1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. ماقیل حول السید
  6. /
  7. المباحث البلاغیة

إلى… روح والدي… صوت الروح الخفيض… و….

والدتي… قبس المعنى… والجراح… و…

إلى روح أخي… التي ما زالت تغتسل بالشمس…

وتخيط الجراح… و…

نصف وجهي الآخر…

مع وافر الحب والتقدير

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد نبي الهدى والرحمة، والنـور الـذي أضـاء الظلمة، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورحمة الله وبركاته.

وبعد…

استمدّ هذا البحـث مادتـه مـن تفسير مواهـب الـرحمن لآيـة الله العظمى السيّد عبـد الأعلى السبزواري (ت 1414 هـ)، وأختصّ ـ أي البحث ـ بدراسة المباحث البلاغية، التي رصدت مبثوثة خلاله، فالبحث في الجمال وإدراك ما في الكلام من روعه يحتاج إلى حسّ بلاغي دقيـق والى ملكـة متمرسـة منفتحة على التراث البلاغي، مزاوجة بينه وبين النظريات المعاصرة بغية الوصول إلى سر جمال القول الآلهي.

وقد اعتنى السيّد السبزواري اعتناءً فائقاً بالبلاغة، واعتمد على مباحثهـا في الكـشـف عـن أسـرار القـرآن الكـريم، ونادراً مـا تجـده يـشيح بوجهه عن الإشارة إلى جمال الأسلوب القرآني وبلاغته، وتعامل مع كلّ ذلك برؤيـة، لا أقـول تختلف، إلا أنّ لها استقلاليتها، مـع عـدم تجـاوز الإرث البلاغي، فهو كغيره لا بدّ له أن ينهـل مـن ينبوع التراث، وهذا لو يعدم كونه مفسّراً معاصراً له شخصيته الواضحة.

وممّا تجدر الإشارة إليه، إنّ تفسير مواهب الرحمن يتألف من ثلاثين جزءً، تمّ طباعـة أربعـة عـشر جـزءً منـه، ويتـصدى ابنـه السيّد علـي السبزواري لاتمام تحقيق وطبع الأجزاء المتبقية، وإنّ هذا البحث يتناول دراسة المباحث البلاغية في الأجزاء المطبوعة منه والحق أقول: إنّه في بداية اختياري الموضوع، وبعد أن صعب الحصول على الأجزاء المخطوطة من التفسير ـ بسبب شدّة تحفظ السيّد علي السبزواري ـ راودني أمر البحث عن موضوع آخر، إلا أنّ الاستاذ الدكتور شاكر التميمي رأى غير ذلك، لا سيّما بعد اطلاعه على ضخامة المادة البلاغية التي تضمنها المطبوع من التفسير، وقـد أشار علَيَّ الاستمرار في البحث، وتحديـده بـالمطبوع منه، وأخذت برأيـه بعـد أن تيقّنت أنّ المادة البلاغية المستخلصة من الأجزاء المطبوعة كانت كافية للإبانة عن جهد المفسّر البلاغي.

وقد دعتني أسباب عدّة لأختيـار هـذا الموضوع، أوّلها: أنّ السيّد السبزواري كان مفسّراً كبيراً، ويعـد (مواهـب الرحمن في تفسير القرآن) الموسوعة الفريـدة مـن نوعهـا حسب المقاييس العلمية والميزان السليم، ومنهجـه التفسيري الواضح لأصحاب الخبرة وامتـاز بـسمات التماثل والاستقلال والتأثر والحدة لذا يتعيّن الوقوف على منهجه البلاغي، ومن ثمّ الكشف عن مدى اسهامه في إثراء البلاغة.

وثانيها: اهتمام السيّد السبزواري الواضح بالبلاغة، وتأكيده في أكثر من موضع على أنّها أحد وجوه الإعجاز القرآني، فهو يجد أنّ القرآن الكريم متضمّن لأسرار البلاغة التي جعلته المعجزة الآلهية لذا تـراه عنـد تفسير الآيات الشريفة يشير إلى فصاحتها وبلاغتهـا، ولا يكتفي بهـذه الإشارة وإنّما يحلّـل ويعلّل الأسلوب القرآني وفـق الضوابط البلاغية المعروفة مشفوعاً بذوق بلاغي رفيع جعل له رأياً في كلّ ما يناقش.

وثالثها: رغبتي الحقيقية ـ بوصفي باحثاً ـ بالوقوف على أسرار البلاغة، ولم يكـن ذلـك ليتحقق إلا بإختيـار دراسـة تـدور حـول أمثـل الأساليب، وهـو أسـلوب القـرآن الكـريم، وعلى الدراسـة أن تكـون معاصرة، لتمثل الدراسات البلاغية السابقة فيها، كي تعينني ـ إن شـاء الله ـ في تمثّل الدراسات الأسلوبية الحديثة، التي ارتكزت في مفهومها ومناهجها على تطوّر مفهوم البلاغة.

إنّ تناول المادة التفسيرية يتضمن بالضرورة منهجية خاصّة، لذا فإنّ عرض المادة البلاغية ـ المعنية في هذا البحث ـ لا ينفصل من خلاله منهج التناول عـن مادته، بمعنى أنّ التركيز سـوف ينصب على المادة وطريقة تناولها، وكـان لا بـدّ مـن سـلوك منهج يكشف عـن جهـد المفسّر وتأكـد للباحث أنّ المنهج البلاغي يمكن له النهوض بهذه الدراسة والوصول بها إلى مبتغاها شرط أن تكتمل الرؤية وتتضح لأضاءة هذا الجهد البلاغي، وتمّ ذلك من خلال الارتكاز على ما استقر عليه التقسيم الثلاثي للبلاغة، إلى علوم (المعاني، البيان، البديع) وهو المنهج الأكثر واقعيـة عنـد تمثّل الدراسات البلاغية.

وكان لا بدّ لي من الرجوع إلى الكتب التي تناولت نشأة البلاغة، محاولاً قـدر المستطاع أن أوجـز القـول بـشأن الموضوعات البلاغيـة الـتي استعرضـها السيّد السبزواري، ليـتمّ بـذلك تحديد المصطلح البلاغي، لأكونّ فكرة واضحة عن ماهية المباحث البلاغية، لأتمكن في ضوئها أن أتبيّن البلاغة عند السبزواري، وأتبيّن مدى تأثّره بالبلاغيين، ومدى اتباعه لهم ومخالفته إيّاهم.

أمّا الخطة فقد اقتضت طبيعة الموضـوع تقسيمها على تمهيد وثلاثة فصول وخاتمـة عرّفت بالقسم الأول مـن التمهيـد بالسيّد السبزواري، ونقلت نبذة مختصرة عن حياته ليتسنّى للقارئ التعرّف على بيئته، أمّا القسم الثاني فتكلمت فيه على أثر المفسرين في البلاغة ليتبيّن أثر كتب التفسير الأولى في نشأة البلاغة وتطوّرها.

تناول الفصل الأول (مباحث علم المعاني)، وقـد ضـمّ هـذا الفصل تسعة مباحث كانت على وفق ما يستوجبه طبيعة هذا العلم، ففي المبحث الأول دار الحـديث عـن الخـبر وتوكيـده، فضلاً عـن الأغـراض المجازية المستفادة منه، وتناول المبحث الثاني الانشاء وضمّ قسماً من أنواعه وهي الأمر والنهي والاستفهام مشفوعة بذكر المعاني المجازية التي أفادتها، وقد تجاوزت ذكر القسمين الآخرين منه، وهما (التمنّي والنداء)، لأنّي لم أجد ما يشفع لهما عند صاحب المواهب، فهـو لم يعتنِ بهما كأعتنائه بالمباحث الأخرى، وتناول المبحث الثالث التقديم والتأخير ودار الحديث في المبحث الرابع عـن التعريف والتنكير، أمّا المبحث الخامس فـدرس التغليب، ووقف المبحث السادس عنـد أسلوب القصر وتناول المبحث السابع الفصل والوصل، والمبحث الثامن اهتمّ بأسلوب وضع الظاهر موضع المضمر، أمّا المبحث التاسع والذي ختم بـه هـذا الفـصـل فـدار الحديث فيه حول الإيجاز والاطناب.

وضمّ الفصل الثاني الذي كان بعنوان (مباحث علم البيان) أربعة مباحث، تناول المبحث الأول الحقيقة والمجاز، ودار الحديث في المبحث الثاني حـول التشبيه والتمثيل، وتناول المبحث الثالث الاستعارة، أمّا المبحث الرابع فوقف الحديث فيه عند الكناية والتعريض.

وقسّم الفصل الثالث الذي كان بعنوان (مباحث علم البديع) على مبحثين، تناول المبحث الأول المحسّنات المعنويـة الـتـي جـاء على ذكرهـا صـاحب المواهـب، وهـي (المقابلـة و المبالغـة والالتفـات و المشاكلة الاستخدام والابهام)، أمّا المبحث الثاني فتناول المحسّنات اللفظية التي رصـدت في التفسير وهـي (الجنـاس ورد العجـز عـلـى الـصـدر وبراعـة الاستهلال والاعتراض).

بعد ذلك جاءت الخاتمة، وذكرت فيها أهم النتائج التي توصل إليها البحث، وكان من الطبيعي أن يعتمد هذا البحث على المصادر الأساسية التي تناولت البلاغة في مختلف مراحل تطورها، وقد استعنت بها لتقـديـم موضوع أو لأتمام فكرة أشار لها السيّد السبزواري.

وفي نهاية الكلام، أقول صراحة: أنّه لولا منّة الله سبحانه وتعالى، ومؤازرة ومعونة شيخي الأستاذ الدكتور شاكر التميمي لما استطعت النهوض بهذا البحث، فالله أحمدُ على ذلك حمداً لا ينقطع، وشكراً وعرفانا لشيخي الذي أخذ بيدي ولمّا يزل، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

۱ ـ تعريف بصاحب المواهب

اسمه ونسبه:

هو السيّد عبد الأعلى بن السيّد رضا بن السيّد عبد علي بن السيّد عبد الغني بن السيّد محمّد بن السيّد حسين بن السيّد محمّد بن السيّد علي بن مسعود الملقب بعيشي بن ابراهيم ابن حسن بن شرف الدين بن مرتضى بن زين العابدين بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن محمّد شمس الدين بن أحمد بن علي بن محمّد أبي الغنائم بن أبي الفتح الأخرس بـن أبي محمّد ابراهيم بن أبي الفتيان بن عبد الله أبي الحسن بن محمّد الحائري بن إبراهيم المجاب بن محمّد العابد بن الإمام موسى بن جعفر بن محمّد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، صلوات الله عليهم أجمعين([1]).

ولادته ونشأته:

ولد في مدينة سبزوار، في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عام 1329 هـ ـ ۱۹۱۰ م ـ ونشأ في كنف أبيه، وتحت رعايته، فتعلم القراءة والكتابة في سن مبكر، ثمّ درس الأوليات في النحو والصرف والمنطق، وبعض المتون الفقهية.

وحين أكمـل مرحلـة الـسطوح أرسـلـه أبـوه إلى مدينة مشهد المقدسة للدراسة في حوزتها العلمية([2]).

وانصرف إلى تلقي المعرفة، ولازم حلقات دروس المشايخ في تلك المدينة المقدّسة، وأشهر مـن قـرأ عليه الشيخ حسن البرسي، والسيّد محمّد العصّار، والشيخ حسن علي الأصفهاني… وغيرهم، وكان الأخير أستاذه في تفسير القرآن([3]).

ثمّ هـاجر إلى العراق في سـنة 1349 هـ ، وكان قاصـداً مدينـة النجـف الأشرف، وكانـت تـضمّ آلافاً من طلاب العلـوم الدينيـة مـن مختلف البلدان والجنسيات، وبدأ تدريس الفقه والأصول منذ نزوله، ولمّا تـوفي آية الله السيّد أبو الحسن الأصفهاني (قدّس سرّه) سنة 1365 هـ ، بدأ بتدريس مرحلة البحث الخارج، وكان عمره آنذاك سبعاً وثلاثين سنة([4]).

ثمّ شـرع في البحث والتـدريس فقهـاً وأصـولاً، فباحث في الفقـه ثـلاث دورات كاملـة، وباحث أيـضاً دورتين في المكاسب، وسـت دورات في علـم الأصول، واستمرت حلقة بحثه طوال خمسة وأربعين عاماً، بدأها عام 1365 هـ ، وختمها عام 1410 هـ([5]).

ويظهر ممّا تقدم إنّ حياته كانت مثالاً للجد والمثابرة، وأنّه أفنى عمره في طلب العلم والمعرفة، وقال عنه السيّد علي الفاني: “إنّ من العلماء من يذهب إلى النجف الاشرف، ويعيش فيها عشرات السنين، فلا يعرف فيهـا إلا طريـق الحرم العلوي الطاهر وموضع درسه، لانشغاله بالعلم والتحصيل، أمثال السيّد عبد الأعلى السبزواري ” ([6]).

وتوضح هذه الشهادة حياة هذا العالم الجليـل الـذي ابتعـد عـن الـدنيا وزخارفها، وسار إلى الله سالكاً طريق التعبد وطريق العلم.

مقامه العلمي:

أجمعت آراء العلماء المحققين أو كادت تجمع أن السيّد السبزواري هو أستاذ المدرسة الاصولية العرفانية الحديثة في العصر الراهن، ويدل على ذلك مصنفاته على اختلاف موضوعاتها، ففيهـا التحقيق البارع والاحاطة التامّة في الموضوع الذي يخوض فيه والشمولية المستوعبة لكلياتـه وجزئياته وتوابعه مع قوة الحجة، وهـو يعـرض كـلّ ذلـك بأسلوب متين آخـذاً مـن البلاغـة بـأوثق الأسباب وأقوى العرى فلا حشو فيه ولا اطناب ممل مع سلامته من الإيجاز المخل([7]).

ويظهر من خلال كتابه “مواهب الرحمن في تفسير القرآن” مقدار تبحّره في العلوم العقائدية والأخلاقية والفلسفية والعرفانية والتاريخية والأدبية كافة، وقد قال الشيخ محمّد الانصاري في كتاب المواهب: “هو كتاب في تفسير القرآن العظيم، قد بيّن فيه زوايا كثيرة، وأظهـر خفايا عجيبة، قـد تـفـوح منه نسائم العرفان، وتطغى مع ما فيه من الجوانب الفلسفية القيمة، والنواحي الأخلاقية القويمة، والحوادث والتحليلات التاريخية، والأمور الأدبية والروائية، مضافاً إلى ذلك كلّه، فإنّه يظهر فيه العمق الدلالي”([8]).

وقال أحد تلاميذه واصفاً بحوث أستاذه السيّد عبد الأعلى: “عندما اقرأ بحوثه أشعر كأنّي في حديقة غنّاء بالزهور والرياحين وأنـا انتقـل مـن مقطع إلى مقطع في بحوثه العرفـانية، أو العلمية، أو الفلسفية، أو الأدبيـة، أو أي بحـث آخر”([9]).

يظهر ممّا تقدم، إنّ مقامه العلمي مقام رفيع، وهـو محيط ومتبحّر بجلّ العلـوم، ولـولا ذلك لمـا تـصدى لتفسير القـرآن الكـريـم الـذي يتطلب تفسيره الإحاطة على وجه الاتقان والكمال بخمسة عشر عاماً([10]).

شيوخه وأساتذته:

1 ـ والده السيّد علي رضا السبزواري (قدّس سرّه).

2 ـ الأديب النيسابوري (قدّس سرّه).

۳ ـ آية الله محمّد البرسي (قدّس سرّه).

4 ـ آية الله السيّد أغا الحكيم (قدّس سرّه).

5 ـ آية الله السيّد محمّد العصّار (قدّس سرّه).

6 ـ الشيخ حسن علي الأصفهاني (قدّس سرّه).

7 ـ آية الله العظمى الشيخ محمّد حسين النائيني (قدّس سرّه)

8 ـ الإمام آية الله العظمى السيّد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني المرجع العام للإمامية في زمانه (قدّس سرّه).

9 ـ آية الله العظمي المحقق الشيخ أغا ضياء العراقي (قدّس سرّه).

10 ـ آية الله العظمى المحقق الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (قدّس سرّه).

11 ـ آية الله العظمى السيّد محمّد حسين الباكودي (قدّس سرّه).

12 ـ الحجة السيّد علي القاضي الطباطبائي التبريزي (قدّس سرّه)([11]).

13 ـ الحجة الشيخ محمّد جواد البلاغي (قدّس سرّه).

14 ـ الشيخ عبد الله الماماقاني([12]).

15 ـ العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني.

16 ـ المحدث الشيخ عباس القمّي([13]).

تلاميذه:

1 ـ السيّد محمّد کلانتر (قدّس سرّه).

2 ـ الشيخ محمّد علي التبريزي.

3 ـ الشيخ محمّد صادق السعيدي.

4 ـ الشيخ مهدي الكرماني.

5 ـ الشيخ محمّد الأصفهاني.

6 ـ السيّد جلال الدين الحسيني.

7 ـ الشيخ جمال الدين الاسترابادي.

8 ـ الشيخ محمّد جواد فضل الله العاملي.

9 ـ الشيخ محمّد علي التوحيدي.

10 ـ الشيخ مرتضى الغروي الطهراني.

11 ـ الشيخ طالب الخليل اللبناني.

12 ـ السيّد محمّد الغروي.

13 ـ السيّد عبد العزيز الأردبيّلي.

14 ـ السيّد نور الدين السبزواري.

15 ـ السيّد محمّد السبزواري.

16 ـ السيّد علي السبزواري.

17 ـ الشيخ نور الدين الكاظمي.

18 ـ الشيخ محمّد حسن الاصطبهاناتي.

19 ـ الشيخ عبد الله المحمّدي.

20 ـ الشيخ أسد الله الأصفهاني.

۲۱ ـ السيّد جلال الدين الحسيني اليزدي.

۲۲ ـ حجة الإسلام الشيخ علي القوجاني([14]).

مؤلفاته المطبوعة:

1 ـ تهذيب الأصول.

۲ ـ مواهب الرحمن في تفسير القرآن وهـو مـن ثلاثين جزء، طبع منها أربعة عشر جزءً.

۳ ـ جامع الأحكام الشرعية.

4 ـ مناسك الحج.

5 ـ منهاج الصالحين (جزءان).

6 ـ توضيح المسائل بالفارسية.

7 ـ الحاشية على العروة الوثقى.

8 ـ الحاشية على وسيلة النجاة([15]).

آثاره المخطوطة:

۱ ـ حاشيته على الجواهر.

۲ ـ حاشيته على الحدائق.

3 ـ بعض الحواش على الكتب الرجالية والفقهية وكتب الأحاديث كالبحار والوافي والوسائل([16]).

وفاته:

توفي رحمه الله في صباح اليوم السادس والعشرين من صفر سنة 1414 هـ ـ 1994 م، ودفن في النجف الأشرف في مقبرة خاصّة أعدّها لنفسه في داخل المسجد الذي كان يصلّي ويدرّس فيه([17]).

2ـ التفسير والبلاغة

إنّ للقرآن الكريم أثراً كبيراً في نشوء أصناف من العلـوم اتجهت لدراسة اللغة العربية وأساليبها المختلفة، ومن الطبيعي أن تكون هذه العلوم في مراحل نشأتها الأولى متداخلة بعضها مع بعض، فليس هناك ما يميزها، أو يصنفها ضـمـن حقـول المعرفة المختلفـة ـ كمـا هـي ظـاهرة الآن ـ إلا أنّ هـذا التمييز والتصنيف بدأ يظهر مع تطور هذه الدراسات خلال مرحلة طويلة من الزمن، والبلاغة أحـد هـذه العلوم، وصلتنا أمثلتها الأولى متفرقة، وكانت عبارة عن إشارات لبعض الكتّاب، وهي موزعة بين كتب الدراسات اللغوية والدراسات النقدية أو كتب تفسير القرآن الكريم([18]).

وحصل عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 هـ) على مكانة عظيمة في تاريخ البلاغـة العربية، فقـد كانت قبلـه أفـكـاراً متناثرة، ونتفـاً متفرقة، ومعلومات متداخلة، لكن بعد تأليف كتابيه الدلائل والأسرار أزاح عـن البلاغة ما كان يكتنفها من لبس وغموض، وبذل جهـوداً كبيرة حتّى وضع لنـا أسس علم المعاني وعلم البيان([19]).

ففي كتابه (دلائل الإعجاز) كان مهتماً ببيان إعجاز القرآن الكريم، ففسّره تفسيراً يقوم على النظم، أي توخي معاني النحو وأحكامه، ولخّص رأيه في خاتمة كتابه، فقال: “ما أظن بك أيهـا القـارئ لكتابنا، إن كنت وفّيته حقّه من النظر، وتدبّرته حقّ التدبّر، إلا أنّك قد علمت علماً أبى أن يكـون للشك فيه نصيب، وللتوفيـق نحـوك مذهب أن ليس (النظم) شيئاً إلا تـوخي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني النحو”([20]).

إنّ لنظرية النظم ومباحثهـا الدقيقة التي تدور حول معاني النحـو التي أصبحت فيما بعد المباحث التي تنتمي للقسم الأول من فنون البلاغة وهـو (علم المعاني) أثراً كبيراً في نشوء البلاغة.

وشرحها عبد القاهر في كتابه (دلائل الإعجاز)، وبنى عليها تطبيقات واسعة في كتابه الآخر (أسرار البلاغة)، فدلائل الإعجاز يتضمن نظرية النظم وتطبيقات واسعة عليهـا تـدور حـول الأسلوب، و (أسرار البلاغة) يتضمن تطبيقـات تـدور حـول الاستعارة والتشبيه والتمثيـل والمجاز والكنايـة والمعـاني التحقيقيـة والتخييليـة، لأنّهـا صـور المعـاني، والقطـب الـذي تـدور حولـه البلاغة([21])، لم أرد الحديث عـن البلاغة وتطورهـا، لكـن أردت أن أبيّن أثـر القرآن في نشوء البلاغة لِما له مـن اتـصال وثيـق بـأثر المفسرين في البلاغة، فكلام الله سبحانه وتعالى يتميـز مـن كـلام سائر البشر، مـن حيـث نظمـه وأسلوبه وجزالة ألفاظه، فقد جاء بأفصح الألفاظ في نظـم بـديع ووزن عجيب، مخالف لكل نظم معهود في لسان العرب، لا يشبهه شيء في نظمه، لا من شعر ولا من نثر، وله أسلوب خاص انفـرد بـه في تأليف كلامه واختيار ألفاظه، مخالف لما عهد في كلام العرب([22]).

وهـذا مـا دعـا المفسرين إلى تأمله، ومحاولة الكشف عـن أسـراره، وممّا ساعدهم على ذلك أنّ القـرآن الكـريـم هـو وأهـم مـصدر عربي تنوعت فيـه طرائق التعبير والبلاغة، وآيـة ذلك أنّ كـلّ مـن تـصدى للبحث والتأليف في البلاغة العربية قديماً وحديثاً كان يعثر فيه بالعديـد مـن الأمثلة والشواهد لكـلّ أصل بلاغي يكتشفه أو يهتدي إليه([23]).

وأصبح رصد أوجه الحسن في ذلك الأداء من المفسرين هو بداية الدرس البلاغي القديم، إلا أنّ ذلك لم يستمر طويلاً إذ اتجه إلى المعياريّة الخاصة التي وضع أسسها البلاغيون([24]).

فالمفسّرون مـن الطوائف التي أسهمت بنصيب وافـر في نشأة البلاغة وإقامة دعائمها، لتناولهم آيات القرآن الكريم، وإبراز ما فيها من جمال فني، وروعـة أخـّاذة حتّى نـرى علماء البلاغـة فيمـا بعـد يستشهدون في قواعـدهـم البلاغية بأمثلة من القرآن الكريم سبقهم إليها المفسرون في الاستشهاد بها([25]).

وما ذاك إلا لعلـم المفسرين بعـدم إمكانية الوقوف على إعجـاز القـرآن وإدراك نظمه والكشف عن أسراره إذا لم يتفهموا البلاغة ويعرفـوا الفصاحة، وأكّد أبو هلال العسكري (ت 395 هـ) ذلك بقوله: “وقد علمنا أنّ الإنسان إذا أغفل علم البلاغة وأخل بمعرفة الفصاحة، لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصّ الله به كتابه من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع، والاختصار اللطيف… إلى غير ذلك من محاسنها التي عجز الخلق عنها”([26]).

وقد ألمح الدكتور أحمد مطلوب إلى أثر المفسرين في نشأة البلاغة، فهو يرى إنّها نشأت مسائل متفرقة في كتب التفسير الأولى وفي كتب الجاحظ ثمّ أخذت تتطور شيئاً فشيئاً حتّى صارت على يـدي عبـد القـاهر مبوّبة مرتّبة، ولكنّها بقيت تنتظر الخطوة الأخيرة فجاء السكاكي فرتّب أبوابها وأخذت على يديه الترتيب النهائي والشكل الأخير([27]).

إنّ هذه الإشارات إلى دور المفسرين وأثرهم في اكتمال مباحث البلاغة لم تكن عديمة القيمة، إنّما تمثل اعترافاً بحسب الواقع بما أسهموا بـه مـن قبـل علماء البلاغة، رغـم أنهـم لـم يكونـوا يبحثون في علـم البلاغـة حينمـا كـتبـوا تفاسيرهم، إنّما كانوا يفسّرون القـرآن الكـريـم، ويكشفون عمّـا فيـه مـن معـانٍ سامية، وما يحمل أسلوبه من روعة وجمال، وما ذكرهم لمسائل البلاغة إلا لأجل إظهار حسن القرآن وسحره وإعجازه، فالاهتمام بالبلاغة في بادئ الأمر ـ كما مرّ ـ لم يكن اهتماماً يقصد به فنّاً مقصوداً لذاته، وإنّما جاءت دراستها وسيلة لفهم القرآن الكريم والوقوف على وجوه إعجازه([28])، فالقرآن الكريم كان الأثر الأول والمحرك الأهـم لظهـور الدراسات البلاغية، وكتب التفسير الأولى كانت الميدان الأوسع التي رصدت فيهـا هـذه المسائل، وهي متفرقة ضمنها، وكـان الـداعي إلى ذلـك هـو رغبتهم في الكشف عـن إعجاز القرآن الكريم وفهم أسراره ومعانيه بحدود ما تسمح به ثقافتهم اللغوية وبما هـو سائد في كلام العرب.

ويدل على ذلك، ما جاء في تفسير ابن جرير الطبري (ت: 310 هـ) ـ وهو يعـدّ مـن طبقة المفسرين الأوائل ـ إذ تعرّض في تفسيره لكثير مـن أنـواع المجاز، وحلّله تحليلاً دقيقاً رائعاً، وهو في عرضه لصور البيان، وألوان البلاغة في القـرآن يلتـزم عـرض الأديب الذائق فلا يجردهـا مـن الجمال ولا يعريّهـا مـن الرواء، ويمتّعنا بأسلوبه وآرائه([29])، وأشار في مقدمة تفسيره إلى كثير مـن فـنـون البلاغة، وذكر أنّها موجودة في كلام العرب وأنّه مبيّنها في أماكنها من التفسير، قال: “فبيّن ـ إذ كان موجوداً في كلام العرب الإيجاز والاختصار، والاجتزاء بالإخفـاء مـن الإظهـار، وبالقلـة مـن الإكثار في بعض الأحـوال، واستعمال الإطالة والإكثار، والترداد والتكرار، وإظهـار المعاني بالأسماء دون الكناية عنها، والأسرار في بعض الأوقات، والخبر عن الخاص في المراد بالعام الظاهر، وعن العام في المراد بالخاص الظاهر، وعن الكناية والمراد منه المصرّح وعـن الصفة والمراد الموصـوف، وعن الموصـوف والمراد الصفة، وتقـديـم مـا هـو في المعنى مؤخّر، وتأخير ما هو في المعنى مقدم، والاكتفاء ببعض مـن بعـض، وبما يظهر عمّا يحذف، وإظهار ما حظّه الحذف ـ أن يكـون ما في كتاب الله المنزّل على نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، في كلّ ذلك له نظيراً، وله مثيلاً وشبيهاً، ونحن مبيّنوا جميع ذلك في أماكنه”([30]).

يؤكد لنا هذا الكلام أنّ المفسرين لهم دور لا يمكن إغفاله في نشأة البلاغة وفي اكتمال مباحثها، وجاءت إشاراتهم على شكل إجراء تطبيقي على الآيات القرآنيـة، فـهـم لم يهتموا بالمصطلح البلاغي اهتمامهم بما تتميّـز بـه الآيـة مـن أسلوب بلاغي فريد ومعجز في الوقت نفسه، ويكشف لنـا تفسير (الكشاف) للزمخشري (ت: 538 هـ) هذا الأمر بوضوح، فصوّر فيه بلاغة القرآن، فأقبل على الدراسات البلاغية يعـبّ منهـا وينهـل، فدرسها حتّى تمثّلها تمثّلاً منقطع النظير، وهو تمثّل جعله يؤمن بأنّ المعرفة البلاغية وأنماطها وأساليبها لا تكشف فقـط عـن وجـوه الإعجـاز البلاغي في القرآن، بـل تـكـشـف أيـضـاً عـن خفايـا معانيه([31])، ويدلّ على ذلك قوله في مقدمة تفسيره: “إن أملأ العلـوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح، من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يـدقّ سلكها، علم التفسير الذي لا يتمّ لتعاطيه وإجالة النظـر فيـه كـلّ ذي علـم… فالفقيـه وإن بـرز على الأقران في علـم الفتـاوى والأحكام، والمتكلم وإن بز أهـل الـدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبـار وإن كـان مـن أهـل القريـة أحفـظ، والـواعظ وإن كـان مـن الحسن البصري أوعـظ، والنحـوي وإن كـان أنحـى مـن سيبويه، واللغـوي وإن علـك اللغات بقوة لحيْيَه، لا يتصدى منهم أحد بسلوك تلك الطرائق، ولا يغـوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علـم المعـاني وعلـم البيـان، وتمهّـل في ارتيادهـا آونـة، وتعـب في التنقير عنهما أزمنة”([32]).

ثمّ خصّ الزمخشري في كلامه القرآن بعلم المعاني وعلم البيان، وقدّمهما مـن حيـث الأهميـة عـلـى بـاقي العلـوم لكونـه يـكـشـف بـهـمـا عـن حـقـائق القرآن، وهذا يوضّح أثر المفسرين وما قدّموه من خدمة إلى البلاغة العربية، وإن كـان هـدفهـم ديـني بحت، إلا أنّه ذو أثر واضح لا يمكن لأحد أن ينكـره أسهم في تطوّر البلاغة، خاصّة في مراحل نشأتها الأولى.

فالبحث في جمال أسلوب القرآن الكريم وقوة عبارته وفصاحة مفرداته يدلّل على أنّه من الله عزّ وجلّ ويخدم هذا الغرض وأنّ الله تحدّاهم به فحاول بعضهم فعجز([33]).

وهذا الكلام يكشف عن سبب اهتمام المفسّرين بفصاحة القـرآن الكـريـم وبلاغته، ومنهم من رأى أنّ القرآن معجز بسبب فصاحته التي عجز العرب عن مجاراتها، وذكر ذلك الرازي (ت: 606 هـ)، قال: “اختلف الناس في الوجه الذي لأجلـه كـان القرآن معجزاً، فقال بعضهم: هـو الفـصاحة، وقال بعضهم: هو الأسلوب، وقال ثالث: هو التناقض، وقال رابع: هـو اشتماله على العلوم الكثيرة، وقال خامس: هو الصرف، وقال سادس: هـو اشتماله على الأخبار عن الغيـوب، والمختار عنـدي وعند الأكثرين أنّه معجز بسبب الفصاحة([34]).

ولا يمكن أن نأتي على ذكر جميع المفسرين، ونبرز إشاراتهم إلى علـو كعب البلاغة وأهميتها في إدراك القرآن الكريم وقد تصدى لهذا الأمر الكثير من المهتمين به وبعلومه، ونتيجة لذلك تعددت مناهج التفسير، واختلفت من مفسّر إلى آخر، وكلّ جرى على طريقة معينة حين يريد أن يدرك المعنى المراد من النص القرآني، وقد توسّعوا في ذلك توسعاً لا يكاد يقف عند حد، والمنهج البياني هو أحد المناهج التي اتكأ عليهـا المفسّرون لغرض الوصـول إلى المعنى “فنـون التصوير البياني عرفهـا العـرب في وقت مبكـر وهـي عنـدهم وسيلة للمعاني الإضافية، وبنوا عليها أحكامهم النقدية”([35]).

وشاع عندهم أن هذا المنهج هو “الذي تدور مباحثه حول بلاغة القرآن في صوره البيانية من تشبيه واستعارة وكناية وتمثيـل ووصـل وفصل وما يتفرغ مـن ذلـك مـن اسـتعمال حقيقي أو استخدام مجـازي أو استدراك لفظي أو استجلاء للصورة… والبحث في هذا الجانب يعـدّ مؤشراً دقيقاً في استكناه البلاغة القرآنية”([36]).

واستعان السيّد السبزواري كغـيـره مـن المفسّرين بـالموروث البلاغـي الكبير، ومن يبحث في تفسيره يجـده قـد أشـار إلى مواضـع كـثيرة مبينـاً فيهـا بلاغتها، وهو لا يكتفي بهذه الإشارة وإنّما يحلل بدقة، ويفصّل القول، ويسمّي المبحث البلاغي باسمه، وينوّه على فائدته ضمن السياق القرآني.

وتلحـظ الجدّة في التناول مع ذوق بلاغي رفيـع وهـو ينـاقش الظـواهر البلاغية أو الدلالية ليستكمل عملية تفسيره الشامل من خلال ما يفرضه عليه البحث من سياقات مناسبة([37]) وإنّ استكشافاته البلاغية تظل متّسمة بأهمية أكثر دون أدنى شك، أنّه يتوكأ على المبادئ البلاغية الموروثة كالاستخدام والالتفات ونحوهما، إلا أنّ تذوقه الفنّي يتجاوز الدائرة الموروثة ليعبر بهـا إلى تخوم الفن الحديث أحياناً، وهو ما يهب تفسيره مزيداً من القيمة([38]).

لقد أهتم السيّد السبزواري بالبلاغة في تفسيره اهتماماً واضحاً، وقد نوّه في مواضـع مختلفـة بأهميتهـا مؤكّداً أنّ القـرآن نـزل وهـو في غايـة الفـصاحة والبلاغة، قال: “الآيات القرآنيـة نـزلـت وهـي في غايـة الفصاحة والبلاغة، فهمهـا البـدوي قبـل أن تكـون للنحـو قواعـده وأصـوله”([39])، ويرى أنّ وجـوه إعجاز القرآن الكـريـم كثيرة فهـو معجز للفصيح البليغ في فصاحته وبلاغته، وللعالم في علمه، وللفلسفي في فلسفته([40]).

ورأى أنّ العرب في عصر نزول القرآن، ولاسيّما في مهبط الوحي، كانوا أفصح الناس، بحيث لا يدانيهم قوم، ولا يقربهم في هذه الخصلة رهط، وكانت محافلهم تعجّ بالخطباء والشعراء، وتعقد الأسواق لذلك، وقد ضبطت الكتب فروع كلماتهم، ودقائق جملهم، ومع ذلك لم ينقل إلينا إلا شيء قليل، وكلّ من تأمل في هذه اللغة، ورأى فيها من الأسرار والدقائق، وما عليها من الجمال والبهاء، يعترف بالعجز والتحيّر، وحينئذٍ لا بدّ وأن تكون هذه الصفة ـ أي صفة البلاغة والفصاحة التي كانت شائعة في مهبط التنزيل ـ أقصى هدف سيّد الأنبياء صلّى الله عليه وآله وسلّم في إعجاز ما ينزل من الله تعالى، إذ لم يكن تحدّي كلّ نبي إلا بما تميّز به قومه، فنزل القرآن متحديّاً لهم ببلاغته وفصاحته، وأمرهم بالإتيان بمثله، أو بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك، واعترفوا بالقصور([41]).

وهذا الكلام يؤكد اهتمام صاحب المواهب بالبلاغة في القرآن الكريم، إذ يعدّها إحدى وجوه إعجازه، وهذا البحث يؤكد اهتمامه بها، وأنّه يعتمد عليها في مواضع كثيرة في تحديد معنى آية من الآيات الكريمة، أو الإشارة إلى جمالها وأنّها في نهاية البلاغة والفصاحة.

وهو يحاول ـ أي البحث ـ أن يكشف عن جهد المفسّر البلاغي ويبرز قيمته ما أمكنه ذلك.

([1]) ينظر: المشجر الـوافي في السلسلة الموسوية، حسين السيّد أبو سعيدة: 1 / 63 ـ 69، وينظر: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، أحمد بن علي الداودي: 218، وينظر: صـفـحة مـن حيـاة الإمـام الـسبزواري، السيّد محمّد حـسن الطالقـاني: 40، وينظـر جمال السالكين، السيّد حسين تجيب محمّد: ۱۳، وينتظر: ألطاف الباري من نفحات الإمام السبزواري، السيّد عبد الستار الحسني: 15، وينظر: مع المقدس السبزواري في قبسات من مواهبه، السيّد محمّد تقي الحجار: 15.

([2]) ينظر: ألطاف الباري: 21، وينظر: مع المقدس السبزواري: 43.

([3]) ينظر: صفحة من حياة الامام السبزواري: 43.

([4]) ينظر: جمال السالكين: 18.

([5]) ينظر: المصدر نفسه: ۱۸.

([6]) صفحات مشرقة من حياة الامام السبزواري، السيّد عدنان الخباز القطيفي: 73.

([7]) ينظر: ألطاف الباري: 49 ـ 50.

([8]) صفحات مشرقة: 126.

([9]) مقدمة كتاب بحث حول الدعاء، بقلم السيّد محسن السبزواري: 7.

([10]) ينظر: الكشاف: 1 / 43.

([11]) لم يتتلمذ السيّد الوالد (قدّس سرّه) عند السيّد القاضي (رحمه الله) وإنّما حضر برهة من الزمن في مجالسه (السيّد علي السبزواري).

([12]) لم يتتلمذ السيّد الوالد عند الشيخ عبد الله المامقاني والعلامة الشيخ أغا بزرك الطهراني وكذلك الشيخ عباس القمّي، وإنّما عنده إجازة روائية منهما، إنّه لم يتتلمذ عنـد هـؤلاء الأعلام الثلاثة.

([13]) ينظر: ألطاف الباري: 29 ـ 36، وينظر: مع المقدس السبزواري: 15، وينظر: صفحة من حياة الإمام السبزواري: 43 ـ 48، وينظر: جمال السالكين: 16 ـ 17.

([14]) ينظر: ألطاف الباري: 40 ـ 41، وينظر: جمال السالكين: ۲۰ ـ ۰۲۱

([15]) ينظر: صفحة من حياة الإمام السبزواري: 64 ـ 66، وينظر: ألطاف الباري: 85 ـ 100.

([16]) ينظر: جمال السالكين: 25.

([17]) ينظر: ألطاف الباري: 157.

([18]) ينظر: الكتاب: 1 / 143، 2 / 25، وينظر: معاني القرآن: ۱ / ۱۰۳، ۲ / 403، وينظر: مجاز القرآن: 2 / 266، وينظر: العمدة: 1 / 266، وينظر: قواعد الشعر: ۳۷.

([19]) ينظر: أثر النحاة في البحث البلاغي، د. عبد القادر حسين: 444.

([20]) دلائل الاعجاز: 403.

([21]) ينظر: مقدمة كتاب أسرار البلاغة، بقلم المحقق: محمّد عبد المنعم خفاجي: 2 / 13.

([22]) ينظر: القرآن الكريم: المعجزة الخالدة، د. عبد الرحيم أحمد: ۲۸۹.

([23]) ينظر: تأريخ البلاغة العربية، د. عبد العزيز عتيق: 14.

([24]) ينظر: البلاغة والأسلوبية، د. محمّد عبد المطلب: ۱۹۰.

([25]) ينظر: أثر النحاة في البحث البلاغي:50.

([26]) کتاب الصناعتين: 1.

([27]) ينظر: البلاغة عند السكاكي، د. أحمد مطلوب: ۲۸۱.

([28]) ينظر: تطور دراسات اعجاز القران وأثرها في البلاغة العربية، د.عمر الملا حويش: 236.

([29]) ينظر: أثر النحاة في البحث البلاغي: 52.

([30]) جامع البيان في تأويل القرآن: الطبري: 1 / 12.

([31]) ينظر: البلاغة تطور وتأريخ، د. شوقي ضيف: ۲۲۰ ـ ۲۲۱.

([32]) الكشاف: 1 / 42 ـ 43.

([33]) ينظر: درس في اعجاز القرآن الكريم، من ضمن بحوث المؤتمر الأول للاعجاز القرآني، د. مساعد، مسلم عبد الله: 650.

([34]) التفسير الكبير، الرازي: 17 / 195.

([35]) المبادئ العامّة لتفسير القرآن الكريم، د. محمّد حسين علي الصغير: ۹۳.

([36]) عبد القاهر الجرجاني ـ بلاغته ونقده ـ د. أحمد مطلوب: 157.

([37]) ينظر: منهج السيّد عبـد الأعلى السبزواري في التفسير، د. عبد الرؤوف عبد الغفور: 58.

([38]) المصدر نفسه: 65.

([39]) مواهب الرحمن: 12 / 358.

([40]) ينظر: المصدر نفسه: 1 / 164.

([41]) ينظر: المصدر نفسه: ۱ / ۱۷۰ ـ ۱۷۱.

علم المعاني

لقـد قـسّم البلاغيـون البلاغـة علـى ثلاثـة علـوم، الأول: علـم المعـاني، والثاني: علم البيان، والثالث: علم البديع، وهذا التقسيم أوجده السكاكي (ت: 626 هـ)، وسـار عليـه مـن جـاء بـعـده ومـا يهـمّنـا في هـذا الفـصـل هـو (علـم المعاني)، إذ اطلق على مباحث بلاغية لها اتصال بنظام الجملة وما يطرأ عليها من تغيير كالتقديم والتأخير، والتعريف والتنكير والفصل والوصـل والقصر، ووضع الظاهر موضع المضمر، والإيجاز والاطناب والمساواة… وغيرها من المباحث الأخرى.

ووضع السكاكي تعريفا لعلم المعاني، قـال هـو: “تتبع خـواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره”([1]).

