علمية متميزة استفادها من مداومة النظر في أحاديث المعصومين عليهم الصلاة والسلام. وليس من المبالغة في شيء القول بأنّ السيّد قدس سره هو (إمام المحدثين) في عصره ومن انتهت إليه (النوبة) في التربع على أريكة المرجعية في علوم الدراية والرواية والمعول على قوله في مسائل الجرح والتعديل. وللوقوف على طريقته في معالجة الأسانيد والروايات، واستكناه منهجه القويم في توثيق (محاكمة الأدلة) في النقض والابرام ننقل نموذجاً صالحاً من بحثه النفيس في توثيق روايات کتاب (تحف العقول) للشيخ المحدث الاقدم الحسن بن علي بن شعبة الحرافي رحمة الله علیه ذكره في (موسوعته) الفقهية الضخمة الفخمة (مهذب الأحكام) ج 16 ص 213 وما بعدها، قال طاب ثراه: والكتاب (يعني تحف العقول) معتبر اعتمد عليه الأصحاب منهم صاحب الوسائل، وصاحب البحار والحدائق، ومحتوياتها تشهد بصدورها عن المعصوم علیه السلام كما لا يخفى على من كان مأنوساً بأحاديث الأئمة علیهم السلام وأقوال النبي صلی الله علیه و آله قال صاحب الكتاب في مقدمة كتابه: (وأسقطت الأسانيد تخفيفاً وإيجازاً وإن كان أكثرها لي سماعاً ولأنّها آداب وحكم تشهد نفسها) وقال الشيخ الجليل حسين بن علي بن صادق البحراني في رسالته التي ألّفها في السير والسلوك إلى الله عن طريق أهل البيت علیهم السلام: (ويعجبني أن انقل في هذا الباب حديثاً عجيباً وافياً شافياً عثرت عليه في كتاب تحف العقول للفاضل النبيل الحسن بن علي بن شعبة من قدماء أصحابنا حتّى إنّ شيخنا المفيد ينقل عن هذا الكتاب وهو كتاب لم يسمح الدهر بمثله).

ولم أرَ من قدح في مؤلف هذا الكتاب ولو بأدنى قدح، وكلّ من تعرض له قرنه بالتجليل والتعظيم والتوثيق. وأمّا نفس الكتاب الشريف فغاية ما قيل في الخدشة فيه أمور:

الأول: أنّ أخبارها (الظاهر أخباره) مرسلة.

الثاني: عدم اعتناء أصحاب الجوامع الأربعة القديمة بالنقل منه ومن البعيد عدم اطلاعهم عليه.

الثالث: كون الحديث المتقدم الوارد في بيان معايش العباد([1]) مشتملاً على القلق والاضطراب.

الرابع: إنّ الحديث يشبه تصنيف المصنفين في التشقيق والتقسيم.

الخامس: اشتمال الكتاب على النبويات.

قال مولانا الإمام السيّد السبزواري قدس سره: وكلّ هذه الأمور باطلة ولا ينبغي الاعتماد عليها في استفادة القدح، وما نشأت إلا عن قصور الإطلاع وعدم التتبع والاحاطة. أمّا الأول: فقد صرّح المؤلف قدس سره في مقدمة الكتاب بوجه الإرسال ومن يقول بأنّ هذا النحو من الارسال يوجب القدح بعد كون المؤلف موثوقاً به فيما قال في المقدمة؟ وبأي دليل يقول بعد ذلك؟ مع أنّ المؤلف يصرح له بأن أكثرها سماع ولا موضوع للارسال حينئذ. وأمّا الثاني: فلا ريب في كونه أعم من القدح، إذ يمكن أن يكون لكثرة اشتهاره واعتباره غنياً عن النقل عنه، لأنّ بناء أرباب الجوامع (رضوان الله عليهم) على النقل عمّا كان في عرض الاندراس والاضمحلال كما يظهر ذلك من عاداتهم (رضوان الله عليهم)، بل ومن عادة الله عزّ وجلّ حيث إنّه كلّما كان في معرض الزوال من الشريعة المقدسة يجدده بكل نحو تعلقت به إرادته الكاملة اتماماً للحجة.

وأمّا الثالث: فلا بأس به وكم له من نظير في الأحاديث كما لا يخفى على الخبير خصوصاً فيما هو منقول بالمعنى كما هو الظاهر منه.

وأمّا الرابع: فهو ساقط جداً لأنّ التشقيق والتقسيم ورد في القرآن كما في سورة الواقعة([2]) وفي الأحاديث كثيراً كما في موثق ابن بكير الوارد في لباس المصلي وغيره ممّا يراه الناظر إليه بأول نظرة.

وأمّا الخامس: فهو نحو اجتراء وظلم بالنسبة إلى نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله حيث يفتخر على جميع الأنبياء بما تواتر منه (أوتيت جوامع الكلم) فيبادر جمع في النبويات إلى الإسقاط والطرح معللاً بأنّه نبوي، إنّ هناك قرائن كثيرة تدل على الوثوق بالصدور، ولو أنّ الأعلام رفع الله تعالى شأنهم بذلوا جهدهم في أن يصححوا السند بالمتن لا العكس لما وقعوا في هذه المتاعب والمشاكل. فتلخص أنّ مؤلف الكتاب ثقة جليل معتبر لا مغمز فيه. ثمّ إنّ ما ذكر فيه من حديث انقسام معايش العباد وتفصيل القول فيه الذي نقله في الوسائل والحدائق مطابق للقواعد العامّة وموافق للمجمع عليه بين الإمامية فهو معتبر من هاتين الجهتين أيضاً.

وتوهم أنّ الإجماع إنّما هو على القواعد لا على الحديث (مخدوش). بأنّ ظاهر الكلمات التمسك بنفس الحديث ساكتاً عن القواعد. كما إنّ توهم أنّ الشهرة ليست جابرة لضعف السند لو كان، وعلى فرض الجبران فهي شهرة القدماء لا المتأخرين مخدوش أيضاً، لأنّ اتفاق جمع من أهل الخبرة بشيء على الاعتماد عليه واتفاق جمع من أهل الخبرة بشيء على الإعراض عنه ممّا يوجب الاطمئنان بالاعتبار في الأول ولا اقل من إيجاب الشك فيه في الثاني. والظاهر كون ذلك في جملة من الفطريات العقلائية، ولا فرق في هذه الجهة بين الشهرة القدمائية والمتأخرين بعد كون من تقوم به الشهرة من أهل الخبرة ومن النقاد والحفظة. هذا نموذج واحد ممّا اخترناه من تحقيقات (السيّد) أعلى الله مقامه في (العلوم الحديثة) وفيه تظهر براعته الفائقة في النقد والتحليل واختيار المسالك السديدة المفضية إلى تحقيق الحق من أقصر الطرق وأقوم المدارك وقد جرى فيه على ما تقتضيه القواعد العامة التي قعدها أئمة المحدثين من سلفه الصالح ولم يترك لمن تأخر عنه زيادة يكون فيها كالمستدرك عليه. وهكذا هو في جميع ما حبر به صحائف مصنافاته الجليلة ومنها كتابه (المهذب) الذي يشهد لسيّدنا الامام السبزواري بالعلمية بل الأعلمية فهو كتاب فقه استدلالي بديع الطراز يموج بماء التحقيق والتدقيق لا سيّما ما يتعلق بالحكم على الروايات والأحاديث المذكورة في كتب الأصحاب.

([1]) راجع الحديث المذكور في (مهذب الأحكام) (16/122 ـ ۱۲۳).

([2]) وبهذا يرد أيضاً قول بعض من تسور على مقام كتاب (نهج البلاغة) بالتشكيك بنسبة ما فيه إلى إمام البلغاء وسيّد المتقين + بدعوى وجود التشقيق والتقسيم فيه وكون هذين ـ بزعمهم ـ من اختراع الكتاب المتأخرين، والله در سيّدنا قدس سره في نقص ما أبرموه بالدليل القاطع والحجة البالغة، وأما موثق ابن بكير بالنسبة إلى المشككين في النهج فلا يقوم حجة على الخصم، لأنّه من باب (المصادرة على المطلوب) أمّا بالنسبة إلى تحف العقول فهو في محله فتدبر المؤلف.

يحار الدارس لحياة سيّدنا الإمام السبزواري (رضوان الله عليه) من أي باب دخل وفي أي خصلة من خصاله الشريفة يبدأ، وكلّ خصلة ما هاتيك الخصال قد بلغ فيها الغاية وتجاوز الوصف وأوفى على الذروة وكيف لا يكون من الجلالة في الأخلاق والسيرة بهذه المثابة وقد تربى في حجر الإيمان وترعرع في بيت التقى والورع والقدسية!!.

أجل: لقد ورث السيّد العظيم أجداده الطاهرين علیهم السلام في الخلق الإسلامي الرفيع والسيرة المثلى والأدب السامق فكان مضرب المثل في كلّ صفة من صفاته الكريمة فإذا ذكر التواضع فهو مثاله الشاخص وعنوانه الأسمى يشهد له بهذه الصفة كل من رآه ولو عابرا وإن الذي تابع سيرته اليومية ليقطع بأنّ عينيه ما مقلت شرواه ولا اكتحلت برؤية من بلغ في التواضع مداه فكم رآه الراؤون أيام صحته وهو يمشي في الغالب وحده من بيته إلى مسجده أو من مسجده إلى بيته مع ما هو عليه من المكانة المرموقة والمنزلة العلمية التي تنحسر عن مبلغها الأبصار؟ وربما قرع باب داره فقام بنفسه بفتح الباب ليستقبل القادم أو ينظر في حاجته أو يجيب عن سؤاله مع طلاقة الوجه وعذوبة الأسلوب مشفوعة بقوة الفراسة وسلامة الحدس وإنزال الناس منازلهم بالنظرة الأولى مصداقاً للأثر النبوي: اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله. لم يصدر عنه ما يؤذي الآخرين فالكل عنه راضون، لا يتدخل بشؤون غيره ويعطي كلّ ذي حق حقّه. كان عليه الرحمة والرضوان قليل الكلام إلا فيما يعنيه ويكون فيه الله تعالى رضا وللناس أجر وثواب وكان صمته فكراً وكلامه ذكراً لا يفرط بشيء من الوقت بل يجري في تقسيمه على منهج دقيق في آناء الليل وأطراف النهار وممّا وصف به وذاع (ذكره ووروده) واشتهر عنه أنّه كان قدس سره كثير العبادة ملازماً لذكر مولاه مراقباً لنفسه لا يفتر لسانه عن التسبيح والاستغفار وسائر الأوراد والأذكار حتّى إنّه لم يكن يترك نوافل الظهرين مع إمامته للجماعة وكانت له أوراد وأذكار خاصّة لا ينفك لهجاً بها خصوصاً كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) التي ورد في الصحيح عنها أنّها من كانت آخر كلامه دخل الجنّة وفي بعض مراحل عمره الشريف كان يعدها عشرة آلاف مرّة في اليوم سوى الأذكار المستحبة في بعض الأوقات. ولم يترك ذكر (لا إله إلا الله) في جميع الحالات مع تمام الانقطاع إلى الله العظيم الذي كان يستجلي عظمة آلائه بروح تلك الأذكار. وكانت أوراده الخاصّة ممّا أخذه من أساتذته الكرام في علم العرفان كالشيخ الأصفهاني والسيّد البادكوبي وكان ضنيناً بها لا يبوح بها حتّى لخُلّص أصحابه فليس من المبالغة في شيء أن يُقال إنّ الإمام السبزواري من أئمة العرفان وأرباب السلوك الكمل الكتومين الذين لا يبيحون بكلّ ما يعلمون أو لعلّ أساتذته (قُدِست أسرارهم لم يأذنوا له أن يعطيها لغيره)، فمن تلك الأذكار ما ذكره السيّد قدس سره أنّه أعطاه السيّد البادكوبي واشترط عليه قراءته في وقت الشدة فقط وكان مجرباً، ففي إحدى الحالات طرأت على السيّد حالة مرضية شديدة وهو في طريقه إلى إقامة الصلاة في مسجده الخاص به في محلة الحويش فلم يتمكن من المسير فتذكر (الذكر) الذي خصّه به أستاذه البادكوربي فقرأه فقام من وقته وواصل مسيره إلى المسجد وصلّى وبعد رجوعه إلى الدار أحضر له الطبيب وبعد فحصه قرر الطبيب بأنّ مرضه شديد وكانت (جلطة) صعبة وتعجب كيف ذهب إلى الصلاة وأدّاها ورجع إلى الدار وكان المرض مهلكاً لولا ما تداركته العناية الربّانيّة ببركة الذكر الخاص. وكان الذكر الذي يعتمد عليه كثيراً وهو (الذكر اليونسي) (لا اله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين) فقد كان دؤوباً عليه ملازماً له وفيه من الآثار العجيبة ما يقطع له الموفق بأنّه من خصوصيات (أهل الاختصاص) و(أئمة العارفين) وكان السيّد قدس سره يقول: أنّه رأينا منه العجب العجاب، وقد منح السيّد الاجازة الخاصّة لبعض من رآه أهلاً لتحمله، فأقر بما رآه من الفوائد والبركة. واعتبر السيّد في قراءة الذكر الذي كان يمنحه أن يكون الذكر لأجل الذكر لا لجلب فائدة منه وإليك نص عبارته لبعض الأعلام عندما طلب منه ذكراً معيناً: (في ظلمة الأسحار عند الخلوة مع الرحيم الغفار يناديه نداء العبد الذليل للمولى الجليل: (يا عزيز يا مهيمن يا فتاح يا ملك يا قدوس يا سلام يا من له مقاليد السماوات والأرض يا من له خزائن السماوات والأرض) مستحضراً معاني ذلك في الذهن ولا غرض له ويكرر ذلك حتّى المقدور).

وكان معتادا على ذكر (يا حي يا قيوم) وكان يذكر فيه آثاراً خاصّة. وأمّا ذكر (يا علي يا عظيم فكان يقول أنّهما أول الأسماء الحسني. مضافاً إلى مداومته على قراءة القرآن الكريم، ففي كلّ شهر كان يختم ثلاث ختمات وفي شهر رمضان خاصّة كان يختم عشر ختمات مخصوصة مع ترو وتدبير وكان يوصي بقراءة القرآن ولو كان بمقدار ورقة واحدة بحيث لا يعد (المسلم) تاركاً له، وتفسيره القيّم (مواهب الرحمن) دليل على كيفية قراءته.

وأمّا الدعاء فكان دؤوباً عليه لا يفتر عنه لسانه سواء في الصحيفة السجاديّة المباركة التي كان كثير القراءة فيها وتلازمه في جميع الأوقات أو غيرها من كتب الأدعية، وقد جمع جملة من الأدعية في (محفظة) عنده يحملها معه في حلّه وترحاله فيقرؤها حيث تسنح له الفرصة.

وكان شديد الالتزام بالأحراز لا سيّما (الحرز اليماني) الذي أخذه من بعض مشايخه، وكان يقول إنّ فيه شروطاً معينة وترتيباً خاصّاً لابدّ فيه من الإجازة الخاصّة وإلا لم يقدر كل أحد أن يتحمل ما يجري عليه من قراءة هذا الدعاء.

وكان في شهر رمضان يقرأ دعاء أبي حمزة الثمالي في قنوت صلاة الوتر ولا يترك دعاء ورد عن الأئمة علیهم السلام. وكان له قدس سره باع مديد في الأدعية الواردة عن الأئمة علیهم السلام لا يضارعه فيه أحد من الأعلام. وكان قدس سره يقول: إنّ قراءة الأذكار والأوراد الخاصّة التي عيّنها أصحاب الإجازات ومشايخ السير والسلوك لابدّ من التنبه عليها لمن يريد المداومة على ذكر معين وورد خاص.

العرفان هو الدرجة السامقة في سلم (الترقي الروحي) وإليه يرشد قول إمام العارفين على الإطلاق سيّدنا ونبيّنا محمّد بن عبد الله صلی الله علیه و آله مخاطباً باب مدينة علمه ووارثه في (إمامة العارفين) علیه السلام: (يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت…) الحديث. يعني المعرفة الكاملة إذ الشيء إذا ذكر على إطلاقه انصرف إلى الفرد الأكمل منه. وللعرفان في ـ لسان القوم ـ تعاريف مذكورة في مظانها فليرجع إليها من رام المزيد، لكن لابدّ ابتداء من بيان معنى العرفان من أقرب المعاني وأقصر السبل دون الخوض في التفاصيل حتّى تعرف حقيقته لخفائها على كثير من الناس، وعلى ضوئه يمكن بيان خصوصيات (العارف) وما يمتاز به من([1]) غيره، وقد اختلط علم العرفان مع كثير من العلوم التي لا يقر بها الشرع المبين فالعرفان هو الارتباط الإلهي الذي هو منبسط على جميع الموجودات من علوياتها وسفلياتها في جميع العوالم حتّى عالم الآخرة، فلا أول له من حيث المبدأ، و(العارف) مرتبط بجميع الموجودات علوياتها وسفلياتها. ولا يصل العارف إلى (مقام القرب الإلهي) الذي له درجات كثيرة وعظيمة إلا بتطبيق الشرع الشريف تطبيقاً كاملا والتجرد عن العلائق المادّيّة وصون النفس عن الرذائل وتكميلها بالفضائل، وأكمل العارفين وأعلاهم درجة الأنبياء والمرسلون، والأوصياء المعصومون، وقد كان أمير المؤمنين علیه السلام سيّد العارفين وأولاده (الكرام البررة) أئمّتهم، ومن أهم صفاتهم الزهد والعبادة والذكر والتقوى ومخالفة النفس، والعمل، وتهذيب النفس ومراقبتها، وتنشيط الروح واتصالها بعالمها الخاص التي صدرت منه وستعود إليه والكمال المنشود لها.

وقد كان سيّدنا الإمام (العارف بالله) السيّد السبزواري قدس سره على درجة من العرفان (ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليه الطير). وقد شهد له بذلك (المقام السامي) في العرفان جمعٌ كثير من العلماء ومن له حظ ـ يغبط عليه ـ من السير والسلوك كيف لا وقد كان في مراحل كثيرة من عمره الشريف مطبقاً للشرع الشريف بنحو يقصر عنه الكثير ممن انتسب إلى (الجامعة الدينية) فاعلاً للمندوبات وتاركاً للمكروهات. وكان (رضوان الله عليه) ينقل أنّ بعض أعاظم العلماء ومنهم السيّد هاشم البحراني صاحب كتاب (البرهان في تفسير القرآن) لم يعملوا مكروهاً ولم يتركوا مندوباً. والعارف بلحن القول ومعاريض الكلام يعلم أنّ السيّد السبزواري بنقله هذا الكلام عن أحوال أولئك الأعاظم إنّما يعني نفسه على نحو الإشارة لمن جاوزت فطنته حدود العبارة. فإذا كان هذا الاستيعاب العلمي والعملي لجميع حواس الإنسان ومشاعره وخواطره بالنسبة إلى الشرع المبين فكيف لا يكون من العرفانيين والسالكين إلى الله تعالى وهو قدس سره كما عرفت آنفاً لم يذكر اسمه ولكنّه كان قوله أنّ بعض المعاصرين أيضاً وصل إلى هذه الرتبة من العلم والعمل، فتلا تلو المعصوم وتجاوز مرحلة العدالة ومرحلة مخالفة الهوى التي اشترطها الشرع المبين فيمن يريد الوصول إلى مقام الاصطفاء، فلم يترك مندوباً إلا عمله ولا مكروهاً إلا تركه إلا ما كان خارجاً عن قدرته.

وكان (رضوان الله عليه) سكوتاً لا يتكلم إلا مع الحاجة إلى الكلام وإذا تكلم لم يتجاوز عن حدوده، ففي أجوبته عن المسائل الشرعية وغيرها لا يصدر منه إلا كلمة أو كلمتان، ودرسه الشريف على نحو منتظم من الإيجاز، يجتنب فضول الكلام ويذكر الخلاصة المفيدة (الجامعة المانعة) ممّا ذكره المحققون ويستخلص ما يريده الأئمة المعصومون علیهم السلام في كلماته المباركة. وكان له من الذوق العرفاني حظ وافر بحيث يصل إلى ما يقصده الإمام المعصوم ويتجنب عن إيراد الاحتمالات في كلماتهم الشريفة. وكان حريصاً على التأدب بآداب الشرع المبين في حركاته وسكناته، في فعله وقوله، في هديه وسمته فلا يتجاوز تلك الآداب في حال من الأحوال. وكان متعبداً يسهر الليالي في العبادة والمطالعة والكتابة وفي النهار في التدريس والكتابة، قليل الأكل، قليل النوم، لا ينام سوى أربع ساعات في مجموع الليل والنهار، قليل الكلام لا يتكلم حتّى في بيته إلا القليل النادر كمصداق الحديث المشهور: اعقل لسانك إلا عن حق توضحه أو باطل تدحضه، أو حكمة تنشرها، أو نعمة تشكرها.

يذكر الله تعالى في آناء الليل وأطراف النهار، كثير التأمل والفكر، دائم اليقظة في كلّ أموره، شغوفاً بتحصيل الكمال، لم يعرف عنه أن ذكر أحداً بسوء حتّى مخالفيه مع علمه شديد الاحترام للعلماء والمشايخ، وكانت وصيته لأولاده الكرام (وهم صغار) احترام الشيخ الكبير والتمسك بالآداب الإسلامية السامية والسير على المنهج الواضح الذي سار عليه سلفهم الصالح، فتربى (أولئك الأبناء النجباء) على هذه السجايا الكريمة، وكان رضوان الله عليه كثير الحياء وهذه من صفات المؤمنين وخصال الصالحين كما نطقت به الروايات. وقد وصفه أستاذه الكبير الذي عدّه السيّد قدس سره بمنزلة الأب الرحيم عندما كتب إلى والد السيّد أنّ ولده قد أفرط في الحياء، كان كبير الهمسة يتجافى عن كثير من الأمور التي تعود إليه بالنفع إذا لم تكن في سبيل رقي نفسه، زاهداً لم يمتلك في الدنيا داراً ولا عقاراً، وكان يقول أنّه في برهة من الزمن كنّا نجول في النجف من بيت إلى بيت ولا نبقى في البيت أكثر من ستة أشهر إلى سنة لعدم إمكانية دفع أجور المنزل فيطلب صاحب الدار تخليته لها حتّى ضاقت به الأمور فتوسل بالإمام أمير المؤمنين علیه السلام في أن يمنحه دار إيجار يبقى فيها ويتخلص من مشكلة النقل والانتقال فمنح له داراً سكن فيها ستاً وعشرين سنة إلى أن انتقل منها إلى دار الحاج ناصر مرزة فسكن فيها حتّى وفاته، وكان قدس سره يرفض ما كان عليه أهل العلم من شراء دار وبنائها إذا كان بإمكانهم استيجار دار تقضى فيها حاجتهم من السكن. ولم يمتلك مالاً سوى كتبه وأثاث الدار. وأمّا الأموال التي كانت بحوزته من حقوق المسلمين فقد استجاز أولاده الأجلاء العلماء الأعلام في صرفها على الفقراء والمساكين. فحقّ إذا ما قيل أنّ السيّد السبزواري خرج من الدنيا وهو منزّه عن حطامها لم يملك منها شيئاً.