ولم يرد مصطلح (المعاني) في بحوث الاوائل، ولا يعرف أحـد استعمله وأطلقـه علـى قـسـم مـن موضـوعات البلاغـة قبـل السكاكي([2])، ولعـلّ عبـارة (معاني النحو) التي وردت في المناظرة التي جرت بين الحسن بن عبد المرزبان المعروف بأبي سعيد السيرافي (ت: 368 هـ) وأبي بشر متّـي بـن يـونس في مجلس الوزير أبي الفتح بن جعفر بن الفرات كانت مـن أقـدم الإشارات إلى هذا المصطلح بمعناه القريب من البلاغة([3]) وكان لنظرية النظم أثر كبير في إظهار هذا النوع من الدراسات البلاغية، وقد وضحت معالم هذه النظرية وبلغت أوج نضجها عنـد عبـد القاهر الجرجاني الذي أعاد وكرر في إثباتها والتأكيد عليها وسمّى موضوعات التقديم والتأخير والحذف والذكر، وغيرهـا (معاني النحو)([4]) يقول: “فلا ترى كلاماً قـد وصـف بـصحة نظـم أو فساده أو وصـف بمزية وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية بمزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه”([5]).

وأكد الجرجاني أنّ أساس نظرية النظم ومدارها كان على معاني النحو، يقول: “إنّ مدار أمر النظم على معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه”([6])، والكلام الذي تحدث به الجرجاني في دلائل الاعجاز كان المادة الأساسية التي اعتمد عليها السكاكي لتبويـب علـم المعاني وجعله أحد علوم البلاغة([7])، فالسكاكي إذن اطلق مصطلح علم المعاني على مباحث البلاغة التي سمّاها عبد القاهر الجرجاني (معاني النحو) أو (النظم)([8]) وأنّه: “بـتـر عبـارة (معـاني النحـو) فأصبحت عنـده (علـم المعـاني)”([9])، لـذا يعـد السكاكي أول من أدخل مباحث علم المعاني ضمن علم البلاغة، على الوجه الذي كشف عنه في كتابه (مفتاح العلـوم)، فقـد كانت هذه المسائل مـن تقـديـم وتأخير، وحذف وذكر، وفصل ووصـل تبحث عنـد مـن تقدمه أمّا في كتب النحو أو بأسلوب أدبي ليس فيه تقسيم أو تحديد.

وكان الزمخشري من قبل في كتابه (الكشّاف) قـد أشار إلى علم المعاني بقوله: “ولا يغـوص على شيء مـن تلـك الحقائق إلا رجـل بـرع في علمين مختصين بالقرآن وهما: علم المعاني وعلـم البيـان”([10])، فكـلام الزمخشري هذا لم يفد في شيء، لأنّه غير محدد، فكان كثيراً ما يردد هذين المصطلحين، وكثيراً ما يطلق البيان على البلاغة كلّها، ولم نجده قد وضع الحدود بين مباحث علـم المعاني وعلم البيان، والسبب يعود إلى أنّه لم يكن مهتماً بمباحث علـم البلاغة حينمـا كـتـب الكشّاف، وإنّمـا كـان يفسّر القـرآن ويوضـح مـا فـيـه مـن روعـة وجمال([11]).

وعند قراءتي لكتاب تفسير مواهب الرحمن، وجدت السيّد السبزواري قد أتى على ذكر الكثير من مباحث هذا العلم ضمن تفسيره الآيات الشريفة، وكانت له عوناً للوصول إلى المعنى إلا أنّه لم يحددها أو ينسبها إلى العلـم الـذي تنتمي إليه، كما أنّه لم يذكر لفظ (علـم المعاني) في تفسيره إلا في موضع قـال فيه: “المعروف عند أهل المعاني”([12]) على الرغم من إحاطته بمباحث هذا العلم كما هو واضح في التفسير، وهذا يؤكـد معرفته وإحاطته الدقيقة بمباحث علم المعاني، وأنّه لا يمكن للمفسّر أن يتجاهله لما له من أثر كبير في فهم المقصود من الآيات الشريفة.


([1]) مفتاح العلوم: 341.

([2]) ينظر: دراسات بلاغية ونقدية: د. أحمد مطلوب: 43.

([3]) ينظر: أساليب بلاغية، د. أحمد مطلوب: 67.

([4]) ينظر: دراسات بلاغية ونقدية: 44.

([5]) دلائل الاعجاز: 65.

([6]) دلائل الاعجاز: 69.

([7]) ينظر: دراسات بلاغية ونقدية: 44.

([8]) ينظر البلاغة عند السكاكي، د. أحمد مطلوب: 401.

([9]) المصدر نفسه: 304.

([10]) الكشاف: 1 / 43.

([11]) ينظر: دراسات بلاغية ونقدية: 45.

([12]) مواهب الرحمن: 169/2.

لقد عرّفه ابن فارس (ت: 395 هـ) بقوله: “الخبر ما جاز تصديقه أو تكذيبه”([1])، وذكـر الـرازي الخبر وعبّر عنه بأنّه القـول المقتضي بتصريحه نسبة معـلـوم إلى معـلـوم بـالنفي أو الاثبات، وحـده: أنّـه للـصدق أو الكـذب([2]), ولم يخرج القزويني (ت: 739 هـ) بتعريفه للخبر عن غيره بقوله: “اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب، صدقه مقابل حكمه للواقع، وكذبه عدم مطابقة حكمه له، هذا هو المشهور وعليه التعويل”([3]).

ولم يحد علماء البلاغة المعاصرون عن هذا التعريف إلا أنّهـم اعتقدوا أن: “أخبار القرآن الكريم لا تحتمل إلا الصدق باعتبارها كلام الله جلّ وعلا، وإن كانت تحتمل الصدق والكذب من حيث هي أخبار بصرف النظر عن قائلها”([4])، وإلى المعنى نفسه أشـار قدامة بن جعفر (ت: 337 هـ) إذ رأى أنّ الأخبار التي وردت في القرآن الكريم وأحاديث النبي 9 لا يمكن أن تحتمل الكذب مع أنّها اخبار عن شيء، ولذلك تخرج من هذا التعريف، أمّا غيرها من الاخبار فهي قابلة للتصديق والتكذيب من أي إنسان صدرت لأنّهـا ينظر إليها لذاتها لا لذات القائلين([5]) وقد أشار السيّد السبزواري إلى المعنى نفسه الذي ذكره البلاغيـون للخبر عنـد تفسيره قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً}([6])، إذ قال: “الوعـد مـن الانشاء لا من الاخبار فـلا يتصف بالصدق والكذب بل يتصف بالوفاء وعدمه وهـو المراد بصدق الوعـد وكذبـه”([7])، فهو يشير إلى أنّ الوعد وإن كان في صيغة الاخبار إلا أنّه ليس اخباراً، لأنّ وعد الله لا يحتمل الصدق والكذب، وأشار إلى المعنى نفسه في موضع آخر، حيث يرى أنّ الوعد من مقولة الفعل والعمل لا من مقولة اللفظ والقـول لـذا فـإنّ الوعد عنده يستعمل في مقام الانشاء لا الاخبار، وهـو يـرد بذلك على آراء الأدباء والمفسّرين، وهو يقترب من توجيه البلاغيين المحدثين لاخبار القـرآن الكـريـم، قال: “المعروف بين الأدباء وتبعهم المفسرون، أنّ كلّ واحد من الوعـد وخلفه خبر يتصف بالصدق والكذب وهـو بالنسبة إلى خلف الوعـد أطـل، لأنّه من مقولة الفعل والعمل لا من مقولة اللفظ والقول إلا أن يريدوا الالحاق الحكمي لا الموضوعي، وكذا بالنسبة إلى نفس الوعـد فإنّه يستعمل في مقام الانشاء لا الاخبار”([8]).

وفي مواضع أخرى يتناول السيّد السبزواري الفروق بين الجملة الخبرية والجملـة الانشائية ويؤكـد في أكثـر مـن إشـارة أنّ الجملـة الخبريـة صـريحة في التشريع على عكس الجملة الانشائية، ويذكر اتفاق المسلمين على ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}([9])، إذ قال: “هذه الآيـة صريحة في تشريع حجّ التمتع، لأنّ الجملة الخبريـة أصـرح مـن التشريع مـن الانشائيات، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين”([10]).

ويؤكد صاحب المواهب أنّ الجملة الخبرية قد تكون في مقام الانشاء، ويعدّه من الأمور الشائعة والمعتمدة في علـم الأصـول في قوله: “تكون الجملة الخبريـة في مقـام الانشاء، وهـذا كثير شـائع في المحاورة واعتمـد عليـه في علـم الأصول، نظير قوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ}([11]) وغير ذلك([12]).

وفي موضع آخـر يـرى أنّ الجملة الخبريـة أبلغ في الوجـوب عـن تفسيره لقولـه تعـالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}([13])، قال: “جملة خبريـة مستعملة في الانشاء وهي أبلغ في الوجوب”([14]).

نجد أنّ صاحب المواهب يميز بين الجملة الخبرية والجملة الانشائية ويبيّن أهمية كلّ منهما وفائدتها في السياق الذي وردت فيه، ورأى أنّ الجملة الخبرية تقـوم مـقـام الإنشاء لأغـراض معينـة، ويؤكـد أنّ ذلـك معـروف وشـائع في المحاورات الفصيحة.

توكيد الخبر:

تعددت أشكال أساليب الكلام في اللغة العربية، وما ذلك إلا لتعـدد الأغراض واختلافها، لأجل أن يكون الكلام بمستوى مقتضى الحال، فتنوعت بسبب هذا طرق تأدية المعنى، والقرآن الكريم هو المثال الأعلى للكلام المدوّن باللغة العربية، وتضمّن مختلـف أساليبها ومنهـا توكيـد الخبر، وتختلـف أيـضاً “صور الخبر في أساليب اللغة باختلاف أحوال المخاطب، فتراه حيناً مجرّداً من أدوات التوكيد، وتجده حينـاً مؤكداً بمؤكـد واحـد، وحينـاً مؤكـداً بـأكثر مـن مؤكد”([15]).

تعرض السيّد السبزواري في تفسيره لذكر مؤكدات الخبر والغرض منها، ففي قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}([16])، ذكر ثلاثة مؤكدات من مؤكدات الخبر، قال: “تأكيد الجملة بأنّ واللام وضمير المنفصل دلالة على أنّ هـذا هـو الحق فقط، دون غيره ممّا تدّعيـه النصارى في عيسى بن مريم عليه السلام، الـذي هـو خـلاف الحـق، وتطيـيب لـنفس رسـول الله صلى الله عليـه وآله، وإعلامه بأنّه على الحق”([17]).

بيّن أنّ التوكيد أفاد انكار ما تدّعيه النصارى في نبيّهم وأفاد أيضاً تطييب وتثبيت نفس النبي صلّى الله عليه وآله، واخباره بأنّه على الحق، وفي موضع آخر ذكر التأكيد بالقسم والغرض منه، في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً}([18])، قال: “إنّما ذكر عزّ وجـلّ أسلوب القسم وأظهـر الاسـم الجليل، لإفـادة التأكيـد وتفخـيـم الميثـاق وتهويـل الخطـب في نقضه”([19]).

وأشار المفسّر إلى مؤكدين من مؤكدات الخبر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ}([20])، إذ رأى أنّ لام القـسم والنـون المشددة للتوكيد، لأنّ الآية توطئة للأحكام المشددة في الآيات التي تليها([21])، وذكـر أيـضاً أنّ أداة النفي (لن) ولفظة (أبداً) يفيدان التأكيد عند تفسيره لقوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا}([22])، قال: “التأكيد على الأعراض باستعمال أداة النفـي الدالة على التأبيـد، وتأكيـد بقـولـهـم (أبـداً)” ([23])، وأشـار أيـضاً إلى التأكيـد بحـرف التنفيس (سـوف) في قولـه تعـالى: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}([24])، رأى أنّ في الكـلام كـشـفاً للحقيقة لا إخبـاراً عنهـا، وهـو مـسوق للتوعيـد والتهديد، وإنّ (سـوف) فيـه لتأكيـد الوعـد([25])، وفي قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ}([26])، ذكر أنّ الخبر مؤكـد بـلام القسم وجملة النفي الاسمية المقرون خبرها بالباء، ورأى إنّ هذا التأكيد للإعلام بأنّ هابيل لم يكن يضمر السوء وإنّه بعيد عن الانتقام([27]).

تكشف الأمثلة السابقة أنّ صاحب المواهب كان مهتماً بأسلوب التأكيد، وأنّه يشير إليه في مواضعه ويميّز بين أدواته، كما كان يهتم بذكر الغرض منه، ممّا يكشف أهمية هذا الأسلوب في فهـم دلالة السياق القرآني فهماً دقيقاً، ممّا يقرب إدراك المعنى المقصود، ويكشف عـمّـا يـضمر الإنسان في داخلـه حـين يستعمله في كلامه، كما يظهر ذلك جلياً في خطاب هابيل لأخيه قابيل، فكان خطابه مؤكداً بلام القسم وما الحجازية النافية المؤكد خبرهـا بالباء، ممّا أفصح عن نيّة هابيل، وأنّه لم يكن يضمر السوء لأخيه.

الأغراض البلاغية التي يخرج إليها الخبر:

يخرج الخبر إلى كثير مـن الأغـراض البلاغيـة، وقد ذكرهـا البلاغيـون القدماء والمعاصرون([28])، وهـي تفـهـم مـن خـلال فهـم السياق العـام للخطاب القرآني وإدراك مستوياته التعبيريـة، وكشف السيّد السبزواري عـن هذه الأغراض في مواضعهـا مـن القـرآن الكـريـم معتمـداً علـى مـا تـشـعّ بـه الجملة القرآنية من معنى في سياقها القرآني.

ومن أهم الأغراض القرآنية التي أشار إليها:

1 ـ التهديد:

وهو من الأغراض البلاغية التي يفيدها الخبر، رصده صاحب المواهب في مواضع مختلفة منها، عند تفسيره قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً}([29])، قال: “تهديد لمن يريد الخروج عن طاعة الله بالبغي على النساء والتعدي عمّا شرعه الله فيهن”([30])، وهذا المعنى مخالف لما ذكره الزمخشري في تفسير الآيـة الكريمة، إذ رأى أن الخبر يفيد التحذير ليعلموا أنّ قدرة الله عليهم أعظـم مـن قدرتهم على من تحت أيديهم([31])، ويبدو أنّ غرض التهديد أكثر مناسبة، لأنّ الآية الكريمة جاءت بعدما أكد الله عزّ وجلّ على عدم البغي على النساء وإلى حفظ ما شرع الله فيهنّ وعدم التعدّي عليها لأنّها حدود الله، لذا فإنّ التأكيد على أنّ الله علي وكبير فيه تهديد لمن يتجاوز هذه الحدود.

ويعتقـد السيّد السبزواري أنّ الخبر يخرج للغرض نفسه، وهـو يلتمس ذلك ممّا يبـوح بـه النص القرآني من معنى، كما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}([32])، قال: “أي جزاء مخالف ما ذكر من الأحكـام ـ في الآيـات سـواء أكـانـت بالنـسية إلى النفـوس أم الأمـوال أم الأعراض ـ يسير على الله تعالى فإنّه قادر على كلّ شيء، وأمـّا مـن قـال بـأنّ التعليل والتهديد راجع إلى خصوص القتل فلا تعميم فيه، فهـو مخالف لسياق الآية الشريفة، ودأب القرآن الكريم في سائر الموارد التي يذكر فيهـا عـزّ وجـلّ أموراً كثيرة ثمّ يأتي بتعليل واحد يعمّ الجميع ويشمله”([33]).

ويری صاحب المواهب أنّ الخبر قد يخرج إلى غرضين بلاغيين كما في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً}([34])، فيجمع غرضي التوعيد والتهديد في مثال قرآني واحد يؤدّيه الخبر، فهـو يـرى في الآية: “توعيـد لمـن صـدّ عـن الحـق وتهديـد لـهـم بعـذاب جهـنـم الـتي لا ينقطع سعيرها”([35]).

إنّه يوجه الخبر للغرض الذي أفاده، ويكشف عن المعنى المراد منه ضمن السياق القرآني، ولا يكتفي بالمعنى الظاهر للآيات الشريفة كما هـو واضح من الأمثلة المتقدمة.

2 ـ النهي:

وهو من الأغراض البلاغية التي يؤديها الخبر، وأشار إليه الزركشي (ت: 794 هـ) عند حديثه عـن الأغراض المجازية التي يفيدها الخبر([36])، وقد وجّهه المفسّر إلى إفادة هذا الغرض عنـد تفسيره لقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ}([37])، قـال: “الجملـة خـبـر بمعنـى النهـي، أي: لا تنفقـوا إلا لوجهه عزّ وجلّ”([38])، فهو من بعد أن يذكر الخبر اعتماداً على ما يفيده السياق القرآني من معنى، يقترح السياق الحقيقي المراد منه كما في المثال الأخير, وفي موطن آخر يرى أنّ الخبر أفـاد غـرض النهي في قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً}([39])، إذ رأى أنّ الخبر يدل على النهي عن كلّ ما يوجب هتك حرمات الله تعالى سواء كان بالتشريع أم بالقصد أم بالقول أم بالفعل([40]).

3 ـ التسلية:

في قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}([41])، يرى المفسّر أنّ الخبر أفاد غرض التسلية للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد أن أخبره بتخلي أكثر الناس عنه، ورجعوا إلى ما كانوا عليه، قال: “في الآية المباركـة تـسلية لنبينـا الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وإخبـار لـه بإدبار الأكثر”([42]).

وفي قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}([43])، يرى صاحب المواهـب أنّ في قولـه تعـالى: (سـنـن الـذيـن مـن قـبلكم) التسلية للمؤمنين ممّا لاقوه من المشركين من المتاعب([44]) في ضوء ما تقـدم نجد أنّ المفسّر قد أشار إلى التسلية، وعدّها غرضاً بلاغياً يستفاد من سياق الجملة الخبرية وتؤدي معناه، كما يفهم منها اعتماداً على المراد من النص القرآني.

4 ـ التحسر:

يعتقـد المفسّر أنّ الخبر يخرج إلى غرض التحسر في قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}([45])، فهو من خلال عرض قصة مـريـم ” يوضح الحسرة والحزن بسبب خيبة ظنّها، لأنّها كانت تنتظر ولداً، فوضعت مريم ” والانثى ليس كالولد، ومن خلال ما يوحي به السياق القرآني يوجه الغرض البلاغي الذي أفادته الجملة الخبرية، قال: “وجملة {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} خبرية يراد بها التحسّر والتحزّن ممّا داهمها من خيبة الرجاء، فليس الغرض هو الاخبار فقط”([46])، وأشار إلى الغرض نفسه عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}([47])، ويحصل ذلك عندما يعرف المشركون الحق في الآخرة وتتكشف لهم الأمور فيندموا ندامـة شـديدة، ويعرفون أنّهم قد ظلموا انفسهم ويتحسّرون على ما فاتهم، قال: “وبالجملة: أنّه يدخل عليهم ما لا يمكن دخوله تحت وصف من الحسرة والندامة”([48]).

نجد أنّ المفسّر يكشف خلال تفسيره عـن المعاني البلاغيـة الـتي يؤدّيهـا الخبر، والتحسّر من هذه المعاني التي أشار لها، وهـو ممّا يعبّر عنه واقع حال الجملة الخبرية كما في المثالين السابقين ويكون جزءً من دلالة الآيات الشريفة.

5 ـ التعظيم:

وهو من المعاني التي تفهم من سياق الجملة الخبرية، وقد أشار إلى ذلك القزويني في كتابه (الايضاح)([49])، عند حديثه عن فائدة الخبر، وكذلك ابن يحيى العلوي (ت: 749 هـ) في كتابه (الطراز)([50])، وأشار إليه السيّد السبزواري عنـد تفسيره لقولـه تعـالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}([51])، إذ قال: “يستفاد من الآية الشريفة تعظيم آل ابراهيم الذين آتاهم الله تعالى الفضل العظيم فيختص بإبراهيم وذريّته الأنبياء والنبي (صلّى الله عليه وآله)”([52])، وأشار إلى الغرض نفسه عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ}([53])، فلأنّ الآية الكريمة تبين أحـد الأحكـام المهمـة في النساء، فهـي تـشير إلى عظمـة هـذه الأحكـام وضرورة تطبيقها والالتزام بها، قال: “الآية المباركة بيان لعظمة شأن المتلـو مـن الأحكام التي تتلى في القرآن الكريم في شأن النساء”([54]).

إنّ التعظيم من الأغراض المستفادة من الجملة الخبرية، يتجلى ذلك خلال فهم السياق القرآني، كما أشار صاحب المواهب في تفسيره.

 6ـ الأمـر:

في موطن آخر يرى المفسّر أنّ الخبر يخرج إلى غرض الأمر، وهو ممّا ينطق به السياق القرآني، ويرى أنّ مجيئه علـى صـورة الخبر لأجـل تفخيمه وأيضاً لأجل التأكيد على الامتثال الواجب له، وكان ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}([55])، قال: “إيراد الأمـر علـى صـورة الاخبار {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} من الفخامة وتأكيـد وجوب الامتثال”([56])، وقد أشار السيوطي (ت: 911 هـ) في كتابه (الاتقان) إلى هذه الفائدة البلاغية من الخبر، وعـدّه مـن الأساليب المعروفة لدى الأدباء([57])، وفي مكان آخر ألمح إلى إفادة الخبر المعنى نفسه عند تفسيره قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً}([58])، حيث رأى أنّ جملة {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} جملة مستأنفة، قال: “والعطف فيها عطف جملة انشائية على جملة خبرية هي في معنى الانشاء فيرجع المعنى إلى قوله أحكم بينهم ولا تكن للخائنين خصيماً”([59]).

رأى أنّ الجملة الخبرية الأولى في معنى الإنشاء، وتقدير {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} أحكم بين الناس فأدت معنى الأمر.

7 ـ الوعيـد:

ذكر هذا الغرض الزركشي وأكّد أنّه ممّا يفيـده الخبر([60])، وأشار السيّد السبزواري إلى ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}([61])، إذ قـال: “وعيـد للمستهزئين بالرسول 9 ممّا يلقاه من قومه، وانذار للمشركين المستهزئين الذين حكى الله تعالى مظاهر استهزائهم برسله وأنبيائه في محكم كتابه”([62]).

وأشار إلى الغرض نفسه عندما أتى على قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}([63])، قال: “وعيـد للكافرين الذين يريدون إذلال المؤمنين والقضاء عليهم”([64]).

إنّ إشارته إلى المعنى الذي أفادتـه الجملة الخبريـة لـم يكـن بخـارج عـن الاطار الدلالي الذي تريد أن تكشف عنه الآية الكريمة، وإنّما هـو مكمّل له وجزء من الأدوات التعبيرية المستعملة في ذلك.

8 ـ الإرشـاد:

ذكـر هـذا الغرض يحيـى العلـوي عنـد حديثه عـن الفـروق بين الجملة الخبرية والانشائية([65])، وذكـره المفسّر عنـد تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}([66])، حيث رأى إنّ إخبـار الله تعالى بأنّ الشيطان عدو للإنسان وتحذيره للسعي في الابتعاد عنـه ارشـاداً لـه، قال: “ارشـاد إلى أمـر فـطـري، وهـو أنّ الإنسان لا يركن إلى عدوه ويبتعد عنه، فيكـون مـن بـاب بيان الموضـوع لترتب الحكم الفطري عليه قهراء([67]).

وفي مكان آخر رأى أنّ الخبر أفاد الغرض نفسه في الآية الكريمة: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}([68]) قال: “ما تضمنته هذه الاية المباركة تعليم إلهي لسائر الناس وإرشاد لهم بأنّهم إذا تناجوا فلا بدّ أن يكون نجواهم بالخير والمعروف والاصلاح بين الناس والتأليف بينهم بالمودة وإلا فلا خير في نجواهم ويكون وزره ووباله عليهم”([69]).

إنّ الآية الكريمة أرشدت إلى الخير، وهو حاصل في كلّ نجوى واقعة بين طرفين أو أكثر، فـلا بـدّ أن يكـون حاصـلاً في أحـد الأمـور الثلاثة، الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس، وغيرها لا خير فيها.

9 ـ التوبيـخ:

وهو من الأغراض البلاغية التي أشار لها صاحب المواهب والمستفادة مـن الخبر، بيّن ذلـك عنـد عروجـه على تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}([70]) قال: “ظاهر الخطاب وإن كان موجهاً إلى أهل الكتاب، بدعوى ظهور لفظ (المشرق والمغرب) اللذين هما قبلة اليهـود والنصارى، فيكون توبيخاً لهم في افتعالاتهم، وردعاً لذلك”([71]).

وذكره عند تفسيره قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً}([72])، قال: “أي: أنّ الله سميع لأقوال عباده وما يهجس في خواطرهم، بصير لأفعالهم لا يخفى عليه خافية، وفيه من التوبيخ ـ بتركهم ما عنده تعالى، وأعراضهم عن الطاعة، والاقتصار على ما يريدونه ـ ما لا يخفى فلا بدّ من مراقبته عـزّ وجـلّ في جميع الأمور”([73]).

من الواضح أنّ صاحب المواهب عند إشارته إلى الغرض البلاغي الذي يخرج إليه الخبر، فإنّما يكون ذلك بما يلائم المعنى العام للآيات الشريفة وغير خارج عن سياقها، فهـو يأخذ بالحسبان سياق كـلّ آيـة شـريفة وما تفيـده مـن معنى، لتحديد الغرض البلاغي المناسب الذي يخدم المعنى، ويستفاد أيضاً من القص القرآني وأسلوب الحوار لتوجيه الأغراض البلاغية المستفادة من التعبير بالخبر.

([1]) کتاب الصاحبي: لابن فارس: ۱۷۹.

([2]) ينظر: نهاية الايجاز في دراية الاعجاز: الرازي: 71.

([3]) الايضاح: ۱۰.

([4]) علم المعاني، د. بسيوني عبد الفتاح فيود: ۱ / ۳۰ ـ ۳۱.

([5]) ينظر: نقد الشعر، قدامة بن جعفر: ۲۸ ـ ۲۹، وينظر: أساليب بلاغية: 89 ـ 90.

([6]) البقرة: الآية / 268.

([7]) مواهب الرحمن: 4 / 379.

([8]) مواهب الرحمن: 1 / 326.

([9]) البقرة: الآية / 196.

([10]) مواهب الرحمن: 3 / 169.

([11]) البقرة: الآية / 80 .

([12]) مواهب الرحمن: 6 / 148.

([13]) آل عمران: الآية / 97.

([14]) مواهب الرحمن: 6 / 168.

([15]) البلاغة العربية بين التقليد والتجديد، د. عبد المنعم خفاجي: 127.

([16]) آل عمران: الآية / 62.

([17]) مواهب الرحمن: 6 / 11.

([18]) المائدة: الآية / 12.

([19]) مواهب الرحمن: 11 / 74.

([20]) المائدة: الآية / 94.

([21]) ينظر: مواهب الرحمن: ۱۲ / ۲۳۱ ـ ۲۳۲.

([22]) المائدة: الآية / 24.

([23]) مواهب الرحمن: 11 / 151.

([24]) المائدة: الآية / 14.

([25]) ينظر: مواهب الرحمن: 11 / ۸۳ .

([26]) المائدة: الآية / 28.

([27]) ينظر: مواهب الرحمن: 11 / ۱۹۱.

([28]) ينظر: الطراز: 520، وينظر: المطوّل: ۱۹۷، وينظر: البرهان: ۲ / ۳۳۰، وينظر: أساليب بلاغية: 90، وينظر: علم المعاني، د. بسيوني عبد الفتاح: ۱ / ۳۰.

([29]) النساء: الآية / 34.

([30]) مواهب الرحمن: 8 / 181 .

([31]) ينظر الكشاف: 1 / 540.

([32]) النساء: الآية / 30.

([33]) مواهب الرحمن: ۸ / ۱۲۲.

([34]) النساء: الآية / 55.

([35]) مواهب الرحمن: ۸ / ۳۲۰.

([36]) ينظر: البرهان في علوم القرآن، الزركشي: 2 / ۳۳۳.

([37]) البقرة: الآية / 272.

([38]) مواهب الرحمن: 4 / 394.

([39]) النساء: الآية 307.

([40]) ينظر: مواهب الرحمن: 8 / 124.

([41]) البقرة: الآية / 100.

([42]) مواهب الرحمن: 1 / 481.

([43]) النساء / 26.

([44]) ينظر: مواهب الرحمن: 8 / 85 .

([45]) آل عمران: الآية / 36.

([46]) مواهب الرحمن: 5 / ۲۸9.

([47]) البقرة: الآية / 165.

([48]) مواهب الرحمن: 2 / 316.

([49]) ينظر: الايضاح: 52.

([50]) ينظر: الطراز، يحيى بن حمزة العلوي: 522.

([51]) البقرة: الآية / 54.

([52]) مواهب الرحمن: ۸ / ۳۱۸.

([53]) النساء: الآية / 127.

([54]) مواهب الرحمن: 9 / 367.

([55]) النساء: الآية / 58.

([56]) مواهب الرحمن: 8 / 342.

([57]) ينظر: الاتقان في علوم القرآن، السيوطي: 2 / 76.

([58]) النساء: الآية / 105.

([59]) مواهب الرحمن: 9 / 354.

([60]) ينظر: البرهان: 2 / ۳۳۳.

([61]) الأنعام: الآية / 10.

([62]) مواهب الرحمن: 13 / ۷۳.

([63]) النساء: الآية / 102.

([64]) مواهب الرحمن: 9 / 228.

([65]) ينظر: الطراز: 536.

([66]) البقرة: الآية / 168.

([67]) مواهب الرحمن: ۲ / ۳۳۹.

([68]) النساء: الآية / 114.

([69]) مواهب الرحمن: 9 / 269.

([70]) البقرة: الآية / 177.

([71]) مواهب الرحمن: ۲ / ۳۷۷.

([72]) النساء: الآية / 134.

([73]) مواهب الرحمن: ۹ / ۳۸۲.

الانشاء مغاير في الحقيقة للخبر، فالخبر دال على حصول أمر في الخارج، فإن كان مطابقاً له فهو الصدق، وإلا فهو الكذب، بخلاف الإنشاء، فإنّه لا يدل على حصول أمر، بل من حقيقته أن لا يكون مطلوباً إلا مع كونه معدوماً في حال طلبه([1]).

والكـلام “إن لم يحتمـل الـصدق والكـذب سمـي إنـشاء”([2])، ويرى الدكتور بسيوني عبد الفتاح أنّ وظيفة الجملة الانشائية ليس حكاية الخبر وإنّما يقصد بها “إنشاء الكلام وإيجاده ابتـداء فهـي عبـارات تـصاغ ابتـداء وتنشأ ليطلب بها مطلوباً”([3]).

والجملة الإنشائية لهـا حـال يختلف عن الجملة الخبرية، لأنّ لهـا وجـوداً خارجياً قبل النطـق بـهـا فـعـدم احتمال الأسلوب الإنشائي للصدق والكذب “إنّما هـو بالنظر إلى ذات الأسلوب بغض النظر عمّا يستلزمه، وإلا فإنّ كلّ أسلوب إنشائي يستلزم خبراً يحتمل الصدق والكذب”([4]).

والسيّد السبزواري في مواطن مختلفة أشار إلى اختلاف المعنى الذي يفهم من الجملة الخبرية مع ما يفهم من الجملة الانشائية، فالأسلوب يختار بدقة ليعبّر عن المعنى وفق ما يقتضيه السياق، فعند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ}([5]) يرى أنّ: “فيه الانكار على من يطلب المغفرة من الأوثان أو الأفراد الذين لم يأذن لهم الله تعالى بالاستشفاع لديه في غفران الذنوب بالخصوص، ويؤكد ذلك ورود الخطاب على هيئة الانشاء دون الاخبار”([6])، فيجعـل ورود الجملة على صورة الانشاء دليلاً على المعنى الذي أبرزه، وهـو انـكـار طلب المغفرة من الأوثان، إذن فالتعبير بأسلوب الإنشاء يساعد على تحديد المعنى وفهمه من قبل المفسّر.

ويرى صاحب المواهب في موضع آخر أنّ الجملة إذا كانت غايتها كشف الواقع وإرشاد الناس إليه فليس هناك فرق بين أن تكـون إنشائية أو خبرية، فإنّها في التعبير تؤدي المعنى نفسه أوضح ذلك عند تفسيره قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}([7])، قال: “الآية المباركة ترشـد إلى أهـم الأمـور الـتي توجب الظفـر وهـو الثبات والاستقامة وعـدم المبالاة بمـا يـصيب الإنسان في الجهاد في سبيل الله تعالى وهو أمر فطري يحكـم بحسنه العقـل أيضاً، فلا فرق حينئذ بين أن تكون الجملة إنشائية أو خبرية محضة لأنّها في بيان الواقع وإرشاد الناس إليه”([8]).

وفي موضع آخر يرى أنّ الجملة الخبرية تأتي في مقام الإنشاء وهـو بـذلك يتابع يحيى العلوي الذي قال: “قد ترد صيغة الخبر والمقصود بها الانشاء، إمّا لطلب الفعل، وإمّا لإظهار الحرص على وقوعه”([9]).

وذكـر صـاحب المواهـب ذلـك عنـد تفسيره لقوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ}([10])، يرى أنّها: “جملة خبرية في مقام الانشاء وهذا أبلغ في الطلب وآكد، أي: اعبدوا الله لا شريك له”([11]).

والسيّد السبزواري لم يقـف عنـد حـدود الجملة الإنشائية، وإنّما ذكـر أساليب عدّة للطلب منها الأمر، النهي، والاستفهام، أمّا أسلوبا التمني والنداء فلم أجد السيّد السبزواري قد اعتنى بهما كثيراً، أو أشار إلى أثرهما البلاغي في النص القرآني، لذا فضّلت عدم ذكرهما، أمّا القسم الثاني من الانشاء، فهـو الانشاء غير الطلبي، ولم يعتنِ به البلاغيـون، لأنّ موضـوعاته أخبار نقلت إلى الانشاء، قال التفتازاني: “فالانشاء إن لم يكـن طلبـاً كأفعال المقاربة وأفعـال المدح والذم وصيغ العقـود والقسم ونحو ذلك، فلا يبحث عنهـا ههنا لقلـة المباحث البيانية المتعلقـة بهـا ولأنّ أكثرهـا في الأصـل أخبـار نقـلـت إلى معنى الانشاء”([12])، لذا سيقتصر البحث على تناول أساليب الانشاء الطلبي (الأمر، النهي، الاستفهام) دون ذكر ما اعتذرت عنه.

الأمـر

معنى الأمر في أصـل اللغـة معـروف وهـو نقيض النهـي([13])، وعرّفه يحيى العلوي بقوله: “صيغة تستدعي الفعل، أو قول ينبئ عن استدعاء الفعـل من جهة الغير على جهة الاستعلاء”([14])، وأشار اليه صاحب التعريفات بقوله:

“الأمر قول القائل لمن دونه: أفعل”([15])، وصيغة الأمر يطلب بها الفعل، وهـو شـامل لـكـل أمـر غائبـاً كـان أو مخاطباً أو متكلماً معلوماً أو مجهـولاً([16])، ويضيف بعض المحدثين إلى شريطة الاستعلاء في الأمر وجـودة الالزام، وهو ربما يعني الوجوب أو الايجاب الذين تحدّث عنهما البلاغيون المتقدمون([17]).

الأصل في أسلوب الأمر ـ كما هو واضح ـ طلب حدوث شيء على سبيل التكليف والإلزام من جهة عليا أمرة إلى دنيا مأمورة، وقد يخرج الأمر عن هذا الأصل فيفيـد معـانٍ كثيرة يرشـد إليهـا السياق وقرائن الأحوال، وقد وجّه السيّد السبزواري المواطن التي يخرج فيهـا أسلوب الأمر إلى الأغراض البلاغية، إذ قال: “من دأب القرآن الكريم أنّه إذا كان أمر بمكان من أهمية أن يذكره في ضمن آيات مترابطة المضمون ومتحدة في السياق ويدسّه فيه ليتوجه ذهن السامع إليه ويجلب مشاعره”([18]).

ومن الأغراض البلاغيـة الـتي أشار إليهـا صاحب المواهب في تفسيره، والتي يفيدها أسلوب الأمر:

1 ـ الدعاء:

وهو من الأغراض البلاغية التي يخرج إليها الأمر، وذكر سيبويه (ت: 180 هـ) إنّ الدعاء بمنزلة الأمر، وإنّمـا قيـل: (دعـاء) لأنّه استعظم أن يقـال: (أمر)([19])، ويعرف إفادة الأمر الدعاء ممّا يوحي به السياق من معنى، وأشار إلى ذلك صاحب المواهب عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً}([20])، قال: “دعـاء مـنهم، يطلبـون مـن جـلّـت عظمتـه أن يجعـل مـنهـم وليـّاً يلـي أمـرهـم ليرشدهم إلى أمور دينهم ودنياهم، فإنّه أعلم بمصالحهم من غيره”([21]).

وهو في موضع آخر يوجه الأمر أيضاً إلى معنى الدعاء في قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}([22])، إذ قال: “إنّ في دعائه عليه السلام بالقبول إشارة إلى أنّ الإنسان مهما سعى وبذل أقصى وسعه في تحصيل العمل، لا بدّ أن يتضرع إليه سبحانه، ويبتهـل إليـه بـالقبول، وأن يعترف بالقـصـور، وفي لفظ (تقبّل) إشارة إلى كثرة توجّهه (عليه السلام) إلى جنّة اللقاء ومقام الرضا كما في طلبه، وفي دعائـه الآخـر قـال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}([23])، فإنّ مقامـه عليـه السلام أرفـع مـن أن يطلـب قبـولاً يوجـب الحـور والقصور فقط”([24]).

لقد أوضح صاحب المواهب الغرض من الأمر الوارد في الآية الشريفة وهو الدعاء، ولأنّه جاء على لسان سيّد الانبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّه دعاء لنيل رضا الله سبحانه وتعالى، فإنّ الإنسان مهما علا منزلة، فإنّه يبقى محتاجاً إلى ربّه وفقيراً إليه.

2 ـ الإباحة:

لقد قال عبد القاهر الجرجاني بخروج صيغة الأمر إلى معنى الإباحة([25])، وأيضاً ذكر هذا المعنى يحيى العلوي([26])، وأشار صاحب المواهب إلى ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ}([27])، إذ قال: “الأمر بالأكل والشرب للإباحـة لجميـع مـا لـم ينـهِ الـشارع أكلـه وشـربه، ولعامّـة أفـراد الناس”([28])، والمفسّر إذ يوجه أسلوب الأمر إلى الغرض البلاغي الذي يفيده فإنّما يكون ذلك بما يتناسب والسياق العام للآيات الشريفة وبمـا يـراد منها من معنی، كما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}([29]) حيـث أشار إلى أنّ “الأمر في قولـه تعـالى (وكلـوا) للإباحة، لأنّه ورد بعدما يعتقد المنع والضرر، وذلك لما قيل من أنّ السبب في نزول الآية هـو تحريـم بعـض المؤمنين في زمن نزول الخطاب الشريف طيبات المأكولات على أنفسهم”([30]).

إنّ الأمر استعمل في انشاء الطلب بداعي الاباحة ـ كما قرر صاحب المواهـب ـ لا بـداعي الطلـب الحقيقـي، فـلا يـستفاد منـه سـوى الإباحـة لا الوجوب.

3 ـ التعجيز:

ذكر الزمخشري هذا الغرض عند تفسيره لقوله تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}([31])، فرأى أنّ الله استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء([32]).

وذكر صاحب المواهب الغرض نفسه عند تفسيره الآية الكريمة بقوله: “الأمر للتعجيز وإظهار عجزهم على أنفسهم وعلى غيرهـم”([33])، وفي موطن آخر أشار إلى إفادة صيغة الأمر الغرض نفسه عند تفسيره لقوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}([34])، قال: “الأمر للتعجيز، لأنّه لا يمكنهم الدخول في مصر من الأمصار، لأنّ الله تعالى كتب عليهم التيه ولا يمكنهم القتال لضعف عزائمهم وجبن نفوسهم، وإنّ الأرض التي هم فيها جدباء لا ينبت فيها البقل والزرع”([35]).

فالمفسّر اعتمد السياق العام للآيات الشريفة وكذلك مـا تـوحـي بـه قصة بني اسرائيل في فترة التيه، ليوجّه من خلال ذلك الغرض الذي أفاده أسلوب الأمر.

4 ـ التهديد:

من الأغراض البلاغية التي يفيدها أسلوب الأمر التهديد، وذكر ابن قتيبه (ت: 276 هـ) أنّ الكلام يأتي على لفظ (الأمر) وهـو (تهديد)، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}([36])([37]).

وأشار صاحب المواهب إلى هذا الغرض عند تفسيره لقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}([38]) قال: “التصدير بقوله: “فاعلموا” لبيان شدة التهديد، أي ليبلغ علمكم أنّه لن تضرّوا الله شيئاً لتـوليكـم عـن الرسول، وإنّما أضررتم وتضرّون أنفسكم فيما كـابرتم النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقـد نازعتم الله في ربوبيته العظمى وسلطانه العظيم”([39]).

فوجّـه إفـادة الأمر “اعلمـوا” غرض التهديـد لمـن يتـولّى عـن الرسـول الكريم (صلّى الله عليه وآله) ولم يؤمن برسالته، فإنّ منتهى الإنسان إلى ربّه وسوف يحاسب على اعتقاده ويعاقب إذا كان ذلك الاعتقاد فاسداً، فكـان التهديد لهم حتّى يعودوا إلى رشدهم.

5 ـ الإرشاد:

أشـار السيوطي إلى هـذا الغرض عنـد حديثـه عـن الأغراض المجازية لأسلوب الأمر([40])، وأثبت هذا المعنى صاحب المواهب عند تفسيره لقوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ}([41]) قال: “الأمر في قوله تعالى: “فاعبدوه” إرشادياً إلى ما تقتضيه فطرة كلّ مخلوق”([42])، فهـو اعتمد في توجيه ما أفاده أسلوب الأمر من معنى على دلالة السياق العام للآيـة الشريفة التي تثبت عقيدة التوحيد، التي اثبتت له الوحدانية في الخلق والربوبية ونفت عقيدة الشرك بجميع أنواعه التي تنافي الفطرة المستقيمة، لذا فهـو مـن يجب أن يعبد ويرشد إلى عبادته.

وفي مـوطن آخـر أشـار المعنى نفسه عنـد تفسيره لقولـه تعـالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}([43])، قال: “أمر إرشادي، وهـو وجـوب اتخاذ الحذر في جميع الأحوال حين وضع السلاح وحمله، لئلا يهجم عليهم العدو”([44]).

وجّه المفسّر الخطاب القرآني للمؤمنين باستعمال صيغة الأمر لغرض مجازي وهـو الارشاد لئلا يأمنوا العدو، وأرى أنّه قريب إلى الصواب، ففي حالة الحرب يحتاج المؤمنون إلى مرشـد عـالم بالشؤون حتّى يكونوا في يقظة دائمة، وبذا يؤمنون مكر العدو.

6 ـ الحثّ:

وهو من المعاني التي أشار إليها السيّد السبزواري التي يفيدها أسلوب الأمر، وجاء ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}([45])، قـال: “ورد الأمـر بالـسير في الأرض والحـث عليه”([46]).

وفي موضع آخر يوجّه الأمر إلى غرض الحث أيضاً، مـن تـذكير بالتقوى مخافة الحشر والحساب وطمعاً بالجزاء، كما جاء في حديثه عنـد تفسيره قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}([47])، إذ قال: “أمر بالتقوى بفعـل الطاعات، والاجتناب عن المعاصي، والحث عليها، وتذكير بالحشر والحساب، فإن أمر التقوى لا يتم إلا مع ذكر الحشر والحساب والجزاء”([48]).

إنّ السيّد السبزواري يحدّد الغرض البلاغي الذي يخرج إليه الأمر ممّا يدل عليه سياق الآية الشريفة، فالتقوى والعلم لا يحصلان إلا بعد تذكر الآخرة وأحوالها، لذا فإنّه يحث المؤمنين على التحلي بهما.

7 ـ التحذير:

غرض بلاغي آخر يستفاد من أسلوب الأمر، أشار إليه صاحب المواهب في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}([49])، حيث قال: “يستفاد من الأمر بالتقوى والتحذير الشديد عن تركها، لأنّ لها الأهمية العظمى في الآية الشريفة وتهذيب النفوس وتكميلها”([50])، وأشار إلى أنّ الأمر الثاني في الآية الشريفة أفاد غرض التحذير أيضاً، إذ قال: “أمر بالتوكل على الله تعالى خاصّة دون غيره من الأسباب… وإن كان ظاهر الكلام بصورة الأمر فإنّه أدعى للتحذير وللاعتبار بأحوال الماضين”([51]).

يرى صاحب المواهب أنّ الآية الكريمة تحذر المؤمنين مـن تـرك التقـوى وترك التوكل عليه عزّ وجلّ وهو ما يناسب سياق الآية الشريفة.

8 ـ التوجيه:

من الأغراض التي أشار إليهـا المفسّر، والتي قد يخرج إليهـا أسلوب الأمر، بيّن ذلك عند تفسيره قوله تعالى:. {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ}([52])، إذ قال: “بيان لفساد ضمائرهم، إذ لو لم يكن كذلك لما أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالاعراض عمّن يقول الحق في قوله، وإنّما كان توجيه الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالاعراض عنهم مطلقاً، سواء في قبول عذرهم أم غير ذلك”([53]).

وفي مثال قرآني آخر ذكر أنّ أسلوب الأمر أفاد معنى التوجيه في قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ}([54])، قال: “توجيـه تربـوي يـهـم الرسول القائد (صلّى الله عليه وآله) أكثر من غيره، فيوجه سبحانه وتعالى الأمر له ليعطي درساً للقدوة الواقعية”([55])، لقـد أكّد السيّد السبزواري على الأغراض التي يفيدها أسلوب الأمر، وهو دائماً يوجهها بما يناسب الخطاب القرآني والسياق و(التوجيـه) مـن هـذه الأغـراض، وارتأى أن يكـون أسلوب الأمر في المثالين السابقين لإفادة هذا المعنى.

لقد دأب السيّد السبزواري في تفسيره لأجل الوصول إلى المعنى المقصود من الكلام الشريف، وكان لا بدّ له من الاستعانة بعلـوم البلاغة وهذا واضح خلال تفسيره، فلـم يـدخّر جهداً من أجل الوصول إلى غايته المنشودة، وما اعتناءه بمباحث البلاغة وجعلها ركناً أساسياً في تحديد المعنى إلا لعلمه بخطرها وأهميتها… وقد رأينا ذلك عند توجيهه أسلوب الأمر لإفادة الأغراض المجازية التي هي بعيدة عن المعنى الحقيقي الذي يفهم من الكلام الظاهر.

النهـي

جاء في لسان العرب أن النهي خلاف الأمر، ونهاه ينهاه نهياً، فانتهى وتناهى: كـفّ([56])، وأمّا في الاصطلاح، قال ابن السراج: “إذ قلت (قم) إنّما تأمره بأن يكون منه قيام، فاذا نهيت فقلت: (لا تقم) فقد أردت منه نفي ذلك، فكما أنّ الأمر يراد به الايجاب فكذلك النهي يراد به النفي”([57]).

وعرّفه يحيى العلـوي بقوله: “وهـو عبارة عـن قـول يُـنبئ عن المنع من الفعل على جهـة الاستعلاء، كقولك: لا تفعـل”([58])، ومن البلاغيين المحدثين تحدّث الدكتور بسيوني عبد الفتاح عن النهي فقال: “أسلوب يطلب بـه الكـفّ عن الفعل على جهة الاستعلاء والالزام فيكـون مـن جهـة عليـا ناهية إلى جهة دنيا منهية، وله صيغة واحدة وهي المضارع المقرون بلا الناهية”([59]).

والذي تهتم به الدراسات البلاغيـة لـيس طلـب الكـفّ عن الفعل، أي: النهي الحقيقي لتلك الصيغة، وإنّما تهتم بما وراء ذلك من معان بلاغيـة يفيدها أسلوب النهي، تبعاً لطبيعة الخطاب وحال التراكيب ومعطيات السياق.

وقد تعرّض السيّد السبزواري في تفسيره الآيات المشتملة على أسلوب النهي للأغراض البلاغية التي خرج لها، ومنها:

۱ ـ الإرشاد:

وهـو مـن المعـاني المجازية التي تستفاد من النهي، وقـد ذكـره السيوطي ضمنها([60]) ووجّه صاحب المواهب النهي إلى الاغراض البلاغية التي أفادها عند تفسيره الآيات الشريفة كما في قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}([61])، فيعتقد إنّ الوهن والحزن لمن يسلك طريق الحقّ لا يقرّه العقل، لذا لا يمكن أن يكون النهي حقيقياً، قال: “إنّ الـوهـن والحزن في الحق قبيح عقلاً مع العلم بالعلو، فالنهي إرشادي لا أن يكون مولوياً”([62]).

وفي موضع آخر يرى السيّد السبزواري في قوله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}([63])، أنّ النهـي أفـاد غـرض الارشـاد أيضاً، قال: “النهي عـن الـتمني إنّما لأجـل عـدم امكـان تحقـق المسبب بـدون سببه فيكـون النهـي ارشادياً تكوينياً لا نهياً مولويـاً وهـو يـرشـد الناس إلى حفظ القانون والنظام والتكويني”([64]).

اثبـت المفسّر أنّ النهـي في الآية الكريمـة إرشـادي، يرشـد المـؤمنين إلى الخير، وترك تمني ما ليس لهم، لأنّه يدعو إلى الحسد ولا يمكن أن يتصف به مؤمن، فغرض الإرشاد يناسب المعنى الظاهر من السياق.

2 ـ التعظيم:

يرى صاحب المواهب أنّ النهـي يراد به غرض التعظيم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}([65])، وقد أوضح هـذا الغرض من خلال الأسلوب الذي ورد به الذي يبرز عظمة الاقتراب من الصلاة في حالة السكر، وقد أورد أيـضاً أمثلـة قرآنيـة أخـرى لـهـا نسق الأسلوب نفسه، قال: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} أبلغ من أن نقـول لا تصلّوا، لأنّه يشمل الغشيان والتلبس بالفعل وجميع أنحاء القرب والدنو منه، ومنهـا الـدخول في مواضع الصلاة ومقدماتها كما عرفت في التفسير، وقد ورد مثل هذه العبارة في غير المقام مثـل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}([66])، وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ}([67])، لبيان شدّة النكير وعظمة الأمر”([68]).

وذكر الزمخشري غرض التحريم عند تفسيره هذه الآية الكريمة([69])، والسيّد السبزواري لا ينفي إفادتها التحريم، وإنّما إتيان النهي عن القـرب منهـا يـدخل في النفس عظمة الأمر المنهي عنه، فهو لا يصرح في هذا المثال عـن الغـرض إلا بعـد أن يبيّن الأمر المنهـي عنـه، فالسكر لا يكـون مـع الـصلاة التي هي غشيان وتلبس واتحاد بالقرب والدنو من حالة العبودية.

3 ـ الدعاء:

ذكـر سيبويه أنّ (لا) الناهيـة قـد تستعمل في معنى (الـدعاء)([70])، وأشـار المفسّر إلى هذا الغرض عند تفسيره لقوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}([71])، يرى أنّ جملة {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قد أفادت (المبالغة في الدعاء والالحاح في بما استولى عليهم من الرهبة”([72]).

وفي قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا}([73])، رأى أنّ النهـي يـتـضمن “الدعاء بالتوفيق والسداد لتحمل الدين بعد حدوثه، وبقاءه وإقامته، ولا أثر لأحدهما بدون الآخر، ولذا كان هذا الدعاء بعد السمع والطاعة لأصل الدين وتحمله بالوجه الصحيح، ثمّ نشره لأعلان الحق”([74])، وقد وجّه الزمخشري النهي في الآية الكريمة للغرض نفسه وإن رأى أنّ الدعاء لأستدامة فضل الله والاعتداد بالنعمة فيه([75]).

4 ـ التنزيه:

وهو من المعاني المجازية التي يفيدها النهي، وتنبّه إلى ذلك الزمخشري فوجّه النهي في قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ}([76]) إليه، فرأى أنّه أفاد تنزيه الله عن الشريك والولد([77]).

واعتقد السيّد السبزواري أنّ جميع نواهي الآية الكريمة {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً…}([78])، قـد أفـادت التنزيه، قال: “ما علّمه الله، أعـمّ مـن أن يكـون بواسطة أنبيائه، ورسله، أو ما أرشد العقل إليه، والنهي فيها للتنزيه”([79])، وقال في مكان آخر: “النهي للتنزيه كما في سائر نواهي هذه الآية الكريمة، ولدلالة السنّة الشريفة عليه”([80])، فهو قد اعتمد ما جاء في السنّة الشريفة لتوجيه دلالة النهي إذ أنّهـا تؤكـد على تنزيـه الـنفس فيما بينهـا وبين الله تعالى عـن خيانة الأمانة، ولا يكون ذلك إلا بدافع التقوى التي تحفظ الإنسان من عدم الاخلال بالشهادة، وأرى أنّ التنزيه مناسب لسياق النهي الذي ورد في الآية الكريمة.

5 ـ التحريم:

أشار السيّد السبزواري إلى هذا الغرض عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}([81])، قال إنّ النهي: “يدل على حرمة الأموال بالباطل والتصرف فيها بما نهى عنهـا الشارع”([82])، وأشار الطبري إلى نفس الغرض عند تفسيره الآية الكريمة قال: “إنّ الله تعالى حرّم أكـل أموالنا بيننا بالباطل، ولا خلاف بين المسلمين أن أكـل ذلك حرام بيننا، فإنّ الله لم يحلّ قط أكل الأموال بالباطل”([83]).

وأثبت صاحب المواهـب هـذا الغرض عنـد تفسيره لقوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}([84])، قال: “حرمة الابتزاز والاستبداد بالمرأة، والنهـي عـن التـضييق على النساء بكـل وجـه مـن وجـوه التـضييق، وحرمة إضطهادهن ليستفيدوا منهن أية فائدة”([85]).

فالتحريم من الأغراض المجازية التي أشار إليها المفسّر، التي تستفاد من أسلوب النهي ويكون تمييزه عن باقي الأغراض من خلال فهـم سياق الخطاب القرآني، وأيضاً باتباع ما جاء في السنّة الشريفة بحسب ما أشار المفسّر.

6 ـ التوبيخ:

يرى صاحب المواهب أنّ النهي يخرج لغرض التوبيخ أيضاً، عنـد تفسيره لقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}([86])، قال: “توبيخ للمخاطب العاقل على صورة النهي يعني أنّه مع علمكم بألطافه تعالى وعناياته عليكم تجعلون له شريكاً ومثلاً”([87]).

فالتوبيخ للمخاطـب العـاقـل، الـذي حـصـل عنـده العلـم بألطـاف الله وعناياته الشاملة، مع ذلك فإنّه يجعل له شريك ولا يقرّ بالوحدانية.

وفي ضوء ذلك نجد أن السيّد السبزواري يحدد الأغراض البلاغية التي أفادها النهي بتحليله الخطاب القرآني وفهـم مستوياته التعبيرية، وارتباط الآيـة المشتملة على النهي بما قبلها وما بعدها للكشف عن سياقها العام وصولاً إلى المعنى المقصود، وأيضاً اعتماده على السنّة الشريفة للوصول إلى المعنى المراد من الآيات الكريمة.

وهذا يؤكد اعتماده على مباحث البلاغة وعدّها ركناً أساسياً في تفسير القرآن، فمن خلالها يتحدد المعنى بدقّة، ويعرف المراد منه.

الاستفهام

الاستفهام في اللغة من: استفهمه، أي: سأله أن يُفَهمّه إيّاه، واستفهمني الشيء فأفهمته وفهّمته تفهيماً([88])، أمّا في الاصطلاح فقد حدّه ابـن فـارس بقوله: “هو طلب الفهم لشيء لم يكن مفهوماً عند المستفهم”([89])، وذهب المبرد (ت: 285 هـ) إلى أنّ الاستفهام في القرآن الكريم يختلف عن غيره، لأنّ الله سبحانه وتعالى منزّه من عدم العلم، وإنّما الاستفهام يكـون عـن شـيء لم يكـن مفهوماً عند المستفهم، والله سبحانه وتعالى لا يستفهم خلقه عن شيء، فالاستفهام في القرآن غير حقيقي، لأنّه واقع ممن يعلم ويستغني عن طلب الافهام، وإنّما يخرج الاستفهام في القرآن مخرج التوبيخ والتقرير، فالله تعالى يستفهم عباده ليقرّرهم ويذكّرهم أنّهم قد علموا حقّ ذلك الشيء([90]).

وتبعاً لذلك، فالاستفهام في القرآن الكريم يفيد معاني أخرى على سبيل المجاز تفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال، وأشار السيّد السبزواري إلى تلك المعاني عند تفسيره الآيات المشتملة على الاستفهام، مبيّناً الأغراض التي أفادها، ومن أهمها:

1 ـ الإنكار:

قـال ابـن هـشام (ت: 761 هـ): إنّ الهمـزة تفيـد (الإنكـار التـوبيخي)، فيقتضي أنّ مـا بعـدها واقـع وأنّ فاعلـهـا ملـوم([91])، وأشـار إلى هـذا الغـرض السكاكي في قوله: “أما ترى الإنكار في {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}([92])”([93]).

ويرى صاحب المواهب أنّ الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}([94]) قـد أفـاد غـرض الانكـار، إذ قال: “(مـن) للأستفهام الانكـاري أي: لا يرغـب عـن مـلـّة ابـراهيم الداعيـة إلى التوحيـد والأخلاق والحنفيّة إلا السفيه”([95]).

وقد أشار المفسّر إلى مواطن كثيرة يفيد فيهـا الاستفهام الانكـار([96])، منهـا في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ}([97])، قال: “الاستـفهام إنكاري، أي إنكـار استواء من لا يعلـم الحقائق ومن يعلمهـا والناظر والمفكّر إليها”([98]).

لقـد وجّـه المـراد مـن الاستفهام في الآيـة الكريمة، أي: إنكـار استواء الأعمى والبصير فلا وجه للاستفهام الحقيقي لاختلاف الرتبة بين الذي يعلم والذي لا يعلم، وهذا المعنى هو الذي ناسب السياق.

2 ـ التعجّب:

ذكر سيبويه هذا الغرض، قال: “إنّك تقول سبحان الله من هو، وما هو! فهذا استفهام فيه معنى التعجب”([99])، وذكر السيّد السبزواري هذا الغرض عند تفسيره لقوله تعالى: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا}([100])، حيث قال: “أنّى: كلمة استفهام بمعنـى أيـن تـدل علـى الـسؤال عـن الوضع والجهـات وفيهـا معنـى التعجب، والسؤال إنّما كان لعظمة هذا الرزق كما عرفت مع أنّها امرأة عاجزة عن تحصيله في هذا الوضع المعين وفي هذا الحال”([101])، اعتمد صاحب المواهب على سياق قصة مريم عليها السلام لابراز هذا الغرض، فكـان سـؤال زكريا عليـه الـسلام لهـا، لمعرفتـه بحالهـا وعجزهـا عـن استحصال هكـذا رزق، فالاستفهام من قبله يكشف عن استغرابه وتعجبه، وفي مثال قرآني آخـر يـرى أنّ الاستفهام أفاد معنى التعجب أيضاً في قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ([102])، إذ يرى أنّ: “الاستفهام للتعجب من حالهم واصرارهم على التثليث مع وضـوح بطلانه وما جاءهم من البينات والنذر”([103])، ويرى المفسّر أنّه ممكن أن يكون لإفادة التقرير والتوبيخ أيضاً([104])، وواضح وأنّه أقرب لافادة التوبيخ من التعجب، فالله يوبّخهم لعدم تـوبتهم واستغفارهم مع علمهم أنّه غفور رحيم.

3 ـ التقرير:

قال أبو عبيدة (ت: ۲۰۸ هـ): “تقول وأنت تضرب الغلام على الذنب: (ألست الفاعل كذا؟)، ليس باستفهام ولكـن تقرير”([105])، فمعنى التقرير إذن حمل المخاطب على الاقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده([106]).

ووجّه المفسّر بعض مواطن الاستفهام لهذا الغرض، ففي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}([107])، قال: “الاستفهام تقريـري، أي: أنظـر أحـوالـهـم تـراهـم كـذلك فيتطابق المخبر مع المحسوس وهـذا أحسن وجـه لبيـان فـسـاد طـريقتهـم وسـوء عـقـيـدتـهـم ونفـاق سريرتهم”([108])، ففي الكلام إقرار بالرؤية “وذلك أنّه لا معنى للسؤال عـن الفاعـل مـن هـو في مثـل هـذا، لأنّ ذلك يتـصـور إذا كانت الإشارة إلى فعـل مخصوص نحو أن تقول: من قال هذا الشعر؟”([109]).

وفي موطن آخـر يـصرّح بمعنى التقريـر عنـد تفسيره قوله تعالى: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا}([110])، حيـث رأى أنّه “خطاب للمأخوذ منه الكتـاب والاستفهام تقريـري، والاقـرار معـروف وهـو الاثبات والالزام”([111]).

إنّ صاحب المواهب لا يذكر معنى الآية الكريمة المشتملة على الاستفهام إلا بعـد بيـان الغرض البلاغي الذي أفاده، وهذا يدل على أنّ للبلاغة شأناً رفيعاً، فالقرآن مشتمل على جلّ فنونها، لذا لا بدّ للمفسّر مـن أن يكـون على معرفة بها حتّى يتأتّى له الكشف عن المعنى.

4 ـ الاستبعاد:

لقـد ذكـر هـذا الغرض يحيى العلـوي، ومثّـل لـه بقوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}([112])، أي: يستبعد ذلـك مـنـهـم بعـد أن جـاءهم الرسول ثمّ تولوا عنه([113])، وقد بيّن المفسّر هذا الغرض في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}([114])، قال: “إنّ الاستفهام في الآية الشريفة لغرض استبعادهم، أن يكون صلّى الله عليه وآله شهيداً يشهد على أعمالهم وسرائرهم وهو من أفراد الإنسان ويكون مطّلعاً على جميع حالاتهم وقد تفانوا في طلب الدنيا وجبلت قلوبهم على حبّها”([115]).

إنّه يشير إلى الأغراض البلاغية التي يخرج إليها الاستفهام من خلال ما يكشف عنه السياق العام للآيات الشريفة، ومن ثمّ يوجّه معناها، ويلحظ ذلك أيضاً عند تفسيره قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى}([116])، حيث قال: “أسلوب الآية الكريمة الفصيح يـدل على استبعاد وقـوع هـذه الشهادة التي تخالف الفطرة بعـد بيان الشهادة الحقّة”([117])، فهـو يستبعد شهادتهم الباطلة، وكان استعمال أسلوب الاستفهام الفصيح هو من كشف له عن هذا المعنى.

5 ـ الأمـر:

وهـو مـن المعـاني الـتـي يفيـدها الاستفهام، وذكـر ذلـك الـسيوطي في نحـو قـولـه تعـالى: {أَأَسْلَمْتُمْ}([118])، أي: أسلموا، و {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}([119])، أي: انتهـوا([120])، وذهـب السيّد السبزواري أنّ الآية الكريمة: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ}([121])، أفـاد الاستفهام فيهـا معنـى الأمـر، واتفـق بـذلك مـع السيوطي، قال: “الاستفهام في الآية المباركة فيه الأمر بالإسلام، والمعنى: قل يا رسول الله لليهود والنصارى ومشركي العرب أسلموا وأدخلـوا في سلم الله تعالى ولا تحاربوه بعدما جاءكم من البينات”([122])، لكنّه لم يتفق مع السيوطي في توجيه الاستفهام إلى معنى الأمر في قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}([123])، فرأى أنّ الاستفهام أفاد المبالغة في الوعيد والتهديد، وهو أبلغ من (انتهـوا)([124])، والظاهر أنّه أقرب للإدراك، وأسلم للمعنى الذي يريد أن يخبر عنه السياق.

6 ـ النفي:

ذكـر هـذا الغـرض الزمخشري في قولـه تعـالى: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}([125]) فالمعنى أنّه لا يأسى عليهم لأنّهم ليسوا أحقاء بالأسى([126]).

وبيّن السيّد السبزواري أنّ الاستفهام يفيـد معنى النفي، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}([127])، إذ قال: “هل يهلك معناها النفي أي: ما يهلك إلا القوم الظالمون ولذلك دخلت (إلا)”([128])، وذهب الزمخشري إلى المعنى نفسه عند تفسيره هذه الآية الكريمة بقوله: “أي: ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الظالمون”([129]).

ويصف المفسّر في موطن آخر أسلوب الاستفهام المتضمن معنى النفي، بأنّه أسلوب بلاغي فصيح وهو حاصل بنفي الفعل، كما في قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ}([130])، إذ قال: “في التعبير ايحاء عجيب، وكمـال العطـف بخلقـه، ويستفاد مـن هـذا الأسلوب البـديـع الـذي اشتمل الاستفهام فيه (ما) على النفي الموجب عن العذاب بنفي الفعل، وهـو أسلوب بلاغي فصيح، فمـا يفعـل الله بعذاب أحـد لأنّه لم يكـن فيـه موجب لعقابـه تعالى”([131]).

7 ـ التوبيخ:

ذكـر هـذا الغرض البلاغي الطبري عنـد تفسيره لقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}([132])، رأى أنّ الاستفهام أفاد التوبيخ على ما سلف وفرط من اجرامهم([133]) وذكر هذا الغرض ايضاً الزركشي عنـد حديثه عن المعاني المجازية التي يخرج لها الاستفهام([134]).

وأشار إليه صاحب المواهب وعـدّه مـن المعاني التي يفيدها الاستفهام، ونلحظ ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}([135])، إذ قال: “الاستفهام تـوبيخي، يعـني: فلـم تنـازعون وتحـاجّون في أمـور لا تعلمون بها وتغالطون فيها، والواجب عليكم اتباع الوحي المبين ومتابعة سيّد المرسلين”([136]) ويثبت هذا الغرض أيضاً للاستفهام الوارد في قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}([137])، قال: “توبيخ لـهـم بعـدم اتباع الرسل الذين أرسلهم الله تعالى إليهم لهدايتهم”([138]).

يتضح من خلال ذلك أن السيّد السبزواري لم يهمل الحديث عن المعاني المستفادة من أسلوب الاستفهام والتوبيخ أحدها، ونراه في مواضع أخرى يشير إليه مع غرض آخر يستفاد من الاستفهام في نفس السياق، كإشارته إلى التوبيخ والتعجيز([139])، وإلى التوبيخ والتعيير([140]).

8 ـ التقريع:

وهو من الأغراض البلاغية التي يخرج لها الاستفهام، ذكره السيوطي وضرب له الأمثلة مـن مثـل قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}([141])، وأحياناً يعبّر عن التوبيخ به([142])، وأشار إليه صاحب المواهب عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}([143])، إذ قال: “الهمـزة في (أليس) للتقريع، أي لـيـس هـذا البعـث كائنـاً مـشاهداً بالعيان، وهذا الكلام تعبير منه عزّ وجلّ لـهـم عـن تـكـذيبهم بالبعث”([144])، وقد ذكر الزمخشري غرض التقريع عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}([145])، فرأى أن في الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار، فيكون تقريعهم أشد([146]).

وفي موضـع آخـر بـيـن السيّد السبزواري أنّ الاستفهام يفيـد التقريـع والتوبيخ، كما في قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}([147])، رأى أنّ: الواو في (أو) حـرف عـطـف تـصـدر بـأداة الاستفهام الدالـة علـى التـوبيخ والتقريع لعادتهم في نقض العهود”([148]).

وأشار إلى التقريع والتوبيخ أيضاً في قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}([149])، يرى أنّه أفاد التقريع والتوبيخ لـبني اسرائيل لطغيانهم رغم ما آتاهم الله من آيات بينات([150])، وأشار السيّد السبزواري إلى أغراض أخرى من مثل التوجيه والاختبار وقد لا أجد من أشار إليهما قبله، وذكر كلاً منهما في موضـع واحـد فقـط، فلقـد أشـار إلى التوجيه في قولـه تعـالى: “ {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}([151])، قال: “إنّما أتى سبحانه وتعالى بالكلام على صورة الاستفهام لتوجيه النفوس إلى الجواب… وهو أسلوب فصيح يؤثّر في النفس ويستفزّها على اصغاء الجواب”([152]).

وأشار إلى الاختبار في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}([153])، قال: “الاستفهام في الآية الشريفة لاختبار القـوم ومعرفة المؤمن منهم عن غيره وبيان أهمية النصرة الله تعالى”([154]).

يتضح ممّـا تقـدم أن صـاحب المواهـب قـد اتبـع مـن سـبقه في توجيـه الاستفهام الوارد في القرآن الكريم إلى المعاني التي أفادها، وخروج الاستفهام إلى هـذه المعـانـي مـن المسلّمات عنـد العـرب، قيـل: “قد توسّعت العـرب فأخرجت الاستفهام عـن حقيقتـه لمعـانٍ، أو أشـربته تلك المعـاني”([155])، وهـذه المعاني معروفة، وهي مذكورة في الكتب المختصة، إلا أنّه يبقى للمفسّر رأيه، وهو قد يتفق مع غيره في موضع من مواضع الاستفهام، أو يختلف عنه بحسب ما يمليه عليه فهمه لسياق الآيات الكريمة وما المراد منها.

وقد زاد المفسّر على هذه الأغراض غرضي التوجيه والاختبار، كما أشرت فيما سبق، أمّا ما عدا هذين الغرضين فإنّه جاء مجارياً لمن سبقه.

([1]) ينظر: الطراز: 530.

([2]) الاتقان: 3 / 194.

([3]) علم المعاني: د. بسيوني عبد الفتاح فيود: 2 / 61.

([4]) علم المعاني: عبد العزيز عتيق: 57.

([5]) آل عمران: الآية / 135.

([6]) مواهب الرحمن: 6 / 348.

([7]) آل عمران: الآية / 139.

([8]) مواهب الرحمن: 6 / 364.

([9]) الطراز: 536.

([10]) البقرة: / ۸۳ .

([11]) مواهب الرحمن: 1 / 430.

([12]) تهذيب السعد: ۳ / ۲۹.

([13]) ينظر: لسان العرب، مادة (أمر): ۱ / ۲۰۳.

([14]) الطراز: 530.

([15]) التعريفات: الجرجاني: 53.

([16]) ينظر: الفوائد الـضيائية، شرح كافية ابن الحاجب، نور الدين عبد الرحمن الجامي: 266.

([17]) ينظر: معجم المصطلحات البلاغية، د. أحمد مطلوب: ۱ / ۳۱۳.

([18]) مواهب الرحمن: 8 / 245.

([19]) ينظر: الكتاب: 1 / 142.

([20]) النساء: الآية / 75.

([21]) مواهب الرحمن: ۹ / ۳۰.

([22]) البقرة: الآية / 127.

([23]) ابراهيم: الآية / 40.

([24]) مواهب الرحمن: 2 / 44 ـ 45.

([25]) ينظر: كتاب المقتصد في شرح الايضاح، عبد القاهر الجرجانی: 2 / 940 ـ 943.

([26]) بنظر: الطراز: 531.

([27]) البقرة: الآية / 60.

([28]) مواهب الرحمن: 1 / 362.

([29]) المائدة: الآية / 88 .

([30]) مواهب الرحمن: 12 / 168.

([31]) البقرة: الآية / 31.

([32]) ينظر: الكشاف: 1 / 155.

([33]) مواهب الرحمن: ۱ / ۲۱۸.

([34]) البقرة: الآية / 61.

([35]) مواهب الرحمن: 1 / 365.

([36]) فصلت: الآية / 40.

([37]) ينظر: تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة: 280.

([38]) المائدة: الآية / 92.

([39]) مواهب الرحمن: 12 / 205.

([40]) ينظر: الاتقان: ۳ / ۲۰۹.

([41]) الأنعام: الآية / 102.

([42]) مواهب الرحمن: 14 / ۲۳۳.

([43]) النساء: ۱۰۲.

([44]) مواهب الرحمن: 14 / ۲۲8.

([45]) الأنعام: الآية / 11.

([46]) مواهب الرحمن: 13 / 75.

([47]) البقرة: الآية / 203.

([48]) مواهب الرحمن: 13 / 195.

([49]) المائدة: الآية / 11.

([50]) مواهب الرحمن: ۱۱ / ۷۲.

([51]) مواهب الرحمن: ۱۱ / ۷۳.

([52]) النساء: الآية: 63.

([53]) مواهب الرحمن: 8 / 385.

([54]) النساء: الآية / 84 .

([55]) مواهب الرحمن: ۹ / ۹۰.

([56]) ينظر: لسان العرب، مادة (نهى): 14 / 212.

([57]) الأصول في النحو، أبي بكر ابن السراج: 2 / 163.

([58]) الطراز: 531.

([59]) علم المعاني: د. بسيوني عبد الفتاح فيود: ۲ / ۸۱.

([60]) ينظر: الاتقان: ۳ / ۲۰۹.

([61]) آل عمران: الاية / 139.

([62]) مواهب الرحمن: 6 / 387.

([63]) النساء: الآية / 32.

([64]) مواهب الرحمن: 8 / 164.

([65]) النساء: الآية / 43.

([66]) الاسراء: الآية / 34.

([67]) الأنعام: الآية / 151.

([68]) مواهب الرحمن: 8 / 263.

([69]) ينظر: الكشّاف / 1 / 545.

([70]) ينظر: الكتاب: 1 / 142.

([71]) آل عمران: الآية / 194.

([72]) مواهب الرحمن / ۷ / ۱۷۹.

([73]) البقرة: الآية / 286.

([74]) مواهب الرحمن: 4 / 515.

([75]) ينظر: الكشاف: 1 / 359.

([76]) النساء: الآية / 171.

([77]) ينظر: الكشاف: 1 / 626.

([78]) البقرة: الآية / 282.

([79]) مواهب الرحمن: 4 / 478.

([80]) المصدر نفسه: 4 / 482.

([81]) النساء: الآية / 29.

([82]) مواهب الرحمن: ۸ / ۱۲۳.

([83]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري: ۸ / ۲۱۸.

([84]) النساء: الآية: 19.

([85]) مواهب الرحمن: 7 / 405.

([86]) البقرة: الآية / 22.

([87]) مواهب الرحمن: 1 / 151.

([88]) ينظر: لسان العرب، مادة (فهم): 10 / 343.

([89]) الصاحبي في فقه اللغة: 181.

([90]) ينظر: المقتضب، المبرد: ۲ / ۲۹۲.

([91]) ينظر: مغني اللبيب، ابن هشام الانصاري: 1 / ۱۷ ـ ۱۸.

([92]) الأنبياء: الآية / 6.

([93]) مفتاح العلوم: 598.

([94]) البقرة: الآية / 130.

([95]) مواهب الرحمن: 2 / 67.

([96]) ينظر: مواهب الرحمن: 4 / 260، 11 / 315.

([97]) الأنعام: الآية / 50.

([98]) مواهب الرحمن: 13 / 336.

([99]) الكتاب: ۳ / ۱۸۱.

([100]) آل عمران: الآية / 37.

([101]) مواهب الرحمن: 5 / 295.

([102]) المائدة: الآيتان / 73 ـ 74.

([103]) مواهب الرحمن: 12 / 74.

([104]) ينظر: مواهب الرحمن: 12 / 74.

([105]) مجاز القرآن، أبو عبيدة معمر بن المثنى: 1 / 36.

([106]) ينظر: البرهان: ۲ / ۳۳۱.

([107]) آل عمران: الآية / 23.

([108]) مواهب الرحمن: 5 / 193.

([109]) دلائل الاعجاز: ۸۸ .

([110]) آل عمران: الآية / 81 .

([111]) مواهب الرحمن: 6 / 107.

([112]) الدخان: الآية / 13.

([113]) ينظـر: الطـراز: 534، وينظـر: أساليب الطلـب عنـد النحـويين والبلاغيين، د. قيس اسماعيل الأوسي: 460.

([114]) النساء: الآية / 41.

([115]) مواهب الرحمن: 8 / 243 ـ 244.

([116]) الأنعام: الآية / 19.

([117]) مواهب الرحمن: 13 / 142.

([118]) آل عمران: الآية / 20.

([119]) المائدة: الآية / 91.

([120]) ينظر: الاتقان: 2 / 204.

([121]) آل عمران: الآية / 20.

([122]) مواهب الرحمن: 5 / 172.

([123]) المائدة: الآية / 91.

([124]) ينظر: مواهب الرحمن: ۱۲ / ۲۱۷.

([125]) الأعراف: الآية / 93.

([126]) ينظر: الكشّاف: 2 / 125.

([127]) الأنعام: الآية / 47.

([128]) مواهب الرحمن: 13 / 325.

([129]) الكشاف: 2 / 24.

([130]) النساء: الآية / 147.

([131]) مواهب الرحمن: ۱۰ / 59.

([132]) البقرة: الآية / 28.

([133]) ينظر: جامع البيان: 1 / 422.

([134]) ينظر: البرهان: 2 / 357.

([135]) آل عمران: الآية / 66.

([136]) مواهب الرحمن: 6 / 41.

([137]) الأنعام: الآية / 130.

([138]) مواهب الرحمن: 14 / 391.

([139]) ينظر: مواهب الرحمن: 14 / 433.

([140]) ينظر: المصدر نفسه: ۲ / ۱۰۲.

([141]) طه: الآية / 93.

([142]) ينظر: الاتقان: ۲ / ۲۰۲.

([143]) الأنعام: الآية / 30.

([144]) مواهب الرحمن: ۱۳ / ۱۹۰.

([145]) سبأ: الآية / 40.

([146]) ينظر: الكشاف: 3 / 596 ـ 597.

([147]) البقرة: الآية / 100.

([148]) مواهب الرحمن: 1 / 480.

([149]) البقرة: الآية / 211.

([150]) ينظر: مواهب الرحمن: 3 / 265.

([151]) آل عمران: الآية / 15.

([152]) مواهب الرحمن: 5 / 136.

([153]) آل عمران: الآية / 52.

([154]) مواهب الرحمن: ۱۱ / ۳۷۸.

([155]) الاتقان: ۲ / ۲۰۱ ـ ۲۰۲.

إن الجملة في اللغة العربية لها نظام خاص يقوم بناؤها عليه، ويحدّد هذا البناء علم النحو، ويحدد طرائقه ومواقع ألفاظه، وهـو المتعارف عليه في نظام الجملة الفعلية والجملة الاسمية، وقد تخرج هذه الجملة عن هذا البناء فيقـدم ما كان مؤخراً، ويؤخر ما حقّه التقديم أو أنّ تقـدّم ألفاظ بعضها على بعض، وكلّ ذلك خاضع لأغراض أسلوبية تستفاد من الكلام عندما توجـد الرغبة لدى المتكلم لتحقيقها، وهذه الأغراض لها أثرها الفني في المعنى الذي هو غاية الكلام.

وقد وصف عبد القاهر الجرجاني التقديم والتأخير بقوله: “باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغايـة”([1])، بينما قال فيه الزركشي: “هـو أحـد أساليب البلاغة، فإنّهم أتـوا بـه دلالة على تمكّنهم في الفصاحة، وملكتهم في الكلام وانقيـاده لـهـم، وله في القلـوب أحسن موقع، وأعذب مذاق”([2]).

وأكّد علماء البلاغة المحدثون أنّ التقديم والتأخير لا يكـون إلا لأجل فائدة بلاغية، كما هو واضح من قول الدكتور عبد العزيز عتيق: “تقـديم جزء من الكلام أو تأخيره لا يرد اعتباطاً في نظـم الكـلام وتأليفه، وإنّما يكـون عملاً مقصوداً يقتضيه غرض بلاغي أو داع من دواعيها”([3]).

واهتم السيّد السبزواري بالتقديم والتأخير في تفسيره وهـو بـذلك يذكر جملة من الأغراض البلاغية التي من أجلها حصل التقديم والتأخير، منها:

1 ـ التشريف:

ذكر هذا الغرض يحيى العلوي ومثّل لـه بنحـو تقـدّم الأنبياء على الاتباع والعلماء على الجهّال([4])، وأكـد صاحب المواهب هذا المعنى عند حديثه عن سبب تقـديـم إبراهيم عليه السلام على باقي الأنبياء عليهم السلام في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً}([5])، قال: “إنّما قدّم إبراهيم عليه السلام تشريفاً لأنّه عليـه الـسلام أبو الأنبيـاء الـذين بعـده، وقد اعترفت بنبوتـه جميع الأديـان الإلهية”([6])، ويرى في موطن آخر أنّ الغرض من تقديم خطاب النبي صلّى الله عليه وآله لأجل التشريف أيضاً في قوله تعالى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}([7])، حيث يرى: “في تقـديم خطابه صلّى الله عليه وآله في الموضعين الشريفين للتشريف، وإلا كان بحسب الظاهر أن يكون (وما عليهم من حسابك من شيء) بتقـديـم على ومجرورها، كما في الأول، أو تقـديـم (عليـك) في الجملة الأولى”([8])، فالمفـسّـر كـشـف عـن الغرض من التقديم الحاصل في المثالين السابقين، وهذا يدل على أنّ له إطلاعاً على أحوال التقديم، وإنّما يكون في القرآن الكـريـم لإفادة أغراض معينة، فمن المحـال أن يـرد اعتباطـاً لـيس لـه غـايـة تـذكر، وتشريف المقـدّم هـو أحـد هـذه الأغراض التي يحصل لأجلها التقديم.

2 ـ التخصيص:

ذكر السكاكي أنّ التقديم يفيد زيادة التخصيص([9])، ورأى يحيى العلـوي أنّ الشيئين إذا كان كلّ واحد منهما مختصاً بصفة تقتضي تقديمه على الآخر، فقـدّم أيهـمـا شـئت منهـمـا([10])، وقد بيّن السيّد السبزواري هذا الغرض وبيّن فائدته في قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}([11])، إذ قال: “وتقديم المفعـول (حكـم) للتخـصيص المفيـد لتأكيـد الانكـار والتعجـب”([12])، لقـد رأى أنّ التخصيص الحاصـل مـن التقـديـم قـد أفـاد تأكـيـد غـرض الانكـار والتعجب الحاصل من الاستفهام، وفي موضع آخر وجّه التقديم لأجل التخصيص وليس رعاية للفواصل في قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}([13])، قال: “(إيّاه) مفعول مقدّم، وفيه الاخبار عمّا تقتضيه فطرتهم، فإنّه إذا حلّ بالإنسان العذاب واستمر عليـه لا يدعو إلا الله تعالى وحده دون غيره، فيكون تقديم المفعول لإفادة التخصيص دون رعاية الفواصل”([14]).

وقـد ذكـر الزمخشري أنّ التقـديـم في هـذه الآيـة يفيـد التخصيص، أي: تخصيص الله بالدعاء دون غيره([15])، وصاحب المواهب قد تابعه في ذلك، وهو ما يفرضه سياق الكلام، فوقت الشدة يخلص الانسان في دعائه، ويخصّصه لله دون غيره.

3 ـ السبق:

تُقدّم بعض الألفاظ على بعض، بسبب سبقها في الوجود، وذكر يحيى العلوي الظلمات على النور في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}([16])، لأنّ الظلمـة سابقة على النـور، وعـدم الـشيء سابق على وجـوده([17])، وأشار صاحب المواهب المعنى نفسه عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ}([18])، قال: “إنّما قـدّم عـزّ وجـلّ الليـل على النهار في الآيات المشتملة عليهما، لأنّ ضوء النهار أمر وجودي متقوّم بطلوع الشمس وغروبها وهـو مسبوق بالعـدم، فيكـون الأصـل هـو الظلمـة وإن كـان الليـل والنهـار متلازمين في التحقّق الخارجي”([19]).

وأشـار إلـيـه المفـسّر أيـضـا في قولـه تعـالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}([20])، إذ قال: “إنّما قدّم عزّ وجلّ التمحيص على المحق لسبق رحمته على غضبه”([21])، فالسبق إذن يفسّر تقديم بعض الألفاظ على بعض في القرآن الكريم، وأقرّ ذلك صاحب المواهب في تفسيره.

4 ـ التشويق:

ذكر السكاكي أنّ في التقديم تشويقاً إلى الخبر ليتمكّن في ذهن السامع([22])، وذكر المعنى نفسه التفتازاني، وأضاف إنّ حصول الشيء بعـد التشوّق ألذّ وأوقع في النفس([23])، وأشار صاحب المواهـب إليـه عنـد تفسيره لقولـه تعـالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}([24])، رأى أنّ: “تقـديـم الجـار للأيـذان بـأنّ الاكمال إنّمـا يكـون لمصلحتكم ومنفعتكم، وتشويق إلى ذكر المؤخر”([25])، وفي مثال قرآني آخر رأى أنّ التقديم أفاد العناية بالمقدم وتشويق السامع إليه، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}([26]) إذ: “فريقاً في الموضعين مفعولان للفعلين بعدهما، قُدّما عليـه عنايـة بأمرهما وتشويق السامع إلى ما فعلوه به”([27]).