وكان عليه الرضوان عزوفاً عن الأمور الدنيوية فكان جليس داره لا يخرج إلا لقضاء بعض حقوق الإخوان، وقد عرض عليه كثير من أمور الرئاسة الدينية فامتنع منها وطلب منه بعض (أهل الحل والعقد) التصدي فامتنع، وإنّما كان همّه التكميل وغرضه رضا الله تعالى. وكان يقضي يومه العرفاني في الذكر والتفكر والمطالعة والكتابة وقراءة القرآن والأدعية ولم يترك صلاة جعفر الطيار علیه السلام وكان من أعماله أنّه كان يصلّي في مساجد النجف المتروكة حتّى لا تشتكي إلى الله تعالى كما ورد في الحديث الشريف كما كان يتصدى إلى قبور المؤمنين المندرسة حتّى يجد الله تعالى عندها كما ورد في الحديث عندما سأل موسى علیه السلام ربّه: أين أجدك؟ فقال: تجدني عند القبور المندرسة والقلوب المنكسرة.

وكان يواظب على إتيان النوافل إلى مرحلة متأخرة من عمره فإذا لم يؤدها في وقتها يقضيها بعد الوقت. وقد رقد مدة في المستشفى على أثر مرضه الذي أصيب فيه بـ(جلطة) في القلب فقضى النوافل التي لم يتمكن من أدائها في أثناء دخوله المستشفى.

([1]) يقال: امتاز منه، لا عنه , ولا عبرة بالغلط الشائع.

كان رضوان الله تعالى عليه ذا منهج دقيق في تقسيم أوقاته كما ألمعنا إلى هذا المعنى آنفاً. وممّا كان مواظباً عليه وملتزماً به هو انكبابه على مطالعة كتب الفقه والأصول والحديث والرجال والتفسير وغيرها من كتب العلم يقرؤها بتدبر وإنعام([1]) نظر ويعلق على المواضع التي تستوجب التعليق حتّى تجمع من مجموع تعليقاته ما لو جرد لجاء في مجلدات، وقد طالع (الجواهر) تلك الموسوعة الفقهية الاستدلالية الكبيرة ثلاث مرّات كما طالع (البحار) وكتب الأحبار. وكان كثير الحفظ للروايات فلا غرو إن عد (بحق) خاتمة الحفاظ والمحدثين.

([1]) ولا يقال: إمعان نظر كما شاع.

لسيّدنا الإمام السبزواري (مدرسة متميزة) في الأصول انفرد بها عن سائر المجتهدين الأعلام وكان فيها من (الأساتذة المؤسسين) و(الأئمة المجددين) فقد تفرد رضوان الله عليه في تهذيب الأصول عن الزوائد والأمور الدخيلة فيه والتي لابدّ من دراستها في علوم أخرى. والعلماء السابقون كلّهم أجمعوا على تضخم علم الأصول وخروجه عن طوره وغايته التي من أجلها وضع هذا العلم ولكن لم يتقدم منهم من يهذبه وينقيه من الحشو والزوائد التي دخلت عليه وقد شمَّر السيّد عن ساعد الجد فكان أول أصولي تقدم في تهذيب الأصول ووضع كتاباً جمع فيه المسائل الأصولية في أحسن تبويب وأكمل ترتيب لم يسبق إليه مثيل وأدرج فيه آخر الآراء الأصولية العميقة بأسلوب حسن يقبله الطبع المستقيم وقسّم الكتاب إلى جزأين:

الأول: في مباحث الألفاظ وأدرج فيها مبحث التعادل والتراجيح الذي يعد فيه السيّد بحق أول أصولي يفطن إلى جعله من مباحث الألفاظ. وكان الأصوليون يجعلونه في آخر مباحث الأصول بعد ذكر المقدمة التي يذكر فيها أموراً متعددة مما يتصل بالموضوع، وقسّم المباحث على فصول متعددة ثمّ مباحث الملازمات العقلية التي قسّمها على قسمين: المستقلة وغير المستقلة.

وأمّا الجزء الثاني: فقد جعله لمباحث الحجج والأصول العملية.

وقسّم مباحث الحجج إلى ما يكون معتبراً في نفسه وما يكون معتبراً في غيره والأخير إلى ما يصح الاعتذار به من جهة الكشف وقسّمه على مباحث ذكر فيها الظواهر، والإجماع، والشهرة، وخبر الواحد والاجتهاد والتقليد، وهو متفرد به أيضاً إذ جعله من هذا القسم ولم يجعله في آخر الأصول كما صنعه غيره من الأصوليين، وغير ذلك من المباحث، ثمّ ذكر مقصداً آخر من مقاصد الأصول وهو البحث في الأصول العملية التي جعلها في مباحث متعددة وفصول: الأول في البراءة، والثاني في الاحتياط، والثالث في التخيير، والرابع في الاستصحاب وختم الكتاب بذكر قواعد مهمة. وقد كان السيّد في هذا التقسيم موفّقاً فقد سلم من كثير من الاشكالات التي كان الأصوليون يوردونها على تبويب علم الأصول.

فهو في هذا التبويب والترتيب مبدع إليه يعود الفضل في تقريب الأصول وتنقيتها من الفضول وابرازها في تلك الحلة القشيبة والعرض الجديد. وأمّا أسلوبه في هذا الكتاب فقد اعتمد على الأسلوب المحاوري العرفي الذي تبناه الأئمة علیهم السلام في محاوراتهم مع الناس.

وأبدع فيه غاية الإبداع وتجنب الأسلوب العقلي المعقد المعروف في كتابة الأصول وكان قدس سره يرى أنّ الأصول مقدمة للفقه المبني على العرفيات ولا وجه لأن تكون المقدمة أكثر تعقيداً في الأسلوب والمحاورة من ذي المقدمة([1]) فهو بحق من أعلام المجددين في المدرسة الأصولية الحديثة.

ومن آرائه الأصولية التي اعتمد فيها على العرف في شرح المسائل الأصولية أنّه يثبت في كتابه أنّ الشارع الأقدس يحق له أن يتدخل في القطع الذي تكون حجته ذاتية فيسقط حكمه، وناقش فيما ذكروه من أنّه يستلزم سلب ذاتيات الشيء.

ومن آرائه الأصولية أيضاً أنّ الدليل الذي يدل على الوجوب في العباديات بنفسه يمكن أن يتكفل جهة العبادية ولا نحتاج إلى متمم الجعل وأبطل قول الأصوليين من عدم إمكان ذلك لاستلزامه الدور إلى غير ذلك من المسائل التي تميز بها عن سائر الأصوليين وخالفهم في كثير من متعلقاتها وللتفصيل موضع غير هذا.

 

 

([1]) رأيت بعض الأصوليين يضيف (ذا) إلى الضمير فيقول في مثل ما جاء في الأصل: (من ذيها) وهو غلط واضح لأنّ (ذا) لا تضاف إلا إلى اسم ظاهر.

أمّا الفقه فكان قدس سره اللوذعي المتبحر في الفقه حقّاً، فقد اجتمع فيه الذوق الفقهي الاكتسابي والمذاق الفطري، وقليل من يجتمع فيه الأمران فهو في هذا من طراز المبدعين، ومن يراجع كتابه القيم (مهذب الأحكام) ويطالعه بتدبر وإنعام نظر يَرَ أنّ السيّد السبزواري فقيه عصره الذي فاق أقرانه من هذه الجهة، ويتميز فقهه عن غيره بأمور:

  1. إنّ فقهه يوافق الأساليب العرفية التي ابتنى عليها الأئمة علیهم السلام في بيان الأحكام الإلهية فمن الحق أن يقال فيه: إنّ الفقه عند السيّد السبزواري قدس سره فقه عرفي.

۲. خلوه عن الأدلة البرهانية التي يستدل بها في الكتب الفلسفية والمنطقية وسائر العلوم التي تبتني على البراهين المعقدة والأساليب الملتوية.

  1. الأسلوب العلمي الميسر([1]) والعبارات الوجيزة الخالية من الحشو والزوائد وقد سبكها بقالب الرصانة وحبرها بأسلوبه الجذاب المشتمل على البرهان والدليل بحيث يمكن استيعاب الموضوع بأسهل الطرق وأوجز العبارات لكنّه مع ذلك لم يخرج عن الأسلوب العلمي المتبع في البحوث العلمية مطلقاً وقد برع قدس سره في هذا المجال براعة فائقة قلّما جاراه فيها أحد من الأعلام من حيث سبك الكلام سبكاً خاصّاً مع اجتماع كثير من الفروع فيه وتضمنه أحسن البراهين وأقوم المدارك التي لا يمكن دركها إلا مع بلوغ المرتبة العالية في العلم مع الفطنة والذكاء الوافر وإن كان المطالع لا يفطن إلى ذلك من أول نظرة، وهذا هو السر في امتياز كتابات السيّد السبزواري التي تجعلها تختلف عن بقية الكتب الدائر أمرها بين الافراط في السهولة بحيث يخرجها عن الأسلوب العلمي والتفريط في الصعوبة والتعقيد.

4. اشتمال كتابه على كثير من الفروع الفقهية التي خلت منها كتب الاصحاب والفروع المستحدثة في هذا العصر.

  1. تفرده في استخراج الروايات التي هي بمنزلة الأصل والقاعدة وإرجاع بقية الروايات التي وردت في فرع معين إلى تلك الرواية القاعدة فإن وافقتها أخذ بها وإلا فلابدّ من التأويل أو الطرح، ولم يتقدمه من الفقهاء أحد في هذا المنهج فإنّهم كانوا يوقعون التعارض ويعملون بقواعد التعادل والترجيح أو يبدلون في النسب المتحققة بين المتعارضين ويطيلون الكلام والاحتمالات وبذلك يخرجون عن المنهج الفقهي الخاص ويبتعدون عن المقصود الأصلي المراد من الروايات.
  2. امتيازه بفتاوی خاصّة استخرجها من طريقته الخاصّة في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.
  3. استيلاء الذوق العرفاني المتميز به من غيره من الفقهاء على كلماته وكتاباته بحيث يستشعر كلّ من له حظ في هذا الذوق وبه اقترب من مراد الأئمة علیهم السلام كلماتهم المباركة كما في المروي عنهم صلوات الله عليهم على كلّ حق حقيقة وعلى كل حقيقة نور.

8 . اعتماده الكبير على تصحيح الأسانيد بالمتون الذي لا يصح لكل أحد إلا من سبر غور كلمات الأئمة علیهم السلام وعرف لحنهم وتنور قلبه وفكره بنور الحقيقة التي تظهر على كلماتهم، ولذا ترى أنّه يعتمد على روايات قد يعتدها الفقهاء بحسب الموازين المعروفة في كتب الرجال غير معتبرة والسيّد قدس سره لم يخرج بذلك عن الطريقة المألوفة حتّى يكون بدعاً بين الفقهاء وهذا المنهج السديد لا يوفق إليه إلا من منحه الله نوراً خاصّاً لتمييز الروايات ولا يناله إلا ذو حظ عظيم وهناك أمور أخرى يعرفها الخبير المطلع على الدقائق.

 

 

([1]) ولا يقال: المبسط أو البسيط كما شاع غلطاً بأنّ المبسط هو الموسع.

من مأثور الكلام: الكتاب أحد اللسانين وخير المخلفات المؤلفات، ويراع المرء ترجمان عقله والشاهد على فضله. ولبعض الشعراء (الفضلاء):

تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار

والمؤلفات تختلف باختلاف أصحابها وتتباين بتباين العلوم المودعة فيها. والمقرر عند ذوي التحقيق والفضيلة أنّ شرف العلم بشرف موضوعه ويأتي (علم الفقه) وما يتعلق به في مقدمة (العلوم الشريفة) بل هو رأسها وعمدتها، وفي ذلك يقول سيّد الطائفة السيّد بحر العلوم الطباطبائي المتوفي سنة 1212 هـ في (الدرة النجفية):

وإن علم الفقه في العلوم كالقمر الزاهر في النجوم

والمستقري([1]) لآثار سيّدنا الإمام السيّد السبزواري قدس سره يجده فيها ذلك العبقري الفذ، واللوذعي البارع الذي لا يشق غباره، ولا يدرك تياره وقد صال براعه السديد في تحبير تكلم العلوم الشريفة فادرك قصب السبق وأحرز القدح المعلى فيها وتمتاز تلك المؤلفات سواء أكانت في الأصول أم في الفقه أم في التفسير بقوة السبك ومتانة الأسلوب وبلاغة التعبير والسلامة من الحشو والتكرار مع وضوح الدلائل، والاستقصاء التام في محاكمة الأدلة بما يشهد له بـ(الاوحدية) بين العلماء المحققين والفقهاء المدققين وقد خلف رضوان الله عليه مؤلفات قيّمة في الفقه والأصول والتفسير والعرفان تمتاز (كما أشرنا إلى ذلك قريباً) بدقة الأسلوب وقوة البرهان والحجة، وهي وإن أمكن لغير المتخصص قراءتها وربما فهمها لسلاسة الكلام فيها وسهولة أسلوبها إلا أنّها دقيقة العبارات مسبوكة سبكاً علمياً لا يتأتى نظيره إلا لخاصة الخاصة من أعلام المحققين ومن هذا الاقتران بين دقة (السبك العلمي) وسهولة العبارات ووضوحها يقع لبعضهم أنّه ربما فهمها بأدنى النظر ولو رجع إلى المدارك التي اعتمد عليها السيّد ونظر فيها نظر الباحث المنقر والفاحص المستقصي لحكم على أسلوب السيّد بأنه من (السهل الممتنع) الذي يطمع بمجاراته ودون ذلك هذا مناط الثريا.

([1]) استقرى يستقري استقراء وهمز اسم الفاعل واسم المفعول والفعل غير صحيح.

فمنها موسوعته الكبرى (مهذب الأحكام) التي استوعبت الأحكام الشرعية مع إقامة الأدلة والبراهين والحجج وجمعت بأوجز عبارة وأسهل أسلوب وأوضح حجة من الفروع الفقهية التي خلت منها كتب الأصحاب ما لا يخفى على المتتبع وقد امتازت هذه الموسوعة الفقهية الاستدلالية الضخمة بكون الفقه فيها أقرب إلى العرف والذوق العرفي من الأسلوب العلمي البحث الذي هو المتبع في العلوم العقلية البعيدة عن الفقه كل البعد، ولذلك كان أقرب إلى مراد المعصومين علیهم السلام ومقاصدهم في القاء كلماتهم المباركة على الأصحاب متجنبين التعقيد في الكلام والأساليب التي يتبعها الفلاسفة والحكماء في بيان مقاصدهم فقد اتبع القرآن الكريم وسنّة المعصومين الأساليب التي كان يفهمها أهل العرف في بيان الأحكام الشرعية، ولذا سهل على السيّد المؤلف (قده* الجمع بين الاخبار المتعارضة التي اقتضت الظروف التي كان يعيش فيها الائمة علیهم السلام أن تصدر منهم كلمات متعارضة تبعاً للظروف الخاصّة التي صدر فيها الكلام. فقد كان منهج سيّدنا الإمام السبزواري قدس سره أنّ استخراج حديث من تلك الأحاديث الواردة في مسألة معينة محكم وهو الأصل في ذلك الباب وارجاع سائر الأخبار المتشابهة إليه كما هو الشأن في الآيات القرآنية، وقد كان موفقاً في هذه الطريقة التي قلّما اتبعها سائر الفقهاء، ولذا كانوا يوقعون التعارض ويلتسمون التراجيح ويوقعون النسب المتعارض ويقلبونها إلى نسبة أخرى، ولكن طريقتهم كانت تبعيداً للمسافة، وابعاداً عن الطريقة المألوفة في هذا العلم.

وهذه الموسوعة الموسومة بـ(مهذب الأحكام) تتألف من ثلاثين مجلداً: أربعة أجزاء منها في مسائل الطهارة، وخمسة أجزاء في مسائل الصلاة، وجزء واحد في مسائل الصيام، وجزء في مسائل الزكاة والخمس، وثلاثة أجزاء في مسائل الحج، وجزء واحد في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وثمانية أجزاء في العقود كالبيع والاجارة والمساقاة والمزارعة والشركة والمضاربة وغيرها والغصب والذباحة والأطعمة والأشربة واللقطة وغيرها، وثلاثة أجزاء في النكاح والطلاق والظهار والعتق والكفارات، وثلاثة أجزاء في القضاء والحدود والديّات، والجزء الأخير في الارث.

وهذه الموسوعة الجليلة هي حصيلة مطالعته المستوعبة الواعية في الكتب الفقهية لمدة ثلاثين سنة لا سيّما (جواهر الكلام) الذي طالعه قدس سره ثلاث مرّات كما مرّ عليك والموسوعة المذكورة هي شرح للعروة الوثقى (الكتاب المعروف) من مؤلفات فقيه الطائفة السيّد اليزدي الطباطبائي قدس سره الذي صار محور الدراسات العليا في العصور الأخيرة لا سيّما في الحوزة العلمية العتيدة في النجف الأشرف. ولما لم يكن هذا الكتاب جامعاً لجميع الكتب الفقهية فقد أكملها السيّد السبزواري قدس سره وأضاف إليها الكتب التي لم يذكرها السيّد اليزدي رضوان الله عليه. كما أضاف إليها أبواباً وفروعاً مستحدثة لم تكن في كتب المتقدمين. وقد طبعت ثلاث طبعات:

الأولى في النجف الأشرف وقد كانت تحت اشراف المؤلف نفسه.

والطبعة الثانية في بيروت ولم تكتمل لحد الآن. والطبعة الثالثة في قم المقدّسة وهي مزيدة ومنقحة، وقد خرجت في هيأة جديدة وحلة بهية وقد أضيف إلى الجزء الخامس عشر شيء من الجزء الرابع عشر.

جال يراع سيّدنا الامام السبزواري قدس سره في مباحث علم الأصول فكان فيها من المجلين الفحول وقد ألّف في هذا الفن كتاباً جليلاً جمع فيه المسائل الأصولية التي لها الدخل في استنباط الأحكام الشرعية، فإنّ علم الأصول مقدمة للفقه ولا يمكن أن تكون المقدمة أبعد أسلوباً عن أسلوب الفقه إلا أنّ الأصوليين تعمقوا في هذا العلم وأدخلوا فيه من العلوم الأخرى لا سيّما العلوم العقلية ما جعله يرزح تحت وطأتها حتّى صار مثلها في التعقيد والرمزية في الأسلوب والبيان، حتّى يمكن أن نقول (غير مجانبين شاكلة الصواب) إنّ نفس العلم الذي عقد أجله الكتاب وكان محور الدراسات ابتعد كلّ البعد عن هذه المؤلفات ومن هنا انبرى جمع من الأجلاء إلى القول بوجوب معالجة هذه الظاهرة وضرورة تهذيب الأصول وإبعاد تلك المسائل والأساليب المعقدة عنه، ولكن لم يعقد العزم منهم أحد على ذلك لما كان علق في أذهانهم وترجح في أنظارهم من أنّ إبعادها عنه هدم لكيان علم الأصول أو مقاومة للطريقة التي سار عليها السلف الصالح، وليس من السهل الابتعاد عنها. وقد ذكر السيّد المؤلف قدس سره أنّ أستاذه المحقق المدقق الاصولي البارع الشيخ محمّد حسين الأصفهاني الغروي ذكر في آخر دورة أصولية له (وقد توفي ولم يكملها) أنّ علم الأصول قد خرج عن طوره، ودخل فيه ما لا يرتبط به أبداً… وكان قدس سره يستغرق زمناً طويلاً ربما يصل إلى عشر سنوات في الدراسات العليا ودرس الخارج في هذا العلم فقال: إنّي أريد أن أختصر علم الأصول وأذكر المواضيع التي تدخل في صميم هذا العلم في مدة زمنية لا تتجاوز السنتين، وشرع في تدريسه، ولكن وافاه الأجل المحتوم ولم يكمل تلك الدورة الأصولية. وقد جمع ما ألقاه على تلامذته المحقق الشيخ المظفر في كتابه (أصول الفقه) الذي هو محور دراسات السطوح.

وقد سار السيّد قدس سره في كتابه (تهذيب الأصول) على منهج أستاذه فزاد ما لم يكمله وحذف ما لم يدخل في العلم، وغيّر المنهج المتبع في هذا العلم وجمع فيه الآراء الأصولية التي استحدثت بعد العلمين الفذين اللذين هما عمادا هذا العلم في العصور المتأخرة الشيخ النصاري والشيخ الخراساني صاحب (الكفاية) قدّس الله أسرارهما وناهيك بهما علماً وعملاً وتحقيقاً وتقىً وورعاً جزاهما الله عن العلم والعلماء خير ما يجزي الصالحين من عباده. فجاء الكتاب (جامعاً مانعاً) وصار برهة من الزمن محور الدراسة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف. إلا أنّ عاديات الدهر حالت دون استكمال مسيره هذه الخطة المباركة في الحوزة المذكورة (ولله في خلقه شؤون) ومن يراجع هذا الكتاب ير الفرق الكبير بينه وبين سائر الكتب الأصولية لا سيّما (الكفاية) التي هي محور الدراسات العليا في العرض والمنهجية والتبويب والأسلوب وجمع المعلومات، وهو ككتابه الكبير (مهذب الأحكام) وإن كان سهل الأسلوب في عبارات قريبة في انسياقها وانسباقها إلى الذهن وكونها من الوضوح على طرف الثمام إلا أنّ السيّد المؤلف طاب ثراه سبكها سبكاً محكماً وضغط عليها بحيث تشتمل على معان دقيقة لا يمكن([1]) غير المطلع من أهل العلم فهمها وقد كان قدس سره موفّقاً غاية التوفيق في هذا العرض الغزير، والبيان الواضح الذي ليس بعده في تقريب مطالب الأصول من مزيد، كيف لا؟ وإنّ ما ورد في هذا الكتاب واحتجنه ما بين دفتيه هو حصيلة ما ألقاه السيّد المؤلف قدس سره في خمس دورات أصولية في البحث الخارج. وقد رتب الكتاب إلى قسمين:

الجزء الأول: ويتكون من المقدمة التي ذكر فيها أموراً تمهيدية أغلبها خارج عن علم الأصول لا ربط له به، لكن القوم ذكروا (تلك الأمور التمهيدية) على ما هي عليه من البعد عن هذا العلم فلم يشأ أن يخالفهم، كبحث المشتق، وبحث موضوع العلم والوضع ونحو ذلك، ثمّ بعد ذلك ذكر مقاصد:

المقصد الأول: في مباحث الألفاظ، ذكر فيها الأوامر، وصيغة الأمر، وأقسام الواجب، ثمّ النواهي اجتماع الأمر والنهي، ثمّ المفاهيم وأعدادها وأحكامها، ثمّ العام والخاص، ثمّ المطلق والمقيد، والمجمل والمبين ثمّ التعارض الذي انفرد في جعله من مباحث الألفاظ وخالف بذلك القوم.

وفي المقصد الثاني: ذكر الملازمات العقلية المستقلة وفيها المباحث المتعلقة بالعقل، ثمّ الملازمات العقلية غير المستقلة وهي بناء العقلاء، والأجزاء ومقدمة الواجب، واقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده، والنهي في العبادة والمعاملة وبذلك أنهى الجزء الأول من كتابه (تهذيب الأصول).

وأما الجزء الثاني: فقد سار فيه على منهج خاص يختلف عن منهج الأصوليين في مباحث الأصول العملية كما خالفهم في كثير من الأمور التي ذكروها في هذا القسم من علم الأصول. وقد عقد هذا الجزء على مقاصد:

المقصد الأول: في ما يكون معتبراً في نفسه وهو القطع وذكر فيه جميع ما يتعلق به وأبطل ما ذكره الأصوليون من عدم إمكان الشارع جعل الحجة أو سلبها عن القطع وبيّن أقسام القطع وحكم التجري ومباحث العلم الإجمالي.

والمقصد الثاني: في ما يصح الاعتذار به من جهة الكشف فيه وذكر فيه الاطمئنان بإمكان التعبد بغير العلم، تأسيس الأصل في ذلك، ثمّ ذكر الأمور الخارجة عن ذلك الأصل وهي الظواهر، الإجماع، وانفرد في بيان أقسامه وطرق استكشاف رأي المعصوم منه، الشهرة، خبر الواحد، الاجتهاد والتقليد. وانفرد أيضاً في ذكره في هذا المقام وخالف الأصوليين في ذكرهم إيّاه في آخر الكتاب والمباحث الأصولية ثمّ ذكر دليل الانسداد، ثمّ المقصد الثالث وذكر فيه الأصول العملية الأربعة المعروفة وهي البراءة، والاحتياط، والتخيير، والاستصحاب. ثمّ ختم الكتاب بذكر بعض القواعد الفقهية التي تكون مقدمة على الاستصحاب كما هو ديدن الأصوليين في ذكرها في هذا الموضع.

([1]) يقال: لا يمكن فلاناً هذا الشيء. ولا يقال: لا يمكن له، لأنّ (أمكن) يتعدى بنفسه، ولكن شاع غلطاً تعديته باللام.

أمّا في التفسير فإنّ سيّدنا الإمام السبزواري قدس سره يكاد يكون هو الوحيد الذي جمع بين الفقه والأصول والتفسير بعد شيخ الطائفة الطوسي (رضوان الله عليه) في كتابه (البيان) فمن الحق أن يقال: إنّ الحوزة العلمية ابتدأت بالشيخ الطوسي فقيه الطائفة وختمت بحسب الظاهر بالسيّد السبزواري في تفسيره القيّم (مواهب الرحمن في تفسير القرآن)([1]) وامتاز هذا الكتاب بالعرض الحسن للمطالب والمواضيع، والأسلوب الممتع، والعبارات الجزلة ومن ميزات هذا التفسير المبارك أنّ السيّد المؤلف أدخل تغييراً كبيراً في علم التفسير من خلال هذا الكتاب بادخال مبحث جديد لم يكن معروفاً لدى المفسرين وهو البحث الدلالي الذي يبتني في استخراج دلالة الألفاظ المتعددة والرموز الخاصة بها. وشاء القدر أن يكون البحث الدلالي من المواضيع المهمة التي يبحث عنها علم اللغة عند الغربيين، وقد عقدوا له بحثاً مستقلاً في كتبهم ووضعوا فيه دراسات واهتموا به اهتماماً كبيراً، ولكن السيّد قدس سره ذكره في تفسير الآيات القرآنية التي تشتمل على أكثر من دلالة واحدة غير الدلالة الوضعية التي كان القدماء يعتمدون عليها ويهتمون بها غاية الاهتمام. كما إنّه قدس سره تفرد أيضاً في استخراج المعنى الأصلي من المعاني المتعددة التي يذكرونها للفظ واحد ويرجع بقية المعاني إلى ذلك المعنى الأصلي واعتبرها من الدواعي لا من أصل الوضع، وكان مجتهداً في هذا الموضوع يستنبط ممّا يذكره أهل اللغة وأصحاب المعجمات([2]) وبذلك يمكن أن يرجع أكثر الألفاظ المشتركة التي قالوا فيها بتعدد الوضع إلى متحد المعنى وهو رأي سديد، فريد من نوعه.

كما إنّ للسيّد قدس سره رأياً خاصّاً في الألفاظ المترادفة([3]) التي ذهب جمهور اللغويين وكثير من الأصوليين إلى أنّها موضوعة لمعنى واحد ولكن يختلف بحسب تعدد الدواعي وهي غير داخلة في الوضع قطعاً.

ومنهجيته في التفسير هو أن يذكر مقطعاً من الآيات الكريمة إمّا لأنّها تبين موضوعاً معيناً أو تتحد في الغرض ثمّ يذكر المعنى العام لها ويبين بإيجاز ما تشير إليه الآيات والغرض الرابط بينها، ثمّ يبين تفسير تلك الآيات من حيث اللفظ والدلالة الظاهرية التي تتصل بالألفاظ المفردة والتراكيب البلاغية. ويعرض ما ذكره المفسرون من أقوال فإن كانت صحيحة وإلا عقَب عليها بما تسمح المناقشة فيه من تلك الأقوال ثمّ يذكر البحوث التي ترتبط بتلك الآيات الكريمة في البحث الأدبي ويذكر فيها المباحث النحوية والبلاغية، والبحث الدلالي الذي يذكر فيه ما تدل عليه الآيات الكريمة بالدلالات الالتزامية والاشارات والرموز الصحيحة التي يقبلها العقل السليم والذوق الرفيع بحيث تعتبرها الفطرة المستقيمة من صلب دلالات الآية الشريفة، ثمّ البحث الروائي ويذكر فيه الأحاديث التي وردت في بيان الآيات ويعقب عليها بما يقتضيه المقام من البيان والتعقيب.

ثمّ البحث الفقهي إن كانت الآيات من آيات الأحكام ثمّ البحث الفلسفي إن كان في الآيات ما يشير إلى بحوث فلسفية أو مباحث كلامية أو بحث تأريخي أو بحث عرفاني وهو الذي تفوق فيه السيّد قدس سرهوأبدع غاية الإبداع، وأتى فيه بما تقر به الأعين وتقرط الأسماع حتّى شهد له بالإمامة فيه الأساطين والأكابر، ولم يتوقف في (إمامته) غير المكابر فهو (بإجماع من يعتد بإجماعهم) قطب رحاه، والفائز من جوهر معناه بلحمته وسداه، ولو رجع القارئ إلى ما كتبه الإمام السيّد السبزواري من البحوث العرفانية في (المواهب) لتحقق عنده مقدار ما وهب الله تعالى لهذا السيّد من (المواهب الرحمانية) والفيوض الربّانية فقد ذكر هذا (الإمام الموهوب) في (مواهبه) من أسرار العرفان ما يناغي الروح ويهز النفس ويشرح الصدر، ولذا كانت (هاتيك البحوث) مورد قبول المطالعين واستحسانهم ومن ثمّ تكرر طلبهم إلى السيّد قدس سره في أن يزيد في هذه البحوث العرفانية، فإنّها قلّما ذكرها أحد من العلماء والعرفانيين كما إنّها تختلف عمّا ذكره الصوفية في تفسيراتهم للآيات التي أبعدتها عن المعنى المقصود، بل ذكروا فيها ما لا يقبله العقل والفطرة المستقيمة… ثمّ يذكر بعض المباحث الأخرى كالبحث العلمي فيبين في هذه البحوث ما تشير إليه الآيات الكريمة ولم يذكر وجه الارتباط بين الآيات على ما ذكره في مقدمة التفسير من أنّ الآيات تشترك في هداية الإنسان وإرشاده إلى الحق القويم وتوجيهه إلى الكمال المنشود وبعد ذلك لا معنى لالتماس وجه الارتباط بين الآيات([4]).

كما لم يعتبر شأن النزول بعد أن كانت للآيات معان سامية وأمور كلّية تنطبق على مرّ الدهور وكر العصور فلا وجه لقصرها على ما ورد في شأن النزول، نعم يكون هو الفرد الحقيقي الجامع لما ورد في الآية الكريمة أي من باب الجري والتطبيق، وبذلك سلم من كثير من الإشكالات التي ذكروها في التفاسير.

وبالجملة فإنّ تفسير سيّدنا الأعظم الإمام السبزواري قدس سره من التفاسير الفائقة فيعرض الموضوع وبيانه وإيصاله إلى الافهام بأسلوب خاص بديع متميز يفيض منه العرفان والذوق العرفاني الذي عالج السيّد المؤلف المواضيع العلمية به، ولذا كان هذا التفسير موضع اهتمام العلماء وغيرهم وله التأثير البالغ في النفوس، وقد وصفه بعض الأجلاء بأنّه شعلة عرفانية تقدح في النفوس نار الوجد والمحبة لله تعالى.

هذه هي أهم مؤلفات السيّد قدس سره ومن مؤلفاته:

1) رسالة (جامع الأحكام الشرعية) التي احتوت فتاواه في الأحكام الالهية.

۲) (منهاج الصالحين) في جزأين: الأول في العبادات، والثاني في المعاملات.

3) رسالة (توضيح المسائل) بالفارسية.

٤) (مناسك الحج) جمع فيه مناسك الحج والعمرة.

5) رسائل أخرى متعددة تختص كلّ منها بموضوع خاص كرسالة (الدماء الثلاثة) التي تختص بالنساء، و(الطهارات الثلاث) و(الصلاة والصيام والحج والخمس والتقليد) وهي كراسات صغيرة تبين الأحكام الإلهية بأوجز عبارة وأحسن أسلوب.

([1]) ومن الطريف أن يكون (مواهب الرحمن في تفسير القرآن) اسماً لتفسير آخر كتبه أحد المعاصرين للسيّد السبزواري وهو العلامة الفقيه الشافعي الشيخ عبد الكريم المدرس الشهير بـ(بيارة) نزيل بغداد من مشايخنا في الإجازة عن الجمهور وولادة الشيخ المدرس كانت في سنة 1323 هـ وما زال حيّاً إلى هذه الغاية (1419) ومن قرأ التفسيرين عرف مكانة سيّدنا الإمام السبزواري قدس سره وإنّ الفرق بين التفسيرين كالفرق بين الثريا والثرى.

([2]) يستعمل كثير من الكتّاب (وفيهم من هم من خاصّة أهل العلم والأدب) لفظة (القواميس) بمعنى (المعجمات) اغتراراً بتسمية العلامة الفيروزآبادي معجمه اللغوي الشهير بـ(القاموس المحيط) وفاتهم أنّ (القاموس) اسم كتاب في اللغة بعينه وإنّما سمّاه بهذا الاسم تشبيهاً له بالبحر لأنّ من اسمائه (القاموس) فليس القاموس مرادفاً للمعجم وممن وقع لهم الاشتباه في عدم التمييز بينهما صاحب کتاب (قاموس الرجال) فتدبر.

([3]) أثبت جمهور اللغويين (الترادف في اللغة) وأنكره جماعة منهم أبو علي القالي صاحب (الأمالي) والمقام لا يسع البسط.

([4]) ليراجع النص في مقدمة التفسير.

فمنها: حواشيه على كتاب (جواهر الكلام) و(البحار) و(الوافي) ورسائل صغيرة ذكر فيها أسماء القواعد الفقهية وما ورد عن الأئمة علیهم السلام من الكليات التي يمكن أن يستفاد منها فروع متعددة، وبعض الفوائد التي تختص بعلم الرجال. ومن مؤلفاته أيضاً: (إفاضات الباري في نقض ما ألفه السبزواري)([1]) ناقش فيه بعض آراء الحكيم السبزواري وقد فقد هذا الكتاب في ظروف خاصّة. وقد جمعت أجوبته عن المسائل التي عرضت عليه في كتاب مستقل فجاء كتاباً نافعاً وقد حوى جملة من المسائل المستحدثة وأجوبتها من قبل السيّد قدس سره وسنذكر (مسألة) منها والجواب عنها في باب (نموذج من أجوبته عن المسائل المستحدثة) هذا هو الإمام السيّد السبزواري قدس سره في مؤلفاته وآثاره الخالدة التي يحق له (رضوان الله عليه) أن يخاطب كلّ كتاب منها بقول القائل:

كتابي سر في الأرض وأسلك فجاجها
فما بك من أكذوبة فأخافها
وخل عباد الله تتلوك ما تتلوا
وما بك من جهل فيزري بك الجهل

 

([1]) ولسيّدنا وأستاذنا الأول الامام السيّد محمّد علي الحسيني المشهور بـ(السيّد هبة الدين الشهرستاني قدس سره) مناقشات أيضا لآراء الحكيم السبزواري جمعها في كتاب وسمه بـ(فيض الباري وتكميل وتصحيح منظومة السبزواري) وعهدي إنّه لا يزال في قيد الخط.

الإمام السيّد السبزواري آية من آيات الله تعالى في (الفقاهة) كما هو آية في سائر العلوم الإسلامية والمعارف الالهية. وقد أحاط بمدارك الشرع الشريف إحاطة تامّة لا يضارعه إلا النزر اليسير من أعاظم المجتهدين إن لم نقل أنّه عديم المثيل في ذلك.

ولمّا كان الدين الإسلامي السامي خاتمة الأديان السماوية فقد تكفل بيان كل ما يحتاجه المسلم من مطالب تتصل بسلوكه وعباداته ومعاملاته إلى ان يرث الله الأرض ومن عليها، وتاسيسا على هذا فقد وضع (الكليات العامة) و (القواعد المستوعبة) التي تندرج تحتها (الفروع المتكثرة) و (المسائل المستحدثة ولا يتأتى تطبيق الفرع على الأصل في مثل هذه الفروع والمسائل إلا للفقيه البارع المحيط بكليات مسائل الشرع الشريف وجزئياته والحافظ للآثار المعصومية مع كفايته([1]) التامّة لاستكناه أسرار الكتاب العزيز وبراعته في استنباط الأحكام من مصادرها. وفيما يلي نموذج واحد من المسائل المستحدثة المعقدة وجواب السيّد عنها:

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة المولى الإمام السيّد السبزواري حفظه الله تعالى آمين.

بعد التحية ما هو الحكم الشرعي في السؤال التالي؟

في فرنسا تدهورت صحة رجل فأخذت زوجته لسبب من الأسباب وبالاتفاق معه من منيه وحفظته في ثلاجة طبية تحت اشراف الأطباء ثمّ توفي الزوج، وبعد مدة من وفاته في وقت وجدته الزوجة والأطباء مناسباً تمّ تلقيح بويضتها بحيامن الزوج المتوفي فكان أن حملت ووضعت مولوداً سوياً وطالبت بحق مولودها من إرث زوجها ورفع الأمر إلى القضاء الفرنسي فثار جدل حاد([2]) حول هذا الموضوع في المحاكم وقضاة الشرع وأختلفت آراء الفقهاء الفرنسيين وتباينت الاجتهادات، والمرجو من سماحتكم بيان موقف الشرع الحنيف في هذا الموضوع فإنّ الأمر من الأهمية بمكان لم تكن في غيره متّعنا الله وجميع المسلمين ببقائكم الشريف.

الدكتور محمّد صادق شريف

جواب سيّد المجتهدين الإمام السبزواري

باسمه([3]) تعالى

في مفروض السؤال إذا كانت الزوجة مؤتمنة ولم تتزوج بعد وفاة زوجها ولم يدخل بها أحد وكان المني محفوظاً ولم يشتبه بغيره يلحق المولود بالرجل المتوفى وأمّا الإرث فلا يرثه لأنّ المستفاد من الآيات المباركة والسنن المعصومية علیهم السلام أنّ الوارث لابدّ أن يكون موجوداً (حملاً كان أو وجوداً خارجياً) حال انتقال تركة المورث إلى الوارثين والمفروض أنّه لم يكن كل واحد منهما، فلا يرث لانتفاء الشرط، هذا إذا أريد تطبيق حكم الشرع والمبين عليهم وإلا فتتبع أحكامهم ونحن نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم والله العالم. وأسأله تعالى أن يوفقكم للعمل بالأحكام الشرعية والاجتناب عن المعاصي والعقائد الفاسدة إنّه ولي التوفيق.

5ع1/1411 هـ السبزواري

(مهذب الأحكام) ج 30 ص 358.

([1]) الكفاية هي القيام بالشيء على أتمّ وجه وأحسنه، ويغلط كثير من الكتّاب فيستعملون الكفاءة بمعنى الكفاية إذ الكفاءة هي المماثلة بين الشيئين، ومن ذلك (الكفاءة بين الزوجين) ومن هنا يظهر وجه الخطأ في قولهم: فلان من أصحاب الكفاءات، والصواب: من أصحاب الكفايات. و(كافي الكفاءة) من ألقاب (الصاحب بن عباد) الوزير العالم الاديب المشهور.

([2]) في أصل السؤال جدلاً حاداً.

([3]) ألف الوصل لا تحذف إلا في (البسملة الكاملة) ولهذا تثبت في مثل (باسمه تعالى)، وأمّا كتابتها بحذف ألف الوصل (بسمه) كما شاع فهو غلط مبين.

ممّا اتفق عليه أرباب النهى وأصففت عليه آراء الحكماء والعرفاء أنّ جهاد النفس هو المرتكز الأول لبلوغ الإنسان مرتبة (القرب) وفوزه بـ(مقام الرضا) اللذين لا ينالهما إلا من (خالف هواه وأطاع أمر مولاه) وهذا المعنى هو المعبر عنه بلسان الشرع الأقدس بـ(الجهاد الأكبر) وبتحقق هذا (الجهاد) في سيرة الفرد المسلم يخرج من أسر النفس البهيمية (الامارة بالسوء) إلى (سلطنة الروح) حيث السراط الأقوم صراط الذين أنعم الله تعالى عليهم بما هو أهله مما (لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال أحد) وإليه الاشارة بقوله عزّ من قائل: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). ومن أقباس هذه المشكاة استضاءت أرواح المجاهدين لأنفسهم في الأفعال والأقوال فكانت (المثل الأعلى) لكل من التمس (القدوة الصالحة) و(الأسوة الحسنة) ولا مشاحة في أنّ توطين النفس على مخالفة الهوى وإطاعة أوامر عالم السر والنجوى يحتاج إلى ترويض وجهاد متصلين، والموفق من أدرك بمخالفة هوى النفس غاية المنى وفاز بالسعادة الأبدية في الآخرة والأولى. ولله درّ الأديب البوصيري حيث يقول:

وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فإتهم

ولسيّد المجاهدين وقدوة العارفين الإمام السبزواري قدس سره كلام نفيس في (باب الجهاد) تلوح عليه أنوار الفيض الرباني وتغمره جلالة الافاضات القدسية يجد فيه المهتدي ضالته، فيغذ السير في (معارج الترقي الروحي) بتهذيب النفس وصقلها والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل. وقد جاء على اختصاره موفيا على الغاية بالغاً في استيفاء المعنى حدّ النهاية، ومن المناسب تزيين هذه السطور بذرو من ذلك (الدر المنثور) لتطيب به النفس وتنشرح الصدور. قال أعلى الله مقامه تحت عنوان (فصل في جهاد النفس) من موسوعته الكبرى (مهذب الأحكام) ج 15، ص ۲۰۲-۲۰۱ ما هذا لفظه: جميع ما يذكره الفقهاء في الجهاد مع الكفار والمشركين مقدمة من مقدمات تحقق الجهاد الأكبر، بل ما يذكر في أحكام العبادات والمعاملات من مقدماته أيضاً والعمل بها يكون من بعض مراتبه، قال أبو عبد الله علیه السلام في خبر السكوني:

إنّ النبي صلی الله علیه و آله بعث سرية، فلمّا رجعوا قال صلی الله علیه و آله: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. فقيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال صلی الله علیه و آله: جهاد النفس.

وقد ورد في الجهاد الأكبر في جميع الكتب السماوية خصوصاً القرآن الكريم ومن الأنبياء والأوصياء خصوصاً من خاتم النبيين صلی الله علیه و آله وأوصيائه المعصومين علیهم السلام ما لا يحصى ولا يستقصى.

ثمّ قال السيّد (رضوان الله عليه) عليقا على قول السيّد صاحب (العروة) من أنّ جهاد النفس هو أهم أقسام الجهاد ما نصّه: بل هو أهم شيء اعتنى به جميع الكتب السماوية خصوصاً القرآن المهيمن عليها وهو نتيجة دعوة كلّ الأنبياء والمرسلين ولا سيّما خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله وخلفائه المعصومين علیهم السلام إلى انقضاء العالم. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ). فإنّ المراد إمّا معرفة الواقعيات على ما هي عليها أو العبادة الحقّة المطابقة للواقع، وكلّ منهما متقومة بمجاهدة الكمالات الإنسانية النفس، وكيف لا يكون كذلك وفيها منطوية جميع الكمالات الإنسانية المعدة له وبه يصير الإنسان عالماً عقلياً مضاهياً للعالم الحسّي بل أرفع منه من كلّ جهة، بل يصير الإنسان أجلى مظهر للقدرة الإلهية غير المتناهية فيوجد ما يشاء ويخلق ما يريد وبه يصير مسلطاً على ملكوت الغيب فضلاً عن عالم الشهادة. وبه تنقاد له الموجودات فيغيرها من صورة إلى أخرى، ويتصرف فيها بما يشاء ويصير عالم الشهادة بين يديه كفلقة الجوزة بين يدي أحدنا، وبه يقدر على إخماد نار الجحيم، ففي الآثار المعصومية علیهم السلام: إذا عبر المؤمن على السراط تناديه نار جهنم: (جز يا مؤمن فإنّ نورك قد أطفأ لهبي). إلى غير ذلك ممّا ورد في شأن هذا المقام العظيم الذي لا تدرك العقول منه إلا شيئاً يسيراً فالعلم به حالي لا أن يكون مقالياً لنهاية جلاله وعظمته، وقد أشار إلى بعضها نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله بقوله: لي مع الله حالات لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل. أو قوله صلی الله علیه و آله([1]): أبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني.

ومن أهم مقدمات هذا الجهاد معرفة النفس الإنسانية أولاً ولو في الجملة، لأنّ معرفتها بالكنه غير ميسرة لأحد إلا لمن خلقها([2]) وقد كتبوا في ذلك كتباً كثيرة من المسلمين وغيرهم، وجاهدوا في معرفتها حق الجهاد ولكن لم يصلوا إلى حق المعرفة، وكلّ من أتى بشيء في بيانه إنّما أتى به بمقدار فهمه لا بقدر الواقع. ولعلّ أقربها إلى الثواب([3]) ما عن بعض العارفين من أنّه: (لو فرض تجلي الذات الأقدس الربوبي في صورة الممكنات لا ينجلي إلا في حقيقة النفس الإنسانية، ولو فرض وصول ممكن إلى حضرة المرتبة الأحدية لا يصل إليها إلا النفس الإنسانية ولعلّه إلى هذا أشار الحكيم السبزواري حيث يقول:

وإنّها بحت وجود ظل حق عندي وذا فوق التجرد انطلق

ولكن كلّ ذلك إشارة إلى بيان الآثار ومن شرح الاسم لا أن يكون بياناً للحقيقة، فسبحان من تحير ذوو العقول في فهم خلق من خلائقه فكيف بذاته؟! وعلى أي حال هذه المرتبة التي تحيرت عقول الحكماء والعرفاء في دركها لا تحصل إلا بالمجاهدات النفسانية وبالجهاد الأكبر الذي هو أشرف مقامات النفس وبه يفضل على الملائكة الكروبيين. ولا ريب في أنّ هذا ليس نصيب كلّ عامي وبدوي، وكل من يدّعي الإنسانية بل هو مقام يتفضل به الله تعالى على من يشاء من عباده بعد طول المجاهدة والسعي بقدر الطاقة البشرية. ولهذه المجاهدات مراتب كثيرة منها ما قاله أبو عبد الله علیه السلام: (من ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب وإذا اشتهى وإذا غضب وإذا رضي فقد حرّم جسده على النار) انتهى كلامه الشريف قدس سره.