فالتشويق غرض بلاغي، كان وراء تقـديـم بعـض الألفاظ على بعض، وقد أكد المفسّر ذلك بتوجيهه بعض مواضع التقديم إليه.

5 ـ الشيوع:

وهو من الأغراض التي أشار إليها السيّد السبزواري عنـد تفسيره لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا}([28])، إذ قال: “إنّما قدّم السارق في آية السرقة، وقدم الزانية في آية الزنا([29])، لأنّ السرقة في الرجال أشيع منها في النساء، لأنّها مبنية على القـوة، وهي في الرجال أكثر، كما أنّ الزنا في النساء أشيع منه في الرجال، لأنّه مبني على الشهوة، وهي في النساء أشدّ”([30]).

وذكر السيوطي أنّ الله سبحانه وتعالى قـدّم السارق على السارقة لأنّ السرقة في الذكور أكثر، وقدّم الزانية على الزاني، لأنّ الزنا في النساء أكثر([31]).

والظاهر أنه ليس هناك فرق بين الشيوع والكثرة وأنّهـمـا يـدلان على معنى واحد، فشيوع صفة عند فلان لأنّه يأتي بها على وجه الكثرة، فالمعنى واحد وليس هناك غرض جديد أتى به صاحب المواهب.

6 ـ الاهتمام:

ذكر عبد القاهر هذا الغرض، ورأى أنّه الأصل في كلّ تقديم جرى عليه العرب، فكأنّهم يقدّمون الذي بيانه أهم لهم وهـم بشأنه أعنى([32])، وبين السيّد السبزواري أنّ بعض مواضع التقديم في القرآن الكريم كانت لغرض الاهتمام، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ}([33])، قال: “إنّما قدّم الصغير للاهتمام به، أي: لا تكون القلّة مانعة عن الكتابة”([34]).

ورأى أنّ تقديم الظرف يفيد الاهتمام أيضاً، في قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً}([35])، قال: “إنّما قدّم الظرف (عليها) على الفاعل (زكريا) لاظهار كمال العناية والاهتمام بأمرها”([36]).

وفي مـوطن آخـر يـرى أنّ تقـديـم المفعـول علـى الفـاعـل كـان لـغـرض الاهتمام في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}([37])، قال: “إنّما قدّم المفعول على الفاعل في الآية الشريفة اهتماماً بالموضوع”([38]).

أكد صاحب المواهب ورود التقديم لغرض الاهتمام، من خلال إيـرار الأمثلة على ذلك، والاعتماد عليه في ابراز المعنى، وهـو بـذلك يذكر العلّة لبعض مواضع التقديم في القرآن الكريم.

7 ـ وهناك أغراض أخرى مستفادة من التقديم والتأخير، كشف عنها صاحب المواهب إلا أنّه لم يذكرها إلا لمرة واحدة، منها: التفضيل، وذكر هذا الغرض الزمخشري في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}([39])، رأى أنّ تقديم الرسول (صلّى الله عليه وآله) على باقي الأنبياء المذكورين في الآية الكريمة لبيان أنّه أفضلهم([40])، وذكر صاحب المواهب هذا الغرض عند تفسيره لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً}([41]) قال: “إنّما قدّم سبحانه وتعالى الليـل والسر على النهار والعلانية لبيـان فـضـل صـدقة السرّ، لأنّ العمـل فيهـا أخلـص لله تعـالى فيكـون أقـرب للقبول”([42]).

ومنها ما يكون (للدلالة على سرعة استجابة الدعاء)، وقد لا أجد من أشار إلى هذا الغرض قبله، وذكره عند تفسيره لقوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}([43])، قال: “إنّمـا قـدّم سبحانه أنّه يكون بعد قتل جالوت عادةً للدلالة على سرعة استجابة دعائهم، فإنّ الدعاء حين تحقق الابتلاء أقرب إلى الاستجابة”([44]).

ومنهـا مـا يـكـون بـسبب أنّ اللفظ المقـدّم أساساً للفـظ المؤخر، كما في تـقـديـم الـشكـر علـى العبـادة في قولـه تعـالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}([45])، قال: “الشكر على نعمائه ملازم لعبادته، وهي متوقفة على معرفة المعبود ولو إجمالاً، ومن أهـم مـقـدمات المعرفة وجوب شكر المنعم، بـل هـو أساس العبادة وغايـة العبودية، ولذا قـدّم عـزّ وجـلّ الشكر على العبادة في المقام”([46])، وقد لا أجد من ذكر هذه العلّة من تقديم لفظ الشكر على العبادة.

كشفت الأمثلة المتقدّمة أنّ المفسّر قـد تـابـع مـن سبقه في ذكـر العلّة أو الغرض من تقديم بعض الألفاظ على بعض، وأنّه اجتهد في بعض المواضع وأتى على ذكـر أسباب جديدة، إذا أمعنت النظر فيهـا وجـدتها هي المناسبة للسياق كما في المثالين السابقين.

التقديم والتأخير معاً

وهو تقديم لفظة في مقام على لفظة أخرى وتأخيرها عن اللفظة نفسها في مقام آخر([47])، ويرى السيّد السبزواري أنّ السياق العام للآية الشريفة هو الذي يحدد تقدّم اللفظة في موضع وتأخرها في موضع آخر، وهو يوضح ذلك عند تفسيره قوله تعالى : {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}([48])، فبيّن المفسّر علّة تقديم القتل على الموت في الآية الأولى بقوله: “إنّما قدّم القتل في سبيل الله على الموت لأنّ القتل أقرب إلى المغفرة والرحمة والترغيب إليه، والتعريض بما كان يثبّط المؤمنين عنه والرد على الكفار”([49])، وبين علّة تقديم الموت على القتل في الآية الثانية بقوله: “وإنّما قدّم الموت على القتل لأنّ الأول أعم من الثاني وأكثر فناسب الترتيب الطبيعي بخلاف الآية السابقة”([50])، نراه يعلل التقديم الحاصل في الآيتين بما يناسب سياق كلّ آية، فعند ذكر القتل في سبيل الله قـدّم القتل على الموت للترغيب فيه والتعريض بالمتخلفين عنه، وقدّم الموت في الآية الثانية بما يناسب سياقها، وفي مقـام آخـر يـفـسّر التقديم والتأخير معاً بما يناسب السياق العام للآيات الشريفة، فهو يتعرض لتقديم (اللعب) على (اللهو) في ثلاثة مواضع ، ومن ثمّ يفسر تقديم (اللهو) على (اللعب) في موضع آخر لاختلاف السياق.

وقد ورد هذا التقديم والتأخير في قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}([51])، وقوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}([52])، وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}([53])، وقوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}([54])، قال : “إنّ في آيات ثلاث منهـا ذكـر فيها اللعب قبل اللهو، ولعلّ الوجه في تقديم اللعب لأنّه المتقدم في الوجود في الدنيا على اللهو، ولأنّ أول ابتداء تعقل الإنسان حال اللعب فهو المتطابق لسن الابتداء، فإذا استمر اللاهي عن التدبّر والاعتبار وشغل تماديه عن التفكّر فيما به النجاة والفوز، فجرت الآيات الثلاث على وفق الأعمار والطبيعة”([55])، أمّا سياق آية العنكبوت فالمراد منها يختلف بحسب ما تقدمها من آيات ، قال: “أمّا آية العنكبوت فقد تقدم قبلها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}([56]) ومثل هذا السؤال والجواب لا يتحققان إلا من جاوز سن اللعب وبلغ سن الرشد والتكليف، ممّا يصحّ خطابه وعتابه، فناسب ذكر اللهو واللعب، كما أنّ تأخير اللعب لأنّه متبوع اللهو لزوماً… فكانت في مقام المحاجة مع المشركين وإقامة الحجة عليهم فذكر فيها اللهو قبل اللعب”([57]).

وفي موطن آخر يوجّه صاحب المواهب التقديم والتأخير معاً لما تحمله من مراتب كثيرة، وهي تقدّم في موطن وتؤخر في آخر لحملها على بعـض المراتب، وأشار إلى ذلـك عنـد تفسيره قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}([58]) حيث رأى: “أنّه الله تعالى قدّم التزكية على التعليم في هذه الآية الشريفة وأخّرهـا عنه في دعـاء ابراهيم عليه السلام، قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}([59])، ولعلّ الوجه في ذلك أنّ للتزكيـة مراتبـاً كثيرة، منهـا الارشـاد المحـض ولاتمام الحجة، ومنها التخلي عن الرذائل، ومنها التحلي بالفضائل، ومنها التجلي بمظاهر الأسماء والصفات الربوبية، ولكل واحد منها درجات، فيحمل مـا قـدمت فيهـا التزكية على بعض المراتب، وما أخرت فيها عن البعض الآخر”([60])، الظاهر أنّ السيّد السبزواري يوجـّه تقـديـم بعـض الألفاظ أو تأخيرهـا في مواضـع أخـرى، بما يناسب السياق العام والمعنى الذي يراد من الآيات الشريفة، بذكر مـا تقـدمها من آيات لتوجيه المعنى المقصود أو أنّ للفظة مراتباً مختلفة، فتقـدم في موضع لحملها على بعض مراتبها، وتؤخر لحملها على مراتب أخرى، من خلال ما تقدم نجد أنّه اهتم بالتقديم اهتماماً كبيراً ولم يهمل مواضعه، وإنّما بـذل جهـده لتفسير ذلك، والكشف عن العلّة التي من أجلها حصل التقديم والتأخير.

([1]) دلائل الاعجاز: ۸۳ .

([2]) البرهان: 3 / 325.

([3]) علم المعاني، د. عبد العزيز عتيق: 116.

([4]) ينظر: الطراز: ۲۳۰، ۲۳۸.

([5]) النساء: الآية / 163.

([6]) مواهب الرحمن: 10 / 191.

([7]) الأنعام: الآية / 52.

([8]) مواهب الرحمن: 13 / 346.

([9]) ينظر: مفتاح العلوم: ۳۹۰.

([10]) ينظر: الطراز: ۲۳۷.

([11]) المائدة: الآية / 50.

([12]) مواهب الرحمن: ۱۱ / ۳۱۸.

([13]) الأنعام: الآية / 41.

([14]) مواهب الرحمن: ۱۳ / ۲۸۲.

([15]) ينظر: الكشاف: ۲ / ۲۲.

([16]) الأنعام: الآية 17.

([17]) ينظر: الطراز: ۲۳۱.

([18]) البقرة: الآية / 164.

([19]) مواهب الرحمن: ۲ / ۲۹۷ ـ ۲۹۸.

([20]) آل عمران: الآية / 141.

([21]) مواهب الرحمن: 6 / ۳89 ـ ۳۹۰.

([22]) ينظر: مفتاح العلوم: ۳۸۸.

([23]) ينظر: المطول: 243.

([24]) المائدة: الآية / 3.

([25]) مواهب الرحمن: 10 / 361.

([26]) المائدة: الآية / 70.

([27]) مواهب الرحمن: 12 / 57.

([28]) المائدة: الآية: 38.

([29]) إشارة إلى الآية: 2 / من سورة النور.

([30]) مواهب الرحمن: 11 / 246 ـ 247.

([31]) ينظر: الاتقان: 2 / 15.

([32]) ينظر: دلائل الاعجاز: 84 .

([33]) البقرة: الآية / ۲۸2.

([34]) مواهب الرحمن: 4 / 482.

([35]) مواهب الرحمن: 4 / 482.

([36]) مواهب الرحمن: 5 / 294.

([37]) البقرة: الآية / 124.

([38]) مواهب الرحمن: 2 / 5.

([39]) الأحزاب: الآية / 7.

([40]) ينظر: الكشاف / ۳ / 5۳۳.

([41]) البقرة: الآية / 274.

([42]) مواهب الرحمن: 4 / 399.

([43]) البقرة: الآية / 251 .

([44]) مواهب الرحمن: 4 / 156.

([45]) البقرة: الآية / 172.

([46]) مواهب الرحمن: 2 / 350.

([47]) ينظر : التعبير القرآني ، د . فاضل السامرائي : 59.

([48]) آل عمران : الآيتان / 157 – 158.

([49]) مواهب الرحمن : 6 / 430.

([50]) المصدر نفسه : 6 / 430.

([51]) الأنعام : الآية / 32 .

([52]) العنكبوت : الآية / 64.

([53]) الحديد : الآية / 20.

([54]) محمد : الآية / 36.

([55]) مواهب الرحمن : 13 / 205 – 206.

([56]) العنكبوت : الآية / 61.

([57]) مواهب الرحمن : 13 / 206.

([58]) البقرة: الآية / 151.

([59]) البقرة: الآية / 129.

([60]) مواهب الرحمن: ۲ / ۱۸۹.

التعريف بالإضافة

التعريف بالاضافة يكـون لفوائـد وأغـراض، وقـد أشـار السكاكي إلى ذلك، إذ رأى أنّ الذي يقتضي التعريف اذا كان المقصود من الكلام إفادة من يسمعه فائدة يعتدّ بها([1])، وهو أيضاً يعـرض إلى قـوة هذه الفائدة وضعفها من حيث الاستعمال بقوله: “ولا شبه إنّ احتمال تحقيق الحكـم متـى كـان أبعـد كانت الفائدة في تعريفه أقوى ومتى كان أقرب كانت أضعف”([2])، وقد تعرّض السيّد السبزواري إلى بيان الأغراض التي تتحقق من التعريف بالإضافة وذكر الفائدة المتحققة منه في المواطن المشتمل عليها، منها:

1 ـ التشريف:

وهـو مـن الأغراض التي يفيـدها التعريف بالإضافة، ذكـر ذلـك يحيى العلـوي إذ رأى أنّ التعريف بالإضـافة يكـون لإفـادة مزيـد الـشرف وقـرب المنزلة ([3])، ولم يخفَ ذلك على صاحب المواهب، فعند تفسيره لقوله تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا}([4]) قال: “قد أضاف سبحانه وتعالى الجزاء إلى الضمير (هم) تشريفاً، وفي ذكر الرب المضاف إلى (هـم) لبيان العلّة في نيلـهـم لـذلك الجزاء العظيم وتربيته تعالى المعنويـة لـهـم”([5])، ورأى أنّ الإضافة قد أفادت التشريف أيضاً في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}([6])، قال: “إضافة القبلة إلى النبي 9 إضافة تشريفية، وإلا فالكعبة قبلة إبراهيم عليه السلام وقبلة جميع المسلمين وفيه إيماء إلى أنّه كان معهوداً عندهم”([7]).

يتضح من خلال ما تقدم أنّ المفسّر يوجّه الإضافة إلى الغرض الذي أفادته بما يتناسب مع السياق وبما لا يأباه العقل ويقرّ به الذوق السليم، وهذا واضح من تعليله لإضافة القبلة إلى الرسول صلّى الله عليه وآلـه مـع أنّهـا قبلة المسلمين جميعاً.

2 ـ التعظيم:

ذكر هذا الغرض يحيى العلوي([8])، وذكره أيضاً التفتازاني (ت: ۷۷۳ هـ) ورأى أنـّه مـن الأغراض المستفادة من التعريف بالإضافة لتعظيـم شـأنه وإن أُضيف إلى المتكلّم فهو لأجل تعظيم شأن المتكلم([9]).

وبيّن صاحب المواهب إفادة الإضافة التعظيم في قوله تعالى: {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}([10]) قال: “إضافة النصر إلى ضمير العظمة العائد على القدير المتعال يدل على عظمة شأنه، وكونه من الآيات المؤكدة العظيمة لرسله”([11]).

قال: ومن أشار من المفسرين إلى هذا الغرض الزمخشري في قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ}([12])، فرأى أنّ دار السلام هي الجنّة أضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه تعظيماً([13]).

3 ـ العناية:

رأى السكاكي أنّ الإضافة ممكـن أن تتضمّن اعتباراً لطيفاً مجازياً أو أي غرض من الأغراض ممكـن التعليق بالإضافة([14])، والعنايـة مـن الأغراض التي أشار إليها صاحب المواهب والمستفادة من الإضافة، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ}([15])، قال: “في إضافة البيت إلى نفسه المقدّسة ثمّ التفضل بقبول العبادة الواقعة فيه، إيماءاً إلى كثرة عنايتـه تعـالى بالبيت وبالعبادة الواقعة فيه”([16])، وأشار إليـه أيضاً في تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}([17])، إذ قال: “في إضافة الادخال إلى ذاته المقدسة فيهـا غايـة اللطـف ونهاية العناية وكمال المحبة حيث أنّه تعالى بعـد المخالفة وكفران السيئات باجتناب الكبائر يدخل العبد مدخلاً كريماً([18]).

لقد كشف في المثالين أنّ الغرض من الإضافة هو العناية بالمضاف إليه، فهو بحسّه البلاغي أدرك هذا المعنى، وهو من الاعتبارات المجازية اللطيفة التي تتضمنها الإضافة، وهو ممّا يناسب السياق ويؤكّد معناه.

وذكر السيّد السبزواري أغراضاً أخرى من مثل التهويل والاختصاص، إلا أنّه لم يشر إليها إلا مرّة واحدة ولم أجد لها نماذج أخرى، فذكر التهويل عنـد تـفـسيره لقـولـه تعـالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}([19])، قال: “إضـافة الاعتداد لضمير التعظيم (نا) للتهويل وللأشعار بأنّ عذاب العظيم عظيم”([20]).

وذكـر الاختصاص عند تفسيره قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ}([21])، حيث رأى أنّ: “في ذكـر الـرب مـضافاً إلـيهـم دلالـة علـى كـمـال العـطـف واختصاصهم بالرحمة الإلهية”([22])، ولم يغلق علماء البلاغة الباب أمام من يأتي بعـدهم لأكتشاف هذه المعاني الدقيقة والإشارة إليهـا وقـد رأى يحيى العلوي أنّ تحت الإضافة أسرارا ورمـوزاً تختلـف باختلاف مواقعها، ورأى أيضاً أنّ على الفطن اعمال نظره واستنهاض فكرته ليحصل عليها([23]).

التعريف بالإشارة

يؤتى باسم الاشارة في سياق الكلام لإفادة أغراض بلاغية عدة([24])، وهو يفيد زيادة الدلالة على المقصود([25])، ورأى يحيى العلوي أنّ التعريف بالإشارة يكون لتعريف حاله وايضاحه، ويرى أنّ لطائفه لا تنحصر ومواقعه أكثر من أن تحصی([26]).

وقـد تـعـرض السيّد السبزواري لبيـان الأغراض التي أفادهـا التعريف بالإشارة، وإنّما يكون ذلك بما يخدم السياق العام للآيات الشريفة، فالمعنى البلاغي يؤكد المقصود ويدل عليـه مـع مـا يـضفيه على الأسلوب من جمال، ومن هذه الأغراض التي أشار لها:

1 ـ التعظيم:

ذكـر هـذا الغـرض السكاكي ومثّل لـه بقولـه تعـالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا}([27])، فرأى أنّ التبعيد لقصد التعظيم([28]).

وأشار إلى هذا الغرض صاحب المواهب عند تفسيره قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}([29])، قـال: “إنّ هـذه الجملة المباركـة {ذَلِكَ الْكِتَابُ} في مقام التعظيم والاجلال للقرآن الكريم”([30]).

وقد أشار من قبله يحيى العلوي إلى هذه الآية وإفادة اسـم الإشارة فيها التعظيم([31])، وفي موضع آخر في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}([32]) يـرى أنّ: “الاسـم (ذلك) إشارة إلى العـذاب الـذي نزل منزلة المحسوس المشاهد لتحققّه ولتهويل الأمر وتعظيم شأنه”([33])، وذكـر هـذا المعنى لأسماء الإشارة التفتازاني، أي: الاشـارة بهـا إلى محسوس غـيـر مـشاهد أو إلى مـا يـستحيل احساسه ومشاهدته وتصيّره كالمشاهد وتنزيل الإشارة العقلية منزلة الحسّية، ورأى أنّ ذلك يكون لأغراض معينة([34]).

وفي موضع آخر بيّن أنّ الإشارة بالبعيد لإفادة غرضي التعظيم والتفخيم في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}([35])، رأى أنّ ما: “تدل عليه الإشارة بالبعيـد إلى الحجـّة تفخيمـاً وتعظيماً لأمرهـا”([36])، ومـن أشـار مـن المفسرين إلى هـذين الغرضـين الـذين يفيـدهما الإشـارة بلفـظ البعيـد السيّد الطباطبائي عند تفسيره لقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}([37])، إذ ذكر أنّ الإشارة بلفظ البعيد للتعظيم والتفخيم([38]).

۲ ـ التحقير:

أشار إلى هذا الغرض التفتازاني عنـد حديثه عن المعاني المستفادة من اسم الإشارة([39])، وبيّن صاحب المواهب هذا الغرض وهـو يفسّر قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}([40])، قال: “الاتيان باسم الإشارة (أولئك) قصداً إلى احضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح ولبيان العلّة بأنّهم تميّزوا عن غيرهم أكمل تمييز حتّى انتظموا في سلك المشاهدة”([41]).

وأشار إلى التحقير والتنقيص في كلامه عن قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}([42])، قال: “إنّما أتى سبحانه باسم الإشارة أمّا للتحقير والتنقيص، أو لبيان أنّ الخطاب والتوبيخ إنّما يكون إليكم وفي أنفسكم دون أسلافكم”([43])، هذا أهم ما أشار إليه المفسّر من المعاني المستفادة من اسم الإشارة، وقد استعمل القرآن الكريم اسم الإشارة للبعيد للدلالة على ارتفاع مكانة المشار إليه([44]) أو للإشارة على عظيم منزلته وكرامته وشرفه، وهي معانٍ معروفة عند السابقين، كما أسلف ذكرها إنّما معرفتها واستخراجها يحتاج إلى ذوق بلاغي رفيع، وقد ذكر السكّاكي من قبل أنّ لطائف اسم الإشارة لا تكاد تنضبط([45]).

التنكير

إنّ ألفاظ القرآن الكريم روعي في تعريفهـا وفي تنكيرهـا الحال المقصودة من كلّ منهما، وما ممكن أن تؤديه اللفظة من معنى في سياقها المناسب، لأنّ كلّ لفظة بل كلّ حرف فيه وضع وضعاً فنّياً مقصوداً([46])، و”التنكير أبلغ من التعريـف في تقـدير المقاصـد المعنويـة”([47]) إذ “إنّ العلّة في إيثار التنكير على التعريف، هـو إنّ الغرض إخراجها مخرج الإطلاق عـن كـلّ قيـد مـن القـيـود اللازمة لها… وفيه من التعظيم والفخامة ما يُرى، فهـذا هـو الوجه اللائق بفصاحة القرآن”([48]).

والسيّد السبزواري لم تستتر عليـه أغراض التنكير في السياق القرآني، إنّما بتحليله الدقيق كشف عنها وعـن فائدتها بما يناسب السياق ويخدم المعنى ليكون واضحاً جليّاً للقارئ، ومن هذه الأغراض:

1 ـ التعظيم:

ذكر السكاكي هذا الغرض فرأى أنّه يطلب التعظيم بالتنكير([49])، وقد كشف السيّد السبزواري عن هذا الغرض، ووجه إليه بعض مواطن التنكير، كما جاء في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}([50])، قال: “إنّ تنكير لفـظ هـدى يفيـد العظمـة وعـدم محدودية الهداية بحد، لأنّها مفاضة من ربهم عليهم”([51])، واعتقـد المفسّر أيـضاً أن تنكير لفظـة الـرزق أفاد التعظيم في قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً}([52])، قال: “التنكير للإعظـام مـن كـلّ جـهـة، وفيـه الإيمـاء إلى كونه رزقـاً غير معهود”([53]).

يتضح أنّ التعظيم من الأغراض المستفادة من التنكير، وهذا واضح من إشارة صاحب المواهب إلى ذلك، ومن إشارة السكاكي قبله.

2 ـ التحقير:

ذكر التفتازاني هذا الغرض عنـد حديثه عـن الأغراض المستفادة من التنكير ومثّل له بقوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنّاً}([54])، أي: ظنّاً ضعيفاً حقيراً([55]).

وبيّن المفـسـر هـذا الغـرض في قولـه تعـالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}([56]) قال: “تنكير الحياة للتحقير، أي: يحبّون البقاء في الحياة ولـو كانت حياة بؤس وشقاء، أو كانت قليلة، لأنّه يعلـم بأنّـه يـرد إلى أشـد العـذاب”([57])، ورأى أيضاً أنّ تنكير لفظـة أصـنام أفـاد الـتحقير في قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}([58])، قال: “ورد لفـظ الأصـنـام نـكـرة للدلالـة علـى حقارتهـا وهـوان أمرها”([59])، لقد أظهر صاحب المواهب المعنى المستفاد من التنكير، وهـو على دراية تامّة بأسلوب القرآن الكريم، وأنّه لا ترد لفظة بهيئة التعريف أو التنكير إلا لغرض يستدعيه المقام، لذلك نراه دائماً يوجهها إلى المعنى المراد منها.

3 ـ التهويل:

ذكر هذا الغرض ابن الناظم (ت: 686 هـ) ومثّل له بقوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}([60])، حيث رأى أنّ تنكير الغشاوة أفـاد التهويـل([61])، وذكـر صاحب المواهب هذا الغرض عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}([62])، قال: “التنكير في السعير للتهويـل، أي: أنهـم سـيدخلون نـاراً عظيمـة لا يعلـم أحـد وصـفها إلا الله تعالى”([63]).

وذكـر أيـضـاً أنّ لفـظ ظلـم أفـاد التهويـل في قوله تعالى: “{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}([64]) قال: “التنكير للتهويـل([65])، أرى ممّا تقـدم أنّ المفسّر كـان حريصاً على ذكر الأغراض المستفادة من التنكير، وكان منها غرض التهويل.

4 ـ التفخيم:

ذكر هذا الغرض التفتازاني([66])، وأتى صاحب المواهب على ذكره عنـد تفسيره لقوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}([67]) اعتقـد أنّ تنكير لفظة (خزي) أفاد التفخيم، لأنّه يحيط ـ أي الخزي ـ بجميع ما يسلكوه في هذه الدنيا قبل أن يردوا إلى عذاب عظيم([68]).

واعتقـد صـاحب المواهب أنّ تنكير لفظة (قوماً) في قوله تعالى: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}([69])، أفادت الغرض نفسه بقوله: “التنكير في (قوماً) للدلالة على فخامة هؤلاء القوم، وأنّ لـهـم خطراً عظيماً، وأنّهـم على إيمان تام واستقامة عليه”([70])، إنّ المفسّر يوجّه الأغراض التي يفيدها التنكير، بما يناسب السياق ويكـون مكمـلاً ومؤكـداً للمعنى كمـا في المثالين السابقين، فالتفخيم هو جزء من المعنى وهو مؤكدٌ له.

5 ـ التعميم:

يرى صاحب المواهب أنّ التنكير يفيد التعميم، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً}([71])، فهـو يثبـت الغـرض بما يناسب المعنى العام للسياق كما في الآية الشريفة، فالتعميم يشمل كل ما يمكن أن يوصف بالخير، قال: “التنكير في (خير) للتعميم والشمول للجميع، أي كلّ خير، وهو يشمل جميع أنواع الخير في الاعتقاد أو الأقـوال أو الأفعال حركةً وسكوناً”([72]).

وذكر المفسّر أن مجيء النكرة في سياق النفي يفيد العموم، وذكر ذلك محمد محيي الدين عبد الحميد في تحقيقـة لـشرح ابـن عقـيـل، قـال إنّ: “تقـدم حرف النفي على النكـرة يجعلها عامّة”([73])، وذكر ذلك صاحب المواهب في تفسير قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}([74])، إذ قال: “إنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، ففي المقام وردت لنفـي الشرك في الاعتقاد والعمل والعبادة والقـول”([75])، لقـد أوضح الحالة التي تقتضي التنكير، وهي لإفادة العموم كما يدل على ذلك سياق الكلام.

وأشار إلى غرضين آخرين، ورأى إنّهما مستفادان من التنكير، ولم أعثر إلا على شاهد واحد لكلّ منهما في تفسير المواهب:

أولهما: (التقييد)، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}([76])، قال: “التنكير فيـه يوجب تقييده بالسفر الذي لا يحصل فيه الماء”([77])، فاعتمـد المفسّر على تنكير لفظة (سفر) لبيـان حـكـم فقهـي، وهـو التيمم في السفر الذي لا يحصل لـكـم فـيـه الماء، فليس كـلّ سـفر يوجب معه التيمم، وإنّما السفر المقيّد بعـدم الحصول على الماء، والثاني: (لبيان أنّ اللفظ من الغيب)، وذكر ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً}([78]) قال: “تنكير الأجـل لبيان أنّه من الغيب، لا سبيل إلى معرفته بالطرق العادية”([79])، يكشف ما تقدم، أنّه قد يحسن تعريف الكلمة في موضع لا يحسن فيه تنكيرها، وذلك أنّ ما يفيده التعريف غير ما يفيـده التنكير([80])، وقد انتبه المفسّر إلى ذلك ووجّه التنكير في كلّ موضع إلى الغرض الملائـم لـه بما يناسب السياق ومقتضى حال الكلام، كأنّه يؤكد أنّ كـلّ أسلوب في القرآن الكريم كان مقصوداً ويراد به معنىً معيناً

التعريف والتنكير معاً

تـرد بعـض ألفاظ القـرآن الكـريـم في مقـام معرفـة وفي مقـام آخـر نـكـرة، والسبب اختلاف السياق الذي ترد فيه كل لفظة، فتعريف اللفظ يراد منه معنى في سياق ما، أمّا تنكيره فبسبب أنّه يراد منه معنىً آخر، والسيّد السبزواري أشار إلى ذلك مبيّناً أنّ منشأه يعـود إلى ما يناسب الحال، كلّ ذلك لأجل ضرورة المعنى، وارتباط سياقها بسياق الآيات السابقة واللاحقة لها، أوضح ذلك عند تفسيره قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}([81])، إذ ذكر آيات أخرى تأتي (كذباً) في سياقها نكرة، وفي مقام واحد فقط تأتي معرفة، في الأمثلة القرآنية الآتية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ}([82])، وقوله تعالى: “{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}([83])، وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}([84])، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ}([85])، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلَامِ}([86]).

يرى صاحب المواهب أنّ التعريف الذي ورد في آية الصف وانفردت به دون غيرهـا يـعـود إلى اختلاف السياق بينها وبين الآيات الأخرى، إذ علّـل تعريف (الكذب) في آيـة الـصف لأنّهـا سبقت بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}([87])، فقد جاءهم عيسى بالبينات والدلائل الواضحة القاطعة فافتروا الكذب، وارتكبوا أشدّ الافتراء فيما لا توقف فيه ولا اشكال، فورد قوله تعجباً من جهلهم معرّفاً بأداة العهـد ليقـوم مقام الوصـف الـذي يرجع إلى حـدّ قـول القائل: هذا الكذب الذي لا افتراء فيه ولا شبه ولا توقف، ولم يرد مثل ذلك في الآيات الأخرى فـورد بهيئة النكرة، فكـلّ واحدة منها وردت ما يناسب الحال والسياق([88]).

وفي موضع آخر يشير صاحب المواهب إلى لفظة البلد، إذ أتت في سياق معرفة، وفي سياق آخـر نـكـرة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً}([89])، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً}([90])، وأوضح العلّة في الفرق بين الأسلوبين إلى: “أنّ الأول إنما صدر منه (عليه السلام) حين كان المحـل وادياً غير ذي زرع، فدعا (عليه السلام) بأصل حدوث البلد في الجملة، والثاني إنّما صدر بعد صيرورة المحل معرّضاً للبلدية”([91]).

وذكـر صـاحب المواهب أنّ تنكير ألفاظ (الميّتة، والدم، ولحم الخنزير) وتعريفهـا في مقـام آخـر، كـان للإشارة إلى حرمتهـا بجميع المراتب والشؤون بحسب صرف الوجود في ما لا يكـون شائعاً وبحسب الوجـود الساري في غير ذلك، فهي محرمة في كل حال وفي كلّ وقت وليست لحرمتهـا انقطاع([92])، وذكر ذلك عند تفسير قوله تعالى: {الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ}([93]) وقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}([94]).

يلحظ خلال مـا تقـدم أنّ المفسر قـد ميّـز بين المعاني المستفادة من التنكير أو التعريف للألفاظ المتشابهة في السياقات المختلفة، ومـا يـراد منهـا من فائدة لا تحصل إلا بها تزيد المعني دقة ووضوحاً، ومنهـا مـا تبنى عليـه بعـض الأحكام، وهذا من أسلوب القرآن الكريم الذي يمتاز بأعلى مراتب الفصاحة ومنتهى البلاغة، ويلحظ أيضاً أنّ لفنـون البلاغة مكاناً مميّزاً عنـد المفسر، لما تقدمه من حلول منطقية تكشف عن كثير من أسرار القرآن الكريم، وبالذات ما يكون فيه للسياق دور فعّال في تحديد المعنى.


([1]) ينظر: مفتاح العلوم: 365.

([2]) المصدر نفسه: 365.

([3]) ينظر: الطراز: 524.

([4]) آل عمران: الآية / 136.

([5]) مواهب الرحمن: 6 / 350.

([6]) البقرة: الآية / 145.

([7]) مواهب الرحمن: ۲ / ۱۳۷ ـ ۱۳۸.

([8]) ينظر: الطراز: 524.

([9]) ينظر: المطول، سعد الدين التفتازاني: 215.

([10]) الأنعام: الآية / 34.

([11]) مواهب الرحمن: 13 / 247.

([12]) الأنعام: الآية / 127.

([13]) ينظر: الكشاف: 2 / 60.

([14]) ينظر: مفتاح العلوم: ۳۸۰.

([15]) البقرة: الآية / 125.

([16]) مواهب الرحمن: ۲ / ۲۹.

([17]) النساء: الآية / 31.

([18]) مواهب الرحمن: ۸ / ۱۳۸.

([19]) النساء: الآية / 37.

([20]) مواهب الرحمن: 8 / 216.

([21]) آل عمران: الآية / 195.

([22]) مواهب الرحمن: ۷ / ۱۸۰.

([23]) ينظر: الطراز: 524

([24]) ينظر: مفتاح العلوم: 375، وينظر: الايضاح: ۲۷.

([25]) ينظر: الايضاح: ۲۷.

([26]) ينظر: الطراز: 522.

([27]) الزخرف: الآية / 72.

([28]) ينظر: مفتاح العلوم: 376.

([29]) البقرة: الآية / 2.

([30]) مواهب الرحمن: ۱ / ۸۱.

([31]) ينظر: الطراز: 522.

([32]) آل عمران: الآية / 182.

([33]) مواهب الرحمن: 7 / 124 ـ 125.

([34]) ينظر: المطول: 199.

([35]) الأنعام: الآية / 83.

([36]) مواهب الرحمن: 14 / 70.

([37]) يوسف: الآية / 1.

([38]) ينظر: الميزان: 11 / 80، وينظر: البحث البلاغي في تفسير الميزان: ۷۰.

([39]) ينظر: المطول: ۲۰۱.

([40]) المائدة: الآية 43.

([41]) مواهب الرحمن: 11 / 275.

([42]) آل عمران: الآية / 66.

([43]) مواهب الرحمن: 6 / 40.

([44]) من أسرار البلاغة في القرآن، د. محمّد السيّد شيخون: ۷۹.

([45]) ينظر: مفتاح العلوم: 376.

([46]) ينظر: التعبير القرآني، د. فاضل السامرائي: 12.

([47]) الطراز: ۲۰۹.

([48]) المصدر نفسه: ۲۱۰.

([49]) ينظر: مفتاح العلوم: ۳۸۷.

([50]) البقرة: الآية / 5.

([51]) مواهب الرحمن: ۱ / ۱۰۰.

([52]) آل عمران: الآية: 37.

([53]) مواهب الرحمن: 5 / 294.

([54]) الجاثية: الآية / 32.

([55]) ينظر: المطول / ۲۱۸.

([56]) البقرة: الآية / 96.

([57]) مواهب الرحمن: 1 / 467.

([58]) الأنعام: الآية / 74.

([59]) مواهب الرحمن: 14 / 18.

([60]) البقرة: الآية / 7.

([61]) ينظر: المصباح، بدر الدين بن مالك المعروف بابن الناظم: 112.

([62]) النساء: الآية / 10.

([63]) مواهب الرحمن: ۷ / ۳۱۰.

([64]) النساء: الآية / 160.

([65]) مواهب الرحمن: 10 / 144.

([66]) ينظر: المطول: ۲۱۹.

([67]) المائدة: الآية / 41.

([68]) ينظر: مواهب الرحمن: ۱۱ / ۲۸۷ ـ ۲۸۸.

([69]) الأنعام: الآية / 89.

([70]) مواهب الرحمن: 14 / 130 ـ 131.

([71]) آل عمران: الآية / 30.

([72]) مواهب الرحمن: 5 / 246.

([73]) شرح ابن عقيل: 1 / ۲۱۷.

([74]) النساء: الآية / 36.

([75]) مواهب الرحمن: 8 / ۲۰۷.

([76]) النساء: الآية / 43.

([77]) مواهب الرحمن: 256 ـ 257.

([78]) المائدة: الآية / 2.

([79]) مواهب الرحمن: 13 / 16.

([80]) ينظر: من بلاغة القرآن الكريم، أحمد أحمد بدوي: ۱۸2.

([81]) الأنعام: الآية / 21.

([82]) الأنعام: الآية / 93.

([83]) الأعراف: الآية / 37.

([84]) يونس: الآية / 17.

([85]) العنكبوت: الآية / 68.

([86]) الصف: الآية / 7.

([87]) الصف: الآية / 6.

([88]) ينظر: مواهب الرحمن: 13 / 162 ـ 163.

([89]) البقرة: الآية / 126.

([90]) ابراهيم: الآية / 35.

([91]) مواهب الرحمن: ۲ / ۳۰.

([92]) ينظر: المصدر نفسه: 2 / 356.

([93]) البقرة: الآية / 173.

([94]) الأنعام: الآية / 145.

وهو أحد الأساليب البلاغية المعروفة، أشار لـه المفسرون في مواضعه، ومنهم الزمخشري، إذ قال في تفسير قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا}([1])، رأى أن المقصود بـ {مَنْ خَلَقْنَا}، ما ذكـر مـن خلائقه: من الملائكة، والسماوات والأرض، والمشارق، والكواكب، والشهب الثواقب، والشياطين المردة، وغُلب أولي العقل على غيرهم، فقال: من خلقنا([2])، وقد عرّفه الدكتور بسيوني عبد الفتاح بأنّه: “إعطاء أحد المتصاحبين أو المتشابهين حكـم الآخر بجعله موافقاً له في الهيئة أو المادة”([3]).

وقـد تـعـرض لـه صـاحب المواهـب، وأبـان عنـه في مواضعه، وذكـر منـه  تغليب العاقل على غيره في قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}([4])، إذ رأى أنّ التعبير بـ (من) لأجـل الغلبة، لأنّهـا ممّا يستعمل في ذوي العقول([5]).

ورأى أنّ التغليب لذوي العقول أيضاً ونفى الحصر في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}([6])، إذ قال: “ذكـر لـفـظ (من) الظاهر في ذوي العقول من باب التغليب لا الحصر”([7])، وذكر أيضاً تغليب المذكر على المؤنث، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} ([8])، فأوضح أنّ (البنين) جمع (ابـن) وهـو الـذكـر مـن الأولاد، إلا أنّه في المقام يشمل الذكور والاناث، وأكّد أنّ الله عزّ وجلّ أتى به بصيغة الذكور للتغليب([9]).

وفي قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}([10]) رأى أن في لفظ (إخوة) تغليب الذكور على الاناث، قال: “في الآية المباركة تغليب الذكور على الاناث وإن قوله {رِجَالاً وَنِسَاءً} بدل كما هو واضح”([11]).

ومن أنواع التغليب الأخرى التي كشف عنهـا صاحب المواهب تغليب التثنية، وجاء ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}([12])، قال: “اللذان تثنيـة (الذي) والتثنية باعتبار الزانية والزاني تغليباً كما عليـه المشهور”([13])، وأكّـد الطبري أنّ المعني بـ (اللّذان): الرجل والمرأة، ورأى أنّ العرب تفعل ذلك فتقول: (الذين يفعلون كذا فلهم كذا)، (والذي يفعـل كـذا فلـه كـذا) و (اللذان يفعـلان كـذا فلـهـما كـذا)، اذا وقع الفعـل مـن شخصين مختلفين([14])، فهو قد أوضح معنى التغليب إلا أنّه لم يذكره بلفظه.

وأشار السيّد السبزواري إلى هذا النوع من التغليب أيضاً في قوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}([15])، فهـو يـرى أنّه تغليـب بالتثنية، وأنّـه مـن استعمالات العرب الفصيحة، فالمراد بالأبوين هما الأب والأم تغليباً للفظ، فيغلب أحدهما على الآخر كالقمرين والحسنين والمولوين([16]).

يظهر أنّ المفسّر قـد ميّـز التغليـب بـذكر حالاتـه الـتـي يـكـون عليهـا، مـن تغليب ذوي العقول، وتغليب المذكر على المؤنث وتغليب التثنية، وهـو ممّا يساعد المفسر في تحديد معاني الآيات الشريفة وما يراد منها، ويكون له عوناً في إدراك الأحكام، فهو من الاستعمالات الفصيحة والمعاني البليغة، وقد جرى في كلام العرب وعرف في لغتهم.


([1]) الصافات: الآية / 11.

([2]) ينظر: الكشاف: 4 / 40.

([3]) علم المعاني، د. بسيوني عبد الفتاح: 1 / 249.

([4]) آل عمران: الآية / 83.

([5]) ينظر: مواهب الرحمن: 6 / 110.

([6]) البقرة: الآية / 213.

([7]) مواهب الرحمن: 3 / ۲۹۱.

([8]) آل عمران: الآية / 14.

([9]) ينظر: مواهب الرحمن: 5 / 132.

([10]) النساء: الآية / 176.

([11]) مواهب الرحمن: 10 / 268.

([12]) النساء: الآية / 16.

([13]) مواهب الرحمن: 7 / 368.

([14]) ينظر: جامع البيان: ۸ / ۸۳.

([15]) النساء: الآية / 11.

([16]) ينظر: مواهب الرحمن: 7 / 325.