وأقول: إنّ من يقرأ كلامه أعلى الله في دار المقامة مقامه لا يسعه إلا أن يشهد لهذا الإمام العارف المتأله بكمال الدرجات وعلو المقامات في عالم المجاهدات فإنّه رضوان الله عليه بما كتبه إنّما يشير إلى نفسه باللمحة الدالة والتعريض اللطيف الذي يفهمه من رزقه الله تبارك وتعالى سلامة الذوق وزيادة الفطنة والانسة بكلام أئمة العارفين وسادات المجاهدين فإنّهم ما كانوا يصرحون بما هم عليه من تلك (الأحوال) المستغرقة بالمجاهدة في الوصول إلى ساحة القرب من الواحد المتعال. ولم يكونوا في التزام هذه الطريقة بدعاً من الأنبياء والأئمة الطاهرين علیهم السلام فهم على سننهم سائرون وبسننهم([4]) مقتدون (أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده).

([1]) شاع في العصور المتأخرة كتابة الصلاة على النبي صلی الله علیه و آله اختصاراً بحرف (ص) والسلام على الأئمة علیهم السلام بحرف (ع) وهذا خلاف المشروع فإنّ حرف (الصاد) غير مجز في إفادة معنى الصلاة والسلام على سيّد الأنام ومثله حرف (العين) في عدم الإجراء، والمقام لا يسع التفصيل ومن طريف ما قرأته في بعض مؤلفات الأصحاب قدّست أسرارهم وأظنّه الشهيد الثاني أنّ أوّل من كتب (صلعم) في اختصار الصلاة على النبي صلی الله علیه و آله قطعت يده. والله المستعان.

([2]) يعني المعرفة الحقيقية على النحو الاستغراقي لعظيم آثار قدرته واستجلاء مظاهر عظمته دون ذاته. فلا تعارض في ذلك ما ورد في الأثر، (من عرف نفسه فقد عرف ربه). وقد شرح هذا الحديث الشريف جماعة من الأعلام منهم العلامة الفقيه السيّد عبد الله بن السيّد رضا آل شبر الحسيني الكاظمي قدس سره.

([3]) كذا ورد في الأصل المطبوع. ولعلّ الصواب: (أقربها إلى الصواب).

([4]) الأولى بفتح السين والثانية بضمها.

النصيحة للمسلم من الواجبات المقررة في شريعتنا المطهرة، وقد تظافرت الآيات والأحاديث المعصومية وأقوال الحكماء والمصلحين على كون النصيحة من مقومات (المجتمع الإسلامي) فالتناصح بين المسلمين هو الكفيل باصلاح أحوالهم وتكميل آدابهم والبلوغ بهم إلى شاطئ الأمان والسلامة في دينهم ودنياهم ولهذا ورد في الأثر عن سيّد البشر صلی الله علیه و آله: الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال صلی الله علیه و آله: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم.

ونصيحة المسلم للمسلم كاشفة عن حقيقة اخلاصه وكمال معرفته بما يجب عليه وما يحق له. والقيام بها أداء لبعض ما افترض الله تعالى عليه من الأعمال الواجبة بالأدلة السمعية والعقلية، إلا أنّها من العالم الرباني أوقع أثراً، وأينع ثمراً كما قام عليه الدليل والبرهان، وشهد به الحس والعيان.

ويأتي سيّدنا الإمام السبزواري قدس سره في مقدمة أولئك الأئمة الربانيين الذين قاموا بواجب النصيحة حق القيام، فإنّه طيّب الله ثراه لم يدخر وسعاً، ولم يأل جهداً في بذل النصح والتوجيه لكلّ أظلته خيمة الإسلام وخفق عليه لواؤه الميمون إنّ في تضاعيف مؤلفاته أو في مجالس درسه، أو في مجالسه العامّة والخاصّة أو في بيته، كلّ هذه المقامات تشهد له بأنّه سيّد الناصحين، وقدوة المرشدين، وصفوة الواعظين المتعظين. وقد عرف عنه وشاع حتّى ملأ الأسماع إنّه (رضوان الله عليه) كان كثير النصح لجلسائه وأهله وذوي رحمه([1])، لا يحرمهم مما تعلمه من أساتذته الكرام في العرفان ولكنّه لا يمنحها إلا لمن يراه موضعاً للاستفادة منها. فقد كان ينصح لأولاده([2]) بأداء الصلاة في أول أوقاتها لما في ذلك من الأثر الكبير في التوفيق الذي هو أساس كلّ فضيلة ومكرمة، كما كان ينصح لهم بقراءة القرآن ولو ورقة واحدة حتّى لا يكونوا تاركين له بالكلية لما في قراءته من الأثر البالغ في تنوير القلوب كما كان ينصح لهم أيضاً بالمداومة على النوافل ويقول إنّها تمنحهم الصبر على الطاعة وترفع درجتهم بسببها. ومن نصائحه قدس سره أنّ كلّ من نوى أمراً فالله تعالى (الذي يعلم السر وما يخفی) مطلع عليه فلابدّ أن ينوي الخير حتّى يجني الثواب عليه وإذا أظهره الله للملأ يكون في أبهى صورة فلا يخجل العبد ممّا نواه. وكان طيّب الله رمسه ينصح لأهل العلم بمداومة المطالعة والتفقه في الدين فإنّ المطلوب منهم عند الناس هو التفقه، فلا يرجعوا جهالاً بعد برهة من الزمن امتثالاً لقوله صلی الله علیه و آله: لا يزال الرجل عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنّه قد علم فقد جهل. وإن يصرفوا هممهم في كسب المكارم والاعراض عن الدنيا حتّى تؤثر أقوالهم وأفعالهم في القلوب ويكونوا في مأمن من المكر الالهي في الدنيا والآخرة. وكان يوصيهم بالورع والتقوى ثمّ التفقه فإنّه لا ينال أحكام الله تعالى إلا بالتشبه بأخلاق الله والتخلي عمّا يبغضه جل جلاله والتجربة أكبر شاهد على صدق ما قاله (رضوان الله عليه). وكان يأمر أهل العلم أيضاً بالمراقبة لأقوالهم وأفعالهم حتّى لا يجدهم الله تعالى في غير طاعته، ولذا كان ينصح لهم بالسكون إلا في موضع الحاجة، ولم يكن قدس سره ينصح غيره بأمر إلا إذا تحلى به إن كان فضيلة أو اجتنبه إن كان رذيلة. ومن ثمّ تعلم أنّ السيّد (رضوان الله عليه) كان مربياً ناصحاً ومرشداً مخلصاً. أحبته القلوب ورأت الناس في شخصه الكريم شخصية أجداده الطاهرين علیهم السلام فكانوا يبكون عند رؤيته ويقولون أحببناه كما أحببنا علياً علیه السلام.

وقد ذكر أحد وكلائه في إحدى زيارته إيّاه في بيته أنّه كان وكيلاً لأكثر من مرجع واحد مدة مديدة إلا أنّ السيّد يختلف عن الآخرين فما ذكرته في مجلس (يقول ذلك الوكيل) إلا وبكى الناس عند سماع اسمه ويقولون: وقع في قلوبنا قبل رؤيتهم إيّاه، وهذه خاصية اختص بها السيّد السبزواري قدس سره وامتاز بها من غيره([3]) من العلماء والمراجع قدّس الله أسرارهم.

([1]) (ذو) و (ذوو) لا يضافان إلى الضمير وإنّما يضافان إلى الاسم الظاهر، فلا يقال: لا يعرف الفضل إلا ذووه بل يقال: لا يعرف الفضل إلا ذوو الفضل. فاغتنم.

([2]) الفعل (نصح) يتعدى بـ(اللام) في فصيح الكلام، وأمّا تعديته بنفسه فليست من الفصاحة بشيء ولا عبرة بالشائع.

([3]) امتاز من غيره، وليس عن غيره، كما شاع على اسلات الأقلام والسنة الخواص بله العوام.

الكرامة هي ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص غير مقارن بدعوى النبوة، فما لا يكون مقروناً بالإيمان والعمل الصالح يكون استدراجاً (والعياذ بالله) وإليه الإشارة بقوله تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) وما يكون مقروناً بدعوى النبوة يكون معجزة كما أفاده غير واحد من المحققين ومنهم السيّد الشريف الجرجاني في (التعريفات). والكرامات لأصحاب المقامات ممّا ثبت في الشرع الإسلامي المنيف وتظافرت بل تواترت الآيات والأحاديث على وقوعها ولم يخالف في ذلك أحد من أهل القبلة إلا شرذمة لا يعبأ بخلافهم ولا ينخرم إجماع الأمة بخروجهم. كيف وقد نطق الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بوقوع الكرامة بما لا يقبل التأويل ولا تحوم حوله شبهة الاحتمال في قصة عرش بلقيس([1]) الذي أتى به آصف بن برخيا (ولم يكن نبياً) من اليمن إلى بلاد فلسطين قبل أن يرتد طرف سليمان على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام على ما عبّر عنه القرآن الكريم في سورة النمل (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي…) وقد اجمع محققوا الفريقين على أنّ ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، وإنّ سيّدنا الإمام السبزواري قدس سره من كبار الأولياء وأعاظم العرفاء وقد خصّه الله تعالى بالكرامات الكثيرة وإنّ من أعظم كراماته هو (استقامته) على النهج القويم واقتداؤه بسيرة أجداده الأئمة اللهاميم عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وقد ورد في بعض الآثار: (الاستقامة خير من ألف كرامة) لأنّ الاستقامة أمر شاق دون تحقيقه خرط القتاد ومناط الثريا من مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء والتخلص من أوظار العلائق الدنيوية والتشبه بالأخلاق القدسية ومن هنا ورد عن سيّد أرباب المعاجز والكرامات صلی الله علیه و آله أنّه قال: (شيّبتني هود وأخواتها) قالوا ما شيّبك منها يا رسول الله؟ قال صلی الله علیه و آله قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ) ومن الآيات الدالة على أنّ الاستقامة داخلة في باب (الكرامة) دخولاً أولياً بنحو الاشارة على مشرب أهل العرفان قوله تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) والاسترسال في تفصيل هذه الجملة قد يخرجنا عن الصدد فلنرجع إلى سائر([2]) كرامات سيّدنا الإمام طيّب الله رمسه وقد سارت بها الركبان وما فتئت ورد كلّ لسان ورواها الثقات([3]) الأماثل حتّى بلغت مبلغ التواتر مع صدق الناقل ولم ينقل عن سائر الأعلام والمراجع ما نقل عنه من الكرامات فقد منحه الله تعالى منها الكثير والطيب وانهمرت بركاتها عليه كالسحاب الصيب، وكيف لا يكون بهذه المثابة، وهو سيّد أهل العرفان الصادق (في هذا العصر) وقدوة أهل القلوب السليمة وأصحاب الإنابة؟ وهي من الكثرة بالنحو الذي لا يحاط به ولا يوقف له على حد ونحن في هذا المقام نختار منها ما يكون كالغرة الشادخة في ثنايا هذه الطروس، لتطيب به الخواطر وتغتبط النفوس فمن ذلك ما نقله بعض الثقات من أنّ جماعة من المؤمنين الأخيار قصدوا دار السيّد قدس سره بعد انفضاض الناس من أداء فريضة الحج المباركة وقدموا له التهاني والتبريكات بمناسبة رجوعه من بيت الله الحرام وتوفيق الله إيّاه بالوقوف في تلك العرصات الشريفة فشكر لهم([4]) ولم يعترض بشيء مع أنّ السيّد (رضوان الله عليه) لم يكن قد حجّ في ذلك العام. ولمّا خرجوا من داره سأله بعض خواصّه عن السبب في عدم بيان الأمر الواقع فأجابه السيّد بأنّ الله تعالى قد وكّل عن كلّ عبد صالح مطيع ملكاً يحج عنه كلّ عام كما ورد في أخبار المعصومين علیهم السلام ثمّ أمره بأن يكتم ما سمعه حال حياة السيّد فامتثل أمره ولم يخبر به إلا بعد انتقال السيّد إلى الرفيق الأعلى ومنها أنّه حدثت في الحوزة العلمية في النجف الأشرف مشكلة كبيرة لم يسلم منها حتّى العلماء وقد كان السيّد قدس سره يؤدي الصلاة جماعة في مسجده وبعد أن انهى الصلاة وخرج من المسجد أخبروه بالخبر الفظيع فلم يبال بما قالوه وخرج وهو يردد على لسانه أذكاراً وأوراداً خاصّة وسار بين جمعهم فلم يعرض له ما عرض لغيره فكانت سلامة السيّد (رضوان الله عليه) مثار تعجب الناس وإكبارهم إيّاه.

ومنها أنّه خرج زائراً أحد العلماء وقد كان العالم المذكور في حالة يصعب معها الوصول إليه، والزائر له يلاقي الألاقي دون الحضور لديه مع ما كان عليه ذلك العالم من التعب والمشقة فلم يمكن أن يدخل عليه أحد لكن السيّد قدس سره دخل عليه من حيث لا يمكن تصور إمكان الدخول عليه في ذلك الوقت الحرج حتّى تعجب منه ذلك الشخص ولم يصدق ما حدث.

ومنها أنّه التمس منه أحد المرضى المبتلين بمرض الفقرات أن يدعو له فوضع السيّد يده الشريفة على ظهر المريض فبرأ من مرضه ولا يزال حياً يرزق وفي صحة جيدة يغبط عليها بعد معاناته المستديمة من ذلك المرض.

ومنها دعاؤه المستجاب للذين كانوا يلتمسون منه الدعاء لهم. وقد أخبر بعضهم أنّه التمس من السيّد أن يدعوا له بأن يلهمه الله تعالى قوة الحفظ فوضع يده المباركة على رأسه ومن ذلك اليوم لم ينس ذلك الرجل شيئاً ممّا تعلمه هو الآن أحد الخطباء، ولا يزال هذا الرجل يذكر تلك الكرامة إن استوجب الحال ذكرها.

ومنها أنّ امرأة مريضة قصدت قبره واخذت من ترابه فوضعته على موضع الألم فشفيت من مرضها، وكانت تلك المرأة تعطي الناس من تلك التربة لقضاء حوائجهم وشفاء مرضهم.

ومنها أنّه كان في طريق الحج في إحدى السنين مع (حملة) الحاج السيّد اسماعيل حبل المتين وكانت (القافلة)([5]) تسير على طريق (عرعر) فتاهت في الصحراء، ونفد([6]) الماء عندهم وحشرت السيارات في الرمال حتّى بلغ اليأس بهم أنّ حفر كلّ واحد من الحجاج حفرة في الرمال صغيرة لتكون قبراً له وضجوا بالدعاء والتوسل، أمّا هو قدس سره فابتعد قليلاً عن الجمع، وصلّى صلاة جعفر الطيار علیه السلام وكان يحبها ويلتزم بها في طلب حوائجه من الله تعالى وكم قضى الله تعالى له حاجات متعسرة بفضلها وبركتها وأخذ يتوسل بالحجة علیه السلام وإذا برجلين أو ثلاثة قد أقبلوا وملؤوا لهم قربهم وأرشدوهم إلى الطريق ثمّ بعد ذلك خرجت السيارات من الرمل بدفعها قليلاً، ولم يشاهدوهم بعد ذلك.

ومنها أنّه في إحدى سني الحج أيضاً أضاع بعض حوائجه وجواز السفر وماله كلّه وكانت ملفوفة بقماش، فذهب إلى بيت الله الحرام وصلّى صلاة الحبوة وتوسل إلى الله تعالى طلباً لها بعد حيرة شديدة في ساعات عصيبة، لأنّه لا يستطيع سؤال أحد تصونا وحياءاً وإن كان في أحرج الأوقات وإذا بشاب نوراني قد أقبل عليه قائلاً: السيّد عبد الأعلى هذا ما تبحث عنه، وأعطاه ذلك القماش الملفوف على تلك الحوائج وعندما انتبه السيّد قدس سره من تلك المفاجأة لم ير للشخص المذكور عيناً ولا أثراً.

ومنها أنّه أصيب بمرض القلب في إحدى سني عمره الشريف وكان الذي يباشر معالجته الدكتور موسى سعيد الأسدي الذي أتى به الحجة السيّد محمّد كلانتر (عميد جامعة النجف الدينية) لغرض فحص السيّد (رضوان الله عليه) بعد رفضه مراجعة الأطباء، فطلب منه الدكتور الذهاب إلى المستشفى للرقود فيه والعلاج، لأنّ حالته كانت خطرة. فتوسل السيّد بجده الإمام الصادق علیه السلام ونوى إن ألبسه الله ثوب العافية من هذا المرض أن يكتب دورة فقهية كاملة… وإذا به يقوم في الليلة نفسها من نومه معافى لا يشكو من شيء ثم ذهب إلى مسجد السهلة بعد منتصف الليل مع إلحاح أهله بعدم الذهاب خوفاً على صحته لكنّه كان مصراً على الذهاب وكان له ما أراد.

فتعجب الدكتور بعد فحصه أيّما تعجب عندما ظهر له أنّه قد شفي تماماً. وعلم أنّ الأمر ليس عادياً جزماً وأخبرهم بهذا فشرع السيّد قدس سره في كتابة دورته الفقهية (مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام).

ومنها: أنّه كان يقول: كانت تنكشف لي بعض الحقائق في مرحلة من عمري ولا يبين نوعها كما هي عادته.

ومنها: أنّ أحد المؤمنين رآه في المنام وهو في أحسن حال وطلب منه أن يبين له ما جرى عليه في الليلة الأولى من دفنه. فقال: كنت جالساً في غرفتي([7]) فدخل أمير المؤمنين علیه السلام وكانت مؤلفاتي حولي فأخذ واحداً منها فورقه وتصفحه فقال: نعم ما كتبت. وذكر هذا الشخص أنّه قال للسيّد قدس سره: إذا سألني أحد عن كتبك ومؤلفاتك أنّها مرضية عند الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فقال: إنّ أمير المؤمنين علیه السلام قال: إنّها حسنة.

ومنها: أنّ أحد العرفاء رأى في المنام في الليلة التي توفي السيّد في صباحها أن رسول الله صلی الله علیه و آله متوجه إلى المدينة المنورة ومعه السيّد قدس سره فاضطرب في منامه وفي ظهر ذلك اليوم أخبر أنّ السيّد توفي صباحه.

ومما نقله لي بعض الثقات أنّ السيّد (رضوان الله عليه) سكن في أوائل دخوله النجف الأشرف في احدى المدارس الدينية (وهو يومئذ في سن الشباب من عمره الشريف) ولم يكن يومئذ يعرب عن نفسه ويظهر فضيلته بل كان ملتزماً بالصمت مع مراجعة دروسه وفي يوم من الأيام حصل نزاع بين جماعة من أهل العلم في مسألة عويصة جداً لا يتأتى كشف الغطاء عن جوابها السديد إلا للعالم المتبحر المحيط بأقوال الفقهاء والمجتهدين وإذا بالسيّد ينبري لهم ببيان الوجوه التي يمكن على ضوئها فك معضلات تلك المسألة ثمّ يعرض لهم أقوال العلماء فيها مقوياً ومضعفاً على قواعد كبار الفقهاء والاصوليين فأخذ العجب كلّ مأخذ وعدّوا جواب السيّد من باب الكرامات.

([1]) بلقيس: بكسر الباء لا بفتحها. ومما ينطق به الناس مفتوحاً وهو مكسور: بطيخ، وخانقين (بكسر النون).

([2]) قال الحريري في كتابه (درة الغواص في أوهام الخواص) ما لفظه على ما يخطر بالبال: (فمن أغلاطهم الواضحة وأوهامهم الواضحة أنّهم يقولون: قدم سائر الحاج، واستوفي سائر الخراج، فيستعملون سائراً بمعنى الجميع وهي في كلام العرب: الباقي، ومنه قيل لما يبقى في الاناء سؤر) وقد أجاز بعضهم ما منعه الحريري برد (سائر) إلى (سور) وليس بشيء.

([3]) الثقات بكسر الثاء ولكن كثيراً من الناس (ومنهم الأدباء والكتاب) ينطقونها بضم الثاء وهو غلط واضح. ومنهم من يكتبها بالتاء المربوطة (ثقاة) وهو غلط لأنّ التاء فيها أصلية.

([4]) الفعل (شكر) يتعدى باللام على الفصيح، وتعديته بفنه وإن جازت لكنّها خلاف الفصيح.

([5]) القافلة في اللغة: الراجعة من القفول. وتسمية (جماعة المسافرين) بـ(القافلة) مبنية على التفاؤل بسلامة المسافرين في العودة، وإلا فتسميتها مطلقاً بالقافلة من غير هذا اللحاط ليست بصحيحة.

([6]) نفد: بفتح النون وكسر الفاء وبالدال المهملة: انتهى. وينطق بها كثير من الناس: نفذ بفتح النون والفاء والذال المعجمة وهو غلط فاحش.

([7]) الغرفة ما كان في مرتفع من الأرض وأمّا الحجرة فلا تكون إلا على الأرض الوطيئة، ولذا يقال لما في الطابق الأعلى من الدار: غرف أو غرفات ولما كان في الطابق الاسفل: حجر أو حجرات.

السفر ظاهرة اجتماعية معروفة منذ أقدم الأزمان والمقتضي له يختلف باختلاف النيّات والمقاصد فتارة يكون لكسب الرزق واخرى لطلب العلم وثالثها لنشر أحكام الله تعالى وتبليغ أوامره ومرة للتفسح والاطلاع على أحوال البلدان والشعوب وهلم جرا. وقد وردت آثار في مدحه وأخرى في ذمّه وممّا ورد في مدحه البيتان المشهوران المنسوبان إلى أمير المؤمنين علیه السلام (وليسا له):

تغرب عن الأوطان في طلب العلا
تفرج هم واكتساب معيشة
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
وعلم وآداب وصحبة ماجد

وفي الأثر: (سافروا تغنموا وتصحوا) وفوق هذا وذاك قول الحق سبحانه: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ).

وفي بعض الكتب السماوية (ابن آدم جدد سفراً أجدد لك رزقاً).

وقالت الحكماء: إنّ السفر أحد أسباب المعاش التي بها قوامه وعليها نظامه لأنّ الله تعالى لم يجمع منافع الدنيا في أرض بل فرّقها وأحوج بعضها إلى بعض ومن فضله أنّ صاحبه يرى عجائب الأمصار وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار ما يزيده علماً ويفيده فهماً بقدرة الله وحكمته، ويدعوه إلى شكر نعمته، ويسمع العجائب، ويكسب التجارب، والسفر يفتح المذاهب، ويجلب المكاسب، ويشد الأبدان، وينشط الكسلان، ويسلي الثكلان، ويطرد الأسقام، ويشهي الطعام، ويحيط سورة الكبر، ويبعث على طلب الذكر. ربما اسفر السفر عن الظفر، وتعذر في الوطن قضاء الوطر وممّا ورد في ذمّه: (إنّ المسافر وماله لعلى قلت([1]) إلا ما وقى الله) وقيل لبعضهم: إنّ السفر قطعة من العذاب، فقال: بل العذاب قطعة من السفر([2]).