القـصـر لغـة: الحبس([1])، واصطلاحاً هـو تخصيص أمـر بـآخر بطريـق مخصوص، أو هـو إثبات الحكـم لما يذكر في الكلام ونفيـه عمّـا عـداه، ويجيء لقصر الموصوف على الصفة أو لقصر الصفة على الموصـوف: إمّا قصر إفراد وإمّا قصر قلب([2]).

وذكر بعض البلاغيين الحصر أو الاختصاص، ويعنون به المعنى نفسه الذي يدرس (القصر) من خلاله([3])، وصاحب المواهب لم يفرق بين القصر والحصر، وإنّما هما عنده يدلان على معنى واحد، كما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ}([4])، قال: “أداة الحـصر (إنّمـا) الـتـي تـدل على أن القصر في هذه الآية الكريمة هو قصر إفراد”([5]).

وللقصر أربع طرق([6])، ذكر منها صاحب المواهب في خلال تفسيره ثلاثاً فقط:

1 ـ النفي والاستثناء:

ويكون القصر به إفراداً أو قلباً([7])، وأشار المفسّر إلى كلا النوعين، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ}([8])، رأى أنّ الجملـة تفيـد قـصـر الألوهية في الله عزّ وجلّ، وتنفـي مـا سـواه ممّا يدّعيه المشركون، فالآيـة تقيّـد توحيد الذات وتنفي الشرك في العبودية وفي مقام الذات، فهو قصر أفراد لأنّه أزال الشركة مع الله سبحانه وتعالى([9]).

وفي قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ}([10])، يـرى أنـّه قـصـر قلـب، لأنّه يقلب حكم السامع وتصوره عن الدنيا التي لا بقاء لها، فكـل فعـل وعمل في هذه الدنيا، سواء صدر من الأخيار أم من الفساق الفجار فإنّه لا محالة محدد لا بقاء له، وفائدة هذا القصر الترغيب إلى العمل والأعراض عن زخارف الدنيا ومباهجها التي تبعد الإنسان عن كلّ خير وسعادة([11]).

2 ـ القصر بـ(إنّما):

ذكـر صـاحب المواهـب هـذا القصر في خلال تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}([12])، قال: “أداة الحصر (إنّما) التي تدل على أنّ القصر في هذه الآية الكريمـة هـو قـصر الافراد، لدفع ما ربمـا يتـوهم أنّ الولاية ثابتة للمذكورين في الآية وغيرهـم، ويمكن أن تحمل الآية على قصر القلب أيضاً”([13]).

إنّ قصر الموصوف على الصفة في الآية الكريمة أفاد قصر الافراد، أي: نفي الشركة في ولاية غير المذكورين، ورأى المفسّر أنّه يمكن أن تحمل الآية على القصر بـ(إنّما) يفيد قصر الافراد([14]).

وذكر المفسر قصر القلب بـ(إنّما) في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}([15])، رأى أنّ القـصـر قـصـر قلـب، ردّاً لما زعمه القاتـل مـن قبـول عمله حسباناً منه أنّ الأمر لا يدور مدار التقـوى، وأنّ التقي وغير التقي على حدٍ سواء، إلا أنّ الآية الكريمة قصرت القبول على المتقي فقط([16]).

3 ـ التقديم:

وهو من طرق القصر أشار إليه السيّد السبزواري في تفسيره لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}([17])، إذ رأى أنّ الخطاب (إيّاكَ) استعمل في مقام الحصر، وذكر أنّ الحصر في المقام يستفاد من أمرين، الأول: سياق الآية المباركة فمن كان (رب العالمين) و(الرحمن الرحيم) و(مالـك يـوم الـدين) لا وجه لعبادة غيره، فإنّ غـيره مطلقاً مملـوك لـه ومحتـاج إليـه، والثاني: استفاد الحصـر مـن انفصال الضمير وتقديمه، وينحلّ الحصر إلى النفي والاثبات، كأنّه قال: (لا نعبد غيرك ونعبدك)، كما في (لا إله إلا الله)، وسائر مـوارد الحصر([18])، وهـو قـصر إفراد ينفي الشركة في عبادة الله عزّ وجلّ، ورأى أنّ الحصر في “إيّاك نستعين” كالحصر في “إيّاك نعبد” لفظي وسياقي وحالي، لأنّ الغني المطلـق مـن كـلّ جهة، لا بدّ أن تنحصر الاستعانة به، وإلا تكون شركاً من هذه الجهة([19]).

وأوضح المفسر القصر بالتقديم في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}([20])، قال: “إنّ جملة {بِيَدِكَ الْخَيْرُ}، جملة مؤلفة من خبر مقـدم ومبتدأ مؤخر تفيد الحصر”([21])، فإنّ الآية الشريفة تدل على انحصار الخير فيـه تعالى، فيستفاد منهـا ومـن أمثالها أمران، الأول: إنّ ذاته تبارك وتعالى خير محض، والأمر الثاني: أنّها تدل على أصالة الماهية في الجعـل، كمـا عليهـا أغلـب المتكلمين وجمع كثير من الفلاسفة([22])، والجملة تفيد قصر القلب، لأنّه يقلب ما في ذهن السامع من حكم، وجعل الخير بيد الله سبحانه وتعالى، فهو الخير المطلق.

من خلال مـا تقـدم يتضح أنّ صاحب المواهب قـد أشار إلى مواضع القصر، وميّز بين طرائقه، وأشار إلى فائدته، فهـو مـن أساليب القرآن الكريم وسياقاته المختلفة، لا يرد إلا لفائدة جليلة وغرضٍ سام يتناسب مع سموّ المعنى القرآني، إنّ المفسّر قد أعطى هذا الأسلوب حقّه بذكر فوائده كما أشار لها البلاغيون من قبله([23]).


([1]) ينظر: لسان العرب: مادة (نصر): ۱۱ / ۱۸۳.

([2]) ينظر: المصباح: 155.

([3]) ينظر: علم المعاني ودلالات الأمر في القرآن الكريم، د. مختار عطيه: 141.

([4]) المائدة: الآية / 55.

([5]) مواهب الرحمن: 11 / 401.

([6]) ينظر: مفتاح العلوم: 507 ـ 510.

([7]) قصر أفراد: وهو إزالة الشركة إذا اعتقدها المخاطب، قصر قلب: وهو أن يقلب المتكلم فيه حكم السامع، ينظر: مفتاح العلوم 507.

([8]) آل عمران: الآية / 62.

([9]) ينظر: مواهب الرحمن: 6 / 11.

([10]) آل عمران: الآية / 185.

([11]) ينظر: مواهب الرحمن: 7 / 145 ـ  157.

([12]) المائدة: الآية / 55.

([13]) مواهب الرحمن: 12 / 401.

([14]) ينظر: مفتاح العلوم: 510.

([15]) المائدة: الآية / 27.

([16]) ينظر: مواهب الرحمن: 11 / ۱۹۰.

([17]) الحمد: الآية / 5.

([18]) ينظر: مواهب الرحمن: 1 / 43.

([19]) ينظر: المصدر نفسه: 1 / 48.

([20]) أل عمران: الآية / 26.

([21]) مواهب الرحمن: 5 / 220.

([22]) ينظر: المصدر نفسه: 5 / 213 ـ 214.

([23]) ينظـر: مفتـاح العلـوم: 507، وينظـر: المصباح: 155، وينظـر: التلخيص: 38، وينظر المطول: 375.

عدّ الجاحظ (ت: 255 هـ) البلاغة معرفة الفصل من الوصل([1])، ولم يكن البلاغيون يريدون بهذه العبارة أنّ البلاغة تنحصر في الفصل والوصل، إنّما يريدون أن يبينوا صعوبة هذا المسلك وأنّ من اتقنه قد عرف البلاغة([2]).

وأشار عبد القاهر إلى معنى قريب منه، بقوله: “وقد بلغ مـن قـوة الأمر في ذلك أنّهم جعلوه حدّاً للبلاغة، فقد جـاء عـن بعـضهم أنه سُئل عنهـا فقـال: معرفة الفصل من الوصل: ذاك لغموضه ودقة مسلكه وأنّه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيـه أحـد إلا كمل لسائر معاني البلاغة”([3])، وبيّن القزويني الفصل والوصل بقوله: “الوصل عطف بعض الجمل على بعض، والفصـل تـرك هـذا العطف”([4]).

وذكـر السيّد السبزواري الفصل بمعنى القطع والمفارقة، ومنه الفصل المعروف في العلوم لانقطاع ما قبلها عما بعدها([5]).

وقد أشار إلى الغرض من الفصل والوصل عند تفسيره الآيات الشريفة المشتملة عليه، ففي قوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا}([6])، رأى أنّ ترك العاطف بين (تعالوا) و (قاتلوا)، لبيان التلازم بينهما، وأنّ المقصود بهما واحد([7]).

رأى أنّ الفصل هنا أبان عن التلازم بين الجملتين، أي: كمال الاتصال بينهما كما أشار التفتازاني إلى ذلك في حديثه عن الفائدة من الفصل([8]).

وفي مقـام آخـر ذكـر أنّ الفـصـل أي تـرك العطـف أفـاد غـرض التوكيـد، فتكون الجملة الثانية مؤكدة للاولى، فحذف العطف بين قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}([9])، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}([10])، كان لأجـل أنّ الآية الثانية تبين كمال قدرته وعلمه وحكمته في ملكه فهي مؤكدة للآية الأولى([11]) وقد بيّن هذه الفائدة من الفصل ابن الناظم في حديثه عن المقام الذي يقتضيه الوصل والفصل([12]).

وذكر صاحب المواهب في موطن آخر أنّ الفصل يكون لغرض الاهتمام والتعظيم، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}([13])، قال: “جملة {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} مستقلة لم يذكر فيهـا حـرف العطف اهتماماً وتعظيماً، لأنّ مفادها نعمة عظيمة فوق كل النعم”([14]).

ومنـه يـكـون للأبانة عـن شـرف الإمامة وفضل الله ولطفه، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}([15])، إذ رأى أنّ فصل قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} عن الجملة السابقة، ومن إضافته إليـه تعـالى يرشـد إلى شرف الإمامة وأنّها فضل من الله تعالى ولطف إلهي، وهي لا تنال بالكسب([16]).

وقد وجّه المفسّر الفصل والوصـل الـوارد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ}([17]) توجيهـا بليغاً مقارناً بينها وبين آيـات أخرى شبيهة بها، رأى اجتماع الفصل والوصل في الآية الكريمة، فقـد عـطـف الـبكم على الصم، وتحقـق الفصل بينهما وبين {فِي الظُّلُمَاتِ}، وله نظائر في القرآن الكريم، فقد ورد في سورة البقرة {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}([18])، والصفات مفصولة فيهما من دون عطف، وفي سورة الاسراء قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً}([19]) وهي معطوفة، وإنّ آيـة البقـرة راجعة إلى صنف خاص وهم المنافقون الذين وصفوا بأنّهم الـصم البكم العمي الذين صمّت آذانهم عن سماع الحق، وبكموا فلا ينطقون به، وعميت أنظارهم عن النظر في الآيات، فاجتمعت فيهم هذه الصفات فأوجبت الختم على القلوب، وأمّا آية الاسراء فهـي ترجع إلى بيان حالة الكفار والمنافقين يـوم القيامة، والصفات جزاء أعمالهم ومعتقداتهم الباطلة، ويرى أنّ آية المقام تشير إلى طوائف من الظالمين الذين تعدد فيهم أسباب الظلم من الشرك والكفر، والعناد واللجاج، والاستكبار، فإنّ بعـضها توجـب الـصـم وبعـضها توجـب الـبكم، والجميع يتخبطون في ظلمات تمنع من شروق نور الايمان في قلوبهم، وأوضح أنّه لأجل ذلك ثبت العطف بين الوصفين، وتركه مع ما بعدهما، وكان ذكر الظلمات أبلغ وأشمل([20]).

لقد أدرك صاحب المواهـب أهميـة الفـصل والوصـل في الإبانـة عـن المعنى، فالسياق القرآنـي يقـع ضـمن الأساليب العربية المعروفة، فـلا بـدّ مـن معرفتهـا حتّى يـتم الوصول إلى المعنى، والفصل والوصل أسـلـوب مـن هـذه الأساليب إن استعمل في مقام ما فإنّه لأجـل فائدة ما، والحق أنّه أوضح ذلك، والتزم بالكـشـف عـن هـذه الأساليب التي قادتـه بـدورها إلى المعنى.


([1]) ينظر: البيان والتبيين: ۱ / ۸۸.

([2]) ينظر: البلاغة عند الجاحظ، د. أحمد مطلوب: 84.

([3]) دلائل الاعجاز: ۱۷۰.

([4]) شروح التلخيص: ۹۲.

([5]) ينظر: مواهب الرحمن: 4 / 147 ـ 148.

([6]) آل عمران: الآية / 167.

([7]) ينظر: مواهب الرحمن: 7 / 57.

([8]) ينظر: المطول: 440.

([9]) آل عمران: الآية / 189.

([10]) آل عمران: الآية / 190.

([11]) ينظر: مواهب الرحمن: 7 / 184.

([12]) ينظر: المصباح: 135.

([13]) آل عمران: الآيتان / ۱۷۰ ـ ۱۷۱.

([14]) مواهب الرحمن: 7 / 65.

([15]) البقرة: الآية / 124.

([16]) ينظر: مواهب الرحمن: 2 / 15.

([17]) الانعام: الآية / 39.

([18]) البقرة: الآية / 18.

([19]) الاسراء: الآية / 97.

([20]) ينظر: مواهب الرحمن: 13 / 292 ـ 294.

ذكر السيوطي الفوائد المستفادة من وضع الظاهر موضع المضمر، ورأى أنّ إعادة الظاهر بمعناه أحسن من إعادته بلفظه([1])، وهـو مـن المباحث البلاغية التي أدخلها المتأخرون ضمن مباحث علم المعاني، وترى البليغ يـضع الظاهر موضع المضمر ليحقق أغراضاً بلاغية يقتضيها المقام ويقصد إليها البلاغي([2]).

وأشار صاحب المواهب إلى أغراض عدة أفادها وضع الظاهر موضع المضمر عند تفسيره الآيات الشريفة، منها:

  • لتعظيم شأن الكتاب، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ}([3])، إذ رأى أنّ وضع الظاهر موضع المضمر لبيان أنّ كتاب الله أعظم شأناً وارفع منزلةً من أن يشتمل عل المفتريات والأباطيل، وأبعد من أن يندرس بالتحريف([4]).
  • ويوضع الظاهر موضع المضمر لاختلاف معنى اللفظ، ومثال ذلك ما جاء في قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}([5]) قال: “إنّما وضع سبحانه الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى لاختلاف معنى اللفظ في الموضعين، فإنّ المراد في الثانية إحداهما بعـد ضلال الأخرى، والمراد من الأولى ضلال إحداهما لا على التعيين”([6]).

أشار صاحب المواهب في هذا المثال إلى اختلاف دلالة الكلمة الواحدة داخـل سـياق الـنص الواحـد، فـالمراد مـن إحـداهما الثانيـة الـتي في مقابـل الأخرى، أمّا إحداهما الأولى قد تكون أيّاً منهما لا على التعيين.

  • يعتقـد صـاحب المواهب أنّ وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}([7])، يفيد التوكيد، قال: “تأكيد بليغ واعلام بأنّ التولي ـ الذي هو من شروط الإسلام ـ لا يتحقق إلا بأخذ من ذكر في الآية السابقة وليّاً، ويتعهد بمراعاة الطاعة لهم، وتطبيق الإسلام فيهم، وإلا فلا يكون مؤمناً متولياً، ولعلّه لأجل ذلك وضع الظاهر موضع المضمر”([8]).

أوضح أنّ الآية الثانية مؤكدة للآية الأولى، وهي جاءت بمنزلة النتيجة لها في سياق واحد، وهو يؤكد على أهمية التولي الذي بدونه يخرج الفرد من الإسلام، ويرى أنّ وضع الظاهر موضع المضمر يفيـد الارشاد في قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}([9])، قال إنّه: “للارشاد إلى أنّ ذلك من المصالح العامّة، فيطالب به المجتمع والأمة، فيلزمهم مراعاة حال الزوجين ومساعدتهما في هذه الحالة، ولأجل ذلك عـدل عن الاضمار إلى التصريح، فقال تعالى: {أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}([10])”.

  • ويعتقد أنّ وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}([11])، لبيـان اشـتراكهما في الولـد مـع ملاحظـة كـلّ منهما والاهتمام به، فقال تعالى: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}، لبيانّ أن الولد لهما ومتكون منهـمـا معـاً فـلا بـدّ مـن مراعاة الجانبين له، فإنّه كما يحتاج إلى الرضاعة والحضانة يحتاج إلى التربية والرعاية من الوالد والانفاق عليه، أو لأجل بيـان أنّ الولادة تضاف إلى الجانبين فيقـال ولـد الأب وولـد الأم فهما في النسبة سواء([12]).
  • ومن الفوائد التي ذكرها المفسر لوضع الظاهر موضع المضمر هي رفع الابهـام كـمـا جـاء في قولـه تعـالى: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} ([13])، قال: “إنّما وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى لرفع الابهام في رجـوع الـضمير إلى الكاتب المذكور سابقاً”([14])، فلأنّ الآية الشريفة في مصاف تشريع الأحكام، لذا لا بدّ أن تكون عودة الضمائر غير مبهمة في سياق النص حتّى لا يكون الحكم مبهماً، وهو محل خطير نبـّه عليـه صـاحب المواهب حتّى لا تفهـم الأحكـام عكس ما أراد لها الله، وهو ممّا تزل عنده الأقدام.
  • وأشار إلى وضع الظاهر موضع المضمر لغرض زيادة الرهبة، كما في اظهار لفظ الجلالة (الله) في موضع ينهى فيه عن الشرك ويعده ذنباً عظيماً في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً}([15])، ولاظهار اسم الجلالة لزيادة الرهبة وادخال الـروع في النفـوس وإظهار تقبيح الشرك والتشهير بعمل المشرك([16]).
  • ويعتقد المفسر أيضاً أنّه يوضع الظاهر موضع المضمر لدفع اللبس، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ}([17]) قال: “الاظهـار في موقع الاضـمـار لـدفـع كـلّ لـبـس واحتمال، ولبيان أنّ السبب في التوارث هو الولادة والقرابة”([18]) لأنّه لـو قال: “للنساء نصيب ممّا تركا” لوقع لبس في هذا الحكم في عودة الضمير ـ ألهنّ نصيب من الوالدين أم من الأقربين أم من كليهما.

يتضح ممـّا تقـدم أنّ وضـع الظـاهر موضـع المـضمـر مـن أساليب اللغـة العربيـة، ويستعمل في الكـلام لأغـراض عـدّة، وهـو مـن أبـواب الفـصاحة والبلاغة، والقـرآن الـكـريـم مثـال أعلـى ونمـوذج أرقى للفصاحة والبلاغة، وصاحب المواهب أدرك ذلك وحصل لـه العلـم بـه، وهذا واضح ممّـا تقـدم، ومن بيانه للأغراض التي أفادها وضع الظاهر موضع المضمر. فليس هناك ما يرد اعتباطاً في القرآن الكريم، إنّما هو أسلوب محكم من لدن خبير عليم.


([1]) ينظر: الاتقان: ۳ / ۱۸۸.

([2]) ينظر: من بلاغة النظم العربي، د. عبد العزيز عبد المعطي عرفه: 1 / 196.

([3]) آل عمران: الآية / 78

([4]) ينظر: مواهب الرحمن: 6 / 80.

([5]) البقرة: الآية / 282.

([6]) مواهب الرحمن: 4 / 482.

([7]) المادة: الآيتان / 55 ـ 56.

([8]) مواهب الرحمن: 11 / 409.

([9]) البقرة: الآية / 229.

([10]) مواهب الرحمن: 4 / 13.

([11]) البقرة: الآية / 233.

([12]) ينظر: مواهب الرحمن: 4 / 59.

([13]) البقرة: الآية / 282.

([14]) مواهب الرحمن: 4 / 480.

([15]) النساء: الآية / 48.

([16]) ينظر: مواهب الرحمن: ۸ / ۲۹۸.

([17]) النساء: الآية / 7.

([18]) مواهب الرحمن: ۷ / ۳۰۳.

الإيجاز

الإيجاز لغـة مـن وجـزَ الكـلام وجـازةَ ووَجزاً، وأوجـز: قـلّ في بلاغة، وأوجزهُ اختصره، في حديث جرير: قال له (عليه السلام): إذا قلت فأوجز أي: أسرع واقتصر، وأوجز القول والعطاء: قلّله([1]).

أمّا في الاصطلاح، فقـد رأى الجاحظ أنـّه التعبير بالألفاظ القليلـة عـن المعاني الكثيرة([2]).

وذكر الرمّاني (ت: 386 هـ) أنّ: “الإيجاز: البيان عن المعنى بأقل ما يمكـن مـن الألفاظ”([3])، ولم يـزد شيئاً ممن جاء بعـدهم على هذا التعريف، فيذكرون المعنى نفسه لكن بصياغة مختلفة([4]).

ويعدّ الإيجاز من أهـم مصطلحات البلاغة العربية المنتمية لعلم المعاني، التي تعدّ مناطاً للحكـم على روعة الأسلوب العربي ودقّته([5])، وهو يناسب طبيعة التعبير باللغة العربية، إذ كان أسلوباً محموداً لدى العرب لخفته ويسره في التعبير والحفظ، ولذلك حمده العرب([6]).

وقـد وصـف السيّد السبزواري الإيجاز في مـواطـن عـدّة، ورأى أنّه من البلاغة والابداع في تفسير قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}([7])، أكّد أنّ الآية الشريفة بإيجازها تشتمل على معانٍ دقيقة بالإشارة والتلويح، وأيضاً فيها ترك التصريح إلى ما تتشوق إليه النساء([8])، وهذا البيان يتفق مع معنى الإيجاز، فهذه الجملة القصيرة تندرج تحتها معانٍ كثيرة يمكن أن تفهم من سياقها.

ورأى أنّ في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى}([9])، اختصاراً بديعاً وإيجازاً حسناً لاشتراك اليهود والنصارى في المفعول فأوجب جمعهما في القول، وتقدير الكلام: قالت اليهـود لـن يـدخل الجنّة إلا من كان يهودياً، وقالت النصارى كذلك في أنفسهم([10])، وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}([11])، رأى المفسر أنّها: “قد اشتملت على أسلوب بليغ وفيه من محاسن إيجاز القرآن ما لا يخفى”([12]).

من خلال ما تقدم يظهر أنّ صاحب المواهب يشير إلى مواطن الإيجاز، ويؤكـد أنّـه مـن البلاغـة والابداع، وأنّـه مـن المحاسـن الكثيرة التي يتميذز بهـا الأسلوب القرآني.

وقد ذكر القزويني الإيجاز وقسّمه على ضربين، الأول إيجاز القصر، وهو ما ليس بحذف، فإنّ معناه كثير ولفظه يسير ولا حذف فيه([13])، وذكـره يحيى العلوي بأنّه: “الذي تزيد فيه المعاني على الألفاظ وتفوق”([14])، والأمثلة السابقة التي ذكرت في بدايـة هـذا المبحث شاهدة على هذا النوع من الإيجاز، وإنّ صاحب المواهب قد أشار اليه في مواطن عدّة([15])، والثاني: إيجاز الحذف، وقد عرض له في مواطن مختلفة عند تفسيره الآيات الشريفة.

ـ إيجاز الحذف:

ذكر عبد القاهر الجرجاني هذا الباب من الإيجاز، ووصفه بقوله أنّه: “باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنّك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيـد للإفادة، وتجدك عن أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن”([16]).

واشترط يحيى العلوي أن يكون الحذف ممّا لا يخل بالمعنى ولا يضرّ ببلاغة القـول، بقولـه: “اعلـم أنّ مـدار الإيجاز علـى الحـذف لأنّ موضـوعه على الاختصار، وذلـك إنّمـا يـكـون بحـذف مـا لا يـخـل بـالمعنى ولا يـنقص مـن البلاغة”([17]).

وعرّفه الدكتور بسيوني عبد الفتاح، بأنّه: “التعبير عن المعاني الكثيرة في عبـارة قليلـة وذلـك بحـذف شـيء مـن التراكيـب مـع عـدم الاخـلال بتلـك المعاني”([18]).

ومن أشكال الحذف التي أشار إليها صاحب المواهب:

1 ـ حذف المضاف:

أكد يحيى العلـوي أنّ هذا الحذف يـرد كثيراً في كلام الله تعالى وكلام الفصحاء([19])، وقد كشف السيّد السبزواري عن مواضع عـدة كـان المضاف فيها محذوفاً، منها في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ}([20])، قال: “التنوين في (الكل) عـوض عن المضاف إليه والمعروف أنّ (كل) هي بمعنى الاحاطة والعموم ولا تأتي مفردة فإذا كانت كذلك فلا بدّ من التقدير، وهو في المقام الصنفان المذكوران في صدر الآية المباركة وهما صنف الرجال وصنف النساء، والمعنى: ولكـلّ صـنفي الرجـال والنساء أوليـاء يرثـونهم بمقتـضـى قـانون الأقربية”([21])، وذكر صاحب الطراز هذا التنوين الذي هـو عـوض عن جملة وعدّه من الإيجاز، إذ قال أنّه: “إيجاز لا محالة، لأنّه حذفت هذه الجملة الطويلة وأقيم حرف واحد مقامها، وأي إيجاز أبلغ مـن هـذا الإيجاز وأدخل منه في البلاغة”([22]).

وفي قولـه تعـالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ}([23])، يـرى صـاحب المواهب أنّ في الكلام مضافاً محذوفاً، والتقدير: بدا لهم وبـال مـا كـانوا يخفونه من الكفر والسيئات ونزل بهم عقابه فتبرموا وتضجروا، وتمنّوا الـرد إلى الدنيا للتخلص من ذلك العذاب([24]).

ويرى ابن البناء المراكشي أنّه يحذف المضاف إليه إذا كانت دلالة السياق قاطعة به([25])، وقد أوضح المفسّر المحذوف في المثالين السابقين وقدّره بما يدل عليه السياق وبما يكشف عن معناه.

۲ ـ حذف المبتدأ:

وهو حذف اسم، لأنّ المبتدأ لا يكون إلا اسما([26])، وأشار المفسّر إلى هذا النوع من الحذف عند تفسيره قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}([27])، فرأى أنّ: “(عدة) بالرفع على أنّه خبر لمحذوف، أي كتب عليه صوم، أو فالواجب عليه صوم عدة أيام أخر”([28]).

وفي مقـام آخـر يـرى أنّ المحذوف هـو المبتـدأ أيـضاً في قولـه تعـالى: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}([29])، وتقديره (الأمر والتقدير كذلك) وهـو ظاهر في كونه من القضاء المحتم فتكون (كذلك) في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف([30]).

۳ ۔ حذف الخبر:

إنّ حذف الخبر في الكلام أكثر من حذف المبتدأ، والسبب يعـود إلى أنّ المبتدأ طريق لمعرفة الخبر([31])، ويؤكد صاحب المواهب أنّ الخبر يحذف إذا ما كان هناك ما يدل عليه في المقام، كما في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}([32])، فيرى أنّ جملة {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} “مبتدأ والخبر محذوف لدلالة المقام عليه، أي: حلٌّ لكم”([33]).

وأشار إلى حذف الخبر أيـضـاً في قولـه تعـالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}([34])، فرأى أنّ محل (ذلك) الرفع على أنّه مبتدأ خبره محذوف، أي ذلك الشأن، والمعنى: إنّ ذلك الذي تقرر في شأنهم إنّما هـو بسبب أنّ الكتاب نزل بالحق وأنّهم على الباطل([35])، وهذا الحذف ممّا يدل عليه المقام أيضاً، وإذا ظهر في سياق النص فإنّه يخل ببلاغته لمنافاته الإيجاز الذي عليـه جـرى الأسلوب القرآني.

4 ـ حذف المفعول:

لقد ذكر عبد القاهر الجرجاني حذف المفعول، وأشار إلى أنّه طريـق إلى ضروب من الصنعة وإلى لطائف لا تحصى([36]).

وبيّن صاحب المواهب اللطائف المستفادة من هذا الحذف، ففي قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}([37])، رأى أنّ حذف مفعول (يبين) حتّى يذهب ذهـن السامع في تقديره كـلّ مذهب، وتستخرجه العقول السليمة وذوي الفطرة المستقيمة، والتقدير أي: يبين لكـم أمـور دينكم وما يصلح شأنكم ويحقق سعادتكم وفوزكم([38]).

وفي مقام آخر رأى أنّ حذف المفعـول وهـو اسـم الجلالة (الله) في قوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا}([39])، “لترتيب المهابة وتنشيط هممهم، والإرشاد بأنّ الذين يخاف منهم ليسوا كذلك، وإنّ الخوف حقيقة ينبغي أن يكون من الله تعالى”([40])، ففي كلّ موضع أشار إلى الفائدة من حذف المفعول، فضلاً عمّا يرصد له من الإيجاز، لأنّ الحذف باب من أبوابه.

5 ـ حذف جواب (لو):

ذكر هذا النوع من الحذف يحيى العلوي، وأكّد أنّه من محاسن الإيجاز ومواقعه البديعة([41])، ويرى المفسّر أنّ حذفه أبلغ من ذكره لفوائـد عـدّة منها: لكي يذهب الوهم في تقديره كلّ مذهب، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}([42])، قال: “حذف جواب (لو) وعدم ذكره ليذهب الـوهـم كـلّ مـذهب فيكـون أبلغ من التخويف”([43]).

ويرى في مقام آخر أنّ حذف جـواب (لو) في قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}([44])، لدلالة سياق الكلام عليه، ولتعظيم الأمر وتهويله([45])، وأشار الزمخشري إلى هذا الحذف ورأى أنّ تقديره “ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً”([46])، وهو لا يفرق عن المعنى الذي ذكره صاحب المواهب.

يؤكّـد مـا تقـدم أنّ السيّد السبزواري كـان حريصاً على الإشارة إلى مواضع الإيجاز وبيانها والكشف عن المعنى إذا كان الإيجاز إيجاز قصر، وتقدير المحذوف وبيان نوعه إذا كان إيجاز حذف، فضلاً عن ذكر الفائدة المتحصلة منه، وهو يصدر عن حس بلاغي دقيق وذهن متتبع لدقائق الأسلوب القرآني، وما ذاك إلا دليلٌ على أهمية مباحث البلاغة وأنّها وجه من أوجه تفسير القرآن الكريم، فبدون معرفتها والإحاطة بها يبقى كلّ عمل غرضه تفسير القرآن بعيداً عن الصواب.

الإطناب

الاطناب في اللغـة: البلاغـة في المنطـق والوصـف، مـدحـاً كـان أو ذماً، والاطناب: المبالغة في مدح أو ذم والاكثار فيه، وأطنب في الوصـف اذا بالغ واجتهد، وفرس في ظهره طنب: أي طول، ومنه أطنب في الكلام إذا أبعـد([47])، وقد ورد الاطناب عند الجاحظ بمعنی الاطالة([48]).

وعنـد المبرد بمعنى التطويـل([49])، ثمّ اسـتقر المصطلح عنـد أبـي هـلال العسكري ومن جاء بعده([50])، ولم يُعب الاطناب مـن قبـل علماء البلاغة، فهو مقابل للإيجاز اذا كان لفائدة، “فالحاجة إلى الإيجاز في موضعه كالحاجة إلى الاطناب في مكانه”([51])، ومن هذا يوضح أنّ الاطناب من البلاغة يلجأ إليه في مقامات يتطلبها السياق حيث يتضمن فائدة لا تكون في غيره، وهو ما عبّر عنه السكاكي بأداء المقصود بقولـه أنه: “أداء المقصود بأكثر مـن عبـاراتهـم سـواء كانت القلة أو الكثرة راجعة إلى الجمل أو إلى غير الجمل”([52]).

وفرّق البلاغيون بين الأطناب بوصفه أسلوباً من الأساليب البلاغية إذا اقتضاه السياق وطلبه المعنى وبين الحشو والتطويل الذي هو عيب وليس له من فائدة تعود على المعنى، وقد أشار ابن الاثير (ت: 637 هـ) إلى ذلك، فعنده: “الاطناب هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة، وهذا يميزه عن التطويـل، الذي هو زيادة اللفظ على المعنى لغير فائدة”([53]).

وقد أشار السيّد السبزواري إلى الآيات الشريفة المشتملة على الاطناب، وهو يرجعه إلى مناسبة السياق له، ويوضح ذلك من خلال المقارنة بين آيتين كريمتين في مقامين مختلفين ذات أسلوب واحد مع زيادة باللفظ لأحداهما على الأخرى، كما في قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}([54]) وقوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}([55])، إذ يرى أنّ: “الآيتين تشتركان في الأسلوب والوعد والوعيد والتخويف والايثار، ولكنهما تفترقان من جهة أنّ آية الشعراء حذف فيها معمول (كذبوا) واستبدال السين بـالتنفيس (سـوف)، ويرجع إلى أنّ آيـة الأنعـام جـاءت بعـد بسط من الكلام في ذكر آيات الحمد وانفراده عـزّ وجـلّ بـالخلق والابداع، والاطناب في ذكر أفراد المخلوقات، فناسب هذا الاطناب ذكر الحق، بخلاف آيـة الشعراء فإنّها سيقت على نحو الإيجاز، فناسب الإيجاز المعمول، كما ناسب الاختصار ذكر السين بدل حرف التنفيس”([56]).

أكّد المفسّر أنّ الاطناب له فائده إذا طلبه السياق وناسب ما جاء فيه، كما في آية الأنعام في ذكر أفراد المخلوقات.

ويؤكد في مقام آخر أنّ الاطناب غير مخلِّ بفصاحة الكلام عنـد تفسيره لقوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}([57])، إذ يرى أنّ قوله تعالى يشتمل: “على الاطنـاب غـيـر المخـل بالفصاحة، ايمـاءً إلى أنّهـم علـى ديـن النصرانية بزعمهم، ولكنّهم على خلافها لعدم العمل بموجبها”([58]).

ويرى المفسّر أن في قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}([59])، إيجاز بعد اطناب، لأنّ الآية ابتدأت بالخطاب لأهل الكتاب انكاراً عليهم، إذ زعموا أنّ إبراهيم ويعقوب عليهما السلام على ملّتهم، وقد أبطل الله تعالى حجتهم بأنّه إن كان بدعوى حضورهم عند مـوت يعقـوب ووصيته، فهـذه يبطلها الحس والوجـدان، وإن كـان لأجـل وصـولـه إليهم من التـوراة والانجيـل فـمـا أنزلـت التـوراة والانجيـل إلا مـن بعـده([60])، لقـد ناسب الاطناب مستهل الآية الكريمة وناسب الإيجاز ختامها، بالإشارة إلى التوحيـد بقوله: {إِلَهاً وَاحِداً} وبيّن المفسّر ذلك بأحسن وجه.

ومن أهم أقسام الاطناب التي تعرض لها السيّد السبزواري في تفسيره:

1 ـ ذكر الخاص بعد العام:

ذكر القزويني أنّ الاطناب يكـون بـذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضله حتّى كأنّه من جنسه([61])، وأشار صاحب المواهب في مقامات عدّة إلى هذا اللون من الأطناب وذكر الأغراض التي يفيدها، منها:

أ ـ التأكيد والتعظيم:

وهما من المعاني المستفادة من ذكر الخاص بعـد العام، ذكرهما صاحب المواهب وهو يفسر قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ}([62])، إذ قال: “الصد عن المسجد الحرام، اذا كان عطف (والمسجد الحرام) على سبيل الله، فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام تأكيداً وتعظيماً”([63]).

وذكر غرض التعظيم أيضاً في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ}([64])، رأى أنّ في الآية الكريمة تخصيص بعـد تعميم للتأكيد على أهمية الصلاة، وعظيم أثرها في حيـاة الفـرد المؤمن الظاهرية والمعنوية، ولأنّهـا مشتملة على الذكر العظيم مع الخضوع والخشوع([65]).

يظهر أنّه لا يكتفي بذكر الخاص بعد العام وتعيينه، وإنّما يذهب إلى ذكر الفائدة المتحققة منه، فليس هناك ضمن السياق القرآني تطويـل أو حشو، إنّما كلّ ما يظهر من جنس السياق وله فائدة لا يمكن غضّ النظر عنها.

ب ـ الاهتمام والترغيب:

هذان الغرضان ممّا أشار لهما المفسر في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}([66])، فاعتقد أنّ تخصيص الصلاة الوسطى بالذكر بعد ذكر عموم الصلوات لأجل الاهتمام بها والترغيب إليها([67])، وقد ذكر التفتازاني هذه الآية في ضمن استشهاداته على ذكر الخاص بعد العام، ورأى أنّ الغرض من ذكر الصلاة الوسطى للتنبيه على فضلها([68])، ويظهر أنّه ليس هناك فرقٌ بين المعنيين، لأنّ من عرف فضل الصلاة الوسطى فإنّه بالضرورة سيهتم بها ويرغب إليها.

ج ـ لبيان الشمول والاستيعاب:

يعتقد صاحب المواهب أنّ ذكر الخاص بعد العام في قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}([69]).

لبيـان الـشمول والاستيعاب، فإاّن عـمـوم قـولـه تعـالى: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يشمل جميع ما سواه من المخلوقات وعوارضها، وهذه الآية تخص بما يجري في الليـل والنهار، وقـد خـصّها الله سبحانه وتعـالى لبيـان الـشمول والاستيعاب، فإنّـه ذكـر في الأول المكـان وفي الثـاني الزمـان وهمـا ظـرفـان للمحدثات، وهو عزّ وجلّ مالك المكان والمكانيات، والزمان والزمانيات([70]).

يؤكد ما تقدّم أنّ صاحب المواهب عند ذكره الأغراض المستفادة من المباحث البلاغية المختلفة، فإنّه لا ينأى بهـا عـن مـضمون السياق، وإنّما يكـون مناسباً له ومكملاً لمعناه ومترشحاً عنه.

2 ـ التكرار:

أشار الفراء (ت: 2۰۷ هـ) إلى التكرار وإلى الغرض منه، بأنّ العرب تكرر الكلمـة للتغليظ والتخويـف([71])، وليس في القرآن مكـرر لا فائـدة مـن تكريره، فإن أمعنت النظر إلى سوابقه ولواحقه، انكشفت لك هذه الفائدة([72])، والتكرار بدلالته الواسعة يشكل القانون الأساس لظواهر الإيقاع في الكلام وهو علاوة على ذلك ذو دلالة تعبيرية([73])، وأكد أحمد الهاشمي أنّ التكرار لا يكون إلا لأغراض([74])، ووصف السيّد السبزواري التكرار الوارد في القرآن الكريم بأنّه ليس من التكرار الممل، ويعدّه من معاجز الكتاب العظيم([75])، وقد كشف عـن الغـرض منـه في كـلّ موضـع مـن مواضعه، ومـن الأغراض التي ذكرها:

أ ـ التأكيد:

يعتقد صاحب المواهـب أنّ تكـرار لفـظ (بأذني) أفاد التوكيد، في قوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي}([76])، قال: “كان تكرار (بأذني) في هذه الآية أدعى للتأكيد ولدفع كلّ عنوان من العناوين التي تنسب إليه، ممّا يناسب مقام الالوهيـة والربوبيـة”([77])، وفي مقـام آخـر رأى أنّ تكـرار الـضمير (هـم) أفـاد التوكيد في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}([78]) وقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}([79])، حيث رأى أنّ سبحانه وتعالى أكـد مـن حيـث تكرار الآيـة نفسها، وتكـرار الـضمير (هـم) فيهـا، تأكيـداً بليغـاً كـاشـفـاً عـن أهميـة المورد([80]).

ب ـ الترغيب:

ويرى أنّ وجه تكرار جملة (ون انتهوا) لغرض الترغيب في قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ}([81])، قال: “إنّما كرر سبحانه وتعالى (فإن انتهوا)، للترغيب إلى الكف عن القتال، وإنّ الانتهاء يرفع القتل عمّن ينتهي، ويدخله في غفرانه ورحمته في المآل ويوجب محو ما سلف عنه”([82]).

ويعتقد أنّ تكرار الأمر بالذكر خمس مرّات لبيـان شـدة عناية الله بخلقه والترغيب لهم بفعل الأصلح لأجل القيام بما هو كثير الفائدة والجزاء لهم، لذا أمرهم بالذكر في هذه المواطن الكريمة والأزمنة الشريفة([83])، ذكـر ذلـك عنـد تفسير قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}([84])، يبيّن ما سبق أنّ التكرار يفيد الترغيب، وهـو ممّا يشعر به السياق القرآني، ومعرفته جزء من إدراك المعنى المراد.

ج ـ التعظيم:

ومن المعاني المستفادة من التكرار التي بيّنها صاحب المواهب، التعظيم، وذلك عند قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ}([85])، إذ رأى أنّ الله سبحانه وتعـالى كـرر الظالمين في الآية المباركة تعظيماً للأمـر واظهـاراً لقـبـح ظلمهـم([86])، ورأى الزمخشري أنّ تكريـر {الَّذِينَ ظَلَمُوا} زيادة في تقبيح أمرهم وايذان بإنزال الرجز عليهم لظلمهـم([87])، وهـو لم يشر إلى التعـظـيـم الـذي أشـار إلـيـه السيّد السبزواري مع اتفاقهم على فائدة التقبيح، ويظهر أنّ غرض التعظيم هـو المناسب للسياق، فبعـد إنزال الرجس والعـذاب علـيـهـم فليس هنـاك فائـدة مـن التقبيح، إنّمـا كـان ظلمهـم عظيماً فاستحقوا العذاب.

وفي مقام آخر يرى المفسّر أنّ تكرار النداء لبيان عظمة المنادي، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}([88])، قال: “تكرار النداء لبيان عظمـة المنـادي وللإشارة إلى تتابع النـداء علـى مـريـم وحثّهـا على الاستماع والاصغاء والتحبب إليهـا والاهتمام بشأنها”([89])، فتكـرر النـداء لأنّـه مـن الله سبحانه وتعالى، وهو يشعر بعظمته.

تؤكد الأمثلة السابقة أنّ صاحب المواهب قد تناول الاطناب، وكان حريصاً على الإبانة عنه، والإبانة عن ملائمة السياق له، وحرص أيضاً على بيان الأغراض المستفادة منه بما يوافق المعنى القرآني، ويوضح دلالته، فالاطناب في موضعه كالإيجاز في موضعه فهو لا يكون إلا لهدف وغرض.


([1]) ينظر: لسان العرب: مادة (وجز): 15 / ۲۲۱ .

([2]) ينظر: الحيوان: 3 / 86.

([3]) النكت في إعجاز القرآن: 74.

([4]) ينظر: سر الفصاحة، ابن سنان الخفاجي: ۱۸۱، وينظر: الطراز: 245، وينظر: الروض المريع في صناعة البديع، ابن البناء المراكشي: 143.

([5]) ينظر: علم المعاني ودلالات الأمر في القرآن الكريم: 151.

([6]) ينظر: البلاغة العربية (البيان والبديع) د. ناصر حلاوي: 34.

([7]) البقرة: الآية / 228.

([8]) ينظر: مواهب الرحمن: 4 / 15.

([9]) البقرة: الآية / 111.

([10]) ينظر: مواهب الرحمن: 1 / 545 ـ 546.

([11]) الأنعام: الآية / 55.

([12]) مواهب الرحمن: 13 / 356.

([13]) ينظر: التلخيص: 55.

([14]) الطراز: 262.

([15]) ينظر: مواهب الرحمن: 5 / ۲۸9، 5 / 396، 14 / 24.

([16]) دلائل الاعجاز: ۱۱۲.

([17]) الطراز: 246.

([18]) علم المعاني: 2 / 188.

([19]) ينظر: الطراز: 253.

([20]) النساء: الآية / 33.

([21]) مواهب الرحمن: ۸ / ۱۷۱.

([22]) الطراز: 253.

([23]) الأنعام: الآية / 28.

([24]) ينظر: مواهب الرحمن: 13 / 186.

([25]) ينظر: الروض البديع: 147.

([26]) ينظر: دلائل الاعجاز: ۱۱۸.

([27]) البقرة: الآية / 184.

([28]) مواهب الرحمن: ۳ / ۱۲.

([29]) آل عمران: الآية / 40.

([30]) ينظر: مواهب الرحمن: 5 / ۳۰۷.

([31]) ينظر: الطراز: 258.

([32]) المائدة: الآية / 5.

([33]) مواهب الرحمن: 10 / 407.

([34]) البقرة: الآية / 176.

([35]) ينظر: مواهب الرحمن: 2 / 367.

([36]) ينظر: دلائل الاعجاز: ۱۱۸.

([37]) النساء: الآية / 26.

([38]) ينظر: مواهب الرحمن: ۸ / ۸۲.

([39]) المائدة: الآية / 23.

([40]) مواهب الرحمن: 11 / 148.

([41]) ينظر: الطراز: 256.

([42]) الأنعام: الآية / 27.

([43]) مواهب الرحمن: ۱۳ / ۱۸۱.

([44]) البقرة: الآية / 165.

([45]) ينظر: مواهب الرحمن: 2 / 316.

([46]) الكشاف: ۱ / ۲۳۸.

([47]) ينظر: لسان العرب: مادة (طنب): 8 / 205.

([48]) ينظر: البيان والتبيين: 1 / 104 ـ 105.

([49]) ينظر: البلاغة، المبرد: ۸۱.

([50]) ينظر: كتاب الصناعتين: 190.

([51]) المصدر نفسه: ۱۹۰.

([52]) مفتاح العلوم: 493.

([53]) المثل السائر: ۲ / ۱۲۹.

([54]) الأنعام: الآية / 5.

([55]) الشعراء: الآية 67.

([56]) مواهب الرحمن: 13 / 51.

([57]) المائدة: الآية / 14.

([58]) مواهب الرحمن: 11 / 85.

([59]) البقرة: الآية / 133.

([60]) ينظر: مواهب الرحمن: 2 / 73 ـ 75.

([61]) ينظر: التلخيص: 58.

([62]) البقرة: الآية / 217.

([63]) مواهب الرحمن: ۳ / ۳۲۲.

([64]) المائدة: الآية / 91.

([65]) ينظر: مواهب الرحمن: ۱۲ / ۲۰۳.

([66]) البقرة: الآية / 238.

([67]) ينظر: مواهب الرحمن: 4 / 91.

([68]) ينظر: المطول: 494.

([69]) الأنعام: الآيتان / ۱۲ ـ ۱۳.

([70]) ينظر: مواهب الرحمن: 13 / 96 ـ 97.

([71]) ينظر: معاني القرآن: ۳ / ۲۸۷.

([72]) ينظر: البلاغة الغنية، علي الجندي: 192.

([73]) ينظر: جرس الألفاظ ودلالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب، د. ماهر مهدي هلال: ۲۳۹.

([74]) ينظر: جوهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمي: 144.

([75]) ينظر: مواهب الرحمن: 11 / 240.

([76]) المائدة: الآية / 110.

([77]) مواهب الرحمن: 12 / 396.

([78]) لقمان: الآيتان / 4 ـ 5.

([79]) البقرة: الآية / 5.

([80]) ينظر: مواهب الرحمن: ۱ / ۹۹.

([81]) البقرة: الآيتان / ۱۹۲ ـ ۱۹۳.

([82]) مواهب الرحمن: 3 / 156.

([83]) ينظر: المصدر نفسه: ۳ / ۱۹۹.

([84]) البقرة: الآيات / ۱۹۸ ـ ۲۰۰ ـ ۲۰۳.

([85]) البقرة: الآية / 59.

([86]) ينظر: مواهب الرحمن: 1 / 354.

([87]) ينظر: الكشاف / ۱ / ۱۷۲.

([88]) آل عمران: الآيتان: 42 ـ 43.

([89]) مواهب الرحمن: 5 / 334.

علم البيان

إنّ البلاغة ـ وبضمنها علم البيان ـ كان لها أثر كبير في الذائقة العربية، وما أن نزل القرآن بلغة العرب حتّى أبهر بجمال أسلوبه كـلّ مـن كـان يتكلم الضاد، وكان ذلك أحد الحوافز لدراسة البلاغة وعلومهـا مـن قبـل العلماء، وجاء علم البيان في مقدمة اهتماماتهم، لأنّه يعـد “الأساس في بلاغة العرب إن لم نقل هو البلاغة بعينها”([1]).

والبيان في اللغة: الفصاحة، والبيان: الإيضاح مع ذكاء أو هو إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وقالوا: بأنّ الشيء بياناً، اتضح، فهو بيّن، وأبان الشيء فهو مبين، وأبنته أنا: أي وضّحته([2]).

وقد تعرّض الجاحظ لوصف (البيان)، وسمّى أحد كتبه بـ(البيان والتبيين)، وفي كتابه هذا يقول: “البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير حتّى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائناً ما كان ذلك البيان ومن أي جنس كان ذلك الدليل، لأنّ مدار الأمر والغاية التي يجري إليها القائل والسامع إنّما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع”([3]).

ونجد الرماني لا يختلف عن الجاحظ في تحديد معنى البيان، فقال: “وليس بحسن أن يطلق اسم بيان على ما قبح من الكلام، لأنّ الله مدح البيان وأعتدَ به في اباديه الجسام”([4])، إلا أنّ الكلام الذي يستوفي خصائص البيان الحسن عند الرماني لا يقع كلّه في مستوى واحد، وإنّما تتفاوت مراتبه([5])، ثمّ يأتي ابن رشيق القيرواني (ت: 456 هـ)، فيقول: “البيان: الكشف عن المعنى حتّى تدركه النفس من غير عقلة، وإنّما قيل ذلك لأنّه قد يأتي التعقيد في الكلام الذي يدل ولا يستحق اسم بيان”([6]).

ويبدو ممّا سبق أنّ البيان لم ينتقل عن معناه الواسع منذ عهد الجاحظ حتّى عصر ابن رشيق، بل كان دائراً في فلك المداليل العامّة، التي تعني بجمال القول، وبلاغة الكلام وانسجام العبارة، وحسن الأداء([7]).

ومن ثمّ يتناول عبد القاهر الجرجاني علم البيان مصرحاً باسمه وواصفاً له وواضعه في أعلى مراتب القول، لكنّه لم يضع له تعريفاً اصطلاحياً، فيقول: “ثمّ إنّك لا ترى علماً هو أرسخ أصلاً، وأبسق فرعاً، وأحلى جناً، وأعذب ورداً، وأكرم نتاجاً، وأنور سراجاً من (علم البيان) الذي لولاه لم تر لساناً يحوك الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدر، وينفث السحر، ويقري الشهد، ويريك بدائع من الزهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر، والذي لولا تحفّيه بالعلوم وعنايته بها، وتصويره إيّاه، لبقيت كامنة مستورة، ولما استنبت لها يد الدهر صورة”([8]).

وقبله الزمخشري في تفسيره الكشاف ذكر مصطلحي علم المعاني والبيان، قال: “ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما علم المعاني وعلم البيان”([9])، ممّا دفع الدكتور شوقي ضيف أن يعد الزمخشري أول من ميّز بين علوم البلاغة وقسمها على علمين هما علم المعاني وعلم البيان([10]).

غير أنّ الدكتور أحمد مطلوب يرى أنّ كلام الزمخشري غير واضح، لأنّه كثيراً ما يردد هذين المصطلحين، وكثيراً ما يطلق مصطلح البيان على البلاغة كلّها، يضاف إلى ذلك أنّه لم يضع حدّاً بين موضوعات علـم المعاني وعلـم البيان، وإن ذكر كثيراً من موضوعاتهما([11]).

وقد ذكر الرازي مصطلحي المعاني والبيان في كتابه (نهاية الإيجاز) عند كلامه عن الخبر، فقال: “ولكن الخبر هو الذي يتصور بالصور الكثيرة، وتظهر فيه الدقائق العجيبة والأسرار الغريبة من علم المعاني والبيان”([12]).

وبقي معنى البيان يدلّ على أمور كثيرة ويطلق على البلاغة كلّـهـا طـوال العصور التي سبقت السكاكي، وحتّى في عصر السكاكي نجد ضياء الدين بن الأثير يطلق البيان على علوم البلاغة كلها([13]).

فالبيان ـ وهـو مـن علـوم البلاغة ـ كان اسمه يطلق على مـا يـراد منها جميعاً([14]).

وقد استقر البلاغيـون على تعريف السكاكي لعلـم البيان “فهـو معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه، وبالنقصان ليحترز على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه”([15]).

وهـذه الدلالة (البيـان) أخـذت تتطـور شـيئاً فشيئاً حتّى انتـهـت عنـد البلاغيين المتأخرين إلى أنّها العلـم الـذي يعـرف بـه إيـراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه([16]).

ولا يمكن لمفسّر أن يغض النظر عمّا في القرآن الكريم من ثروة بيانية لأنّ القرآن الكريم يمثل الذروة البيانية في الموروث البلاغي عند العرب”([17])، لذا لم يغفل السيّد السبزواري في تفسيره مباحث (علـم البيـان) ـ وإن لم يشر إليه بمعناه الاصطلاحي ـ إنّما أفاض في ذكرهـا والإشارة إليهـا مـن حقيقة ومجاز واستعارة وتشبيه وكناية، ممّا يؤكد إحاطته بها وأهميتها في التفسير، لأنّهـا ركـن من أركانه تؤدي للكشف عن المعنى المقصود.


([1]) أصول البيان العربي (رؤية بلاغية معاصرة)، د. ـ محمد حسين علي الصغير: ۳۰.

([2]) ينظر: لسان العرب، مادة (بين): 1 / 595.

([3]) البيان والتبيين: 1 / 76.

([4]) النكت في اعجاز القرآن (ثلاث رسائل في اعجاز القرآن): ۹۸.

([5]) ينظر: التعبير القرآني (رؤية بلاغية نقدية)، د. شفيع السيد: 10.

([6]) العمدة: 1 / 254.

([7]) ينظر: أصول البيان العربي: 18.

([8]) دلائل الاعجاز: 4.

([9]) الكشاف: 1 / 43.

([10]) ينظر: البلاغة تطور وتاريخ، د. شوقي ضيف: ۲۲۲.

([11]) ينظر: البلاغة عند السكاكي: 119.

([12]) نهاية الإيجاز: 36.

([13]) ينظر: البلاغة عند السكاكي: 120.

([14]) ينظر: البيان العربي، د. بدوي طبانه: ۱۸.

([15]) مفتاح العلوم: 342.

([16]) ينظر: البلاغة العربية، د. سعد سليمان حموده: 14.

([17]) تطـور البحـث الـدلالي (دراسـة في النقـد البلاغـي واللغـوي) د. محمّد حـسين علـي الصغير: 55.

المجاز في اللغة من جزت الطريق جوازاً ومجازاً، وجاوزته جوازاً في معنی: جزته، والمجاز والمجازة: الموضع، وتجاوز بهم الطريق: خلفه([1]).

ولقد تحدث سيبويه عن المجاز بمعناه المقابل للحقيقة، واستعمل مصطلح (الاتساع في الكلام) ويريد به المعنى المجازي الذي يفيده([2]).

وأفرد ابن قتيبه باباً لدراسة المجاز ردّ فيه على من نفاه عن القرآن الكريم بدعوى أنّه كذب، فقال: “وهذا من أشنع جهالاتهم وأدلها على سوء نظرهم وقلة إفهامهم، ولو كان المجاز كذباً وكل فعل ينسب إلى الحيوان باطلاً، كان أكثر كلامنا فاسداً لأنّا نقول: (نت البقل) و (طالت الشجرة) و (أينعت الثمرة) و (أقام الجبل) و (رخص السعر)” ([3])، وجاء ابن جني (ت 392 هـ) فعرّف الحقيقة وحدّ المجاز بقوله: “الحقيقة: ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز: ما كان بضد ذلك”([4])، ثمّ يذكر سبب وقوع المجاز، ويكون ذلك لأجل معانٍ ثلاث، هي الاتساع، والتوكيد، والتشبيه، فإن لم يفد أحد هذه الأوصاف، كانت الحقيقة دون المجاز([5])، وقد أكّد عبد القاهر الجرجاني على أنّ هناك علاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز، فيقول: “المجاز مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعدّاه، وإذا عدل باللفظ عمّا يوحيه أصل اللغة وصف بأنّه مجاز على معنى أنّهم جازوا به موضوعه الأصلي أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولاً”([6])، ثمّ وضع تعريفاً للمجاز والحقيقة فقال عن المجاز: “كلّ كلمة أريد بها غير ما وضعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الأول والثاني فهي مجاز، وإن شئت قلت: كلّ كلمة جزت بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له تستأنف فيها وضعاً لملاحظة بين ما تجوز إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز”([7]).

وقال عن الحقيقة: “كلّ كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع ـ وإن شئت قلت: في مواضعة ـ وقوعاً لا تستند فيه إلى غيره”([8]).

وجاء فخر الدين الرازي (ت 606 هـ) لينقل تعريف عبد القاهر نصّاً دون أن يضيف شيئاً عليه، موضحا العلاقة بين اللغة والاصطلاح والحقيقة والمجاز([9]).

ثمّ جاء السكاكي وعرّف المجاز والحقيقة، فرأى أنّ المجاز: “هي الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالاً في الغير بالنسبة إلى نوع مع قرينة مانعة عن إرادة معناه ذلك النوع”([10])، وقال في حدّ الحقيقة: “هي الكلمة المستعملة فيما تدل عليها بنفسها دلالة ظاهرة”([11]).

ثمّ حد ابن الأثير المجاز بقوله: “ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة، وهو مأخوذ من جاز هذا الموضع إلى هذا الموضع إذا تخطاه إليه”([12]).

ثمّ وضح شهاب الدين النويري (ت 733 هـ) الصلة القائمة في المجاز بين اللغة والاصطلاح، فقال: “المجاز من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه، فإذا عدل باللفظ عمّا يوجبه أصل اللغة وصف بأنّه مجاز، على أنّهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولاً، لأنّه ليس بموضع أصلي لهذا اللفظ، ولكنّه مجازه ومتعداه يقع فيه كالواقف بمكان غيره ثمّ يتعداه إلى مكانه الأصلي”([13])، فالمجاز إذن أبلغ في المعنى لذا يحسن العدول من الحقيقة إليه إذا كان فيه غرض صحيح من اختصار أو رشاقة لفظ وعذوبة، أو مبالغة في الوصف([14])، وهو حدث لغوي يفسر لنا تطور اللغة بتطور دلالة ألفاظها على المعاني الجديدة، والمجاز خير وسيلة للتعبير عن ذلك بما يضيفه من قرائن وما يضيفه من علاقات لغوية جديدة توازن بين المعاني والألفاظ في الشكل والمضمون([15]).

فالمجاز وفقاً لما مرّ، باب من أبواب البلاغة والتصرف في الكلام، فهو أبلغ في التعبير وأكثر اتساعاً وأبعد افقاً، لذا يحسن العدول من الحقيقة إليه.

ويرى الدكتور تمام حسان أنّ تعدد معاني اللفظ الواحد في المعجم لا يفسّره إلا المجاز، فيقول: “إذا نظرنا إلى المعاني المتعددة للفظ الواحد في أحد المعاجم فسنجد أحدها يفهم من اللفظ بطريق الحقيقة ونجد بقيتها مجازات عن هذه الحقيقة”([16]).

ويرى العلماء أنّ الحقيقة قد تتحول إلى مجاز أو يتحول المجاز إلى حقيقة وهذا يعود إلى: “أنّه قد يقلّ استعمال الحقيقة، ويتغير حالها فتصير کالمجاز، وكذلك المجاز قد يكثر استعماله في العرف فيلحق بحكم الحقائق كما هو الحال في المنقول الشرعي، مع هجر معناه اللغوي كالصلاة”([17]).

وهذا يؤكده الدكتور أحمد مطلوب إذ لم يتقيد بما أقرّه اللغويون في الوضع الأول، فيقول: “لا يتقيد كل التقيد بمسألة الوضع الأول الذي أقرّه اللغويون ركناً أساسياً للحقيقة وإنّما يعتمد معيار العقل الذي يتخذه فيصلاً بين الحكم الحقيقي والحكم غير الحقيقي والمؤول المجازي”([18]).

ومن خلال استعراض تفسير مواهب الرحمن نجد أنّ السيّد السبزواري يفرّق بين الحقيقة والمجاز ويستعمل أحدهما في مقابل الآخر، فهو يحدد اللفظ أو الكلام، إن كان على الحقيقة أو على المجاز، ويكون الوضع اللغوي أساساً للحكم على اللفظ ثمّ التوسع في استعماله، وهو لا يعد اتساع معنى الألفاظ من المجاز إذا كان الاتساع على نحو الحقيقة وإذا كان اللفظ يفيد المعنى في أصل الوضع اللغوي، كما جاء في حديثه عن لفظ اسم الجلالة (الله)، قال: “كل ما اتسع المعنى ازدادت آثاره ولوازمه وملزوماته، ولا نحتاج إلى تكثير اللفظ خصوصاً فيه جلّت عظمته، ولأجل ذلك قلنا: إنّ لفظ (الله) اسم للذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية الواقعية المسلوب عنه جميع النقائض الواقعية والإدراكية، وتشهد لذلك الأدلة العقلية والسنّة الشريفة فيكون إطلاق ألفاظ كثيرة وسلب معانٍ متعددة وهذا الإطلاق يكون على نحو الحقيقة دون المجاز”([19]).

وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}([20])، يرى السيّد السبزواري إنّ جملة: (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً) الكلام فيها جاء على وجه الحقيقة دون المجاز([21])، ومن ثمّ يذكر رأي غيره بخصوص هذه الآية فيقول: “وقيل: إنّ الكلام على المجاز دون الحقيقة لأنّ المتبادر من (يَأْكُلُونَ) إنّه للحال دون الاستقبال بقرينة العطف عليه بقوله تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} المشتمل على حرف الاستقبال فلو كان المراد حقيقة الأكل ووقته يوم القيامة لكان الأنسب أن يكون لفظ الآية هكذا (فسيأكلون ناراً ويصلون سعيراً) فيراد به المعنى المجازي أي أنّهم في أكلهم مال اليتامى كمن يأكل في بطنه ناراً فالأكل عذاب باطن البدن والصلي عذاب ظاهره جزاء اللباس وسائر التصرفات”([22]).

ويرى صاحب المواهب أنّ هذا التفسير بعيـد عـن ظاهر الآية الكريمة وهو يقدّم الأدلة على فساده، قال: “لكن فساد هذا القول ظاهر، لأنّه مخالف لظاهر الآية الشريفة لأنّ المتبادر إلى الذهن هو حقيقة الأكل دون المعنى المجازي والنار الفعلية دون النار في المستقبل مضافاً إلى أنّه يوجب خروج الآية المباركة عن مفادها الواقعي وهو تجسّم الأعمال”([23])، ويرى أنّ للحقيقة مراتباً كثيرة لأنّ بعض الألفاظ ظاهرة في الحقيقة غير محدودة بعالم فتُحمل على المجاز وهذا ما يتوهم به، وأشار إلى ذلك عند تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}([24])، قال: “الكلام محمول على حقيقته دون المجاز ولكـن لـنـفـس الحقيقة مراتب كثيرة شدّةً وضعفاً وجوهراً وعرضاً وكمالاً ونقصاً، فلا وجه لحمله على المجاز، كما لا وجه لحمله على الحقيقة التي هي محجوبة عن البصائر والإبصار وهـي عـالم الغيب لأنّ اللفظ ظاهر في الحقيقة غير المحدودة بعالم دون عالم آخر. نعم، لها مظاهر ومراتب كما مرّ، ففي الآية الكريمة يراد من النـور: الإيمان والهدايـة، ومن الظلمات: الضلال والغوايـة”([25])، يتـضـح مـن خـلال مـا بيّنـه صـاحب المواهب أنّ اللفظ لا يحمل على الحقيقة أو المجاز إلا من خلال ما أفاده من معنى ضمن السياق، فاستقامة معنى الآية الشريفة هـو مـن يوجه إفادة اللفظ: المجاز أو الحقيقة، ومن ذلك ما ذكره صاحب المواهب في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}([26]) يرى أنّ: “حقيقة الحمد هو إظهار صفات الكمال بالقول والفعل، كما ذهب إليـه بعـض المحققين، والفعـل أقـوى مـن القـول لأنّ الأفعال التي هي من آثار فيض جـوده وسخائه عـزّ وجـلّ تـدل عليهما دلالة عقلية قطعية لا يتصور فيها التخلق، بخلاف القـول فإنّ دلالتهـا عليـه وضعية وقد يتخلف عنها مدلولها، ومن هنا كان حمده عزّ وجلّ على ذاته على سبيل الحقيقة بل هو أفضل أفراد الحمد، وعلى ذلك لا نحتاج إلى التأويـل وإتعاب النفس في تصوير حمده عزّ وجلّ على ذاته المقدسة، وما اشتهر من أنّ الحمد هو الثناء باللسان على الجميل، وفي العرف أعـّم منـه ومـن عقـد الجنان وفعل الأركان، فهـو باعتبار ذكـر الفـرد المعهـود الشائع لذلك المفهـوم، لا أن يكون الحمد مختصاً بها حتّى يكون تعالى لذاته مجازاً”([27])، فهـو يـتفـق مع عبـد القـاهر الجرجاني في وصف المجـاز مـن جهـة احتياجه إلى التأويل، يقـول عبـد القاهر: “إنّ كلّ جملة أخرجت الحكم المضاد بها عن موضوعه في العقـل لـضرب من التأويل فهي مجاز”([28]).

وفي قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}([29])، يرى أنّ لفظ الأخذ حقيقياً ولا وجه لجعله مجازاً، لأنّ سلب الآثار عن الماهيات كأنّه سلب للماهيات، قال: “أخذ في المقام هو سلب قوتي السمع والأبصار وانتزاعهما عنهم، فلم يمكنهم الاستفادة منهما في الجهة النافعة المطلوبة لأصحابها، فيكون الأخذ حقيقياً لأنّ سلب الآثار عن الماهيات سلب للحقيقة ولا وجه لجعله مجازاً”([30])، وهو يتابع بذلك عبد القاهر الذي يرى أنّ الحقيقة يجب أن تعرّى من التأويل، فالجملة إذا أفادت ما هو عليه في العقل وواقع موقعه فهي حقيقة([31])، وفي نص قرآني آخر يرى أنّ المعنى المجازي هو المناسب سياق الآية الكريمة من لفظ (أبناء) وكانوا يصفون به أنفسهم لغرض التشريف، ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}([32]) قال: “الابن: يطلق ويراد منه المعنى المجازي، أي القرب والرحمة، حيث أنّ الأولاد مقربون من آبائهم وموارد رحمتهم وعنايتهم، ولعلّ هذا المعنى هو المناسب في المقام، فيكون قوله تعالى (وَأَحِبَّاؤُهُ) عطفاً تفسيرياً له، ويدل على ذلك أنّهم لم يدّعوا النبوة الحقيقة لغير ما ادعوها فيه كالمسيح وعزير، فلا اليهود تدّعي تلك الحقيقة ولا النصارى، فكانوا يطلقونها على أنفسهم تشريفاً”([33]).

وفي قوله تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}([34])، يری أنّ استعمال لفظ (اليد) يدل على معانٍ مجازية عدة شائعة، قال: “اليد: هي الجارحة المعروفة، وتطلق على معانٍ مجازية، كالنعمة والقدرة والملك والتصرف وغير ذلك ممّا هو كثير، واستعمالها في غير المعنى الحقيقي من الأساليب البلاغية المعروفة وفي القرآن الكريم ما يدل على ذلك، ومنه المقام الذي أريد من اليد: القدرة أو الجود، فيكون غل اليد العجز أو البخل، ويدل على الأخير، قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}([35])، ويدل على الأولى القرائن الكثيرة كما عرفت، ومنها ما يأتي فإنّه دعاء عليهم بالعجز وسلب القدرة عنهم”([36]).

إنّ السيّد السبزواري في تعليقه على الآية الكريمة، يحمل اللفظ على المجاز إذا كانت هناك قرينة دالة عليه، ولعلّه تابع العلوي في ذلك إذ ذكر الأخير أنّ اللفظ الذي يفيد المجاز مع القرينة هو المجاز بعينه، لأنّ دلالة القرينة ليست دلالة وضعية، وإنّما دلالتها عقليّة([37]).

ويقرّ السيّد السبزواري في موضع آخر ما هو مشهور بين المفسرين من القول بالمجاز والحذف([38])، في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ}([39])، حيث قال: “المشهور بين المفسرين القول بالمجاز والحذف في مثل الآية فأمّا أن يكون المحذوف (العذاب)، بقرينة قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ}([40])، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كثير في المحاورات الفصيحة، أو يكون أمره تعالى بقرينة قوله جل شأنه {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}([41])، وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}([42]).

وغير ذلك ممّا يصح إضماره ولا بدّ من المصير إلى ذلك ـ كما هو كثير في القرآن الكريم ـ تلائم نسبته إلى ذاته الأقدس”([43]).

ويری صاحب المواهب أنّ التعبير بـ (يسيراً) في قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}([44])، تعبيراً مجازياً، وقد استدل على ذلك باعتماد القواعد الفلسفية، فليس هناك شيء يكون معجزاً أمام قدرة الله سبحانه وتعالى، حتّى يكون شيئاً آخر مقابله يسيراً، قال: “أمّا قوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}، فقد ورد في عدة مواضع من القرآن الكريم ولا ريب في أنّ الممكن من حيث هو ممكن إذا لوحظ بالنسبة إلى الواجب بالذات تكون النسبة نسبة العدم إلى الوجود لما ثبت في الحكمة المتعالية حتّى جعله العلماء من القواعد الفلسفية: (إنّ الممكن من ذاته ليس، ومن علّته أيس)، هذا إذا لوحظ إلى ذات الواجب من حيث هو، وأمّا إذا لوحظ بالنسبة إلى القيوميّة المطلقة، والقدرة غير المتناهية والإحاطة العلمية فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة فجميع العوالم الإمكانية كالذرة تحت يدي جبّار قاهر، وحينئذٍ يكون التعبير بـ(يسيراً) تعبيراً مجازياً إذ ليس شيء في مقابل ذلك الجبروت المهيمن حتّى يكون يسيراً”([45]).

وفي قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}([46])، يلحظ صاحب المواهب أنّ من دواعي المجاز هو الاستعمال كما في لفظ الطائر، قال: “الطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه، وجمعه الطير كالراكب والركب، واستعمل الطائر في العمل والنصيب مجازاً، كما في قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}([47]).

ومن الألفاظ التي أفادت المجاز وأشار إليها صاحب المواهب لفظ (اللمس) في قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}([48])، وهو يستعمل مجازاً بمعنى طلب الشيء والبحث عنه، قال: “اللمس هو إدراك الشيء بظاهر البشرة، وقيل: إنّه اللمس باليد، إذ قد يستعمل مجازاً بمعنى طلب الشيء والبحث عنه، كما في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ}([49])، أي تفحصنا، أو لزيادة التعيين وتحقيق القراءة على قرب أي فقرءوه بأيديهم لا بعيداً عنهم، وهو ما يدل على عدم حصول الخداع، فإنّ اللمس، إذا اقترن بالرؤية كان أقرب إلى اليقين وأبعد عن الخداع، بخلاف البصر فإنّه قد يحصل الخداع فيه للتخييل”([50]).

من خلال ما تمّ بيانه من المواضع التي عرض لها صاحب المواهب وكشف عن المجاز فيها، يظهر أنّه يقرّ بوجود المجاز في القرآن الكريم، ورأيه فيه يكاد يتفق مع عبد القاهر الجرجاني والعلوي من اشتراط القرينة الدالّة عليه، ومن أصل اللفظ وما يدلّ عليه من معنى حين الوضع، واستعماله على سبيل الاتساع في المعنى مجازاً لإفادة أغراض معينة لا تتحقق بدونه، وما يضفيه من سمات جمالية تجعل القلوب تطرب لما تسمع ويكون تأثيره فيها أقوى وأكثر إشراقاً.


([1]) ينظر: لسان العرب، مادة (جوز): 2 / 417.

([2]) ينظر: الكتاب: ۱ / ۲۱۱.

([3]) تأويل مشكل القرآن: ۱۳۲.

([4]) الخصائص، أبو الفتح عثمان بن جني: 2 / 442.

([5]) ينظر: المصدر نفسه: 2 / 442 .

([6]) أسرار البلاغة: 2 / ۱۷۷ ـ ۲۸۰.

([7]) أسرار البلاغة: ۲ / ۲۳۲.

([8]) المصدر نفسه: ۲ / ۲۳۰.

([9]) ينظر: نهاية الإيجاز: 46.

([10]) مفتاح العلوم: 589.

([11]) المصدر نفسه: 588.

([12]) المثل السائر: 1 / 58.

([13]) نهاية الارب في فنون الأدب، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري: 7 / ۳۷.

([14]) ينظر: أساليب البيان في القرآن، سيّد جعفر الحسيني: ۳۸۹.

([15]) ينظر: الصورة الفنية في المثل القرآني،، د. محمّد حسين علي الصغير: 153.

([16]) اللغة العربية، معناها ومبناها، د. تمام حسان: ۱۹.

([17]) أساليب البيان في القرآن: ۳۷۷ ـ ۳۷۸.

([18]) البلاغة والتطبيق: ۳۲۱.

([19]) مواهب الرحمن: 4 / 272.

([20]) النساء: الآية / 10.

([21]) ينظر: مواهب الرحمن: ۷ / ۳۰۹.

([22]) المصدر نفسه: ۷ / ۳۰۹.

([23]) مواهب الرحمن: ۷ / ۳۰۹.

([24]) البقرة: الآية / 257.

([25]) مواهب الرحمن: 4 / 301.

([26]) الأنعام: الآية / 1.

([27]) مواهب الرحمن: ۱۳ / ۸.

([28]) أسرار البلاغة: 2 / 269.

([29]) الأنعام: الآية / 46.

([30]) مواهب الرحمن: ۱۳ / ۳۲۰.

([31]) ينظر: أسرار البلاغة: 2 / 268.

([32]) المائدة: الآية / 18.

([33]) مواهب الرحمن: 11 / ۱۰۹.

([34]) المائدة: الآية / 64.

([35]) الاسراء: الآية / 29.

([36]) مواهب الرحمن: 11 / 462.

([37]) ينظر: الطراز: ۳۷.

([38]) ينظر: الكشاف: ۱ / ۲۸۱.

([39]) البقرة: الآية / 210.

([40]) يونس: الآية / 50.

([41]) النحل: الآية / 1.

([42]) النحل: الآية / 77.

([43]) مواهب الرحمن: 3 / 260 ـ 261.

([44]) النساء: ۳۰.

([45]) مواهب الرحمن: ۸ / ۱۲۹ ـ۱۳۰.

([46]) الانعام: الآية / 38.

([47]) الاسراء: الآية / 13.

([48]) الأنعام: الآية / 7.

([49]) الجن: الآية / 8.

([50]) مواهب الرحمن: 13 / 58.

التشبيه

التشبيه لغة من: الشَبَه والشبْه، والشبيه: المثل، والجمع أشباه، وأشْبَه الشيء الشيء: مائله، وأشبْهَتُ فلاناً وشابهته واشْتَبَه عليّ وتشابه الشيئان واشتبها: أشْبه كلّ واحد منهما صاحبه، وشبَّهُه إياه وشبّهُه به مثّله، والتشبيه التمثيل([1]).

وأمّـا في الاصطلاح فالتشبيه “الدلالـة عـلـى مـشاركة أمـر لأمـر في المعنى”([2])، وهو من أكثر الألوان البلاغية التي حفل بها التراث العربي الأدبي نظراً لكونه أوضح الصور المجازية ظهوراً في التعبير وأقربهـا في التناول لوضـوح التعبير وجلائه([3])، ولعلّ أقدم من وضع حدّاً للتشبيه هـو المبرد: (ت: 285 هـ) يقول: “واعلـم أنّ للتشبيه حدّاً، فالأشياء تتشابه مـن وجـوه، وإنّما ينظر إلى التشبيه من حيث وقع”([4]).

ثمّ عرّفه قدامه بن جعفر (ت: ۳۳۷ هـ) بقوله: “إنّ الشيء لا يشبّه بنفسه ولا بغيره من كلّ الجهات، إذ كان الشيئان إذا تشابها من جميع الوجوه، ولم يقع بينهما تغاير البتّة اتّحدا فصار الاثنان واحداً، فبقي أن يكون التشبيه إنّما يقع بين شيئين بينها اشتراك في معانٍ تعمّهما ويوصفان بها، وافتراق في أشياء ينفرد كلّ واحد منهما عن صاحبه بصفتها، وإذا كان الأمر كذلك فأحسن التشبيه: هو ما وقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيما يدني بهما إلى حال الاتحاد”([5])، وذكر ابن طباطبا (ت: ۳۲۲ هـ) أشكالاً مختلفة من التشبيهات، فمنها تشبيه الشيء بالشيء صورة وهيئة، ومنها تشبيه به معنی، ومنها تشبيهه به حركةً وبطئاً، ويذهب إلى أنّه إذا اتفق في الشيء المشبه بالشيء معنيان أو ثلاثة معان… صار التشبيه قوياً وصادقاً، وهو يرى أنّ أحسن التشبيهات ما إذا عكس لم ينتقض([6])، وحدّه الرمّاني بأنّه: “العقد على أنّ أحد الشيئين يسدّ مسدّ الآخر في حسن أو عقل”([7])، وأكد ابن رشيق القيرواني على أنّ: “التشبيه صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة أو جهات كثيرة، لا من جميع جهاته، لأنّه لو ناسبه مناسبة كليّة لكان إيّاه”([8])، وهو لا يختلف عمّن سبقه من علماء البلاغة، أشار إلى امتناع المطابقة الكلية بين المشبه والمشبه به، لأنّه في هذه الحال سوف يكون هو، فالتشبيه إذن محاولة بلاغية جادة لصقل الشكل وتطوير اللفظ، ومهمته تقريب المعنى إلى الذهن بتجسيده حيّاً([9])، وهو تصوير فني يرسم المعنى في الخيال وما إن دقّ ولطف في التعبير إلا ازداد حسناً وكمالاً([10])، وفائدته توسيع آفاق التعبير أمام المتكلم فيستطيع عن طريق الصورة أن ينقل ما رسم في ذهنه من معان إلى السامع أو القارئ لأنّه يجمع بين الإيجاز وحسن البيان والمبالغة في تأكيد المعاني وتقريرها([11]).

وعليه يكون التشبيه مشابهة شيء لشيء آخر في صفة أو أكثر، وهذه المشاركة في الصفات هي التي دعت إلى التشبيه، وهو أبلغ وأشدّ تأثيراً، لأنّه يعبر عن المعاني الذهنية بالصور، وهو أقرب إلى تحريك النفوس وإثارتها.

ومن ملاحظتي لتفسير المواهب رأيت أنّ السيّد السبزواري قد كشف عن التشبيه وهو يفسر الآيات الكريمة، مفصّلاً القول في هذا اللون البلاغي وموضحاً العلاقات فيما بين المشبه والمشبه به، أو أداة التشبيه أو وجه الشبه، راداً في بعض المواضع على آراء المفسرين الأخرى فيه أو في أركانه، وهو في ذلك كله جارياً مع مراد السياق القرآني، وما يمكن أن يفيده من معنى، حصل التشبيه لأجله، ويشهد لذلك ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً}([12])، قال: “النقير اسم للنقطة التي في ظهر النواة، وهو المقدار اليسير الذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره وقيل غير ذلك، وهو تشبيه بما نقر بمنقار الطائر أو منقار الحديد الذي تحفر به الأرض الصلبة، وكيف كان فهو مثال للشيء الحقير”([13])، يؤكد هنا أنّ وجه الشبه هو الشيء اليسير أو الحقير لأنّهم مع ما أنعم الله عليهم من النعم الدنيوية الظاهرة من الثروة والزراعة والعقار كانوا قد عرفوا بالشحّ والبخل والحرص على المنع من أدنى الأشياء وأحقرها.

وفي قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ}([14])، رأى أنّ التشبيه بأصحاب السبت كان لأجل إشعارهم بما هم عليه من الضلال حتّى استحقوا الطرد واللعن، وأشار إلى أنّ غرض هذا التشبيه هو: “لبيان تهويل الأمر والإغراق بالوصف”([15])، وفي مثال قرآني آخر يرى السيّد السبزواري أنّ وجه الشبه ممكن أن يأخذ صوراً متعددة بلحاظ المشبه والمشبه به، كما في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً}([16])، قال: “المثل: الشبه، والقول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر يبين أحدهما الآخر، وقد بيّن سبحانه وتعالى إنّ مثل الكفار في عدم التعقل والتدبر في ما يرتبط بشؤون دينهم وآخرتهم، وعدم تأملهم في ما أتى به الأنبياء لأجل سعادتهم ونجاتهم من المفاسد والمهالك، مثل الحيوانات التي لا تفهم من الخطاب إلا مجرد الأصوات التي يصدرها الإنسان لدعوتها إلى شيء أو زجرها عن شئ آخر، فهي لا تعقل شيئاً ممّا يقول، ولا تفهم منها معنى، كذلك شأن الكفار في الجهل وعدم التمييز بمداليل الألفاظ وعدم درك المعاني”([17])، وأكد صاحب المواهب أنّ التشبيه في المقام يحتمل وجوها أربعة:

الأوّل: أن يكون تشبيه حالهم في ترك دعوة الحق وإتباع آباءهم، بالناعق للحيوان، يعني ـ أنّ التابعين كالحيوان، والمتبوعين كالناعق لهم([18])، وهذا الوجه أشار إليه الطبرسي وقال إنّه من اختيار الرمّاني والطبري([19]).

الثانی: أن يكون كالوجه الأول، إلا أنّ التشبيه يكون بالنسبة إلى التابع، يعني: إنّ المتبوع كالحيوان، والتابع كالناعق لهم.

الثالث: لحاظ التشبيه بالنسبة إلى المعبودات الباطلة في الأوثان والأصنام، بل يمكن التعميم كي يشمل كل ما يراد به غير وجه الله تعالى، فيكون المراد به أنّه ليس له إلا التعب والنصب من دعائه.

الرابع: تشبيه واعظ الكفار ـ هم الأنبياء ـ بالراعي الذي ينعق بالحيوان، فلا يسمع منهم ولا يفهمون ما يقولون لهم، ويمكن أن يأخذ معنىً عامّاً يشمل ذلك، وقد أشار إلى الوجه الرابع الطبرسي([20])، وأشار السبزواري أنّ التشبيه ممكن أن يفيد معنىً عاماً، فتقع هذه الوجوه المحتملة جمعيها في ضمنه([21]).

ومن صور التشبيه التي أشار إليها المفسّر، تشبيه المعقول بالمحسوس، أي شبّه سبحانه وتعالى عظمته وكبرياءه وسلطانه بكرسي الملك المقتدر المدير لرعيته، ورصد ذلك التشبيه في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}([22])، قال: “المراد به في المقام اقتداره التام وسعة سلطانه، وهو تشبيه بليغ بين ما هـو المعقـول ـ بـل فـوق المعقـول ـ بمـا هـو المحسوس، وله نظائر كثيرة في الكتاب الكريم، وإنّما شبّه سبحانه وتعالى ـ ما في ساحته المقدسة التي تجـل عـن المادة وشؤونها، فإنّه لا كرسي و ولا جلـوس هنـاك تقريباً إلى الإفهام ـ بمـا اعتـاد في صفات الملوك والعظماء، فشبه عظمته وكبرياءه وسلطانه التام بكرسي الملك المقتدر المدير لرعيته والمدبر لشؤونها وإلا فليس ما سواه إلا من مظاهر أسمائه وصفاته”([23])، فالتشبيه في الآية الشريفة دلّ على تدبير الله عزّ وجلّ وكمال إحاطته بمخلوقاته، فهو الذي يرشدها إلى الكمال المطلوب، ويفيض عليهـا ممّا يشاء، وهـي عـاجزةً عـن إدراك ذلك، والتشبيه في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}([24]).