و(القدر المتيقن) من (السفر المحمود) هو ما كان لله تعالى فيه رضا وللمسافر أجر وثواب وصلاح ويدخل تحت هذا العنوان: السفر من أجل طلب العلم أو زيارة البيت الحرام أو أحد المشاهد المشرفة أو كسب الرزق الحلال لصون النفس من موارد المال الحرام أو صلة الرحم أو نشر الأحكام الالهية وإصلاح ذات البين وما في معناها. وقد كان سيّدنا الإمام السبزواري (رضوان الله عليه) قليل الأسفار مشغولاً بتكميل نفسه بالكمالات العلمية والعملية. وأول أسفاره هو هجرته لطلب العلم من مدينة سبزوار (مسقط رأسه) إلى مدينة مشهد المقدسة في سنة 1342 هـ ثمّ هاجر منها إلى مدينة النجف الاشرف في سنة 1348 هـ وألقى فيها عصى التسيار إلى أن توفاه الله عزّ وجلّ. كما أنّه وفق إلى السفر إلى بيت الله الحرام زيارة قبر سيّد الانام وأئمة البقيع علیهم السلام ثلاث مرّات، وكانت أسفاراً روحانية استفاد منها وكشفت له بعض الحقائق التي لم يصرح بها وقد مرّ عليك في باب (كراماته) بعض ما حصل له من التوفيقات وقد أورد هذه الحادثة في تفسيره القيّم (مواهب الرحمن) ج3 في تفسير آية الكرسي. كما حصل له في إحدى سفراته إلى حج البيت الحرام كرامة عجيبة وقد ذكرناها بإيجاز كما رويت لنا عن طريق الثقات في باب (الكرمات) أيضاً. وسافر السيّد أيضاً إلى مسقط رأسه (سبزوار) بعد وفاة والده العلامة الحجة السيّد علي رضا السبزواري الافقهي لترتيب بعض الأمور التي استحدثت بعد وفاة والده الحجة قدس سره، حيث أنّه كان متولياً لأوقاف خاصة منصوص التولية، أمّا لخصوص الجامع الذي كان يصلي فيه وهو مسجد (بامنار) الذي يعود انشاؤه إلى أكثر من 600 سنة ويعد الآن من الأماكن الأثرية في إيران ولا سيّما مأذنته التأريخية المائلة فأوكل أخاه المعظم الحجة السيّد فخر الدين الأفقهي السبزواري في إدارة تلك الوقاف وبعد زيارته لمشهد الرضا علیه السلام مستذكراً تلك الأيام التي كان يطلب فيها العلم في تلك البلدة المباركة قفل راجعاً إلى كعبة العلم ومدينة التقى النجف الأشرف متوطناً فيها إلى أن وافاه الأجل المحتوم فاختاره الله إلى جواره.

([1]) القلت بفتح القاف واللام: الهلاك.

([2]) اليواقيت للثعالبي ص ۳۱۲.

دأب علماء المسلمين من الفريقين على رواية الحديث بطرقه المتداولة بين علماء هذا الفن والغرض المطلوب من التزامهم بهذه الطريقة هو التشرف بانتظامهم في سلك رواة حديث النبي صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومين من عترته الميامين علیهم السلام بالنسبة إلى الشيعة الإمامية، والانتساب إلى رواة حديث النبي وأصحابه أكتعين أبصعين بالنسبة إلى غيرهم من المذاهب الإسلامية. وطرق التحمل مفصلة في كتب (الدراية والرواية) فلا داعي إلى التفصيل. لكن الذي لابدّ أن يذكر (هنا) هو أنّ الإجازة برواية الحديث في العصور المتأخرة إنّما تعطى وتؤخذ على نحو التبرك والتيمن ليس إلا. وناهيك بهما، فما عن بعض المعاصرين دام ظلّه من عدم القائل بتداول الإجازة في الحديث ليس بسديد.

ولسيّدنا الإمام السبزواري قدس سره إجازات في الرواية وكلّها شفهية من أساتذته ومشايخه في الإسناد وهم الآيات العظام: الشيخ عباس بن محمّد رضا القمي صاحب (الكنى والألقاب) و(سفينة البحار) و(مفاتيح الجنان) وغيرها، والشيخ أغا بزرك الطهراني، والشيخ علي أكبر النهاوندي والشيخ عبد الله المامقاني (قدّس الله أسرارهم)، ومشايخه في الاستناد وهم الآيات العظام: السيّد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني والشيخ محمّد حسين النائيني، والشيخ أغا ضياء العراقي، والشيخ محمّد حسين الاصفهاني رضوان الله عليهم أجمعين.

([1]) المشايخ (بالياء) لأصالتها، ولا يقال: المشائخ (بالهمز) ومن طريف التورية قول أحد الأدباء الظرفاء: لا تهمز المشايخ.

للعرفاء منهج خاص وسلوك معين أخذوا أنفسهم بالتزامه تاركين لغيرهم المنهج الذي يختارونه على الوجه الذي يخدمون به الإسلام والمسلمين، إذا لم يكن همهم (أي العرفاء) في تكوين مشروع أكثر من تكميل أنفسهم ليكونوا مربين لغيرهم وإذا صدر مشروع من أحدهم كان ذلك أمراً عرضياً ولم يكن مورد طلبهم الأول، والسيّد الإمام السبزواري قدس سره من هؤلاء العرفانيين الذين تفانوا في التزكية والتربية والتعليم حتّى صاروا ربانيين فقد كان عليه الرضوان في الدرجة الأولى مربياً أكثر من كونه صاحب مشروع. ولاثبات ذلك نذكر مثلاً واحداً من الأمثلة الكثيرة التي اقتبسناها من سيرة حياته المباركة، فقد كان يدرس خارج الفقه والأصول في الجامع الواقع في أحد أزقة الحويش في النجف الأشرف لا يعلم بحاله إلا الله تعالى، إذ لم يكن الجامع المذكور في محل تقع عليه الأنظار ومع ذلك كان يحضر درسه نخبة من الأفاضل وكان يلقي محاضراته ويختبر بها طلابه ويعلمهم أنّه لا يريد من ذلك إلا وجه الله تعالى ورضاه.

فكان يفعل أمراً فيه الاختبار لنفسه وللآخرين، فلم يبق من بعد ذلك إلا من كان مخلصاً في عمله وقليل من الناس من يفعل ذلك ويحرم نفسه من بعض الأمور المباحة، وهذا هو شأن العلماء العرفاء إلا أنّ له مشروعاً واحداً هو جامعه الكبير الذي يعد من أضخم الجوامع في النجف الأشرف وفي الجانب المطل على الطريق يقع مرقده الشريف حيث يؤمه المؤمنون لقراءة الفاتحة والتبرك وأداء الصلاة في جامعه.

كان الإمام السيّد السبزواري قدس سره مقلداً منذ سنة 1380 هـ([1]) أي بعد وفاة المرجع العظيم السيّد أغا حسين الطباطبائي البروجردي قدس سره فرجع إليه في التقليد جماعة من المؤمنين في العراق وإيران ولا سيّما مدينته سبزوار وطبع رسالته العلمية باللغة الفارسية بعد عام من وفاة السيّد البروجردي ثمّ اتسعت دائرة تقليده وازداد المقلدون بعد وفاة السيّد الحكيم قدس سره في سنة 1390 هـ وأصبح له مقلدون غير أولئك وطبع رسالته العملية باللغة العربية الموسومة بـ(منهاج الصالحين) بعد التماس الناس منه، ثمّ ازداد المقلدون كثيراً فطلب منه أن يؤلف رسالة وجيزة في الأحكام الشرعية فطبع رسالته (جامع الأحكام الشرعية).

وبعد وفاة السيّد الخوئي سنة 1413 هـ رجع إليه الناس في كثير من الأقطار مثل العراق وإيران والخليج وشيعة باكستان والهند والشيعة القاطنون في الدول العربية فأصبحت مرجعيته عامّة، على أنّه قدس سره (وهو صاحب تلك الروح العرفانية العالية) لم يتصد لها وكانت عزلته وحرصه على الابتعاد عن الأضواء مشهودين إذ لم يكن دأبه وجهاده إلا في الزهد والعزوف عن زخارف الدنيا وزبرجها البراق، ولو كان يرغب في الزعامة الدينية لكان له شأن آخر قبل هذا الأوان بأمد بعيد فإنّ فضله كان مشهوراً، واجتهاده معلوماً كالشمس في رابعة النهار:

وكيف يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

وورعه وتقواه يشار إليهما بالبنان، وقد ضرب (إمام العارفين) و(قدوة الزاهدين) أروع مثال في العصور الأخيرة في الابتعاد عن هذه الزعامة التي كان يقول عنها: إنّ عبئها ثقيل في الدنيا والآخرة، ولذا لم يكن لأحد حق عليه في إثبات المرجعية له بل الناس بفطرتهم كانوا يرجعون إليه في التقليد من دون احتياج إلى دعاية أو شيء آخر مما يتصل بمعناها، وهذا شأن العرفان الذي يخلب (بالحق) قلوب الناس. وبعد تصديه للمرجعية كان له رأي خاص فيها هو تثقيف المؤمنين في إيصال الحقوق الشرعية إلى مواضعها التي يريدها الشرع المبين، فإنّه (رضوان الله تعالى عليه) كان يقول: إذا كان المؤمن مكلفاً في تهيئة مقدمات الصلاة مثلاً من الماء وتعيين القبلة ونحو ذلك فليكن المؤمن كذلك عارفاً بمواضع الصرف والمصرف في الحقوق الشرعية ومعرفة الفقراء والمحتاجين وشروط الصرف عليهم وعلى الفقيه تثقيفهم في ذلك ثمّ إعطاء الإجازة لهم بصرفها على الفقراء والموارد الشرعية، وأمّا قبل التثقيف فلا يصح لجهلهم بكثير من الأمور بحيث يؤدي إلى تضييع الحق الشرعي وعدم انتفاع المحتاجين به.

وكان يقول أيضاً: إنّ الوكلاء الذين يأخذون الإذن في قبض الحقوق الشرعية لابدّ لهم من أن يكونوا في أقصى درجات الضبط وشدة الورع والتقوى والمعرفة بالأمور، فإذا رأى من أحدهم ما ينافي هذه الأوصاف فإنّه كان يعطيه بعض الإذن الخاص لإرجاعه إلى رشده وإرجاع ثقته بنفسه وثقة الناس به، فلا يتمادى في الغي والابتعاد عن الحق، فإذا رأى أنّه أثر ذلك فيه رفع درجته من الإذن وإلا سلب منه ذلك الإذن الخاص وأرشد الناس إلى الابتعاد عنه، فكانت إجازاته ومأذونياته لبعض هؤلاء عملية تربوية لهم لا لجلب نفع منهم أو أنّ قصده إيذاء غيره من الأعلام. فإنّه كان أجلّ من ذلك وأسمى فقد ظهرت الروح العرفانية والتقوى على مقلديه في هذه البرهة الوجيزة من مرجعيته، وأخذ طلاب العلوم يبحثون عن أسباب التقوى والعرفان لأنّ الناس يتأثرون بالمرجع وروحيته على نحو المثل المعروف (الناس على دين ملوكهم) ولكن مرجعيته لم تدم طويلاً حيث توفى قدس سره في سنة 1414 هـ على ما سيأتي بيانه.

ومن مميزاته في أمر المرجعية أنّه لم يجعل له من الحواشي والمرتبطين به سوى ولديه الآيتين السيّد محمّد رحمة الله علیه والسيّد علي (دام ظلّه). فحمّلهما مسؤولية كبيرة حتّى لا يحتاج المراجع إلى أشخاص ليوصلوه إلى الحاكم الشرعي وهذا ممّا تفرد به السيّد السبزواري (رضوان الله عليه). وكان يأمر ولديه العلمين بإعانة الفقراء ومساعدة طلاب العلوم الدينية الذين امتازوا بالعلم والتقوى من دون أن يخبروهم أنّه من السيّد، وكان يبغي من وراء ذلك أن يبقى الطالب مثابراً على تحصيل العلم والكمال ويثق بنفسه كما يقصد في ذلك تربية الطالب تربية خاصّة ولأنّ العمل كذلك أبعد من الرياء والشبهة. وكان يشترط على من يعطيه ويساعده أن لا يبوح بذلك. وكانت له مساعدات كبيرة في كثير من المشاريع الخيرية كالمساجد والحسينيات وغيرها، ولكن كان الشرط فيها أن لا يجهروا بذلك أيضاً، فقد كان عليه الرضوان يريدها أن تكون خالصة لوجه الله تعالى. والسيّد السبزواري قدس سره كان آية في الكرم والسخاء في الموضع الذي يتعين أن يكون المرء متصفاً بهما. وقد كان بعض أهل العلم ممن غادر النجف لظرف خاص به (ولم تكن حالته المادية تقوم بكفايته) يقصد دار السيّد فيرى من برّه وكرمه ما لا يوقف له على حصر وكان ذلك الشخص إذا قصد السيّد اكتفى بعطائه ولم يقصد سواه من المراجع. كما كان بعض المؤمنين يقول: إن السيّد السبزواري لو كان حياً لعمّ النفع جميع الناس ولما بقي فقير. قدّس الله سرّه وفي روضات الجنان ابهجه وسره.

([1]) مما ذكروه من الفوارق بين السنة والعام أنّ السنة تذكر في الغالب مع التأريخ الهجري (القمري) والعام يذكر مع التاريخ الميلادي (الشمسي).

لم يكن السيّد السبزواري قدس سره شاعراً بالمعنى المعروف شأنه في ذلك شأن أكثر الفقهاء والمراجع مع إمكان أن يصدر من قرائحهم روائع المنظوم وكان لسان حال الواحد منهم يردد ما قاله ذلك العالم الأديب:

ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد

وقد كان (رضوان الله عليه) حافظا لكثير من الشعر ولا سيّما الأشعار العرفانية كأشعار ابن الفارض والمولوي الرومي والنظامي وغيرهم من الشعراء الكبار وكذا كان حافظاً لألفية ابن مالك في النحو ومنظومة الحكيم السبزواري وكثير من المتون في العلوم العقلية وأمّا الأحاديث فقد كان بحق من أئمة الحفاظ والمحدثين الكبار ومع عزوفه عن تعاطي النظم فقد نظم بعض الأراجيز المتضمنة لبعض الأحكام الشرعية وآداب التربية والتثقيف وقد ذكرها في (المهذب) وإليك نموذجاً منها:

أعلى صفات نفسك العدالة
خصيصة الله العلي الأعلى
فكل مخلوق رأيت فعله
فليكتب هذا المقام العالي
جهادك النفس جهاد اكبر
فهو الكمال المحض للإنسان
فوازنوا أعمالكم بالعدل
وراقبوا حالاتكم في الدنيا
ونبذ ما عد من الكبائر
تزين الإنسان بالفضائل
فليجتهد فيها جميع الناس
عن حادثات نشأة الغرور
والجد في مخالفات النفس
لقربها من ساحة الجلالة
ونوره الذي به تجلى
فيه علامات تحاكي عدله
تقربا من مصدر الجلال
والقتل بالسيف جهاد أصغر
دلّ عليه واضح البرهان
من قبل أن يأتي يوم الفصل
لكي تنالوا الدرجات العليا
وهجر الاصرار على الصغائر
يحفظه عن دنس الرذائل
فإنها المنجي بلا التباس
ومهلكات عالم النشور
يرفعها إلى محل القدس

(مهذب الأحكام) (8/921).

وكذا له نظم في الركوع والسجود، وفي الصوم أيضاً، وممّا ذكره فيه:

الصوم جنّة من العذاب
تقرب من حضرة الرحيم
يقرب الناس إلى المعارف
يربطها بالملكوت الأعلى
ينور القلوب بالعرفان
يريهم مراتب التنزيل
ليس لأجرهم به حدود
بل أجرهم يعطى بلا نهاية
لقد تجلى مبدأ المبادي
أنفاسهم تسبيح ذات الباري
لهم نشاط ساعة الإفطار
والنور نور الله في جبينهم
يخصهم زمرة أملاك السما
فأمسكوا عن شهوات النفس
واستدركوا ما فات من اعمار
واغتنموا الصوم ففيه احترزا
هذا الصيام هو كف الشهوة
عن غير ذات الأحد القيوم
ولازموا أحكام ما للصائم
والصوم سلم إلى السلامة
وهو نجاة نشأة الحساب
تشبه بالملك الكريم
يعرفه وجدان كلّ عارف
بل جبروت صار منه أولى
يهدي إلى حقائق القرآن
يكشف عنه شبه التأويل
ولا جزاء صبرهم معدود
لظاهر الحديث والرواية
في مظهر الصوام من عبادي
ونومهم عبادة الجبار
وآخر عند لقا القهار
والسر سر الله في حنينهم
تبركا بما لديهم من دعا
توافكم نعماء ذات القدس
وامتثلوا لعالم الأسرار
عن كل مكروه يرى يوم الجزا
فكيف صومكم بكف الخطرة
المهيمن العظيم والديموم
لتخرجوا عن رتبة البهائم
في النشأة الدنيا وفي القيامة

(مهذب الأحكام) (10/339)

وله منظومات أخر في مواضع من (مواهب الرحمن).

 

ورد في الحديث المجمع على صحته لدى الفريقين أنّه (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).

وقد جمع الله لسيّدنا الإمام السبزواري قدس سره هذه الجهات الثلاث الشاهدة لعمله الصالح بعدم الانقطاع. وقد تقدم في سالف كلامنا ما يدل على صدقاته الجارية وعلمه النافع وبقي الكلام على([1]) عقبه الصالح (أنبته الله نباتاً حسناً) فنقول وبالله التوفيق: أعقب سماحته من الأولاد ثلاثة هم آية الله السيّد محمّد وآية الله الفقيه المحقق السيّد علي وحجة الإسلام السيّد حسين ومن البنات واحدة.

  1. السيّد محمّد السبزواري قدس سره.

أمّا آية الله السيّد محمّد فهو الولد الأكبر لوالده العارف المحقق الفقيه اللوذعي. ولد يوم الجمعة الحادي عشر من صفر([2]) سنة 1364 هـ في مدينة النجف الأشرف. ونشأ برعاية والده وكان يعنى بتربيته عناية خاصة، وبعد درس المقدمات تهيأ لدراسة السطوح في العقد الثاني من عمره عند أساتذة الحوزة المعروفين فدرس الأدبيات عند الشيخ محمّد علي المدرس الأفغاني قدس سره ودرس المكاسب والرسائل عند الشيخ محمّد جواد التبريزي، ودرس الكفاية عند الشيخ صدر البادكوبي قدس سره، ثمّ حضر الخارج عند والده المقدس والسيّد الخوئي([3]) قدس سرّهما. وتأثر بروح والده تأثراً كبيراً فأصبح عالماً فقيهاً مجتهداً حسن السليقة، عارفاً بصيراً كثير الذكر دائم المراقبة، وكان محمود الخصال مرضي الخلال زكي الأخلاق ممدوحاً على كلّ لسان، صبوراً في الشدائد والمحن، نافذ الهمة، كريماً سمحاً يرحم الفقير ولا يخيب من يأوي إليه في حاجة، ماضي  العزم، شديد الحزم، زاهداً قليل الكلام شديد الاحتياط، ثاقب الذهن، متوقد الفطنة، إليه يرجع الفضل في إخراج مصنفات والده إلى الطبع وعني عناية كبيرة بتخريج الآيات والأحاديث الواردة فيها. وكان يدير شؤون والده والمرجعية بأحسن وجه أحبه الناس وأحبهم، وكان موضع احترامهم وتقديرهم لما كان يتمتع به من الاخلاق الفاضلة والصفات الحميدة العالية. وكان المؤمل أن يقوم مقام والده في الفتيا والمرجعية ولكن اختطفته يد المنون في حادث مروع وهو في طريق طهران إلى قم في اليوم الرابع والعشرين من شوال المكرم من شهور سنة 1414 هـ وشيّع بأحسن تشييع كما يحصل للمراجع الكبار ودفن في حجرة من حجر الصحن الفاطمي في قم المقدسة ولم يكمل العقد الخامس من عمره الشريف رحمة الله علیه واسكنه فسيح جنّاته.

وكان رحمة الله علیه مثالاً لهدي والده المقدس طاب ثراه، ومن الأفراد والقلائل الذي سلكوا مسلك العرفان.

مؤلفاته:

ترك قدس سره جملة من المؤلفات منها: شرح المكاسب وشرح الرسائل وشرح الكفاية وتقريرات بحوث والده، وله رسالة في السير والسلوك وهي لا تزال مخطوطة.

وله من الأولاد اثنان من الذكور هما السيّد حسن السبزواري من طلاب الحوزة العلمية وهو اليوم مشغول بتحصيل العلوم مجد في طلبها، عالم فاضل فيه سمات والده في الجد والاجتهاد والورع والتقى نسأل الله له زيادة التوفيق والهداية.

والولد الآخر السيّد إبراهيم وما زال صبياً لم يبلغ الحلم وهو من طلاب المدارس اليوم.

كما أعقب السيّد محمّد رحمة الله علیه من البنات اثنتين وفّقهم الله جميعاً.

وقد وقفت على مرثية لأحد المحبين في تأبين مولانا الآية السيّد محمّد رحمة الله علیه فرأيت أنّ من المناسب اثباتها في هذه الترجمة المختصرة ودونك الأبيات:

سقيا ليومك يا محمد
أسفاً على أنوارك الـ
يا كوكباً كالشمس تسـ
ما السر في هذا الافو
علم من الأعلام فا
خلف له حبر توا
باب الامامة لا يسد
والكل ساوره الرجا
ويكون عونا للطوا
ويعود سيفاً مصلتا
وبه شريعة احمد
رباه كيف يضمه
هو من سلالة ماجد
عقدت له سمة المها
نسب اصيل لا يجا
من نسل خير الرسل طـ
اشراقه الإيمان تعـ
رتب الفقاهة في الشريـ
طهران ماذا قد دها
في ساعة كنا إليه بحاجة
واسودت الدنيا بحا
هذا محمد فارق الـ
حزني بفقدك قد تجدد
ـغرا بيوم الجدب تحمد
طع في سماء الكون عسجد
ل يموت بدر كاد يولد
رقنا فقلنا الصبر احمد
رث مجده من مجد أصيد
والشمل في يمناه يعقد
ء بأن يعود لنا محمّد
رق عندما الابواب توصد
للحق، يرجع صولة الجد
تبقى، ويدحر كل مرتد
جدت به طود توسد؟!
شمخت به من صلب أمجد
بة تاج عز فوق فرقد
رى في علاه كان أوحد
ـه الموسوي السبزواري الممجد
ـلو وجهه وتزين الخد
ـعة بوأته لخير مسند
ك خطفت منا العيلم الفرد
والدهر خوان وأنكد
دثة لها الأحداث تشهد
أحباب نحو الخلد أخلد

وقال كاتب هذه السطور مؤرخاً سنة وفاته:

علم الشريعة غاله سهم الردى
مذ قيل قد أودى أبو حسن فيا
دفنوا التقى والعلم ساعة دفنه
فاهتف وحولك يا مؤرخ نوح
ومضى بعضب في الجهاد مهند
شلت([4]) يد الدهر الخؤون الانكد
وغشى الدجى لأفول ذلك الفرقد
أبكى العيون دماً غياب محمّد

۲. آية الله السيّد علي السبزواري وهو الأوسط من أولاد سيّدنا الامام السبزواري وواسطة عقد علماء الأسرة اليوم دام ظله الوارف، وخلد مجده التالد والطارف.

ولد سماحته في النجف الأشرف في الخامس من جمادى الآخرة([5]) سنة 1366 هـ ودرس المقدمات في المدارس والكتاتيب ثمّ درس مقدمات الدروس الحوزية([6]) عند بعض الأفاضل، ودرس الكتب العالية عند أعلام العصر ففي الأدبيات عند الشيخ محمّد علي المدرس قدس سره ودرس الرسائل والمكاسب عند الشيخ مجتبى اللنكراني قدس سره ودرس الكفاية عند الشيخ صدر البادكوبي قدس سره وحضر الدرس الخارج عند والده المعظم والسيّد الخوئي (قدّس الله أسرارهما) حتّى بلغ مرتبة راقية في العلم والفضيلة وهو اليوم من أعلام الحوزة العلمية الأعلام وجهابذة المدرسين في الفقه والأصول ومن معاقد الأمل في القريب العاجل إن شاء الله تعالى.

السيّد أبو المحسن (دام ظله) يتمتع اليوم بالسمعة الطيبة وله المكانة المرموقة وقد اجمعت طبقات أهل العلم وغيرهم من المتدينين على أنّ السيّد أبا المحسن (المصداق الامثل) للولد البار والذرّية الصالحة لذلك الوالد العظيم.

بأبه اقتدى عدي في الكرم ومن يشابه أبه فما ظلم

والحديث عن صفات سيّدنا أبي المحسن كالحديث عن ضوء الشمس:

وإذا استطال الشيء قام بنفسه وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا

وبالجملة فإنّ بيت الإمام السيّد السبزواري والخط العلمي العرفاني الراقي يحيى اليوم بوجوده الشريف دامت بركاته. وللمؤمنين فيه تعلق كبير واعتقاد يكاد يقرب من اعتقادهم بقدسية والده الإمام العظيم ولا عجب: (فالشبل من ذاك الاسد).

ويأتم به في الصلاة اليوم جماعة من المؤمنين الابرار والفضلاء الاخيار في مسجدهم العامر في محلة الحويش من محال النجف الاشرف لما يتصف به من الورع والتقى والعرفان والأخلاق المرضية إضافة إلى مكانته العلمية الراقية ونسبه العلوي الشريف.

ولسيّدنا الآية السيّد علي (دام ظله) مؤلفات مطبوعة فمن آثاره المطبوعة كتاب جليل يموج بالتحقيق والتدقيق في (الخمس) وفيه من الدلائل والشواهد على طول باعه وسعة اطلاعه على المدارك الأصلية والمباني الرصينة ما يشهد له ببلوغ ذروة الاجتهاد ومنها كتاب في الاستنساخ البشري وموقف الإسلام منه وهو من المباحث الجديدة التي لم يكن للمتقدمين فيها رأي معروف وبحث مرصوف. ومنها رسالة جليلة من تضليل المحرم، وأيضاً كتاب أعمال العمرة والزيارة، ومخطوطة قيمة منها: تقريرات بحث والده في الوصية والمكاسب، وكتاب في الفرق بين التصوف والعرفان وكتاب النفائس جمع فيه نفائس الذخائر كما أدرج فيه بعض رسائل والده الصغيرة وكتاب في النفس والروح، ولا يزال يواصل جهوده المباركة في التدريس والتأليف ونشر الأحكام الالهية وتربية المؤمنين على منهج والده المقدس رضوان الله عليه.

وقد اعقب ولداً واحداً هو مثال النجابة والشرف والأخلاق الإسلامية الراقية ذلك هو فضيلة السيّد محسن سلّمه الله تعالى وهو من الشباب الذين يفتخر بهم أدباً وتربية وسلوكاً وكان يدرس العلوم العصرية ثمّ اتجه إلى الدراسة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف تحت اشراف والده (دام ظله) وفّقه الله تعالى وللسيّد علي دام ظله من البنات اثنتان.

  1. حجة الإسلام والمسلمين السيّد حسين وهو الولد الأصغر لوالده قدس سره وُلِد في السابع عشر من جمادى الآخرة من شهور سنة 1369 هـ وترعرع في كنف والده رضوان الله عليه ثمّ تتلمذ على بعض فضلاء الحوزة العلمية وترقى في تحصيل العلوم وحضر بحث السيّد والده برهة من الزمن حتّى صار عالماً فاضلاً وله بعض المؤلفات المخطوطة وهو اليوم يسكن مشهد الرضا علیه السلام. وله من الذكور ولدان هما السيّد أحمد والسيّد محمود ومن الإناث اثنتان وفّقه الله ونفع به الإسلام والمسلمين.

([1]) ولا يقال: الكلام عن بخلاف (الجواب) فلا يقال فيه إلا: الجواب عن. والناس يعكسون ذلك.

([2]) كلّ شهر يبدأ بالراء يضاف إليه كلمة (شهر) مثل شهر رمضان وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر (لا الثاني) وشد من هذه القاعدة (رجب) فلا يسبق بـ(شهر) وأمّا سائر الشهور فلا يذكر معها بل يكتفي بها فيقال مثلا: ولد في صفر.. الخ.

([3]) خوي: بضم الخاء المعجمة وفتح الواو البلد المعروف في أذر بيحان والنسبة إليه: الخوبي: بضم الخاء وفتح الواو ثمّ الياء الساكنة وبعدها باء النسبة كذا ضبطها المتقدمون كابن السمعاني وابن الأثير وأضرابهما، لكن شاع في العصر الأخير ضم الخاء وسكون الواو ثمّ الهمزة المكسورة وبعده ياء النسبية.

([4]) يقال: شلت يدا فلان (في الخبر والانشاء) بفتح الشين، لا بضمها كما شاع غلطاً.

([5]) کل اثنين لا ثالث لهما فلا يقال في ثانيهما إلا (الآخر) في فصيح الكلام نحو: شهر ربيع الآخر وجمادى الآخرة.

([6]) النسبة إلى الحوزة: الحوزي، والحوزية، لا الحوزوي والحوزوية كما هو شائع.

بعد هذا العمر المبارك الميمون الحافل بجلائل الأعمال وأزكى القربات اشتاقت تلك الروح الطاهرة إلى لقاء بارئها ففي صباح اليوم السادس والعشرين من صفر من شهور سنة 1414 هـ لبى نداء ربّه سيّدنا الإمام بقية السلف الصالح من أعلام الأمة السيّد السبزواري قدس سره بعدما عراه الوهن والضعف (الجسمي لا الروحي) من صروف الدهر وعاديات الأيام، وكان لنبأ وفاته صدى كبير في الأوساط العلمية بصورة خاصّة والمجتمع الإسلامي بصورة عامّة كما كان لرحيله المفاجئ صدمة كبيرة في نفوس المؤمنين إذ فقدوا برحيله إماماً من أئمتهم الذين يستسقى بوجوههم الغمام، و(قطباً عارفاً) من الاقطاب الذين تدور عليهم رحى شريعة الإسلام و(بدلا) من (الابدال) الذي حفظ الله تعالى بهم أهل الدنيا من وقوع السخط والانتقام، ففزعت من هول المصاب الفادح قلوبهم، وأهرقت الدموع دماً مذاباً عيونهم، وعقد الحادث المروع ألسنتهم.

وما كان قيس هلکه([1]) هلك واحد ولكنّه بنيان قوم تهدما

وكيف لا يحزنون لفقد من كان لهم الموئل والملاذ و(المرجع الامثل) في كلّ صغيرة وكبيرة من مسائل دينهم وأحكام شريعتهم؟! رحمك الله يا أبا محمد وطيّب ثراك وحشرك مع أجدادك الميامين محمّد وعترته الطيبين الطاهرين.

لقد عزى (الشريعة) أن يوما عليها مثل يومك لا يعود

وما أن غمضت عينا ذلك الإمام العظيم والسيّد الكريم حتّى دلفت جموع المؤمنين إلى داره الشريفة نادبة ومعزية وبعد أداء مراسيم التشييع والزيارة دفن قدس سره في مرقده الكائن خلف الجامع الذي كان يصلي فيه وهو اليوم مشهد مبارك يؤمه المؤمنون للزيارة والتبرك ويقصد أيضاً للدعاء عنده وقضاء الحوائج وللناس مزيد الاعتقاد بحصول المراد عند قبره المطهر ومشهده المنور وهذا ما لم يحصل لغيره من الأعلام قدّس الله أسرارهم جميعاً وقبره الشريف مستطيل الشكل عليه حجر من المرمر يعلوه صندوق من الزجاج الفاخر في حجرة مستطيلة الشكل جدرانها من المرمر الخام الجميل وسقفها مزين بالمرايا والناس يزورونه يقرؤون له الفاتحة من داخل المسجد ومن خارجه إذ حجرة مدفنه الشريف مسامتة لطريق السابلة. وقد شيّع جثمانه (الرمزي) في قم المقدّسة تشييعاً حافلاً اشترك فيه المراجع الكبار والعلماء الفضلاء وطلبة العلوم الدينية ومختلف الطبقات كما أقيمت مجالس العزاء في مختلف الاقطار الإسلامية لا سيّما الحواضر الكبيرة كالنجف وقم وطهران وبيروت والقطيف والكويت وغيرها. وابّنه الخطباء تأبيناً حافلاً ورثاه الشعراء في قصائد مؤثرة وكتبت عنه مقالات. وأذاعت نبأ وفاته اذاعة طهران ولندن وغيرها من الاذاعات المحلية وأقيم الحداد عليه في بعض البلدان وعطلت الدراسة. تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه الفسيح من جنّته.

([1]) هلك: (هنا) يجوز فيها الرفع والنصب.

ما إن صك مسامع الناس نبأ هذه الفجيعة الممضة حتّى هرع الشعراء والأدباء إلى تجسيد مشاعرهم من الحزن العميق والتأثر البالغ والأسف الشديد على فقد إمام العلم والتقى والعرفان السيّد السبزواري قدس سره وجاءت تلك المشاعر والأحاسيس مصبوبة في قوالب الشعر المعبر عن هول الخطب. وبين يدي مجموعة من القصائد التي قيلت في رثاء السيّد أعلى الله مقامه وربما نظم الواحد من الشعراء عدة قصائد ومنهم أرخ وفاته في آخر القصيدة.

وإليك المراثي:

قصيدة العلامة الخطيب الشهير والشاعر المؤرخ الكبير الاستاذ السيّد عبد الرسول بن السيّد عبد العزيز الكفائي.

(في تأبين إمام المسلمين مرجع الأمة ووارث الأئمة فقيه العصر الراحل سيّدنا أبي محمّد السيّد عبد الأعلى الموسوي السبزواري).

لله دهياء لم تبق ولم تذر
فالشمس كاسفة والبدر منخسف
وحوزة العلم في وادي طوى انتثرت
يا رائد العلم عد في خيبة أوما
قد صوح الروض ريح الموت منه فلا
مثل الغري وعهدي فيه مزدهر
أين الجهابذة الأفذاذ عنه من الـ
قد عاش دهراً نهاراً مسفراً أبداً
فلا معالم تنبي عنه مختبرا
عادت بلاقع لا عين ولا أثر
ورب مستطلع عمّا جرى وعرا
أجبت لكن بدمع كان يسبقني
أما وعيت كتاب الله يندب من
(السزواري) ذاك الحبر حجتنا
قضى الإمام وتبكيه (مواهبه)
وذا (مهذب أحكام) الشريعة قد
تبقيه من بعده حيّاً مآثره
نعم الخلود بدنياه يخلده
كما بأخراه في الفردوس مسكنه
يلقى من الله رضواناً ومرحمة
قل للشجي([1]) على مأساتك اصطبر
أما الخلي ومن في قلبه مرض
إلا أنا عز صبري في مصاب أبي
أنى التصبر لي والخطب فيه طما
لقد فقدت إماماً في معارفه
فقدت مصباح رشد يستضاء به
فقدت هاد([2]) إلى نور الاله لكي
فقدت أرس للشريعة بل
أوه على شرعة الإسلام إذ نكبت
تنعى الذي كان يحميها ويحرسها
أجل فقدنا حكيماً مبصراً قمنا
فيه تجسد لقمان بحكمته
الله أكبر يا يوم الفقيد به
تركت أيتام آل البيت حائرة
تبكي أباها الذي يرعى مصالحها
والناس هانئة ليلاً بطيب كرى
إليه قد فزعت تبكي أرامله
وذي اليتامي تعج اليوم صارخة
والحوزة اليوم من طلابه فجعت
فالكل سارت وراء النعش هاتفة
يا موت لم تبق للدين الحنيف أبا
ما للزمان علينا جار في حنق
فالحرب قائمة لا تنتهي ابدا
لهيكل الدين من عين ولا اثر
فليس في الكون من شمس ولا قمر
قل للكواكب في عليائها انتثري
ترى الربيع بلا زهر ولا ثمر
لرائد فيه من نجم ولا شجر([3])
لكن أراه بعهد غير مزدهر
فطاحل الفقها كالأنجم الزهر
واليوم أمسى بليل غير منحسر
كحال واديه أضحى ميت الخبر
لكنّها عبرة من أبلغ العبر
من فادح الخطب أو من بالغ الخطر
من ذائب القلب فوق الخد منهمر
أتى بتفسره للآي والسور
وافاه ما نحن كنا عنه في حذر
وليس منا سوى التسليم للقدر
بکی بدمع من الأبحاث منحدر
وتهتدي الناس في آثاره الغرر
ذكر جميل سما في أجمل الصور
منعماً خالداً في روضه النضر
في جنة الخلد محبورا على سرر
فالصبر يحمد في البلوى لمصطبر
فلا يعي لمصاب الدين من أثر
محمّد واحد الدنيا ومفتخري
ما اسطاع صبراً عليه أصبر الصبر
ذاك الذي لا سواه بالبكاء حري
يزجي شعاع هدى أسنى من القمر
يهدي به الناس من بدو ومن حضر
فقدت بدراً منيراً غير مستتر
أمست معالمها كالأرسم الدثر
يرعى حماها دؤوبا ثاقب النظر
بالأمر في حكم شرع الله للبشر
يشفي النفوس بما يلقيه من درر
أحلتنا لظلام مربد عكر
ثكلاء مذعورة في حالة الذعر
يقضي الليالي بين السهد والسهر
وإنّه يحيى هذا الليل للسحر
إذ كان يرفدها من طيبه العطر
أي وا أباه فقدنا وابل المطر
تبدو بحال انكسار وهي في خور
يا موت زر لا تدع منا ولا تذر
يحمي بنيه بعطف من يد الغير
ما زال يرمي شواة الدين بالشرر
فيها جنى الدهر ذنبا غير مغتفر

وقال السيّد الكفائي أيضاً مؤرخاً وفاة الامام السيّد السبزواري قدس سره:

طور سيناء في ثراك تجلى
آية من هدى الإله وأمرا
ولقدسية الرى كل عبد
فهو مثوى لحيدر من اتاه
هو في القبر ثم في الحشر والنشـ
قف على الطور صاح واسأل ثراه
أين (عبد الأعلى) الإمام المفدى
كان اشعاعه هدى كل راج
عقم الدهر ليس يأتي بند
خطبه في الغري أرخت: جلا
قبس النور للكليم يريه
إخلع النعل أنت في واديه
مؤمن أمه لكي يؤويه
مستجيرا فحيدر يحميه
ـر علي شفيعه ينجيه
أين بدر الهدى به يخفييه؟!
من وددنا أرواحنا تفديه
ما سواه إلى الهدى يهديه
أو مثيل له ولا بشبيه
غاب عبد الأعلى محياه فيه

1414 هجـ

وقال كاتب هذه السطور مؤرخاً وفاة السيّد الفقيه:

غادر الدنيا إمام
بدر تم غاب عنا
والتقى والعلم لما
فجعا أرخ: وصاحا
أطرت الأبحاث علمه
فاكتسى ذا الكون ظلمة
شيل نعش ابن الأئمة
ثلم الإسلام ثلمه

1414 هجـ

وللشاب النابغة والشاعر المبدع الاستاذ علي عبد اللطيف البغدادي بعنوان:

(رحيل علم)

فجمع القلب وهدته العلل
سبزواري الهدى وافى الردى
علم قد غاب في جوف الثرى
يا لها من ضربة مؤلمة
قد رزئنا بخطوب جمة
خلد الأحزان فينا ومضى
حق للعين نحيب وبكا
فهو في الخلق كنور في الدجا
عاش في زهد وقلب ورع
حجة المولى علينا في الورى
نور الفكر بعلم جامع
فسر الذكر بنهج واضح
صيته كل البرايا قد وصل
اتخذناه إماما عادلا
وبذكرى فقدنا للمصطفى
فغدا الجرح بجرحين لنا
يا منايا كفي عن أعلامنا
دونهم قد صارت الدنيا ملل
ذهب الأعلون منا في الورى
سوف تلقى المصطفى يا سيدي
وبتولا وعليا وبنيه
فلقد طال النوى ما بيننا
ولقد وفيت ما عاهدتهم
فهنيئا لك جنات الهنا
نم قرير العين يا حلف التقى
في جوار المرتضى حامي الحمى
مذ سرى للسمع ما لا يحتمل
فأسكبي يا عين دمعاً منهمل
وهو فينا بعد حيا لم يزل
احدثت في الدين صدعا وخلل
كل يوم نحن في خطب جلل
جرحنا في فقده لن يندمل
بدموع جاريات في المقل
وهو في الخلق كبدر مكتمل
عجزت عن نعته أسمى الجمل
رحمة الله على ذاك البطل
ومضى في البحث من دون كلل
وأزال اللبس واستوفى العلل
يسأل المعطي ليعطي من سأل
عرف الحق وما عنه عدل
رحت للباري ووافاك الأجل
فيهما كل أسى الدنيا نزل
كل من عز علينا قد رحل
كلها هم وأشجان وذل
ومضى الخلان خلا بعد خل
فالتمس منه لنا هدي السبل
حجج الله الميامين النبل
وعصى العاصون والصبر ثقل
رغم ما عانيت من شتى العلل
بالذي ترجمت علمابعمل
من يرم بالعزم آمالا ينل
جدك الداعي إلى خير العمل

وللعلامة الأديب الكاتب المعروف الاستاذ الشيخ عبد الجبار الساعدي (بعنوان) يا راحلا:

يا يوم سابع والعشرين من صفر
فالعيلم الفذ أعلى الفكر أيتمنا
يا راحلا وجراح الأمس نازفة
نهضت بالامر كفوا قائدا بطلا
نهضت بالأمر تحدو الركب في ثقة
وتنهل الحوزة الغراء واثقة
نهضت بالأمر في يمناك بيرقها الـ
نشتاق نبعك يسقي الجدب صيبه
كتبت في الفقه من بدء ومختتم
إقرأ تجد دورة زهراء حافلة
واعطف حثيثا على التهديب([4]) إن به
وإن أردت بيانا واضحا سلسا
يفسر الآي في وعي ومعرفة
فالله من فضله أجرى (مواهبه)([5])
يا راحلا والنهى في برديه معتكف([6])
فسيرة القائد الأعلى لها ألق
تواضع نادر ما شيب في عجب
فما ازدهاه لباس فاخر فخم
لولا الظنون وتفسير يكون بها
ليعلم الجمع اين العدل مكمنه
لكن لنضرب صفحا انها طرق
في ذمة الله يا مولاي مرتحلا
فأهنأ سعيدا قرير العين مبتجها
ورهطك الغر يوم الحشر أمرهم
فحبهم عصمة من كل قارعة
يا راحلا وعزير الدمع شيعه
وكيف يجبر كسر أنت محدثه
رئاسة الدين علم زانه حلم
هذي الخصال وأمثال لها اجتمعت
وأنت ممن رأيناه بأعيننا
ويشهد الله قولا صادقا أبدا
ما زال ذكرك حيا ماثلا عطرا
قد كان فكرك (وهو النبع مندفق)
عذرا أبا محسن([7]) فالخطب أذهلي
ما شاب ودي ملال إنني رجل
أضر بالفكر رزء حل صاعقة
وليس يبقى سوى الباري فتحمده
أضرمت في القلب وقد الحزن والسعر
ونحن من سطوة الأيام في خطر
نجلاء لم تندمل للحادث الخطر([8])
تشع كالبدر بين الأنجم الزهر
لتبعد الركب عن أين وعن عثر
من منهل الصفو لا من منبع الكرر
خفاق يزهو مع الصمصامة الذكر
شوق الجفاف إلى هطالة المطر
مهذبا([9]) قد أتى بالربح والظفر
بالعلم والفكر والتحقيق والنظر
من رائق البحث جنيا رائع الثمر
يسمو على التبر والمرجان والدرر
يغوص في العمق غوص العارف الحذر
فصاغها القلم الأعلى لذي البشر
حقا أقول جهارا غير مستتر
يفوق في وصفه ما جاء في السير
شهادة الكل حتى منتهى العمر
أوراقه المكث فوق الزخرف النضر
هتكت للستر سترا ليس كالستر
وأين من يشتري التمجيد بالصرر
مفضوحة القصد والفحوى لدى العصر
عن عالم الزيغ والآثام والوضر
بين الجنان وسرب الحور والسرر
عند الجميع بيان صادر النذر
ومبغض الآل بين الجمر والشرر
كسرت للدين عظم غير منجبر
وأنت للدين تعطي أروع الصور
ومسلك واضح يسمو عن النظر
في قلة من عيون القادة الغرر
حتى تطابق فيك الخبر بالخبر
لأنت ممن سما بالروح والفكر
يبقى إلى الحشر ملء السمع والبصر
سلافة عذبت في مجلس السمر
وأنت أدرى بما في القلب من أثر
اصفي الخليل ودادا محكما الأمر
وكيف يبدع فكر سيم بالضرر؟!
حمدا كثيرا، وكم في الموت من عبر

ومما قاله العالم الأديب والشاعر الثائر العبقري الأستاذ الشيخ أبو أحمد الحلي (دامت برکاته):

يا ابن من أشبع الجياع نداه
يا ابن تاج الأعلام في كل فن
يا ابن من طأطات سماء المعالي
يا ابن قطب العلوم لما تجلت
من صرير الاقلام أزهر روض
كل علم من بعد طول رقاد
وإذا ما دعا تخال دعاه
قد كساه الرحمن أثواب فضل
سيد الرسل رب كل فخار
يا ابن من سير الحروف بدورا
غربت شمسه وظلت شموس
وعلى الافق بسمة وعطاء
لم يزل وجهه الوسم مطلا
كذب الموت لم يغب عن رؤانا
لم يزل فوق صهوة المجد فكرا
وسماحا فوق الذي نتمنى
ومثالا لو حلق الفكر دهرا
وحديثا يتلوه جيل وجيل
لم يزالوا فوق القشور جثيا
لو رأوا كنهه لطاروا اشياقا
ما يزال الحديث شلال نور
والعتاب الرفيق ما زال همسا
إن بكى العاشقون رسما([10]) لليلى
فلنا منه الف رسم ورسم
والفضاء الفسيح إن ضاق ذرعا
وإذا عضنا الزمان فزعنا
وإذا ضاقت النفوس وضجت
فهو باب الهدى وفلك نجاة
والمنار السامي لكل تقي
أيها الراحل العظيم المسجى
ضريح الذي احتواك جدير
أو يحج الأنام الفا إليه
بل قليل أن تكتحل العين منه
إن روضا يودع (الطهر) فيه
وكأني أرى وراء حجاب الـ
حق والله أن تنام قريرا
تفتديك النفوس جيلا فجيلا
وتظل القلوب تبكيك دهرا
والزمان الذي تخلييت عنه
وخميس([11]) قد كنت فيه لواء
كان وجه الزمان فيك منيرا
وأقمنا في ظل شخصك دهرا
والهزيع([12]) الذي تهجدت فيه
وربيع العلوم يزهو اغتيالا
والمنى غضة الرؤى تتباهی
إن تلك الأجواء رقت وطابت
وتراث الطوسي من بعد ألف
والمروءات والعطاء جزيلا
وجهاد النفوس اثقل وطأ
والتقى والصلاح حولك حصن
وهدى آل أحمد يتسامی
إن يوما طوى لواءك أردى
و(ابن ادريس) و(المحقق) و(الشيخ
يا إمام الزمان أشكوك بثي
ضاقت الأرض والفضاء علينا
كل يوم يجتاحنا سيل حزن
وأشد الأيام وقعا عليا
غاب فيه إمامنا (عبد الأعلى) الـ
وأضل العراة فضل رداه
يا ابن من فاق كل هدي هداه
رأسها إذ تطلعت لعلاه
زاهرات، افلاكها مقلتاه
بعد جدب، بما تخط يداه
عاد غضا إلى مغاني صباه
كل حرف يقول: يا الله
كي نرى من خلالهن أباه
وكمال يرقى على من سواه
وأنار العقول ما أعطاه
ساطعات من فكره ورؤاه
ونقاء كالورد فاح شذاه
تملأ الأفق والربا رياه([13])
هو روح في كل خطو نراه
المعيا له تخر الجباه
قل عنه الأنداد والأشباه
ما احتوى كنهه، وخارت قواه
لهف نفسي ما استوعبوا معناه
تستبيهم آراؤه وتقاه
للقاء الأخير في مثواه
يغمر الافق والنفوس سناه
مع غريب مغيب في ثراه
تبعث الشجو لاهبا ذكراه
من سجايا تكل عنها الشفاه
لم يسعنا إلا رحيب فضاه
نمتري الدر([14]) خالصا من نداه
من تباريحها([15]) قصدنا حماه
والفقيه المحنك الأواه([16])
لا يرى غير ربه ورضاه
بين أطباق روضة تغشاه
أن تشم الاجيال طيب ثراه
مستدلين في السرى بضياه
أو ينال السقيم منه شفاه
لتهيم القلوب في أرجاه
ـغيب جريل موكلا بحماه
وسط طرف قد فر منه كراه
وتقيك العيون والأفواه
صبحه حالك، ممل مساه
أتراه تخضر يوما مناه؟
ليت شعري هل تستقيم قناه؟
ما لمحنا يوما خيول دجاه
ما صحونا على نجوم أساه
أزهري السناء، عذب هواه
عبقري الألوان، طلق ضحاه
بانتماء اليك يا ابتاه
تحت جنحي علاك يا مولاه
قد تناهي إليك يا سيداه
كان وقفا عليك شم ذراه([17])
من جهاد العدى وأنت لواه
قدسي لا يستباح حماه
في الأعالي وأنت قطب رحاه
(محسنا) و(الخوئي) و(ابن نماه)
المفيد) و(المرتضى) وأخاه
عز صبري عن الذي ألقاه
فاغثنا بالله يا سيداه
لا تطيق الجبال قرع عصاه
لتشيب الولدان من بلواه
موسوي، روحي وأهلي فداه