يرى صاحب المواهب أنّه من تشبيه المعقول بالمحسوس أيضاً لكي يقرّب المعنى إلى الأذهان المتعلقة بالأجسام ولبيان أنّ الإيمان بالله تعالى والكفر بالطاغوت يحققان السعادة واستقرار نفس المؤمن وعدم تأثير الأوهام والشبهات فيها، ففي الآية الشريفة تشبيه بليغ وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس والمعنى عام يشمل جميع العرى الجسمانية والمعنوية والروحانية الداعية إلى الحق والرشاد، ولا عروة أوثق من هدي الرحمن ومعارف القرآن، فلهذه العروة الوثقى حياة معنوية أجلّ وأشرف من الحياة الظاهرية، ولها مظاهر مختلفة في جميع العوالم وهي الصراط المستقيم وسواء السبيل والحياة الأبدية في عالم الآخرة([25])، والتشبيه في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}([26])، يرى أنّه من تشبيه المعقـول بالمحسوس جرياً على ما كانت تشبّه العرب، قال: “العرب تشبّه النور الممتد بالحبل أو الخيط، ومنه قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}([27])، ولعلّ وجه الشبه أنّهم لم يعرفوا من قواعد الهيئة والأفلاك العلوية شيئاً، وإنّما كان أنسهم بالأمور المادية، فشبّه الجليل جلّ وعلا الفجر بالأمر المحسوس، لتقربيه إلى أذهانهم، ولبعده عن الالتباس وسهولة معرفته”([28])، وفي موضع آخر يبيّن المفسّر الفائدة من التشبيه وأهميته في إتمام المعنى وبيان المراد منه في أجلى صورة، ذكر ذلك وهو يفسّر قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}([29])، إذ رأى أنّ تشبيه المرأة بالحرث في الآية الكريمة يستفاد منه أمور عدة منها: حاجة الإنسان إلى الحرث والى النساء، لأن في الأول بقاء الحياة وفي الثاني بقاء النسل، ومنها ملاحظة زمان ومكان الحرث وكذلك يلاحظ في النساء هذه الجهة، وملاحظة ومراعاة سقي الزرع وحفظه من حوادث الجو ولا بدّ من مراعاة أحوال النساء كذلك، وعدم تحميل الأرض ما يضرّها من كثرة الماء وزيادة البذر، لأنّه يؤدي إلى تلفها وهكذا حال المرأة فيما يتعلق بها، ومنها أنّ بهجة الارض وخضرتها ممّا يوجب سعادة الحارث وفرحه، كذلك جمال الزوجة ونظافتها ونزاهتها من موجبات فرح الزوج وانبساطه ورغبته على الحياة الزوجية وغير ذلك ممّا هو منشأ لحسن هذا التشبيه([30])، يؤكد أنّ هذا التشبيه حسن لتعدد الفائدة منه، ولأنّه يعبر عن المعنى المراد ويكشف عنه بأقل الألفاظ وأفصحها، فهو تشبيه بليغ لكلّ ما ذكر فيه، وفي نص قرآني آخر يوضح صاحب المواهب أركان التشبيه من مشبه ومشبه به ووجه الشبه وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}([31])، حيث ذكر أنّ الله سبحانه وتعالى: “شبّه الإسلام بالمطر لأنّه يحيي الأرض بعد موتها والإسلام يحيي القلوب، وجعل تعالى شبهات المنافقين وأباطيلهم كالظلمات، وشبّه ما في الدين من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وما يصيبهم من أهل الإسلام بالصواعق، وهم في غلو واضطراب وخوف من الناس”([32])، بيّن في الآية الكريمة أكثر من تشبيه، الأول: تشبيه الإسلام بالمطر، والثاني: شبهات المنافقين بالظلمات، والثالث: الوعد والوعيد الذي في الدين بالرعد والبرق، والرابع: ما يصيبهم من أهل الإسلام بالصواعق، ومن صور التشبيه التي أشار إليها هو التشبيه المركب، وأوضحه عند تفسيره لقوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ}([33])، حيث رأى أنّ: “في الآية الكريمة تشبيه مركب، فقد شبّه سبحانه وتعالى إنفاقهم في مقاصدهم وشؤونهم التي يزعمون أنّها وجه الله أو التي يريدون بها الصدّ عن سبيل الله تعالى بالريح الباردة التي تضرّ بالحرث والزرع، فهي فاسدة ومفسدة فلا ينتفعون من إنفاقهم أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة بل يكون مفسداً لأخلاقهم وموجباً لسقوط الآثار الواقعية التي تترتب على كلّ إنفاق ويحرمهم من السعادة الدنيوية والاخروية فلم يجنوا من إنفاقهم إلا الشقاء والحرمان، فالآية المباركة تبين حال إنفاقهم مع كفرهم في إحباطه له فيكون الكفر والظلم بمنزلة الريح الباردة”([34])، فهو يشبّه الكفر والظلم بالريح الباردة، وهو يتابع عبد القاهر الذي يرى أنّ التشبيه المركب يصوّر الهيئة وأحد المشبهين في المركب تابع للآخر([35]).

لقد نال مبحث التشبيه عناية صاحب المواهب إذ تناول فيه أبرز قضاياه، وفصّل القول في أركانه والغرض منه، نلحظ ذلك عند تفسيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}([36]).

فيرى في الآية الأولى: “أنّ مثل المرائي في إنفاقه، المنافق في عمله مثل ذلك الحجر الصلب الذي عليه التراب وجعله أملس ليس عليه شيء، وجملة {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} بيان لوجه الشبه، والمشبه به، أي: لا ينتفعون بشيء من صدقاتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة”([37])، وفي الآية الثانية، قال: وإنّما شبّه سبحانه وتعالى بالجنّة التي فوق الأرض المرتفعة لأنّها أزكى ثماراً وأعظم نماءً وأنقى هواءً وأبهج منظراً وأبعد عمّا يضرّ بالأشجار من المياه العفنة وفساد المستنقعات، فإذا أصاب هذه الجنّة المطر الغزير كانت أسرع نمواً، وأحسن تنمية وأكثر ثمراً، وكذا لو أصابها مطر ضعيف فإنّ الأثر فيها كذلك لكرم منبتها وجودة مغرسها، وحسن موقعها، والغرض منه بيان إنّ الأثر يترتب على الإنفاق في مرضات الله تعالى من دون أن يتخلف كمثل الجنة التي فوق الأرض المرتفعة إذا أصابها المطر فإنّه يجني ثمارها بأحسن وجه، كذلك الإنفاق في مرضات الله تعالى فإنّ آثاره حسنة لاتصاله بالله تعالى فتشمل عنايته له وقبوله عزّ وجلّ بأحسن قبول وخيره دائم وبره أبدي”([38]).

لقد ميّز في الآيتين الكريمتين بين المشبه والمشبه به ثمّ بيّن وجه الشبه، وبيّن السبب من التشبيه بالجنّة، ثمّ بيّن الغرض منه، وقد أتى في هذا التشبيه على ذكر أبرز قضاياه، وفي قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}([39])، يؤكد المفسر على بيان وجه الشبه بين المشبه به آدم + وبين المشبه عيسى +، قال: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} يدلّ على وجه الشبه بين عيسى وآدم c في أنّهما خلقا على خلاف العادة”([40]).

كان للسيّد السبزواري رأيه في التشبيه، نلحظ ذلك عند تفسيره قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}([41])، فهو يرى أنّ قياسهم في القول في الآية الكريمة باطل، وقد خرجوا عن جادة الصواب في ذلك، لأنّهم قالوا: إنّما البيع مثل الربا ولم يقولوا: إنّما الربا مثل البيع الذي هو أقرب إلى الذهن وسبب ذلك خبط نفوسهم واختلاف أفكارهم وعقولهم، حيث قال: “قد شبّهوا الربا الذي هو خلاف الفطرة المستقيمة بالبيع الذي هو المعروف عند العقلاء وهما نوعان متباينان، ولكن الخبط الذي استقر في نفوسهم جعلوا المأمور به كالمنهي عنه وهو قياس مع الفارق، فإنّه يدل على الخبط في كلامهم وعدم استقامة أفكارهم([42]).

ثمّ يرد على الزمخشري الذي يرى أنّ المراد بقوله: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} المبالغة في التشبيه([43]) كما في قول الشاعر:

ومهمة مغبـرة أرجـاؤه كأن لون أرضه سماؤه([44])

بفساد ما ذكر، قال: “لكن فساد ما ذكره يظهر ممّا تقدم، فإنّ التشبيه إنّما حصل من التخبط الحاصل لهم من مسّ الشيطان والاختلال الناشئ في أفكارهم، وممّا ذكرنا يظهر الوجه فيما ذكره بعض آخر: من أنّ التشبيه بين البيع والربا إنّما هو لأجل إنّهما مشتركان في الكسب والفائدة ولكن في الربا واضح معلوم وفي غيره موهوم”([45]).

يظهر ممّا تقدم اهتمام السيّد السبزواري بالتشبيه والإشارة إليه في مواضعه من القرآن الكريم، ولم تكن هذه الإشارة عابرة أو محدودة، وإنّما يشير إلى أركانه وأدواته والغرض منه مع بيان وجه الشبه، فهو يعدّه جزءاً من أدوات المفسر للوصول إلى المعنى المقصود، فهو من الأدوات الفنية التي لا يُستغنى عنها.

وقد أشار إلى قيمته الفنية ووضوحه وجماله، فهو يتميز برابطين يزيدان الأسلوب وضوحاً، وهما: الرابط اللفظي المتمثل بالأداة، والرابط المعنوي المتمثل في وجه الشبه([46])، الأمر الذي جعله من فنون البلاغة، ومن الأدوات التعبيرية المهمة لإيصال المعنى بأوجز لفظ وأبلغ صورة، لذا كان اهتمام المفسرين بالإشارة إلى موارده والاعتناء بذكر أركانه وأهميته والغرض منه.

تشبيه التمثيل

من العلماء الذين ميّزوا بين التشبيه والتمثيل قدامه بن جعفر وتحدث عنه في نعوت ائتلاف اللفظ والمعنى([47]) كما ميّز بينهما عبد القاهر الجرجاني، فجعل وجه الشبه في التمثيل محتاجاً إلى التأويل بأن يكون عقلياً، كقولهم: (حجة كالشمس في الظهور) فالمشبه مفرد عقلي، لأنّ المراد به معنى الكلام المستدل به لا نفس الكلام المسموع، والمشبه به مفرد حسّي، ووصفه وهو الظهور من خواص المحسوسات، وهذا لا يشترك فيه المشبّه لأنّه عقلي، فلا بدّ فيه من التاويل بإرادة لازم الظهور، وهو عدم المانع من الادارك مطلقاً وهذا هو وجه الشبه في الحقيقة، وهو عقلي غير حقيقي، أمّا الأول المؤول فهو وجه الشبه في الظاهر([48])، وقال الجرجاني مفرّقاً بينهما في موضع آخر: “إنّ التشبيه عام والتمثيل أخص منه، فكل تمثيل تشبيه وليس كل تشبيه تمثيلاً”([49]).

أمّا ابن الأثير فيعتقد أنّهما شيء واحد لا فرق بينهما في أصل الوضع، يقال: شبّهت هذا الشيء بهذا الشيء كما يقال مثلته به([50]).

ويـرى صـاحب المواهـب أنّ التمثيـل مـن الأساليب المثيرة للإحساس والعواطف([51])، وهو يفسّر قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ}([52]) يرى أنّ الجملة: “تبيّن غاية الرحمة والرأفة على الذرية الضعاف الذين لا ولـيّ لـهـم يـذود عنهم الذل والهوان ولا كافـل يتكفل أمرهم ويرعى شؤونهم، والآيـة في مقـام التمثيـل”([53])، فالآيـة تثير الشفقة والرحمة لرعايـة شـؤون اليتـامى والاعتناء بهم وترك ظلمهم، لأنّ كلّ من يخاف أن يترك الذرّية الضعفاء من خلفه لا يريد ذلك بالنسبة إلى ذرّيته.

ويعتقد السيّد السبزواري أنّ في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ}([54]) تمثيل لما يصيروا إليه فهـو بيان لحالهم بأن يكون المأكول ناراً في بطـن الآكـل وإن ظـنّ أنّه طعام، قال: “إنّ أولئك الذين يكتمون ما أنزل الله ـ المشترين به ـ لا يفعلون ذلك إلا بما يؤول بهـم إلى النار بسبب أكلهم للثمن الخسيس، فهـو تمثيل لمآلهم” ([55])، وهـو يـرى أنّ القـول إن كـان يحمل على الحقيقة ففيه تمثيل، أمّا إذا حمل على المعنى الكنائي فهو لا يفيد التمثيل، كما في قوله تعالى: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ}([56]) إذ قال عنـد تفسير هذه الآية: “وهي أمّا تحمل على الحقيقة والعموم أي إنّ الموتى المستجيب منهم وغير المستجيب يبعثهم الله تعالى فيعلمهم الحقيقة والواقع حين لا ينفعهم الإيمان، ففيها تمثيل أو تحمل على المعنى الكنائي أي إنّ الموتى هم الذين لا يسمعون الآيات حقّ السمع فلا يصغون إلى الحق ولا يفهموه” ([57])، وفي قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}([58])، أجده يتبنّى رأي عبد القاهر بأنّ التمثيل ممّا يدرك عقلاً لا حساً([59])، فهو يرى أنّ الآية الشريفة تمثّل حقيقة الأعمال والنيات وتبيّن تأثير الأفعال الفاسدة والنيّات الباطلة في النفوس، إذ قال: “ووجه التمثيل أنّ الذي ينفق أمواله يعقد عليه آماله في الحصول على ما يترتب عليه من الآثار في الـدنيا والآخرة فإذا عقّب إنفاقه المنّ أو الأذى أو سائر ما يوجب حبطه فإنّها تحرقه ويذهب هدراً لا يجني منه شيئاً مع شدّة احتياجه إلى ثمراته”([60])، وفي نص قرآني آخر يرى أنّ القـرب مـن الله وتعالى يعبّر عنه بالعناية والرعاية فهـو قريب، تمثيل لإجابة دعاء من دعاه في يسر وسهولة، أشار إلى ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ}([61]) قال: “فإنّ فيه تمثيلاً لحاله في سهولة إجابة دعائه، وسرعة إنجاح حاجة من سأله، بحال من قرب مكانه”([62]).

إنّ بابي التشبيه والتمثيل من أهم وسائل التعبير القرآني، لا يمكن أن يدرك أسرارهما إلا من أوتي حظاً من العلم والفهم الدقيق لمسائل علم البيان، فضلاً عمّا يحملانه من الإيجاز والمبالغة فأنّهما يضفيان على العبارة جمالاً أخّاذاً مع إيصالهما المعنى المراد بأبهى صورة حتّى كأنّه يقرع النفوس فيثيرا العاطفة ويستفزّا الإحساس ـ وهذا ما أشار إليه السيّد السبزواري في تفسيره([63]) ـ سواء أنّهما مختلفان كما يرى عبد القاهر أو أنّ المراد منهما واحداً كما يرى ابن الأثير([64]).


([1]) ينظر: لسان العرب، مادة (شبه): 7 / 24.

([2]) التلخيص في علوم البلاغة: 62.

([3]) ينظر: البلاغة العربية، د. سعد سلمان حموده: 24.

([4]) الكامل: للمبرد: 2 / 766.

([5]) نقد الشعر / 109.

([6]) ينظر: عيار الشعر، ابن طباطبا العلوي: ۱۷ـ ۲۳.

([7]) النكت في إعجاز القرآن: 74.

([8]) العمدة: 1 / 286.

([9]) ينظر: أصول البيان العربي: 63.

([10]) ينظر: تلخيص التمهيد (موجز دراسات مبسطة عن مختلـف شـؤون القرآن الكريم)، محمّد هادي معرفه: ۳۳۱/۲.

([11]) ينظر: علم البيان، د. بسيوني عبد الفتاح فيّود: ۲۸.

([12]) النساء: 53.

([13]) مواهب الرحمن: 8 / 316.

([14]) النساء: الآية / 47.

([15]) مواهب الرحمن: 8 / 284.

([16]) البقرة: الآية / 171.

([17]) مواهب الرحمن / 2 / 336  ـ ۳۳۷.

([18]) ينظر: المصدر نفسه: ۲ / ۳۳۸.

([19]) ينظر: مجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي / 1 / 255.

([20]) ينظر: مجمع البيان / 1 / 255.

([21]) ينظر: مواهب الرحمن / 2 / 295.

([22]) البقرة: الآية / 255.

([23]) مواهب الرحمن: 4 / 263 ـ 264.

([24]) البقرة: الآية / 256.

([25]) ينظر: مواهب الرحمن: 4 / ۲۹۸ ـ ۲۹۹.

([26]) البقرة: الآية / 187.

([27]) آل عمران: الآية / 103.

([28]) مواهب الرحمن: 3 / 95.

([29]) البقرة: الآية / 223.

([30]) ينظر: مواهب الرحمن: ۳ / 3۸۳ ـ 384.

([31]) البقرة: الآية / 19.

([32]) مواهب الرحمن: ۱ / ۱۳۹.

([33]) آل عمران: الآية / 117.

([34]) مواهب الرحمن: 6 / 263.

([35]) ينظر: أسرار البلاغة / 2 / 61.

([36]) البقرة: الآيتان / 264 ـ 265.

([37]) مواهب الرحمن: 4 / 368.

([38]) مواهب الرحمن: 4 / ۳۷۰ ـ ۳۷۱ .

([39]) آل عمران: الاية / 59.

([40]) مواهب الرحمن: 5 / 397.

([41]) البقرة: الآية / 275.

([42]) مواهب الرحمن: 4 / 435 ـ 436.

([43]) الكشاف: 1 / 348.

([44]) البيت من الرجز لرؤبة بن عبد الله بن العجاج، ينظر: شرح ديوان العجاج: 3، وينظر: مفتاح العلوم: 313، وينظر المصباح: 124.

([45]) مواهب الرحمن: 4 / 436.

([46]) ينظر: بلاغة الصورة القرآنية، الجماليات والتجليات، د. صادق سعد شلبي: 18.

([47]) ينظر: نقد الشعر: 158.

([48]) ينظر: أسرار البلاغة: 1 / 202 ـ 204.

([49]) المصدر نفسه: ۱ / ۱۹۸.

([50]) المثل السائر: 2 / 116.

([51]) ينظر: مواهب الرحمن: ۷ / ۳۰۷.

([52]) النساء: الآية / 9.

([53]) مواهب الرحمن: ۷ / ۳۰۷ ـ ۳۰۸.

([54]) البقرة: الآية / 174.

([55]) مواهب الرحمن: 2 / 363.

([56]) الأنعام: الآية / 36.

([57]) مواهب الرحمن: 13 / 241.

([58]) البقرة: الآية / 266.

([59]) ينظر: أسرار البلاغة: 1 / ۲۰۷ ـ ۲۰۹.

([60]) ينظر: أسرار البلاغة: 1 / ۲۰۷ ـ ۲۰۹.

([61]) البقرة: الآية / 186.

([62]) مواهب الرحمن: 3 / 58.

([63]) ينظر: المصدر نفسه: ۷ / ۳۰۷.

([64]) ينظر: أسرار البلاغة: 1 / 198، وينظر: المثل السائر: 2 / 116.

باب من أبواب البلاغة وأحد فنونها، أشار إليها علماء العربية في كتبهم، ثمّ عدّوها قسماً من أقسام علم البيان، ويظهر جمالها في أنّها “تصور المعنى تصويراً يحقق غرض القائل، مع مبالغة مقبولة، وتأثير في نفس السامع، وإثارة لخياله دون إطالة أو إطناب”([1]).

والاستعارة في اللغة: مأخوذة من العارية: أي نقل الشيء من شخص إلى آخر حتّى تصبح الشيء وأعاره منه وعاوره إيّاه، والمعاوره التعاور شبه المداولة والتداول يكون بين اثنين، واستعارة الشيء واستعاره منه: طلب منه أن يعيره إيّاه([2])، وورد في موضع آخر من لسان العرب أنّ: “كلّ ما جاء في القرآن والحديث من إضافة اليد والأيدي واليمين وغير ذلك الجوارح إلى الله (عزّ وجلّ) فإنّما هو على سبيل المجاز والاستعارة، والله منزّه عن التشبيه والتجسيم”([3])، وذهب الباحث سالم إبراهيم أحمد إلى أنّ أبا عمرو بن العلاء (ت 154 هـ) كان من أقدم من ذكروا الاستعارة، فقد ذكر أنّه قال: “كانت يدي في يد الفرزدق فأنشدته قول ذي الرمة:

أقامت به حتّى ذوى العود في الثرى وساق الثـريا في ملاءتـه الفجر([4])

قال: فقال لي: أأرشدك أم أدعك؟ قلت: بل أرشدني: فقال: إنّ العود لا يذوي أو يجف الثرى، وإنّما الشعر: (حتّى ذوى العود والثرى)، ثمّ قال أبو عمرو: ولا أعلم قولا أحسن من قوله: (وساق الثريّا في ملاءته الفجر) فصيّر للفجر ملاءة ولا ملاءة له وإنّما استعار هذه اللفظة وهو من عجيب الاستعارات”([5])، ويعد الجاحظ أول من عرّف الاستعارة بقوله: “تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه”([6])، وذهب ابن قتيبة إلى تعريفها بقوله: “العرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة إذا كان المسمّى بها بسبب من الأخرى ومجاوراً لها أو مشاكلاً”([7]).

ويرى ثعلب (ت: 291 هـ) أنّ الاستعارة هي: “أن يستعار للشيء اسم غيره أو معنى سواه كقول أمرئ القيس في صفة الليل، فاستعار وصف الجمل:

فقلت لها لما تمطّـى بصلبـه وأردف أعجازا وناء بكلكلِ([8])”([9])

وحدّها ابن المعتز بقوله: “استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء قد عرف بهاء”([10])، ومن ثمّ حدّها القاضي الجرجاني (ت: 366 هـ)، ويكاد يكون حدّه لها أكثر دقة وأشمل لخصائص الاستعارة الفنية من الذين سبقوه، يقول: “الاستعارة ما أكتفي فيها بالاسم المستعار عن الأصل، ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها، وملاكها تقريب الشبه ومناسبة المستعار له منه، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتّى لا يوجد بينهما مناظرة، ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر”([11])، وقال الرمّاني في تعريفها: “تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة”([12])، ومن ثمّ كشف أبو هلال العسكري بتعريفه للاستعارة عن أبعاد جديدة وواسعة شملها تعريفه لها مبيناً الغرض منها، ولولاه لكانت الحقيقة أولى منها استعمالاً، يقول: “نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة إلى غيره لغرض، وذلك الغرض أما أن يكون شرح المعنى وفضل الإبانة عنه، أو تأكيده والمبالغة فيه، أو الإشارة إليه بقليل من اللفظ أو تحسين المعرض الذي يبرز فيه، وهذه الأوصاف موجودة في الاستعارة المصيبة، ولولا أنّ الاستعارة المصيبة تتضمن ما لا تتضمنه الحقيقة من زيادة فائدة لكانت الحقيقة أولى منها استعمالاً”([13]).

ويرى عبد القاهر الجرجاني في الاستعارة: “أن يكون لفظ الأصل في الوضع اللغوي معروفاً تدلّ الشواهد على أنّه اختصت به حين وضع، ثمّ يستعمله الشاعر وغير الشاعر في غير ذلك الأصل، وينقله إليه نقلاً غير لازم فيكون هناك كالعارية”([14]).

ثمّ يحدّها في كتابه دلائل الإعجاز معتمداً في توضيحها على أركان التشبيه، فيقول: “الاستعارة أن تريد تشبيه الشيء بالشيء، فتدع أن تفصح وتظهره وتجيء إلى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه”([15]).

وقد تعقّب السكاكي أثر عبد القاهر في حدّه الاستعارة، إذ قال: “هي أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدّعياً دخول المشبه في جنس المشبه به، دالاً على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخص المشبه به”([16])، واقتفى ابن الأثير خطوات عبد القاهر أيضاً في حدّه الاستعارة، قال: “الاستعارة أن تريد تشبيه الشيء بالشيء وإظهاره وتجيء على اسم المشبه به وتجريه عليه”([17]).

وسار على خطاهم كلّ من ابن أبي الإصبع المصري([18]) (ت: 654 هـ) وابن الناظم([19]) والخطيب القزويني([20]) في تعريف الاستعارة، والإشارة إلى معانيها.

وصاحب المواهب عند تفسيره الآيات المشتملة على الاستعارة، لم يخرج فيما أشار إليه عمّا ذكره العلماء قبله في معنى الاستعارة وفضلها في شرح المعنى والإبانة عنه والتوسع فيه أو إفادتها التوكيد والمبالغة، ففي قوله تعالى: {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}([21]) أوضح أنّ المراد ليس القرض الاصطلاحي الذي يؤخذ لرفع الحاجة بل ما يقدم الإنسان من خير لنفسه أو لمجتمعه، ويؤكد ذلك بقوله: “الجملة في غاية الفصاحة والبلاغة، فهو استعارة عن وعده الجميل، وجزائه العظيم بذكر القرض الذي يقضي بمثله، وإنّما ذكره عزّ وجلّ في المقام وأخذ عليه الميثاق لأهميته في ترويض النفوس وشدّ الأزر والتعاون بين أفراد المجتمع وسدّ الحاجة، ولأنّهم عرفوا بالشح والبخل فأراد سبحانه وتعالى تطهيرهم منها”([22]).

وترى صاحب المـواهب بعد أن يذكر أصل لفظة (بشّر) حين الوضع، يبيّن إفادتها الاستعارة في القرآن الكريم لغرض التهكم، ثمّ يؤكد أنّ هذه اللفظة في أصل الوضع تستعمل لما هو سار ولما هو سيء، فيكون استعمالها حقيقياً، وذكر ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}([23])، قال: “البشارة مأخوذة من البشرة، أي: انبساط بشرة الوجه وطلاقته إذا أخبر الإنسان بما يسرّ، كما أنّ السرور مأخوذة من انبساط أساريره، وغالب استعمالها في الأخبار بما يسرّ، وقد يستعملان في غيره تهكماً كما في المقام، ففي الكلام استعارة تهكمية استعملت فيها (بشر) موضع (إنذار) تهكماً بهم وقيل: أنّ البشارة تستعمل فيما يسر ويسوء استعمالاً حقيقياً، فلا استعارة حينئذٍ لأنّ أصلها الأخبار بما يظهر أثره في بشرة الوجه، سواء كان انبساطاً أو انقباضاً”([24]).

وقد أشار إلى المعنى الأخير، أي: استعمالها فيما يسر ويسوء السيوطي بقوله: “أصل البشارة: الخبر السار الذي يظهر به السرور في بشرة الوجه ثمّ يستعمل في الخبر الذي يغم أيضا”([25])، أمّا معنى التهكم المستفاد من الاستعارة فقد ذكره العلوي بقوله: “إنّ في الاستعارة ما يكون معدوداً في التهكم، وحاصل الاستعارة التهكمية أن تستعمل الألفاظ الدالة على المدح في نقائضها الذم والإهانة تهكماً بالمخاطب وإنزالاً لقدره”([26]).

ويرى السيّد السبزواري في مكان آخر أنّ: “استعمال هذه المادة بحسب واقعها في كلّ من الأخبار بموجب السرور والغم من دون مجاز واستعارة، نعم إذا أطلقت اختصت بما يوجب السرور، والكلام الفصيح ما كان متكفلاً لجهات شتّى ونواح مختلفة من الدلالة والإفادة فيكون كالبحر الذي فيضه عميم وأمواجه لا تستقيم، ويتضمن الكلام الاستعارة التي تشمل على الحسن والبلاغة كما لا يخفى”([27])، وقد ذكر ذلك عند تفسيره قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}([28])، فرأيه واحدٌ في الموضعين مع التأكيد على التوسع في المعنى اللذي ينشأ من الاستعارة والفائدة التي تحصل من ذلك.

ويرى المفسّر أيضاً أنّ في قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}([29])، استعارة تهكمية وهي تأتي من ذكر اللفظ وإرادة ضده، يقول: “إن (قد) في قوله تعالى للتقليل، وقـد يـراد به في بعض المواضع ضدّه، وهو من باب استعارة أحد الضدين للآخر، والنكتة هنا أمّا تصبير رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أذى قومه وتكذيبهم أو أن يكون تهكماً بالمكذبين وتوبيخاً لهم”([30]).

وفي قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}([31])، يعتقد أنّ في إسناد الربح إلى التجارة من الاستعارة والمجاز، لأنّ الربح والخسارة إنّما يكون إسناده إلى المتاجر وليس إلى التجارة نفسها، يقول: “في الآية المباركة نحو استعارة ومجاز لإسناد الربح إلى التجارة ومنه يعلم وجه قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فتصح نسبته إلى تجارتهم الخاسرة أو إلى جميع شؤونهم التي منها تجارتهم”([32])، ونرى أنّه يعد الاستعارة من المجاز وهو موافق لما ذكره السيوطي، قال: “الأصح أنّها مجاز لغوي، لأنّها موضوعة للمشبه به لا للمشبه، ولا لأعم منهما”([33]).

وفي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ}([34])، يرى أنّ الرحم استعير للقرابة، وهو استعارة الحسّي للعقلي، فإنّ الرحم أمر مادي والقرابة أمر عقلي فاستعير المحسوس للتعبير عن المعقول، قال: “الرحم في الحيوان هو العضـو الذي يتكون فيه الجنين إلى حين الولادة ومحل تربية الطفل واستعير للقرابة باعتبار انتهاء أفرادها إلى رحم واحد”([35]).

والسيّد السبزواري في بيانه الاستعارات يتفق مع رأي العسكري الذي يرى أنّ الاستعارة: “نقل العبارة من موضع استعمالها في أصل اللغة إلى غيره لغرض”([36])، إذ جعل الحذر آلة من آلات الدفاع في قوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}([37])، من الاستعارة اللطيفة أي وجوب اتخاذ الحذر من الكافرين الذين هم أعداء الله تعالى ودين الحق يقول: “الحذر وهو التيقظ وجعل الحذر آلة الدفاع التي يتحصن بها كالأسلحة وهو من الاستعارة اللطيفة حيث أثبت له الأخذ وهو أمر معنوي لا يتصف به تخييلاً وزاده عزّ وجلّ في المقام لشدّة الحيطة والتحرس، لأنّ العدو قد يميل إذا ما تنبّه أنّ المسلمين في الصلاة بعد غفلته في ابتداء الأمر عنهم، فينتهزون الفرصة وهم في حال الركوع والسجود فيهجمون عليهم”([38]).

أمّا قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}([39])، فبيّن أنّ الغرض من الاستعارة للتنبيه والترغيب على ما تمثله الحياة الزوجية بالنسبة إلى المجتمع إذ يقول: “في الكلام من اللطف والحسن ما لا يخفى، وفيه من الاستعارة لأعظم أمر اجتماعي، وهي الحياة الزوجية، كما أنّ فيه من الترغيب إلى حسن المعاشرة والملاحظة والاعتناء بالحياة الزوجية، كما يعتني الإنسان بلباسه وثيابه، فيصحّ التعبير عن الزوجة بلباس الزوج”([40])، والسيّد السبزواري يوافق علماء البلاغة اعتماد القرينة وجعلها السبب الرابط أو الدليل الواضح بين أصل اللفظ واستعارته([41])، وهو يفسّر قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً}([42])، يقول: “المراد من إرسال السماء هو إنزال المطر، بقرينة كلمة (مدراراً) التي تدل على الغزارة وكثرة الصب، من الدر ـ بالفتح ـ والدرة ـ بالكسر ـ أي اللبن، أي كثُر وغُزُر، ويستعار للبن نفسه، ومنه: الله درّه، ودرّ درّك، كما استعير للمطر أيضاً”([43]).

إنّ المفسر في أغلب المواضع يبدأ بذكر المعنى اللغوي ثمّ يشير إلى استعارة اللفظ إلى معنى آخر أفاده، كما جاء عند تفسير قوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}([44])، قال: “العقدة من العقد بمعنى الشدّ وهما والعهد بمعنى واحد، وفي الآية استعارة بليغة حيّث شبه عقد النكاح بالعقدة التي يعقد بها أحد الحبلين بالآخر، وجعلها أمراً قلبياً لبيان أنّ هذه الأمور من الاعتبارات العقلائية التي يقوم عليها نظام المجتمع”([45])، وهو من تشبيه الحسي بالعقلي، ويرى عبد القاهر بأنّه الصميم الخالص من الاستعارة ومنه أن يؤخذ الشبه من الأشياء المشاهدة والمدركة بالحواس للمعاني المعقولة([46])، ومثله جاء عند تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ}([47])، فيرى إنّما عبّر سبحانه وتعالى: “بأحس مع أنّ الكفر من الأمور المعنوية لبيان أنّ كفرهم بلغ مبلغاً حتّى تعلقت به الحواس الظاهرة فيكون استعارة بليغة، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ}([48])”.

وفي نص قرآني آخر، يصفه المفسّر أنّ فيه استعارة بليغة، فجعل الأكنة على القلوب والوقر على الإذن بسبب اعتقادهم الفاسد، وهو ليس من المادة أو الحس، فهو تصوير لسلب التوفيق عنهم نتيجة لإيغالهم بالباطل وابتعادهم عن الحق، وذلك عند تفسيره قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}([49])، يقول: “إنّ الجعل في المقام هو حاصل من اعتقاداتهم الفاسدة وأعمالهم الشنيعة ممّا أدخلوا أنفسهم في غياهب الظلمات وصبّروا قلوبهم في حجب كثيرة متعددة، كالعصبية الشنيعة والاستكبار على الحق والتقليد الأعمى وغير ذلك، وهي لم تكن مادية حسّية، فإذا استولت على القلب منعته من الفهم والتبصر والبحث على الحقيقة، كما أنّهم جعلوا على الإذن ذلك الثقل الشديد فأصمّه عن سماع الحق ليمكنه التمييز بين الحق والباطل، فتغلبه الحمية للباطل والكبر على الحق، وتنشأ قلوبهم على ذلك، ولذلك سلب الله تعالى عنهم التوفيق فكان الجعل منسوباً إليه عزّ وجلّ بهذا المعنى، وفي الآية استعارة بليغة”([50]).

ومن الاستعارات البليغة التي تنبّه إليها صاحب المواهب في قوله تعالى: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ}([51])، يرى أنّ فيه دلالة على أنّهم لم يستفيدوا من الآيات الإلهية، فكانوا صمّاً وبكماً لا يسمعون نداء الفطرة وداعي العقل، يقول: “في قوله تعالى من الاستعارة البليغة الدالة على عدم الانتفاع اللائق بكمال الإنسان”([52]).

وفي بعض إشاراته إلى الاستعارة نرى أنّه يتبنّى ما ذكره عبد القاهر من أنّ الاستعارة في الجملة هو كون لفظ الأصل حين الوضع اللغوي معروفاً، وتدل على اختصاصه به الشواهد ثمّ يستعمل في غير ذلك الأصل وينقل إليه نقل غير لازم فيكون هناك كالعارية([53])، وهو يذكر المعنى نفسه عند تفسيره قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}([54])، إذ قال: “الاجتناب أبلغ من الترك لأنّه ملحوظ فيه النفور والاشمئزاز وهو مأخوذ من الجنب الذي هو الجارحة، وإنّما بُني عنه الفعل على سبيل الاستعارة، فإنّ الإنسان إذا أعرض عن شيء تركه جانباً”([55])، يرى أنّ الاجتناب استعير من الجنب الجارحة للمبالغة في الترك وسبب الاستعارة أنّ الإنسان إذا أدار وجهه عن شيء جعله بجانبه دليلاً على الترك والزهد فيه، ويؤكد المعنى نفسه عند تفسيره قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ}([56])، إذ يرى أنّ: “مادة (جنح) تأتي بمعنى الإثم المائل عن الحق، واستعير لفظ الجناح لكل إثم ومعنى (لا جناح عليكم): لا إثم عليكم”([57]).

ويشير السيّد السبزواري عند تفسيره النصوص القرآنية إلى الاستعارة التمثيلية، وهو لا يخرج في إيضاحها عن معناها الذي أشار إليه علماء البلاغة، ومنهم عبد القادر الجرجاني بقوله: “إنّ الشبه إذا كان موجوداً في الشيء على الانفراد من غير أن يكون نتيجة بينه وبين شيء آخر فالاسم مستعار لما أخذ الشبه منه، وإذا لم يكن نسبة الشيء إلى الشيء على الانفراد وكان مركّباً من حالة مع غيره فليس الاسم بمستعار ولكن مجموع الكلام مثل”([58]) وهو يشير بذلك إلى الفرق بين الاستعارة والاستعارة التمثيلية، فإذا جاء المجاز في الكلمة المفردة التي تدلّ على معنى واحد فهو استعارة، وإذا جاء في التركيب الذي يتألف من جملة أو أكثر، ويعبر عن فكرة أو موقف، فهو استعارة تمثيلية([59]).

ومن المواضع التي ذكر السيّد السبزواري إنّها تتضمن الاستعارة التمثيلية قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}([60])، قال: “إنّ في الكلام استعارة تمثيلية بأن شبّه التمسك بالحبل المتدلي من مكان رفيع وثيق مأمون الانقطاع الذي يمنع المتمسك به في السقوط والهلكة”([61])، وهي صورة مركبة لا يمكن أن تكون إلا استعارة تمثيلية.

وفي قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً}([62])، يرى استعارة بليغة وهي تمثيلية، والمراد منها المبالغة في كثرة العدد، قال: “معناه لو قدر أن تكون لكلمات الحمد أجساماً لبلغت كثرتها أن تملأ السماوات والأرض، فالمراد التمثيل لكثرة العدد وقد شبّه عزّ وجلّ الأرض بالإناء الذي يملأه الذهب فتضمن الكلام استعارة بليغة”([63]).

وفي نص قرآني آخر يعتقد المفسّر أنّ الاستعارة التمثيلية ناشئة من تصور عدم تقبّل الله من الكافرين ما يقدموه فدية لأجل إنقاذهم من العذاب الذي استحقوه بسبب أعمالهم ولا سبيل لخلاصهم منه، في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}([64])، قال: “إنّ الجملة (مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) تتضمن التمثيل، ويقصد منها تنزيل التقصي عن العذاب منزلة من يكون له ذلك الأمر العظيم ويحاول التخلص من العذاب فلا يتقبل منه، وقال بعضهم إنّه لا يراد منها الاستعارة التمثيلية، بل إيراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم”([65])، يبيّن ما سبق أنّ صاحب المواهب قد توسع في حديثه عن الاستعارة، وفي الإشارة أيضاً إلى أشكالها وأهميتها، رغم أنّ مضمارها واسع وتنوع أشكالها لا متناهياً، وليس هناك تعارض بين الصورة والمدلول فيها، مع تقدم الصورة فيها على المدلول في الأهمية([66]) فهي لذلك باب من أبواب البلاغة المعروفة، وتمتاز في بلاغتها في إيصال المعنى بأسلوب مؤثر، وقد ألمح المفسّر إلى ذلك، وكشف عن سماتها الأسلوبية والجمالية ممّا يجعلها في المقدمة من الفنون البلاغية التي تمتاز بها الجملة القرآنية.

فما تحقق من التعبير بالاستعارة لا يمكن إيصاله باستعمال الألفاظ ضمن واقعها اللغوي، وقد كشفت الأمثلة السابقة أنّها تتحرك ضمن مستوى آخر من اللغة، في عملية إبداع جديدة بسبب النقل الذي دل على معنى آخر.


([1]) أساليب البيان في القرآن: 66.

([2]) ينظر: لسان العرب، مادة (عور): 9 / 471.

([3]) المصدر نفسه: مادة (يمن): 15 / 458.

([4]) البيت من الطويل لذي الرمه: ينظر: ديوانه: ۲۰۷.

([5]) ينظر: المصطلح البلاغي عند أبي الأصبع المصري، سالم إبراهيم الأحمد: ۱۸۹.

([6]) البيان والتبيين: 1 / 153.

([7]) تأويل مشكل القرآن: ۱۰۲.

([8]) البيت من الطويل لامرئ القيس، ينظر: ديوانه: ۱۸.

([9]) قواعد الشعر، ثعلب: 47.

([10]) کتاب البديع: ۲.

([11]) الوساطة بين المتنبي وخصومه: 41.

([12]) النكت في أعجاز القرآن: ۷۹.

([13]) كتاب الصناعتين: 268.

([14]) أسرار البلاغة: 1 / ۱۲۳.

([15]) دلائل الإعجاز: 53..

([16]) مفتاح العلوم: 599.

([17]) الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور: لأبي الفتح ضياء الدين ابن الأثير: 82.

([18]) ينظر: بديع القرآن لابن أبي الأصبع المصري: 19.

([19]) ينظر: المصباح: 16.

([20]) ينظر: الايضاح: ۲۷۸.

([21]) المائدة: الآية / 12.

([22]) مواهب الرحمن: 11 / 76.

([23]) النساء: الآية / 138.

([24]) مواهب الرحمن: ۱۰ / ۳۸.

([25]) مجمع البيان: 3 / 250.

([26]) الطراز: ۱۱۸.

([27]) مواهب الرحمن: 5 / 187.

([28]) آل عمران: الآية / 21.

([29]) الأنعام: الآية / 33.

([30]) مواهب الرحمن: 13 / 244.

([31]) البقرة: الآية 167.

([32]) مواهب الرحمن: 1 / 135.

([33]) الاتقان: ۳ / ۱۱۲.

([34]) آل عمران: الآية 6.

([35]) مواهب الرحمن: 5 / 17.

([36]) كتاب الصناعتين: 268.

([37]) النساء: الآية / 102.

([38]) مواهب الرحمن: ۹ / ۲۲۷.

([39]) البقرة: الآية / 187.

([40]) مواهب الرحمن: 3 / ۹۱.

([41]) ينظر: التلخيص في علوم البلاغة / 74، وينظر: الطراز / ۱۰۲.

([42]) الأنعام: الآية / 6.

([43]) مواهب الرحمن: 13 / 54.

([44]) البقرة: الآية / 235.

([45]) مواهب الرحمن: 4 / 74.

([46]) ينظر: أسرار البلاغة: 1 / 156 ـ 157.

([47]) آل عمران: الآية / 52.

([48]) الانبياء: الآية / 12.

([49]) الأنعام: الآية / 25 .

([50]) مواهب الرحمن: ۱۳ / ۱۷۷.

([51]) الأنعام: الآية / 39.

([52]) مواهب الرحمن: ۱۳ / ۲۹۲.

([53]) ينظر: أسرار البلاغة: 1 / ۱۲۳.

([54]) النساء: الآية / 31.

([55]) مواهب الرحمن: ۸ / ۱۳۱.

([56]) البقرة: الآية / 235.

([57]) مواهب الرحمن: 4 / 71.

([58]) أسرار البلاغة: 2 / ۱۳۳.

([59]) ينظر: التعبير البياني، د. شفيع السيّد / 126.

([60]) آل عمران: الآية / 103.

([61]) مواهب الرحمن: 6 / 204.

([62]) آل عمران: الآية / 91.

([63]) مواهب الرحمن: 6 / 136.

([64]) المائدة: الآية / 36.

([65]) مواهب الرحمن: 11 / 250.

([66]) الفن الرمزي، هيجل: 152.

الكناية

الكناية مظهر من مظاهر البلاغة، وأسلوب من أساليب البيان، تزيد المعنى قوةً وجمالاً، ولها أهدافها ومقاصدها الخاصة التي تتميز بها عن باقي أساليب البيان.