والاستاذ الأديب الفاضل محمد عباس الدراجي رحمة الله علیه صاحب كتاب (القصائد الخالدات) بعنوان:

(صلاة النجوم على نعش العبقري)

تضرج من فقدك المسجد
أيا سيد الانقياء التقاة([18])
تمثلت فيك (الغفاري) العظيم
وكل مواقفك الرائعات
صفعت زخارف هذي الحياة
وعشت غريبا بهذا الزمان
فيحثو الخلود على ركبتيه
(مواهب رحمانك) الخالدات
تنور ما أظلم من فكرنا
تجدد تفسيره محكما
(مهذب أحكامك) الشامخات
وكان دعاؤك في كل ليل
يعطر في طهره كوننا
ويخشع هذا الوجود الكبير
ويكتم أنفاسه عاشقا
ويسوحي([19]) الجيل منك الطريق
ويستلهم المؤمنون البريق
وتدعو إلى وثبة حرة
ترسمت (عرفانك) الألمعي
ليمطر قلب هذا النقاء
فلا انطفأ النور في مسجد
ولم يرحل العبقري الصبور
وصلى على نعشك الفرقد
لك العلم يا سيدي يسجد
وزهدك من زهده يرفد
يلونها صوته السرمد
وأمطرتها غضبة ترعد
كأنك في دهرك الأوحد
يقبل أرضا بها ترقد
ترش على الكون ما يسعد
فهذا الكتاب لنا القائد
ليحكم دستور المنجد
تجد فكرا به تخلد
يكحل عينيك إذ تهجد
فيعبق فجر ويسمو غدا
على ركعة منك إذ تسجد
لأنك في لذة تعبد
فأنت لشعلتهم توقد
تنور دربا لهم يرشد
کان ابا ذرنا يولد
كأن أبا حسن عائد([20])
بروحك يزرع ما لا نحصد
ولا غاب عن عيني السيد
فمن قبله لم يمت احمد

وللفاضل السيد محمد الموسوي بعنوان:

(يا ابن الغدير أرح ركابك)

أرثيك أم ارثي بك التنزيلا
فلقد نشرت من الكتاب معالما
وسموت في آي الكتاب مفسرا
وزهدت في الدنيا وناعم ظلها
وعلمت أنك عن ثراها راحل
يا عبد من أعلاك شأنا بالتقى
فلقد نهلت من المناهل صفوها
ونشرت علم محمد بيراعك الـ
أوقدت عمرك شمعة تهدي بها
في سبزوار ولدت يوم غديرها
ومضيت يوم مضى النبي
كالنجم يضوي من عظيم سمائه
يوم ولدت به سرور محمد
سبحان من خلق الحياة وموتها
قد فاز فيها من تأمل كنهها
يا ابن الغدير أرح ركابك من عنا
فانعم بالآء الكريم وفضله
يا راحلا عن همها وعنائها
أبدا ليهنيك النعيم بفيئها
غادرتنا والجرح لما يندمل
صفر الشهور أحالنا صفر اليديـ
بالأمس قد أفجعتنا بمصيبة
صبرا فشيعة آل أحمد لم تزل
حاشا وكلا أن يساور عزمها
فالوعد حق في إمام عادل
والعلم والآيات والترتيلا؟؟
للناس ترشد أنفسا وعقولا
كيما تزيل الرين والتضليلا
إذ قد تيقنت البقاء قليلا
فطفقت تغرس في الجنان حقولا
قد عز مثلك في العباد مثيلا
وبلغت باعا في العلوم طويلا
ـمعطاء يثبت فقهها وأصولا
من ضل عن قصد السبيل سبيلا
عيدا لها ولرأسها إكليلا
إذ كنت خادم دينه المأمولا
نحو الثرى فيحيطه تفبيلا
والدين يعول إذ مضيت عويلا
كي يبتلينا شاكرا وجهولا
وأعد من قبل الرحيل رحيلا
فلقد تحاوشك البلاء ثقيلا
فلقد أعد لك الثواب جميلا
ومعانقا ظل الجنان ظليلا
فضلا من الرب العظيم جزيلا
من فاجع هز الأنام وبيلا
ـن من الألى حملوا اللواء فحولا([21])
واليوم إذ اضحى الهدى مثكولا
تلقى الشدائد والبلاء ثقيلا
خور ويمسي جأشها مخذولا
يقف الزمان لعزه تبجيلا

وللفاضل الشريف السيد موسى بن السيد أحمد الموسوي بعنوان:

(مأتم وعزاء)

يمر الجديدان مر السحاب
وتطوي الليالي عصور الزمان
وتفني الليالي الأماني العذان
فسقيا لمثواك يا سيدي
لقد كنت شريان دين الرسول
هدى المسلمين بهدي النبي
حسيبا نسيبا علي الذرى
سليل كرام أتى ذكره
إذا قال فالحق في قوله
هو العلم والهدي وهو التقى
(بجامع احكامه) النيرات
امام الهدى ومنار الدجا
فزر ثم طف حول مرقده(!)
وذا حرم الموسوي العظيم
وفي ليلة من ليالي الشجون
فغارت نجوم السماء بها
ثغور النجوم بشتى الجهات
لينذر عن حدث مؤلم
دهى المسلمين مصاب به
تشيع سبط النبي الزكي
مضى للخلود عفيف الرادء
فكم من فقير وكم من غني
إذا ما ادلهمت خطوب الزمان
أبا محسن أنت بعد الإمام
وأنت لنا مرجع في الأمور
فجدك حيدرة المرتضى
رعى الله سيدنا الموسوي
ويمضي العزيز ويبقى المصاب
ويكتئب الدهر أي اكتئاب
غداة تراها كمثل السراب
وعطر عطر النعيم التراب
فعظم منك الإله الجناب
شيوخا كهولا جموع الشباب
أبوه الشفيع بيوم الحساب
بوحي وذكر بنص الكتاب
وان فاه نطقا فعين الصواب
هو الزهد والفضل وهو الثواب
عن المعضلات كشفن الحجاب
يضيء الدياجير ضوء الشهاب
فذا حرم علوي مهاب([22])
بمسجده وهو سامي القباب
عن المسلمين بها البدر غاب
وبالافق قد حدث الانقلاب
ويعتور الكون فيها الضباب
وقد آذن الموت في الاقتراب
تدوي الخناجر بالانتحاب
الا ليتنا الكل تحت التراب
نظيف اليدين نقي الثياب
أسال الدموع له بانسكاب
(علي) هنا وهو فصل الخطاب
(ولادتك طوقا([23]) بكل الرقاب)!!؟
لأنك في العلم بحر عباب
(يعلم جريل رد الجواب)
وأعطاه في الحشر حسن المآب

وللسيّد الموسوي المذكور أيضاً:

في أربعينك ما جفت مآقينا
يا عبرة في عيون الدهر قد هزأت
فكلما جن ليل الحزن ما فتئت
إنا خلقنا لآلام فما برحت
قلب يئن ودمع لا انقطاع له
إن المقادير تجري في أعنتها
يسك رجع صداها في مسامعنا
وسنة الدهر دوما فرقة وأسى
أبا علي وإن نصبر على مضض
رحلت عنا لجنات النعيم وقد
جزاك ربك عنا خير صالحة
علمتنا الصبر لم نجزع لكارثة
ذي ذكرياتك آيات مسطرة
عنوانك الهدي والامجاد خالدة
لا الشعر يسطيع تعدادا لكثرتها
يا حصن لو عمت البلوى بساحتنا
إن عز مأوى علينا في معامعها
وحالكات الليالي جيشها لجب
والبحر ملتطم الأمواج ليس له
أدميت كل فؤاد فيك هام فلا
يا ميتا ترك الألباب حائرة
كنا نمي فيك نفوسا فيك قد علقت
وبعد فقدك نبقى في الاسى حقبا
روض الربى كان يزهو في الدجا نضرا
سلکت نهج امير المؤمنين هدى
وكنت من مبدأ الايمان منطلقا
صلاة تقوى وايمان عقيدته
هذي ضيوفك يوم الاربعين أتت
هذا محمد يا مولاي مكتئب
هو (الوصي) إذا ما غاب سيدنا
يعطيه رب الورى قدرا ومفخرة
تفنى الليالي ولا تفنى مآسينا
فأخجلتها ولم تبرح توافينا
تنساب من محجر نارا فتكوينا
عنا الهموم وما زالت توافينا
ولوعة تلهب الأكباد سجينا
وذي المصائب لا تنفك تردينا
مدى الحياة على البلوى فيصمينا
طول الزمان وفي الأصداء تبقينا
نعلم بأنك يوما ما تلاقينا(!)
أردت للهم والأشجان تحيينا
والله بالصبر والسلوان يجزينا
علمتنا كيف نحيي الحق والدينا
للخير في منهج الإسلام تهدينا
فيا لها من ذرى الدنيا عناوينا
حتى ولو ملأت فيها الدواوينا
أنت الملاذ من الاشرار تحمينا
فالبيت أنت وهذا البيت يؤوينا
كأنها في سمانا حلكا جونا([24])
شاط فمن لو مخرنا فيه ينجينا؟!
صبر ولا جزع يوما يسلينا
تركت كل فؤاد فيك محزونا
فبعد فقدك لم نبلغ أمانينا
سود مرابعنا غبر مغانينا
وبعد فقدك لا تزهو روابينا
بالسر لا مثل من كانوا يراؤونا
صليت لله لا مثل المصلينا
ليس العقائد لا ذلا ولا هونا
لم ادر هل للقاء أم معزونا(؟)
وذا علي كؤوس الحزن يسقينا
يرعى يتيما وذا بؤس ومسكينا
اقول يا رب آمينا فأمينا

وللسيّد الموسوي أيضاً مؤرخاً وفاة السيّد رضوان الله عليه:

سيف المنية في البرية مشهر
من ذا يرد الموت أن حم القضا (؟)
يا ناهجا غير الهداية مسلكا
أن كنت لم تشعر بما ياتي من ال(م)
تتصرم الأيام لم تعبا بها
لك مقتدى في الصالحين وغيرهم
اين الذين تمردوا وتجاهلوا
اسماؤهم ماتت وانسى ذكرهم
وانظر إلى الأعلام من علمائنا
العلم دينهم وجل صفاتهم
تاج الهداية (عبد الأعلى) فاقهم
انسى الذين مظوا واتعب بعده ال(م)
بسجل تاريخ عظيم حافل
مولى له في المرجعية منصب
نهج البلاغة نابع عن جده
عصر به قد غاب نور الموسوي
هو مورد العلم الرفيع ومصدر
هو آية الله التي بسنائها
هو مفخر للمسلمين جميعهم
يستنبط الأحكام عن آبائه
ويرد قول الملحدين بقوله
الدين عند الله اسلام فل
هذا الامام السبزواري الذي
هيهات لم يقبر بأجداث الثرى
هيهات ما حفروا له قبرا ولـ(م)
سقيا لقبرك من غمام صيب
عذرا إمام المسلين فإنما
هذا الحساب اقوله لذوي النهى
وله بتعداد الأئمة أرخوا:
وقضاء ربك في الانام مقدر
من ذا عليه في الارادة يقدر
اقصر خطاك فربما تتعثر
عصيان فاعلم بعد ذلك تشعر
أن المعاصي للانام تدمر
لا تنظرن إلى الذين تجبروا
حكم الإله وما بهم مستغفر(؟)
ما منهم من في المجالس يذكر
فبأي شيء في الحقيقة فكروا
النية العصماء ليس المظهر
في كل ما خطوا وما قد سطروا([25])
باقين فيما قدموا واخروا
بالمكرمات يسره أو يجهر
وعلى الدروس له يشير المنبر
فهو البلاغة والمعلم حيدر
ولى فلا إياه تأتي الاعصر
لعلوم طه ما سواه مصدر
دنيا الهداية والرشاد تنور
هيا ائتني بنظيره من يفخر
ويقول إذ يروي رواه جعفر
حتى الذين تهودوا وتنصروا
غيره الحنيفة شرعه تسأثر
عن كنهه عجزوا بما قد صوروا
بل في قلوب ذوي البصائر يقبر
كن في القلوب هناك قبر يحفر
ومن السماء عليك غيث يمطر
قصرت في قولي وانك تعذر
فليحسبوا أيامه وليحصر
يا ويلنا غاب الزعيم الأكبر([26])

وللسيد الموسوي أيضاً:

حفل يقام ولوعة تتجدد
وبمسجد الخضراء مأتم سيد
لا مسجد الخضراء يبكي وحده
تبكي الصفا تبكي منى يبكي قبا
والمسجد الأقصى وقدس مسيحها
عميت عيون لا تسيل دموعها
حتى النجوم تغرت بمسارها
للعالم الأعلى هنالك لوعة
بجوامع وصوامع وكنائس
كل إلى الأحكام يركن منهم
هو مرجع الاديان فيه للهدى
يفتي بني الإسلام في أحكامها
ليعيد للاسلام خير شريعة
باب المدينة للعلوم كجده الـ
آياته حار اللبيب بكنهها
لولا الغلو لقلت جبريل أتى
هذا هو (الأعلى) ودون صفاته
حيث الفصاحة والبلاغة والحجا
قاموس دين المصطفى والمرتضى
وهو الكليم إذا تكلم مفصحا
وهو المسيح ليحيى الموتى باذ
أسرى به ليلا فكانت روحه
(الأربعون) فكم تعود بلوعة
صبرا بنيه فالصبور جزاؤه
لا أنتم فالمسلمون جميعهم
وأعود للأصل الشريف ونبله
أما فقدت سيدا فعلومه
الحق ينطق في الحقيقة صارخا:
أن المعزى في الامام محمد
للمسلمين فراح يبكي المسجد
ولو أنه بين المساجد أوحد
يبكي القيع لفقده والغرقد([27])
والبيت في أمجاده يتهجد
فلقد بكاه من الجبال الجلمد
حتى السما ببروجها تتنهد
للحشر تزكو نارها لا تخمد
قد حار من لله فيها يعبد(!)
كل لرب الخلق يركع يسجد(!)
أهل الكتاب وحسبهم أن يهتدوا
يفتي النصارى والذين تهودوا
في (جامع الأحكام) لا يتردد
كرار قول الظالمين يفند
تفسيرها بين الملأ لا يوجد
يوحي إليه والاله يؤيد
شعري يحار وإن حواني المربد
في هديه وعلومه تستنجد
وهو البيان لشرحه والمنجد
فالقول منه عن (محمد) مسند
ن الله ذلك فضله لا يجحد
جريل فيها والملائك تصعد
وبحسرة نيرانها لا تهمد
أجر عليه للقيامة يحسد
أمسوا يتامى والد إذ يفقد
و(العود) حيث يقال فيه (أحمد)
تبقى مدى الأيام إذ لا تنفد
هذا علي هو الامام الأوحد

وللسيّد الموسوي أيضاً:

خطب اطل فمادت الغبراء([28])
نصب العزاء فيا لها من نكبة
(أعلى) الانام بعلمه اودى به
وارى النجوم تجوب في آفاقها
تركت طبيعتها فثم خوارق
السيد (الأعلى) له روحي الفدا
السيد (الأعلى) ثوى في رمسه
لا علم بعد علومه لا فقه يأ
قد زخرفت جناتها فوق العلا
فاستبدل الأرض الدنية بالسما([29])
يلقى محمد([30]) جده بنعيمه
حيث الحسين وصنوه والعرة الـ
يا خيرة الإسلام بعد فقيده
فلتبكه الدنيا وتندب حظها
يا مرشد الجهلاء في آياته الـ
قد ضاعت العرفاء بعدك سيدي
ضاعت مقاييس العلوم وحولت
هذي المحاجر والدموع كأنها
تجري وقل إذا العيون جرت دما
يا من بنى الدين الحنيف بهديه
يا من تردى في مهابة جده
مهما اقول فلا تخلو بمقولي([31]) (كذا)
يا عاملا في العلم اصلح شأننا
ما عالم في العلم لم يك عاملا
عاهدت ربك إذ وفيت بعهده
يهنيك انك في الجنان مخلد
(أن كنت قد غيبت في جدث الثرى)
هذا (علي) مرجع ومؤمل
وبكل قلب حسرة وبكاء
حلت فما يشفي القلوب عزاء
ريب المنون فهزت العلياء
والأرض مظلمة ولا أضواء
قدسك سمع الكون فيه نداء
فقدته أهل الدين والعلماء
فعلى الوجود غمامة سوداء
تي بعد ذاك الفقه لا فقهاء
تستقبل (الأعلى) فلا استعلاء
من حيث لا كدر ولا ارزاء
حيث الوصي وفاطم الزهراء
اطهار حيث الجنة الفيحاء
لكتبه الاحكام والحكماء
تعست عليها في الزمان عفاء
ـعظمى فبعدك كلنا جهلاء
ما فوق كوكب ارضنا عرفاء
تلك الرياض من التقى جرداء([32])
لا ماء فيها بل هناك دماء
والشعر تمجيد وليس رثاء([33]) (كذا)
ما غير احمد قبله بناء([34])
وعليه من نور الهدى سيماء
صوت ترد سماعه الاصداء
هلا يكون كمثلك العلماء؟
هو والحجارة في الوجود سواء
والعهد عندك ذمة ووفاء
والأرض فيها مأتم وعزاء
فمن السلالة عندنا أكفاء
يسمو ودون مقامه الجوزاء

وللسيّد الموسوي أيضاً:

نح ما استطعت فما عليك ملام
وأنخ قلوصك عند مرقد سيد
حكم الولاء بأن تطوف بقبره
فيه محل الخاشعين بربهم
(أعلى الورى) من بعد آل محمد
الحاكم الشرعي يحكم بالهدى
يا أيها العام الحزين لفقده
قد ايتم الإسلام يوم رحيله
بيض ليالينا بفضل وجوده
أن غاب عنا شخصه فلأنه
قد شاقه حب الرسول وحيدر
ولئن سلونا فالعزاء([35]) بنوره
إن القلوب اوارها لا ينطفي
يا منسي الماضين فيما قد اتى
إن كان وافاك الحمام فإنما
عمت ماتم كربلاء ربوعنا
يوم الحسين بكربلا بمحرم
هو ثلمة في الدين ليس يسدها
هو سر اشعاع الهدى بعلومه
يا ربنا سدد خطاه فانه
فهو (الرضي) الموسوي (المرتضى)
فله من (الأعلى) سمات جمة
هو آية هو حجة هو موئل
يا ربي الهمه السلو بفقد من
هذا (علي) حجة الله الذي
فليشهد الثقلان أني واحد
فالشهر من بين الشهور حرام
حيث المناسك في ثراه تقام
فعليك من رب العباد سلام
وبه الصلاة دعا لها الإسلام
قدرا وعلما، عالم علام
فلحكمه قد دانت الأحكام
لا حل في الأحقاب هذا العام
عنا فانا بعده أيتام
واليوم سود بعده الأيام
قد شاقه للأولين غرام
أن العقيدة للحياة ختام
يهدي، وان حل القلوب ضرام
إن العيون بها قذى واوام
يا متعب الباقين مهما قاموا
وافى جميع المسلمين حمام
فبكل شبر للعزاء مقام
قد عاد في صفر وذي آلام(!)
إلا علي نجله المقدام
وهو الأمام وما سواه أمام
قد انجبته([36]) للرشاد كرام
وهو (المفيد) وعنده الإلمام([37])
وله ترف من العلا أعلام
وعليه من طه الرسول وسام
لو بيع في ثمن فليس يسام(!)
هو آية لا شك لا أوهام
من معشر لبيوتهم خدام([38])

وللسيّد الموسوي أيضاً مؤرخاً عام وفاة السيد السبزواري قدس سره بالتاريخ الميلادي:

يشهد ربي وهو العالم
ولاؤهم فرض وفيه النجا
وسيدي (الأعلى) إمام الورى
لفقده نار تذيب الحشا
يا راحلا عنا وكل الأنام
أنت عصا موسى فأرخته
اني بحب سادتي هائم
لم يثني عن حبهم لائم
إني له حتى الفنا خادم
وحزنه فوق الحشا جائم
تموت والله هو الدائم
غاب التقى الورع العالم([39])

1993 م

وللسيد الموسوي أيضاً مؤرخاً عام وفاة الفقيد العظيم بالميلادي أيضاً:

ذي صورة والمجد فيها مقيم
قد جعل الله له رفعة
بشراه في لقيا نبي الورى
تستبشر الحور وولدانها
فتحت الجنة أبوابها
لما سما فوق السما سيد
تهللت لروحه في العلا
هذا بيان للذي يبتغي
السبزواري موسوي العلا
وإنها رمز لدين قويم
(ذلك تقدير العزيز العليم)
وأهل بيت في جنان النعيم
لما تعالى (عبد الأعلى) الكريم
وغلقت أباب نار الجحيم
وصار في جنات عدن مقيم
ملائك العرش بأمر الحكيم
ما كان يرجوه سوى المستقيم
أرخته: غاب زكي عظيم([40])

۱۹۹۳ م

وللأستاذ صادق نجل العلامة الشيخ سلمان الخاقاني مؤرخا وفاة الفقيد الكبير قدس سره:

ربنا أسعفنا([41]) وخفف ألما
إنه (الأعلى) وقد نيطت به
كان طودا شامخا في علمه
فاض علما وتقى من فيضه
ان يوما قد فقدناه به
هرع الناس حشودا عندما
ضف (مشوا) للقبر حرى فرقا
قد فقدناه منارا علما
الفتاوى فاذا قال رمى
كان بحرا لا يجاری کرما
(جامع الأحكام) أرضا وسما
أجج الحزن وأبكانا دما
خبر الخطب إلى الخلق نما
دون التاريخ: يوما مظلما([42])

وللأستاذ الأديب كاظم نجل الشيخ سلمان الخاقاني مؤرخاً وفاة السيّد الفقيد قدس سره:

في صفر يوم رحيل المصطفى
يحمل في كف الندى (مواهبا)
أحاط بالأرض ظلام دامس
في الأرض ودعنا أبا وفي السما
ناداه رب العرش أقبل فارتقى
و(جامع الأحكام) في كف التقى
أما السماوات فزادت ألقا
أرخ داع حسنت مرتفقا

1414 هـ

ولبعض الأدباء ولم أقف على اسمه:

يا موكب الرحمن ردد هاتفا
يا عين صبي الدمع عنوان الأسى
ما زالت الأشجان تحدوا ركبنا
لكننا للصبر نمسك عروة
صبرا فهذا أمر رب خليقة
الله يا يوما به صدع التقى
فجع الهدى والدين أصبح ناعيا
يا سالكا لله ترجو وصله
يا طاهر الروح الي رجعت إلى
يا من له النسب الرفيع بجده
يا داعي الأيتام قد ايتمتنا
ما كنت إلا للسماحة ملهما
كنت العزيز بعفة وتواضع
هذا (مهذبك) الجليل لشرعة
يا (عابد الأعلى) بفقدك قد خبا
لكنه نور الهداية سيدي
هو سفرك السامي ويفصح ناطقا
وذهبت تطلب للحبيب لقاءه
فأهنأ بخلد في ذمام (محمد)
رزئ الأنام بفادح الحدثان
فاليوم غاب العالم الروحاني
في كل يوم يفجع الثقلان
في كل نائبة وفي الأشجان
في الناس يقضيه بكل زمان
والعلم أمسى مثلم البنيان
لفقيده في الفقه والإيمان
يا بيرقا للشرع والعرفان
قدس الحضور سليمة بأمان
ومهابة من صبغة الديان
يوما رحلت لمنتهى الرضوان
والجود ينطق عنك بالإحسان
كنت البليغ بحكمة وبيان
سمحاء([43]) يهدينا لخير جنان
بين البرية نورك الرباني(!)
متأججا بـ(مواهب الرحمن)
عن روعة التفسير والتبيان
وعلمت أن الدهر يوما فان
و(أبي تراب) وجارك (الحسنان)

للأستاذ الشاعر المبدع علاء هلال الجبوري بعنوان:

(رثاء الغري)

يا مسجد الكون من أعماقه نكبا
وأغرقته مآق من مدامعها
وهز من حوله الأرجاء قاطبة
تعلقم الماء لما اجتازه حزنا
أصابه الدهر مرات ولاذ به
وأسرف الدهر في تبيان خسته
فأسقط الرأس منا ثمّ قطعه
غدوت أكره هذا الدهر معترفا
وإن شمس العلا عند الضحا([44]) غربت
ذاك الذي (عبد الأعلى) وما برزت
يبث شكواه للجبار منفردا
لقد بنى (جامع الأحكام) مرتكزا
ومن (مواهب رب العرش) الهمه
رقى على كل أهل العلم مرتبة
(شخصية) نكبت كل العصور بها
لكن، فينا من الآيات مجتمعا
مولاي أن جراح القلب نازفة
مولاي عذرك أن الهم أرقني
لكن عذري اني اليوم في زمن
به جميع تقاليد الورى قلبت
فعاد منه أساس الركن مضطربا
فكان مختنقا فاهتز منتحبا
حتى السماء بكت من همه شهبا
وهرول المجد مزدادا به فكبا
وكان للدهر أما حرة وأبا
وحين غفلتنا من خلفنا ضربا
وقطع الأمر في أجوائنا إربا
لما تأكدت أن النور فيه خبا(!)
والسبزواري عنا راحلا ذهبا
منه الشكاة إلى عبد وإن قربا
ولم يقل لابن أنثى أن بي عطبا
على الصراط وبـ(التهذيب) منتصبا
ما يستنار به، سبحان من وهبا
وصار عند ذوي العرفان منتخبا
بفقدها سقطت من فوقنا قببا
إلى ابن بنت رسول الله قد نسبا
هل يبرأ الجرح أن داويته لهبا؟
حتى غدوت لدى الإسهاب مقتضبا
يعد فيه كلام المقتفى كذبا
يسن للناس من دينارهم حسبا([45])

بسم الله الرحمن الرحيم

تشطير لقصيدة (صفر الخير)

أسموك (جهلا) صفر الخير
وأنت روعت قلوب الملأ
بالأمس أرديت إمام الهدى
أرديت من عم الدجى بعده
واليوم أجهزت بلا رحمة
سيفك مدمى وتشفي به
لخيلك الجرد على صدره
كأنه الميدان جالت به
فالسبزواري سليل الألى
فالله عنهم أذهب الرجس إذ
قابلته وهو ضعيف القوى
حتى تفردت كوحش به
لو كنت قد نازلته منصفا
لكنت وهو شعلة الفكر قد
إذن رأت عيناك ما لم يكن
وليس في حاضرها لا ولا
فانظر فتاواه التي شابهت
وتارة كأن في حدها
(مهذب الأحكام) من افقه الـ
ومن معانيه يعبق الشذى([46])
مآثر آفاقها رحبة
قد خلدت مناقبا في العلا
(مواهب الرحمن) تفسيره
شع كما شع بأنواره
وكفه البيضاء قد أخجلت
باركها الله ففاقت ندى
قتلتني من حيث لا أدري
بين حناياه تشب اللظى
قتلتني والله يا سيدي
(حاشاك) بل همت أنا في جوى
وثغرك المفتر عن بسمة
تفرج الهم عن المبتلى
ورقة في الطبع ما أبصرت
وهيبة جلت وما رجحت
وكنت استاف أريج الهدى
واستمد الأمل المرتجى
وحكمة تنير قلب الفتى
وإنها لو صح تثمينها
فيها أرى الثقلين قد أشرقا
يستبقان ينفحان الورى
وأحرف خطت على أسطر
تحسبها نتطق من سحرها
لو أنصف الدهر لخطت على
نسمو بها شامخة أو على
بل شرف العصر بها مثلما
وخصها الله بقدر كما
يا مطلق الأقلام من قيدها
مرخى عنانها وفرسانها
تدبج السطر كما تشتهي
مدادها الإيمان مزهوة
كأنها تغرف من أبحر الـ
ومحكم الأحكام من عالم الـ
يا واحد الأملاك من هاشم
قد حق أن تبكي عيون الورى
فالخطب فاق الدمع فلتبكه
تالله قد صدع صرح الهدى
واستفحلت شرور أحقاده
يا أيها الحاني على أمة
تذب عنها وهي في كربها
كنت حماها وسنا بدرها
إن أمحلت كنت لها غيثها
وغضك الفينان في أرضها
بظلهه الظليل في رأفة
مالي أرى محافلا عطلت
أجدبها الصمت وفي زوها
وتلكم الأعواد تبكي دما
دوت ولم تعد كعهدي بها
وألف حبر لفهم غيهب
لو تعرف الطيب فهم أهله
ولم أعد أسمع ترتيلة
إذ تتهادى كنسيم الصبا
وما رأيت الأفق يهدي لنا
ولم يعد يزجي لأسماعنا
وما تلا سيدنا سورة الـ
ولا الضحى والرعد والكهف والـ
قالوا: أفق من سكرات الكرى
وما علمت بالذي نابنا
السبزواري إمام الهدی
إن لم تصدق هولها فهو ذا
يا حادي الجيل إلى قمة الـ
يسجل التاريخ اسطورة الـ
خضت الميادين بلا رهبة
جندلتها وأنت كالليث إذ
سباقة مهضومة الخصر
في كل صولة بجولاتها
وكنت للحوزة نبراسها
حفظتها وكنت إلهامها
حجتك البيضاء منصورة
منصورة على احابيلهم
تمضي بنور الله مسترشدا
وينضوي تحت لواك الملا
وصرت والخوئي رب الحجا
بينكما الأجيال إذ لحتما
وكنت للجيل أبا يرتجى
وكنز إرشاد مدى عمره
تطعمنا الأشهى بلا منة
تغدق خيرات لكل الورى
يا اخفض الأعلام صوتا ويا
ويا أجلهم سناءا ويا
أضعفهم جسما وأقواهم
أثبتهم في كل أيامهم
قد فزت والله بنعمائها
حتى جنت يداك من غرسها
في جنة ما لم تكن شاهدت
لها مثيلا بل ولا في الرؤى
تخدمك الولدان مزهوة
يحفك ألسنا بهالاته
ولوعتي ارفعها شاكيا
بعدتي حبيبي المصطفى
أدرك حمى دينك يا سيدي
أدركه كي تبل علاتنا
كيف وأنت اختلت في الجهر
وأنت حقا رائد الغدر
فغاب وهو الكوكب الدري
السيد الخوئي ذا الفخر
ظمآن من نحر إلى نحر
مستهدفا علامة العصر
جلب فما أوسعه من صدر([47])
سنا بك قدت من الصخر
تألقوا في هامة الدهر
قد طهروا في محكم الذكر
وسطوة الجنان في المكر
تنهشه بالناب والظفر
ندا لند دونما غدر
نازلته في ساحة الفكر
يرى سوى في عالم السحر
قد خط في تاريخها البكر
نسيم فواح من العطر
سيف علي ساعة الكر
بلسم في التهذيب والجبر
بدت لنا إطلالة الفجر
أثرها على ضنى العمر
تفوق حد العد والحصر
يجلو الخفايا جل من سفر
للمستدلين سنا البدر
نادبها بفيضها الثر
كف عطاء الغيث والبحر
وكم قتيل بالهوى العذري
فالقلب مطوي على جمر
(لا جائرا) فارفق بذي ضر
بحبك الموار في صدري
تشرفت بذلك الثغر
تلوح كالطل على الزهر
لها الورى إلا وفي خفر
عيني لها ندا مدى عمري
من بين اردانك في اسر
من وجهك الفواح بالبشر
تقيه من غواية الشر
أغلى من الابريز والدر
فخف عنا ثقل الوزر
بالدفء والتوحيد والبشر
مفتخر سطر على سطر
تلوح كالعقد على النحر
جباهنا الكريمة الغر
أحداقنا بلامع التبر
قد شرفته سورة (العصر)
بالذكر خصت ليلة القدر
مقيدا بها حجا الحر
تختال من سفر إلى سفر
حقائقا تضوع كالنشر
عرائسا في عالم الفكر
الإيمان آيات من الطهر
ـغيب الذي يصدع بالأمر
وسيد الأشراف من فهر
تنعاه بالأشعار والنثر
دما ويبكي الطير في الوكر
وانتعشت ضلالة الكفر
وانهد قلب الدين من ذعر
حنو والد على غر
ترزح تحت الضيق والفقر
وجذوة الآمال في العسر
وخصها في الزمن الوعر
سلوتها في عيشها المر
يقي البرايا لفحة الحر
فسادها الوجوم في قسر
للعلم كانت كشذا الزهر
وكانت ابتسامة الدهر
بالأمس مثل الورق النظر
قد أرهقتهم وطأة الضر
عهدي بهم كالأنجم الزهر
يهفو لها منشرحا صدري
تطربنا في غرة الفجر
نورا قضى عليه بالحظر
ترنيمة للشفع والوتر
إخلاص والأنفال والحجر
فرقان والرحمن والفجر
أم كنت في منفى أبي ذر
فجرحنا استعمى على السبر
حفت به القلوب للقبر
يغسل بالكافور والسدر
عليا شامخا بلا كبير
أمجاد من نصر إلى نصر
أيرهب الموعود بالأجر؟
تجتاحها بخيلك الشقر
ما اعتادت القبول بالخسر
تجيد فن الكر والفر
تصونها والحقد يستشري
والمقتدى وحجة العصر
بالحق فيهم حكمها يجري
نصر عصا موسى على السحر
فتفتح الآفاق في يسر
على هدى في المسلك الوعر
نورا علا في حالك الدهر
في افقها كالشمس والبدر
واسوة للمهتدي البر
نواله في العسر والضر
نعم عطاك الثر من ذخر
وتكتفي بالماء والتمر
أجدرهم في النهى والأمر
أرفعهم قدرأ ومدى العمر
روحا بعزم شادد الأزر
قلبا لدى مواطن الصبر
ولم يضع سعيك في هدر
ونلت أجر الصبر والشكر
من قبل إلا ساعة الحشر
عين ولا يخطر في فكر
طوع أياديك بلا جبر
تحدوك من قصر إلى قصر
بعالم الغيوب والسر
إلى معالي صاحب الأمر
أدرك ولا يخفاك ما يجري
فإنّك المؤمول للثأر

قام بتشطير القصيدة الأصيلة شاعر أهل البيت أو منار.

تدور خيل الدهر ما درنا
بغير كالموتور لا ينثني
فأعقب الخوئي في غدره
وكان نبراسا لكل الورى
فعلمه اليقين إذ يقتدي
فالسبزواري على نهجه
قالوا سهام الدهر اردته في
فقلت كلا لم يغب نوره
وما سلونا خطب أيامه
فهي التي أرخت (لا
جامحة مرخية رسنا
وسيفه على الهدى ثنى
بالسبزواري كمن جنا
وعن سناه ليس يستغنى
به من احتار([48]) ومن ظنا
مستلهمين نوره سرنا
غدر فأخفت نوره عنا
بل صار بعد موته أسنى
بل بقضاء الله آمنا
ليس منه بل أصابت مقتلا منا)

1414 هـ

شاعر أهل البيت علیهم السلام أبو منار. (ما غابت ذكراك ثم عادت)

مهداة إلى روح فقيد الأمة الإسلامية سماحة آية الله العظمى السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري قدس سره:

ذات يوم والسنا غرب بعدا
أذنت فوق ربانا
أظلم العرفان أم نار الدجى
فعلى الصمت بقى عرفاننا
وإلى ليلة عسر وبفجر
جاءكم عبد الأعلى بعدما
عجز الجمع ليشفي غربتي
تلك أزمات بنفسي
تلك صيحات بقت في موقدي
رفعت في كل حي كفها
ظلمت حيت فحينا غارها
تلك أحلام لأيام غدت
فإذا الدمع زها فلتعرفوا
ويفيض الشيب بالنور على
كل حين بين نفحات السما
هذه أبيات شعرك
كان هذا حالة العشق لكم
شيبكم مشكاته قد هيمنت
هذه روحك قد عنت وقد
فاستتارت خلف وقت ساحر
وتهاوت غيمة البعد تهاوت
فاستطالت بعد خوف ثم قالت
أحرقت قلبا حزينا ثم غابت
وعناء الروح يجلى ثم عانت
نورت آية دهر ثم نادت
بعدت أرواح رب ثم جاءت
فمداها قائم ثم أطالت
عند مولاي بكت ثم تناهت
فسقاها سيدي نارا فصاحت
وأعار السيد المقدام صوتا فاستعارت
نورك الباهي بعز فأنارت
وزهت دمعاتكم ثم أفاقت
إن أوقات خشوع العبد حانت
رفعات الكف سحراً فاستفاضت
عرجت أنواره ثم تلاقت
هي بستان جنان حين قامت
ولك الاعشق منها كيف كانت
عكست أنوار جدك فتسامت
بصلاة اليل هامت واستتارت
بحساب الأرض شوقا ثم ماتت

([1]) الياء في (الشجي) مخففة في الأصل، ومن ذلك المثل المشهور: ويل للشجي من الخلي. وقد شددها سيّدنا الشاعر لضرورة الوزن. (المؤلف).

([2]) باء المنقوص لا تحذف إلا في حال الرفع حال الجر، أمّا في حال النصب فتثبت.

فالصواب في مثل هذا المقام أن يقال: فقدت هادياً إلخ، لكن باثبات الياء (هنا) يختل الوزن والسيّد الأستاذ حدفها للضرورة مع أنّه في العربية وآدابها (عذيقها المرجب، وجذيلها المحكك) وأنا من أقل طلابه لقنت منه العربية ولما يبقل عارضاي، والضرورة في بيت السيّد الكفائي كالضرورة في قول الشعر الآخر:

مضل الناس قد سموه هاد كما قد سمي الأعمى بصيرا

([3]) النجم (هنا) ما نجم من النبات على الأرض من غير أن يكون له جذع يقوم به، والشجر ما كان له جذع. وعلى هذا المعنى فسّر الأكثر قوله تعالى في (سورة الرحمن) (والنجم والشجر يسجدان).

([4])

([5]) اشارة إلى تفسيره الجليل (مواهب الرحمن) الذي صدر منه عشرة أجزاء وعجز البيت يتضمن تورية لطيفة جمعت بين معنيين، الأول الاشارة إلى القلم المحفوظ في الملكوت الأعلى وبيّن أنّ هذا التفسير من صياغة قلم الفقيد الراحل (التعليق للشاعر).

([6]) كذا ورد هذا الشطر.

([7]) المقصود به سيّدنا سماحة آية الله الحجة السيّد علي السبزواري نجل الإمام الراحل قدس سره.

([8]) الخطر: بكسر الطاء أي الكبير، والبيت إشارة إلى فقد من تقدمه وهو المرحوم (الإمام) السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي قدس سره حيث توفي في العام الماضي في السابع من صفر (التعليق للعلامة الشاعر).

([9]) إشارة إلى الدورة الفقهية الجليلة الحاوية لكل أبواب الفقه (مهذب الأحكام) وتقع في ثلاثين جزءاً، وهي من إفاضات قلم الفقيد الراحل قدس سره. (التعليق للشيخ الشاعر).

([10]) الرسم: الطلل وهو الأثر الباقي، (الشاعر).

([11]) الخميس: الجيش. (الشاعر).

([12]) الهزيع: الطائفة من الليل. (الشاعر).

([13]) رياه: رائحته الطيبة. (الشاعر).

([14]) الدر (بفتح الدال): اللبن الكثير (الشاعر).

([15]) التباريح: المشقة والشدة في المعيشة (الشاعر).

([16]) الأواه: الكثير التضرع والدعاء (الشاعر).

([17]) شم الذرى: أعالي الجبال. (الشاعر).

([18]) التقى: تجمع على (اتقياء) لا (تقاة)، وكذا الشقي لا يجمع إلا على أشقياء، لأن فعيلا لا يجمع على (فعال). (المؤلف).

([19]) كذا ورد في هذا الشطر.

([20]) كذا وردت قافية البيت.

([21]) كما ورد.

([22]) الوجه: مهيب، لكن القافية تأباء.

([23]) كذا ورد والوجه: ولاؤك طوق.. الخ.

([24]) الصواب: حللك جون (بالرفع). لكن قافية البيت (بالرفع) تخالف قافية القصيدة.

([25]) هذا المعنى ينظر من بعيد إلى قول القائل:

إذا أقر على رق انامله اقر بالرق كتاب الانام له

([26]) في التأريخ زيادة (۱۲۱) فلاحظ. (المؤلف).

([27]) البقيع ينسب إلى (الغرقد) فيقال بقيع الغرقد وهو نوع من الشجر له ذكر في جملة من الأخبار وإنه من شجر اليهود. ومجموع اخباره يدل على انه من الشجر المذموم لكن دون تصديقها مهامه فيح والله العالم بحقائق الأمور. (المؤلف).

([28]) الغبراء: الأرض. والخضراء. السماء. وفي الحديث الشريف: (ما اقلت الغبراء واظلت الخضراء من ذي لهجة اصدق من أبي ذر). (المؤلف).

([29]) الباء إنما تدخل على المبدل منه لا على المبدل في كلام العرب، قال تعالى في كتابه الكريم حكاية عن موسى على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} وقد وقع في مثل ما وقع فيه السيد الشاعر الموسوي (امير الشعراء) شوقي في قوله:

أنا من بدل الكتب الصحابا لم أجدلي وافيا الا الكتابا

ولو قال السيّد: فاستبدل السماء بالارض الدنية لصحت العبارة واطرد المعنى لكن الوزن يختل، فلاحظ (المؤلف).

([30]) محمد اسم منصرف، لكن مراعاة الوزن الجأت الشاعر إلى عدم صرفه ومثله في الضرورة قول العباس بن مرادس السلمي:

وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع

([31]) المقول بكسر الميم وسكون القاف وفتح الواو اللسان. وحق كلمة (أقول) الجزم لمكان الشرط.

([32]) الوجه: جرداء بالنصب.

([33]) الصواب: رثاء بالنصب لكن القافية تختلف (به) عن سائر القوافي.

([34]) هذه مبالغة غير محدودة.

([35]) الفاء (هنا) مقحمة لأن الجواب للقسم لا للشرط، والقاعدة أن القسم والشرط إذا اجتمعا في جملة واحدة فالجواب للسابق منهما، وجواب القسم لا تدخل عليه القاء. قال تعالى {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} واقحام الفاء في مثل هذا الموضع كثير الحصول في كلام المتأخرين. وقد يتسامح فيه حتى أصحاب اللسان.

([36]) يغلط كثير من الكتّاب والأدباء بله العوام فيستعملون الفعل: انجب بمعنى اولد، وليس كذلك لأنّ قولنا: المجب فلان معناه ولد أولاداً نجباء ويقال: فلان ولد ولم ينجب إذا ولد له أولاد غير نجاء. وبهذا تعلم أنّ اصطلاح (عملية الانجاب) الشائع في عالم الطب غير صحيح. وقد جرى السيد الناظم على المشهور والصواب أن يقول: وقد انجبت به للرشاد كرام لكن الوزن يأباه.

([37]) استعمال (الالمام) في هذا المقام غير صحيح لأنّ الالمام يعني الشيء القليل وقولهم فلان له إلمام واسع بكذا فيه تناقض لأنّ الالمام هو الشيء القليل فكيف يكون القليل واسعاً كثيراً؟!.

([38]) خدام حقها الجر لأنّها صفة لـ(معشر) المجرورة وللرفع هنا وجه غير وجيه وهو أن تكون الصفة مقطوعة عن موصوفها على انّها خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هم) وفيه ما فيه. (المؤلف).

([39]) التاريخ يزيد (۳۰) فلاحظ.

([40]) هكذا جاء في التاريخ لكنه يزيد (67) فلاحظ. المؤلف.

([41]) همزة (أسعفنا) همزة قطع وليست ألف وصل لكن الشاعر وصلها للضرورة. المؤلف.

([42]) في التاريخ زيادة.

([43]) قولهم: السمحاء من الغلط الشائع، لأنه ليس من باب (افعل فعلاء) والصواب: السمحة، ولو قال الناظم لشرعة غراء، لاطرد اللفظ (المؤلف).

([44]) هكذا اكتب الضحا وما ورد في الكتاب العزيز لا يقاس عليه، وقد قالوا: خطان لا يقاس عليهما: المصحف والعروض. (المؤلف).

([45]) لا وجه للنصب لأنّه مرفوع بالنيابة عن الفاعل لكن هكذا ورد. (المؤلف).

([46]) كذا ورد: ثمّ إنّ الصواب: (الشذا) وليس (الشدى).

([47]) كذا ورد وهو مضطرب الوزن.

([48]) ليس في العربية أحتار وإنّما حارة تحير فهو حائر ومتحير وقد وقع هذا الغلط في الكلام بعض من ألف في اللغة ومنهم الزبيدي ـ ت 1205 هـ ـ في شرح خطية القاموسي من (تاج العروس) وكذا في كتاب الآخر (أتحاف السادة المستقين)، كما غلط ابن عاموس الحنفي من أعلام القرن الثالث عشر الهجري في تسمية حاشية ((رد المحتار)).

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"