والكناية في اللغة أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وكنّى عن الأمر بغيره يكنّي كناية، يعني إذا تكلم بغيره مما يستدل عليه نحو الرفث والغائط، وتكنّى: تستّر من كنّى عنه إذا وُري، أو من الكنية([1]).

ومن تعريف البلاغيين للكناية نجدهم لا يخرجون عمّا ذكره اللغويون من معنى لها ونجد أنّ أبا عبيدة من الأوائل الذين أشاروا إليها، وعدّها من الفنون البلاغية، قال ذلك عند حديثه عن قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}([2])، فقال أنّ: “الكناية كلّ ما يفهم من الكلام ومن السياق من غير أن يذكر اسمه صريحاً في العبارة”([3])، وذكرها الجاحظ ولم يفرق بينها وبين التعريض بقوله: “الحدّة كناية عن الجهل والعارضة عن البذاء، وإذا قالوا فلان مقتصد، فتلك كناية عن البخل وإذا قالوا للعامل مستقص فتلك كناية عن الجور”([4])، فلم يعطِ الجاحظ تعريفاً للكناية وإنّما اكتفى بعدها أحد الأساليب البلاغية، ويرى محمد بن يزيد المبرد أنّ الكناية تقع على ثلاث أضرب: أحدها التعمية والتغطية، وثانيها: الرغبة عن الخسيس المفحش إلى ما يدل على معناه من غيره، وثالثها: التفخيم والتعظيم، ومنه اشتقت الكنية([5]).

أشار المبرد إلى أهداف الكناية ومميزاتها ولم يحدّها، وجعلها ابن المعتز من محاسن الكلام ولم يفرّق بينها وبين التعريض واكتفى بضرب الأمثلة عليها فقط([6]).

وتابع أبو هلال العسكري ابن المعتز في خلطه بين الكناية والتعريض، قال: “الكناية والتعريض أن يكنّى عن الشيء ويعرض به ولا يصرح، على حسب ما عملوا باللحن والتورية عن الشيء”([7])، وذكر ابن سنان الخفاجي (ت: 466 هـ) الكناية ولم يضع لها حدّاً، وإنّما تكلم عن حسنها، فقال: “حسن الكناية عمّا يجب أن يكنى عنه في الموضع الذي لا يحسن فيه التصريح وذلك أصل من أصول الفصاحة وشرط من شروط البلاغة([8]).

ونجد أنّ عبد القاهر قد وضع حدّاً اصطلاحياً للكناية أوضح وأدق من الذين سبقوه بقوله: “إن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيومئ به إليه، ويجعله دليلاً عليه”([9])، ولم يزد العلماء الذين جاؤوا بعده على تعريفه شيئاً، وإنّما كان المادة الأساسية لحديثهم عن الكناية([10]).

ويـرى السيّد السبزواري أنّ: “الكنايـات مـن أهـم شـؤون الفصاحة والبلاغة”([11])، ويعدّ الكناية أبلغ من التصريح والقرآن العظيم مشتمل على أنحاء الكنايات والاستعارات والتشبيهات البليغة([12])، وهي عنده من المحكمات لا المتشابهات إذا دلّت قرينة على ذلك، وهـو يستدل تارة بالحديث الشريف لإثبات وجـود الكناية في القـرآن الكـريـم، فيقـول أنّ القـرآن مشتمل: “على الكنايات ويعد ذلك من أدب القرآن، مثل قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}([13])، فإنّه كناية عن البراز،

وقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}([14])، فإنّه كنايـة عـن الجماع، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، فهي لا تكون من المتشابهات بل إنّهـا مـن المحكمات، فإنّ لـهـا ظـهـوراً عرفيـاً ولـو بالقرينة في المعنى المراد”([15])، ثمّ يعتمد على علم الأصول والأحاديث الشريفة لإثبات أنّ الكناية من المحكمات قال: “وقد أثبتنا في علـم الأصـول أنّ المدار في المحاورات على الطهـورات العرفيـة ولـو كانت مجازية، وكذا ما ورد في بعض الأحاديث من أنّ القرآن: (نزل بإيّـاك أعني واسمعي يا جارة)([16]) وأمّا اللطائف والإشارات والـدقائق فإنّها كانت منساقة مـن ظـاهـر اللفـظ بحـسب المحـاورة تكـون مـن المحكمـات وإلا فهـي مـن المتشابهات”([17])، وقـد تـكـون الكنايـة للتنبيه على عظـم القـدرة([18])، وذكر ذلك السيّد السبزواري عند تفسيره قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}([19])، قال: “إن جملة (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) كنايـة عـن كمال القدرة وغاية القيومية المطلقة على خلقه، كما استعملت هذه الصيغة في موارد أخرى في ذلك، قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ}([20])، أي خلقت بقـدرتي التامة الكاملة”([21]) أي أنّ الله القـدرة والإرادة التامّة في خلقه وهو القيوم عليهم، هذا مـا يـراه صاحب المواهب من سبب للكناية في الآية الكريمة، وأشار إليه كذلك عند تفسيره قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}([22])، إذ إنّه يعتمد على السنّة الشريفة في توجيـه بعـض دلالات ألفاظ القرآن الكريم، كما في كلمة (يـد) في قوله تعالى، قال: “كلمة (يد) تسعمل في الجارحة الخاصة، ويصحّ أن يكنّى بهـا عـن ذات النفس وعـن كـلّ مـا يـحـصـل بـهـا الاختيـار، ونسب إلى نبينـا الأعظـم (صـلّى الله عليـه وآله): (على اليد ما أخذت حتّى تؤدي)([23]) الشامل لجميع الضمانات الحاصلة ولـو بغـيـر الـيـد وتـصح الكنايـة هـنـا عـن مطلـق الاقتدار، قال تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا}([24])، ففي الحديث عن نبينـا (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال في المسلمين: (هم يد واحدة على مـن سـواهـم) ([25]“([26])، فاعتـمد على السنّة الـشـريفة في توجيه ما تدل عليه كلمة (يـد) سـواء كنّي بهـا عـن ذات النفس أو عـن مطلـق الاقتدار، وقد تكون الكناية لأجل ترك اللفظ إلى ما هو أجمل([27])، وذكر ذلك صاحب المواهب عند تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}([28])، يرى أنّ: “الكلمة في المقام كناية عن الاجتماع والاتحاد في العمل بمقتـضـى مـدلول الكلمة ومعناهـا والإذعان بهـا ونظـير ذلـك شايع في الألسنة، يقال: اتفقت كلمة القوم على كذا، أي: اتحدوا واجتمعوا على أمر، وفي الآية المباركـة روعـة الأسلوب، وتتضمن مـن النـكـات البلاغية ولطائف العنايات ما لا يخفى”([29])، إنّ الكناية عن الاجتماع بالكلمة وما تضمنته من إشارات غاية في الروعة لا تتحقق إلا باستعمال هذا اللفظ، كـلّ ذلـك حقق المراد من الآية الكريمة، لأنّ الاجتماع على كلمة (لا اله إلا الله) يزيـل الشرك بكلّ أنواعه، وأشار إلى الكناية لنفس الغاية عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}([30]) قال: “الإخراج من الديار يوجب ذهاب الاستقلال والـوهن في العزيمة والمنع عـن التمتع بملاذ الـدنيا فقـد كنّى سبحانه وتعالى عن جميع ذلك بالإخراج”([31])، فقد كنّى سبحانه وتعالى بالبعد عـن الأهـل والـوطن والأولاد وما يتبع ذلـك مـن فقـدان الاستقلال والحرية بالإخراج، فترك هذه المعاني كلّها وكنّى عنهـا بلفظ واحـد أبلغ وأجمل منها، وقد تكون الكناية لئلا يكـون التصريح بمـا يـستقبح ذكره، ككناية الله سبحانه وتعالى عن الجماع بالملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والدخول([32])، ويعدها صاحب المواهـب مـن أحسن الكنايات عنـد تفسيره قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}([33])، قال: “الإفضاء يكنّى به في النكاح عـن الجماع غالباً، والإفضاء من الكلمات التي تستعمل في الحياة الزوجية، لأنّهـا تـشتمل على الارتباط والتمتع ورفع ورفع الحشمة، وهي من أحسن الكنايات في هذا المجال”([34])، ونظيره مـا جـاء في تفسير قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}([35])، حيث أكد أنّ الكناية أسلوب أدبي رفيع، وهـو مـن الأدب القرآني إذ تحجز الألفاظ المستقبح ذكرهـا، وهـذا مـن دواعي استعمالها في السياق القرآني، وقد أشار إلى ذلك العلـوي في الطراز([36])، وقال صاحب المواهب: (الآية الشريفة في غاية الأدب ومنتهى الفصاحة، حيث كنّي فيها عمّا يستقبح ذكره بأسلوب أدبي رفيع، وبولغ في الإفهام مـن دون الإضافة الـتـي شـوب التعيين رعاية لجانب الأدب، والغائط: المكان المنخفض في الأرض، وقـد كـانوا يقصدونه لقضاء الحاجة تستراً عن أعين الناس وتأدباً، وقيل: إنّه المطمئن من الأرض، وقيـل عـمـق الأرض الأبعـد، وكيـف كـان، فسمّي الحال باسم المحـل حتّى غلب استعماله في معناه المعروف، وهـو النجـو نفسه، وقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} كنايـة عـن الجماع، وهـو أيـضـا أدب قرآني، صـوناً للسان عمّا يستقبح ذكـره”([37])، وأشار إلى نفس السبب لاستعمال القـرآن للكنايـة عنـد تفسيره لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}([38]) قال: “المراد من القرب: خصوص الوطي، وهو في مقابل البعد، لأنّ من أدب القرآن الكريم الكناية عمّا يستقبح ذكره بألفاظ أخرى حسنة، كقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}([39]“([40])، هناك مواضع أخرى ذكرها صاحب المواهب وجّه فيهـا سبب استعمال الكناية لما يقتضيه الأدب القرآني، كمـا هـو دأبه في استعمال الألفاظ الكنائيـة عمّـا يستقبح مـن الـوطي والجماع كالمباشرة، واللمس، والدخول، والغائط ونحو ذلك([41]).

وتكون الكناية لأجل المبالغة([42])، كما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً}([43]) يرى السيّد السبزواري أنّ في جملة: (إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} معنىً مجازياً، قال: “يراد منه الكناية عن شدة الإلحاح في التقاضي والوفاء، فإنّ قيام المطالب على رأس المديون، وملازمته له فيه المبالغة في الاقتضاء والمطالبة”([44])، أي: إنّه لا يؤدي الأمانة التي ائتمنه إيّاها إلا إذا ألجأته إلى ذلك بدوام المطالبة على وجه المبالغة، وفي قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ}([45])، يعتقد صاحب المواهب أنّ الاشراب كناية عن شدة حبهم، قال: “الاشراب المخالطة والامتزاج وهو كناية عن انهماكهم في حب العجل حتّى كأنّه خالط قلوبهم كما يخالط الصبغ الثوب، أو كما يدخل المشروب في بدن الإنسان أي أنّهم بسبب كفرهم قد انهمكوا في حب العجل، وذلك لأنّ كثرة ملازمة الشيء ومحبته توجب الصيرورة في القلب والإرادة مظهراً من مظاهره”([46]) ويرى  أنّ الكناية قد تأتي ويستفاد منها المبالغة في التحذير، كما جاء عند تفسيره قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا}([47])، قال: “حدود الله شرايعه وأحكامه المحرمة التي قرنها بالعقوبة، والنهي عن الاقتراب إليها كناية عن مخالفتها، عبّر عنها بالاقتراب لشدة الحيطة ومبالغة في التحذير فإنّ من قرب من شيء أوشك أن يتعداه”([48]) وأشار السيّد السبزواري إلى نصوص قرآنية أخرى أفادت فيها الكناية معنى الكثرة والمبالغة([49]).

وقد تستعمل الكناية لقصد البلاغة([50])، وقد “أطبق البلغاء وأجمعوا على أنّ المجاز والكنايـة أبلغ من الحقيقة والتصريح، وذلك لأنّ الانتقال في المجـاز والكناية انتقال من الملزوم إلى اللازم”([51])، وترى السيّد السبزواري أشار إلى ذلك عند تفسيره قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}([52])، قال إنّ في الآية الكريمة: “بيان لبطلان عبادة المشركين لمن يدعونه من دون الله سبحانه بنوع من الكناية البليغة التي هي أبلغ من التصريح”([53]) ويؤكد المعنى نفسه، أي: قصد البلاغة لأنّها أبلغ من التصريح عنـد عروجه في التفسير على قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ}([54])، قال: “التعبير بالزلة ـ وهي ما يصدر من غير عمد والتفات ـ للإعلام بأنّ التعمد في التقصير بعد تمامية الحجة مفروض العـدم، وفيهـا كنايـة عـن أنّـه لا ينبغي أن يصدر مـن العاقـل ذلـك، والكناية أبلغ من التصريح في المحاورات”([55]).

ومـن أسباب الكنايـة قـصـد الاختصار، كالكنايـة عـن ألفاظ متعـددة بلفظ([56])، وأوضح ذلك عند تفسيره قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}([57])، فيرى أنّ فيها: “كناية عن إتباعـه حـق الإتباع وعدم المفارقة عنه في وقـت مـن الأوقات فيغتنم الشيطان ذلك فيردهم عن الملة الحنيفية ودين الإسلام فيموتـوا غير مسلمين، وفي الكلام إيجاز بليغ”([58])، ففيها اختصار وإيجاز وصفه بأنّه بليغ لأنّه أدّى المعنى المطلوب بأقلّ لفظ، ونرى نظيره مـا أشار إليه في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}([59])، قال: “الجملة كنايـة عـن خيبة آمالهم في الوسائل والروابط حينما يرون العذاب ويدركون أهواله فلا يمكن الاستفادة من تلك الأسباب التي عاشـوا بهـا برهـةً مـن الـزمن فلا تجديهم نفعاً”([60])، فالكنايـة في المثال الأخير عبّرت عن مشهد مربع بالنسبة للكافرين في يـوم الحشر، حينما لا

يجدون ما ينفعهم فقد عبّر الله سبحانه وتعالى بهذه الجملة روماً للاختصار ولتهويل ما هم عليه، وأشار السيّد السبزواري إلى نصوص قرآنية أخرى اشتملت على الكناية([61])، وهذا يؤكد أنّ للبلاغة ومنها الكناية عناية خاصة من قبل صاحب المواهب، لأنّه يعتمد عليها كأحد أدوات المفسّر التي لا بدّ أن يركن إليها للوصول إلى المعاني الشريفة.

التعريض

إنّ كثيراً من البلاغيين قد قرن الكناية بالتعريض، ولم تبن في كلامهم معالم واضحة لكل منهما، حتّى ليبدوا من كلامهم أنّهما شيء واحد([62])، وأبرزهم ابن المعتز([63])، والجاحظ([64])، وأبو هلال العسكري([65])، وأكد ذلك العلوي بقوله: “إنّ كثيراً من علماء البيان لا يميزون بين التعريض والكناية في الماهية”([66])، وقد فرّق بين المصطلحين ابن الأثير وحدّ التعريض بقوله: “هو اللفظ الدال على الشيء من طريق المفهوم لا بالوضع الحقيقي ولا بالمجازي”([67])، وذكره العلوي بأنّه: “اللفظ المدلول عليه باللفظ دون القرينة”([68])، والسيّد السبزواري قد فرّق بين المصطلحين، وعد التعريض قسماً من الكناية، قال: “التعريض قسم من الكناية التي هي أبلغ من التصريح، ولكنّه خلافها فالكلام أمّا ظاهر في المعنى المقصود، أو صريح فيه، أو تعريض به، والجميع معتبر في المحاورات العرفية ويترتب الأثر عند المتعارف فقول: إنّي أريد أن أنكحك، صريح في المطلوب، وقول: إنّي أريد معاشرتك، ظاهر فيه، وقول: كم راغب فيك تعريض، ففي التعريض يكون المعنى المقصود غير ما عرّض به، كالمثال الأخير، وفي الكناية لا يقصد من اللفظ غير المكنّى عنه”([69])، فعنده التفريق بينهما يكون بالنظر إلى المعنى المقصود فإذا كان غير ما عرّض به فهو تعريض، وإن كان يقصد منه المكنّى عنه فهو كناية، وهو يتبع بذلك ما ذهب إليه العلوي عند تفريقه بين المصطلحين، قال: “إنّ الكناية مدلول عليها من جهة اللفظ بطريق المجاز، بخلاف التعريض، فإنّ دلالته من جهة القرينة والإشارة”([70])، والسيّد السبزواري عند تفسيره الآيات الشريفة ينبّه على التعريض إن اشتملت عليه الآية، ففي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}([71])، يرى أنّ في الآية: “تعريض لهم بأنّهم على غير الحق وإنّ المسلمين لا يبالون بأباطيل غيرهم مهما كلّف الأمر”([72]).

ويصرّح بأنّ التعريض يفيد التنبيه والتوكيد، كما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}([73])، يرى أنّ فيها: “التعريض بأنّهم مشركون فتكون الجملة تأكيداً، لما تضمنه الكلام السابق، كما أنّ فيه التنبيه على أنّ الحنفية المصطلحة بين الأوثان لم تكن مراده بل المراد هي أنّ الحنفية الحقّة التي جاء بها إبراهيم”([74]).

وفي تفسير قوله تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}([75])، أشار إلى أنّ فيها تعريضاً بأنّهم ركنوا إلى الداني واعرضوا عن الخير الحقيقي([76]).

وللتعريض فوائد بليغة يستفاد منها ضمن سياق الكلام، وهو أبلغ من التصريح كما يؤكد المفسّر، ففي قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}([77])، رأى أنّ إدراج إبراهيم + نفسه مع القوم الضالين: “فيه تعريض بضلالهم، وهو أبلغ من التصريح، ومنه يظهر الوجه في رجائه للهداية الإلهية”([78])، وتكشف الأمثلة السابقة أنّ مدلول التعريض خفي مستتر يهتدي إليه المتلقي من خلال ظرف القول ومناسبته وما يليهما من قرائن لا ينبض بها البناء اللغوي مباشرة([79]).

إنّ كلا الأسلوبين الكناية والتعريض من الأساليب البلاغية التي أشار إليهما علماء البلاغة والبيان قديماً وحديثاً وأشبعوهما بالدرس والتحليل، وإنّ صاحب المواهب لم يهمل هذين الفنين من فنون البلاغة ضمن تفسيره.

إنّما أشار إليهما في مواضعهما، وتعامل معهما تعاملاً جديداً بعدما أشار إلى الغاية من استعمالهما، وكان صادراً عن حسن بلاغي دقيق، مشعراً بأنه لا بدّ للمفسر أن يكون على دراية بعلم البلاغة وفتونها، لكي يكون جهده متميزاً قريباً من واقع القرآن الكريم.


([1]) ينظر: لسان العرب، مادة (كنى) / 12 / 174.

([2]) البقرة: الآية / 223.

([3]) مجاز القرآن: 1 / 155.

([4]) البيان والتبيين: 1 / 263.

([5]) ينظر: الكامل / 2 / 674.

([6]) ينظر: البديع / 64.

([7]) کتاب الصناعتين: 368.

([8]) سر الفصاحة: لأبي عبد الله محمّد بن سعيد بن سنان الخفاجي (ت 466 هـ): 155.

([9]) دلائل الاعجاز: 53.

([10]) ينظر: مفتاح العلوم: 637، وينظر: المثل السائر: 2 / 94، وينظر: الطراز: 176.

([11]) مواهب الرحمن: 5 / ۸7.

([12]) ينظر: مواهب الرحمن: ۷ / ۸۳، ۳ / 258، 4 / 71، ۱۳ / ۳۷۷.

([13]) المائدة: الآية / 75.

([14]) البقرة: الآية: 237.

([15]) مواهب الرحمن: 5 / ۸7.

([16]) أول من قال ذلك سهل بن مالك الفزاري، ينظر: مجمع الامثال: 1 / 49.

([17]) مواهب الرحمن: 5 / 88.

([18]) ينظر: البرهان: 2 / 314.

([19]) المائدة: الآية / 64.

([20]) ص: الآية / 75.

([21]) مواهب الرحمن: 11 / 463 ـ 464.

([22]) البقرة: الآية / 195.

([23]) ينظر: مستدرك الوسائل: المحدّث النوري: 14 / 8.

([24]) الذاريات / الآية / 47.

([25]) ينظر: الكافي، ثقة الاسلام الكليني: 1 / 403.

([26]) مواهب الرحمن: 3 / 148.

([27]) ينظر: الاتقان: ۳ / ۱۲۰.

([28]) آل عمران: الآية / 64.

([29]) مواهب الرحمن: 6 / 33، 35.

([30]) البقرة: الآية / 246.

([31]) مواهب الرحمن: 4 / 137.

([32]) ينظر: الاتقان: ۳ / ۱۲۰.

([33]) النساء / الآية / 21.

([34]) مواهب الرحمن: 7 / 403.

([35]) المائدة: الآية / 6.

([36]) ينظر: الطراز: ۲۰۲.

([37]) مواهب الرحمن: 11 / 26.

([38]) البقرة: الآية / 222.

([39]) البقرة: الآية / 187.

([40]) مواهب الرحمن: ۳ / ۳۷۹ ـ ۳۸۰.

([41]) ينظر مواهب الرحمن: 3 / 90، 4 / 33، 4 / 81، 5 / 307، 5 / 350، 8 / 257.

([42]) ينظر البرهان / ۲ / ۳۲۱.

([43]) آل عمران: الآية / 75.

([44]) مواهب الرحمن: 6 / 74.

([45]) البقرة: الآية / 93.

([46]) مواهب الرحمن: 1 / 464.

([47]) البقرة: الآية / 187.

([48]) مواهب الرحمن: 3 / ۹۹.

([49]) ينظر: المصدر نفسه: ۱۲ / ۲۳۲، ۱۲ / 3۹۰، 4 / ۳72، ۱۳ / 342.

([50]) ينظر: البرهان / 2 / ۳۲۱.

([51]) شرح التلخيص: 159.

([52]) الأنعام: الآية / 56.

([53]) مواهب الرحمن: 13 / 376 ـ ۳۷۷.

([54]) البقرة: الآية / 209.

([55]) مواهب الرحمن: 3 / 258.

([56]) ينظر: الاتقان: ۳ / ۱۲۱، وينظر: البرهان: ۲ / ۳۲۲.

([57]) البقرة: الآية / 132.

([58]) مواهب الرحمن: ۲ / ۷۲.

([59]) البقرة: الآية / 166.

([60]) مواهب الرحمن: 2 / ۳۱۸.

([61]) ينظر: مواهب الرحمن: 2 / 93، 6 / 293، 6 / 341، 8 / 30، 9 / 144، 9 / 191، 11 / 145، 13 / 350، 14/41، 14 / 232، 14 / 398، 14 / 421.

([62]) ينظر: علم البيان، بدوي طبانه: 248.

([63]) ينظر: البديع: 64.

([64]) ينظر: البديع: 64.

([65]) ينظر: كتاب الصناعتين: 368.

([66]) ينظر: الطراز: 152.

([67]) المثل السائر / 2 / 198.

([68]) الطراز: 187.

([69]) مواهب الرحمن: 4 / 71.

([70]) الطراز: ۱۸۷.

([71]) آل عمران: الآية / 64.

([72]) مواهب الرحمن: 6 / 39.

([73]) آل عمران: الآية / 67.

([74]) مواهب الرحمن: 6 / 43.

([75]) النساء: الآية / 77.

([76]) ينظر: مواهب الرحمن: 9 / 50.

([77]) الأنعام: الآية / 77.

([78]) مواهب الرحمن: 14 / 35.

([79]) ينظر: بيان الصورة الفنية في البيان العربي / 331.

علم البديع

وهو أحـد علـوم البلاغة العربية، يطلق على فنـون البلاغة التي تحسّن الكلام، وتنطوي ألوانه في القرآن الكريم على مقاصد معنوية، مع ما يضفيه من جمال على الأسلوب.

والبديع في اللغة: المحدثُ العجيب، والبديع: المُبدَع، وأبدعتَ الشيء: اخترعته لا على مثال، والبديع والبدعُ: الشيء الذي يكـون أولا، وفي التنزيل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}([1])، أي: ما كنت أول من أرسل([2]).

أمّا في الاصطلاح فقد عرّفه القزويني بقوله: “هـو علـم يـعـرف بـه وجـوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة)([3]).

وعنـد التمـاس بـدايات هـذا العلـم، نجد أنّ الجاحظ أشـار إليـه بقوله: “والبديع مقصور على العرب، ومن أجله فاقت لغتهم كلّ لغة، وأربت على كـلّ لسان، والراعي كثير البديع في شعره، وبشار حسن البديع، والعتابي يذهب في شعره في البديع مذهب بشارة”([4])، وأشار إليه في موضع آخر، عنـد حديثـه عـن الخطبـاء الـشعراء، قـال: “كـان العتـابي يحتـذي حـذو بـشار في البديع، ولم يكن في المولّدين أصوب بديعاً من بشار، وابن هرمه”([5]).

ويؤكد القول السابق أنّ الجاحظ أشار للبديع إلا أنّه لم يضع لـه حـدّاً أو ذكر فن من فنونه يعـدّ ابـن المعتز، هـو واضـع علـم البديع، لأنّه أول من ألـّف كتاباً في هذا الشأن، سمّاه (كتاب البديع)([6])، أشار فيه أنّه أول من نظم وجمع فنون هذا العلم بقوله: “وما جمع فنـون البديع ولا سبقني إليه أحد، وألّفته سنة أربع وسبعين ومائتين”([7])، وجعـل ابـن المعتـز البـديع خمسة أنـواع: الاستعارة، التجنيس والمطابقة ورد إعجاز الكلام على ما تقدمها، المذهب الكلامي، ثمّ ذكـر محاسن الكلام وعـدّ منهـا ثلاثة عشر نوعاً، وقد أشار إلى الغرض الذي من أجله ألّف كتاب البديع، بقوله: “إنّما غرضنا في هذا الكتاب تعريف الناس أنّ المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع”([8])، ويعدّ كتاب البديع المحاولة الأولى ليستقلّ هذا العلـم البلاغي وتحدّد مباحثه التي كانت من قبل مختلطة بمباحث علـم المعاني وعلـم البيان، كما أنّه لفت أنظار الناس إلى أنّ البديع كان موجوداً في أشعار الجاهلية وصدر الإسلام([9])، وجعل أبو هلال العسكري الباب التاسع من كتاب الصناعتين لشرح البديع والإبانة عن وجوهه، وحصر أبوابه وفنونه، وفي هذا الباب ذكر خمسة وثلاثين نوعاً من البديع، عقد لكل نوعٍ فصلاً، زاد على ما سبق ستة أنواع، واستثنى منها التشبيه والإيجاز والإطناب والسجع والازدواج، بينمـا عـدّ الاستعارة والمجاز من البديع، فمدلول البديع عنده أخذ بالتخصص([10])، ولم يفرق عبد القاهر الجرجاني بين موضوعات البلاغة، ففي كتابه (أسرار البلاغة) أطلق اسـم البـديـع على التشبيه والاستعارة وعلى سائر أقسام البديع الأخـرى كالتجنيس والحشو والطباق وحسن التعليل، ثمّ سمّى هذه البحوث ـ وأخرى دخلت في علم المعاني ـ بياناً في كتابه (دلائل الإعجاز)([11])، ولم يسمّ السكاكي البديع (بديعاً) ولم يضع له حدّاً اصطلاحياً كما حدّ علم المعاني والبيان، وإنّما سمّاه (محسنات) بقوله: “إذا تقرر أنّ البلاغة بمرجعيهـا وأنّ الفصاحة بنوعيها ممّا يكسو الكلام حلّة التزيين ويرقيه أعلى درجات التحسين، فها هنـا وجـوه مخصوصة كثيراً مـا يـصـار إليهـا لـقـصد تحسين الكلام، فلا علينا أن نشير إلى الأعـرف منهـا، وهـي قـسمان: قـسم يرجع إلى المعنى، وقـسم يرجع إلى اللفظ”([12])، ومـن ثـمّ أخـذت فنـون البديع في الزيادة حتّى وصلت في القرن الثامن الهجري عنـد الشاعر صفي الدين الحلي إلى مائة وخمسة وأربعين محسناً بديعياً([13]).

وكان يقصد بهـذه المحسنات “تحسين الكلام بعـد رعاية المطابقة لمقتضى الحال، ورعاية وضوح الدلالة بخلوّها عن التعقيد المعنوي”([14]).

ويـكـاد يتفـق أنّ البـديـع مـا جـاء عـفـو الخاطر، وفيض القريحة، وعلى السجية والفطرة، مـن غـيـر تكلـف أو اصطناع أو اجتلاب، وهذا واضح في القرآن الكريم لاشتماله على تشكيلات بديعيّة صادقة في المضمون، ومطبوع في الصنعة والتركيب([15])، ووضوح أساليب البديع في القرآن الكريم يدلل على أنّه في الصميم من علم البلاغة، وله قيمة أسلوبية وجمالية تحاكي الحسّ الأدبي الدقيق للذائقة العربية، وإنّ تكلف الشعراء له في حقبة ما، حتّى عاد شعرهم عبارة عن محسنات بديعية على حساب المعنى، لا يدعو إلى وصمة بأنّه مخالف لأصالة الأدب العربي، كما ذكر ذلك الدكتور درويش الجندي، بأنّ مذهب البديع يجافي الأدب العربي في روحه وأصالته في البعـد عـن التكلف، والجري وراء البديع وطمس المعنى([16])، وقسّم البـديـع الـذي يـعـرف بـه وجـوه تحسين الكـلام علـى ضـربين: الأول: معنـوي، أي: راجع إلى تحسين المعنى بحسب العراقة والأصالة، وان كان بعضها لا يخلو عن تحسين اللفظ، والثاني: لفظي، راجع إلى اللفظ، ولقـد قـدّم المعنوي، لأنّ المقصود الأصلي والغرض الأولي من المعاني، والألفاظ توابع وقوالب لها([17]).

وتعرّض السيّد السبزواري إلى معنى البديع في اللغة، قال: “بديع: مبالغة في الإبداع، وهو إيجاد الشيء بصورة مخترعة بـلا مـادة ولا آلة ولا مكـان ولا سبق مثال، وهو مختص به عزّ وجلّ، وبالنسبة إلى غيره فهـو مطلـق إحداث الشيء من غير سبق الوجود”([18]).

أمّا علم البديع المعروف في علم البلاغة، أشار إليه السيّد السبزواري عند ذكر فنونه دون أن يحدّه، فرأى أنّ براعة الاستهلال معروفة في علم البديع([19]) وذكر المشاكلة وعدّها من أنواع البديع([20])، وفي مواضع أخرى يـصـف أنواعه بأنّهـا مـن محسّنات الكلام([21])، أو من محسّنات الفصاحة([22])، أو من المحسّنات البديعية.


([1]) الأحقاف: الآية / 9.

([2]) ينظر: لسان العرب: مادة (بدع): 1 / 342.

([3]) التلخليص: 86.

([4]) البيان والتبيين: 4 / 55 ـ 56.

([5]) المصدر نفسه: 1 / 51.

([6]) ينظر: علم البديع، د. عبد العزيز عتيق: ۱۲.

([7]) کتاب البديع: 58.

([8]) كتاب البديع: 3.

([9]) ينظر: علم البديع، د. عبد العزيز عتيق: 15.

([10]) ينظـر: كتـاب الـصناعتين: 266 ـ 430 ، وينظر: البديع في ضـوء أساليب القـرآن د . عبـد الفتاح لاشين : 11.

([11]) ينظر: أسرار البلاغة : 1 / ۱۰۰، ۲ / ۱۷۰، وينظر: دلائل الاعجاز: 4، وينظر: البلاغة عند السكاكي: 322.

([12]) مفتاح العلوم: 659 ـ 660.

([13]) ينظر: البلاغة تطور وتاريخ: 361.

([14]) علم البديع، د. عبد العزيز عتيق: 65.

([15]) ينظر: البلاغة العربية في ضوء الأسلوبية ونظرية السياق، د. محمّد بركات حمدي أبو علي: 143.

([16]) ينظر: الرمزية في الأدب العربي، د. درويش الجندي: 58.

([17]) ينظر: المطول: التفتازاني: 652 ـ 653.

([18]) مواهب الرحمن: 1 / 566.

([19]) ينظر: المصدر نفسه: ۱۰ / ۲۸۰.

([20]) ينظر: المصدر نفسه: 10 / 48.

([21]) ينظر: المصدر نفسه: 5 / 174.

([22]) ينظر: المصدر نفسه: 3 / 153.

المقابلة

المقابلـة لغـة مـن: قابـل يقابلُه مقابلـةً، أي واجهـه، فالمقابلـة بمعنـى المواجهة([1])، أمّا في الاصطلاح فقد تحدّث عنهـا قدامـه بـن جعفر في باب صحة المقابلات بقوله: “أن يصنع الشاعر معاني يريد التوفيـق بـيـن بعضها وبعض أو المخالفة، فيأتي في الموافق بما يوافق، وفي المخالف بما يخالف على الصحة، أو يشرط شروطاً أو يعدد أحوالاً في أحد المعنيين، فيجب أن يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرطه وعدده، وفيما يخالف بأضداد ذلك”([2])، ثمّ جاء بعـده أبـو هـلال العسكري فحدّ المقابلة بقوله: “إيراد الكلام، ثمّ مقابلته بمثله في المعنى واللفظ على جهـة الموافقة أو المخالفة”([3])، ثمّ: تحدث فساد المقابلة، وتكون إذا ذكرت معنى يقتضي الحال ذكره بموافقة أو مخالفة، ثمّ يـؤتى بعـده بما لا يوافق ولا يخالف([4])، وقد أشار ابن رشيق القيرواني إلى الفرق بين الطباق والمقابلة، في ضمن تعريفه لها، بقوله: “هي ترتيب الكلام على ما يجب، فيعطى أول الكلام ما يليق به أولاً وآخره ما يليق به آخراً، ويؤتى في الموافق بما يوافقه، وفي المخالف بمـا يخالفه، وأكثر ما تجيء المقابلة في الأضداد، فإذا جاوز الطباق ضدّين كان مقابله”([5]).

وأيضاً عرّف السكاكي المقابلة بقوله: “هي أن تجمع بين شيئين متـوافقين أو أكثر وبين ضـدّيهما”([6])، ثمّ جـاء ابـن النـاظم ووضعها في كتابه المصباح ضمن الفنون التي ترجع إلى الفصاحة اللفظية، وحدّها بقوله: “أن تأتي في الكلام بجزأين فصاعداً ثمّ تعطف عليه متضمّن أضدادها أو شبه أضدادها على الترتيب، فإذا اختلّ كان مقابلة فاسدة، وأقلها مقابلة اثنين باثنين”([7]).

من خلال ما سبق يظهر أنّ المقابلة من محسنات الكلام، ويرى علماء البديع أنّ أعلى رتبها وأبلغها هو ما كثر فيه عـدد المقابلات شريطة ألا تـؤدي هذه الكثرة إلى التكلف أو توحي به([8])، وليس المهـم بالنسبة لفنـون البلاغة أن يحدد لها مصطلحاً عند المفسّر، إنّما المهـم أن يجد الشاهد التطبيقي الذي من الممكن أن يقاس عليه، لذلك اهتم السيّد السبزواري في بيانه لهذه المصطلحات على توافر شواهدها في القرآن الكريم، فنلاحظ أنّه ذكـر المقابلة في أكثر من موضع، كما ذكر فنون البديع الأخرى التي توفرت شواهدها، ومن تطبيقاته التي بيّن فيها المقابلة ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}([9])، قال: “في الآية الكريمة من أسرار البلاغة ولطائفها ما تُبهر العقول منها، فإنّه تعالى جمع بين أنحاء من أفعاله المتقابلة، فجمع بين إيتاء الملك ونزعه وهما ممّا يقوم به نظام الاجتماع، كما جمع بين النهار والليل وإيلاج أحدهما في الآخر وهو من أتمّ ما يقوّم نظام العالم… وفي الآية الثانية ذكر إيتاء العزة لمن يشاء ، وقال جلّ شأنه: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ}… جمع سبحانه وتعالى في هذه الآيات بين أربعة من الأمور التكوينيّة وهي: إيلاج الليل في النهار وبالعكس، والموت والحياة، وأربعة من الأمور الاجتماعية وهي: إيناء الملك ونزعه يناسبان الليل والنهار، والعزة والذلة تناسبان الحياة والموت، ذكر {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} لبيان تسلّطه على هذه الأمور الاجتماعية و{وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} لبيان تسلّطه على الأمور التكوينيّة فكانت المقابلة بين هذين الأمرين أيضاً من هذه الجهة.

ويجتمع الجميع في الحياة بالمعنى الأعـم أي الحياة الفردية والاجتماعية ويستلزم ذلك الاقتدار على مقابلها وهو الموت، لأنّ القدرة على شيء يستلزم القدرة على نقيضه أيضاً وإلا لا معنى للقدرة”([10]).

كشف السيّد السبزواري في هذا المثال عن أنحاء من المقابلة تخصّ الأمور التكوينية وأربعـة أخرى من الأمور الاجتماعية، ثمّ ذكـر المقابلة بين {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} وبين {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، ومـع تعـدد المقابلة في الآيتين الشريفتين إلا أنّ صاحب المواهب يؤكد على مناسبة كلّ مقابل للآخر، لذا أشار في بدايـة القـول إلى أنّ ذلـك مـن أسرار البلاغة ولطائفهـا الـتـي بهـرت العقول، ويرى في موضع آخر أنّ المقابلة تكون لأجل إفادة التوكيد مع زيادة التقريع كما جاء في تفسير قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}([11])، قال: “الأفواه: جمع فاه، وإنّما ذكـره عـزّ وجـلّ للتأكيد ومقابلة للقلـوب وزيادة في التقريع ونظير ذلك قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}([12])”([13])، فذكر الألسن مقابلة للقلوب للتأكيد وزيادة في التقريع، وأشار صاحب المواهب إلى المقابلة بين جملتين، وتابع بهذا التقسيم العلوي الذي بدوره قسّم المقابلة على وجهين، الأول منهما مقابلة المفرد بالمفرد، والثاني مقابلة الجملة بالجملة([14])، وذكـر هـذه المقابلة عنـد تفسيره لقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}([15])، قال: ومقتضى المقابلة بين الجملتين أن يكون الجزاء في الدارين الدنيا والآخرة، ففي الدنيا الفوقيّة والذكر الحسن والغلبة والنصرة، وفي الآخرة الجنّة وحسن المآب”([16])، وكشف صاحب المواهب في موضع آخر عـن المقابلة بين الأبرار وسعادتهم والكفـار وشقائهم وهـو مقابلـة بـين مختلفين متضادّين تكـون مـن أحسن وجوه البلاغة، كما صرّح بذلك أهل البلاغة([17])، بيّن ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ}([18])، قال: “بيـان مـصير الأبرار وسعادتهم مقابلة لمصير الكفار وشقائهم فإنّه لا يقاس أحدهما بالآخر لأنّ حال الطائفة الأولى ابتلاء ومقاساة للأهوال مدّة قصيرة، ونعيم الخلد في الآخرة وحال الطائفة الثانية، متاع قليل ومأواهم جهنم وبئس المهاد”([19]).

وفي موضع آخر ذكر أنّ المقابلة بين الربا والصدقات أفادت تعظيم نتائج الربا وفوائد الإنفاق عندما فسّر قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}([20])، قال: “يستفاد من المقابلة بين الربا والصدقات عظم ما يترتب على الربـا مـن الآثار السيئة كما يترتب على الإنفـاق مـن الآثار الحسنة… فكلّ ما فيه المصلحة يقابله كلّ ما في الربا من المفسدة، فهـو يقابله في جميع الآثار والفضائل والرذائل وفي كلّ العوالم”([21])، وأشار إلى أنّ المقابلة قد تكون لبيان معنىً من المعاني وهو من الاستعمالات الفصيحة، واستشهد على ذلك بأحد أبيات الشعر العربي، قال: “المقابلة بين الإيمان والفسق لبيان بطلان النقمة، فكأنّه راجع إلى ما قد يقال:

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلولٌ من قراع الكتائب([22])

أي: هل تنقمون منّا وتكرهوننا لأنّا أهل الإيمان وأنتم أهـل الفسق”([23])، وذكر ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}([24]).

تأسيساً علـى مـا تقـدم يحـصـل العلـم بـأنّ صـاحب المواهـب لم يغفـل الإشارة إلى مواضع المقابلـة في القـرآن الكـريـم، وإنّما أشـار إليهـا ووضحها وعدّها من أحسن وجوه البلاغة إذا كانت بين مختلفين متضادين، وأكد على التناسب بين المتقابلين، وأنّه لا بدّ منه، ويكـاد يـكـون شـرطاً لصحة المقابلات وبعكـس ذلـك يـكـون عـدم التناسب سبباً من أسباب اضطراب الأسلوب وتعقيده.

واكتفيت بالأمثلة السابقة روماً للاختصار ولأنّها تغني وتفصح عن كيفية تعامل صاحب المواهب مع هذا الفن البلاغي، ومن شاء التوسع ليراجع تفسير مواهب الرحمن([25]).

المبالغة

المبالغة لغةً من: بلغ الشيء يبلغ بلوغاً وبلاغاً، وصل وانتهى، وأبلغه هو إبلاغا وبلّغه تبليغا([26]).

وقد تحدّث عبد الله بن المعتز عـن المبالغة في الاصطلاح، وجعلها من محاسن الكلام والشعر، وأطلق عليها اسم (الإفراط في الصفة) وذكـر الأمثلة لتوضيحها([27]).

وجاء من بعـده قدامه بن جعفر وأطلق عليها اسم (المبالغة)، وحدّها بقوله: “المبالغة أن يذكر الشاعر حالاً من الأحوال في شعر، لـو وقف عليها لأجزئه ذلك في الغرض الذي قصده، فلا يقف حتّى يزيد في معنى ما ذكره من تلك الحال ما يكون أبلغ فيما قصد”([28]).

وعدّها أبو هلال العسكري من فنون البديع في الباب التاسع من كتابه، وعرّفهـا بقوله: “المبالغـة أن تبلـغ بـالمعنى أقصى غاياته، وأبعـد نهاياتـه، ولا تقتصر في العبارة عنه على أدنى منازله وأقرب مراتبه”([29])، ويعـدّها القزويني من محاسن الكلام وبديعه، ويعرّفهـا بقوله: “المبالغة أن يـدعى لوصـف بلوغه في الشدّة أو الضعف حـدّاً مـستحيلاً أو مستبعداً، لئلا يظـنّ أنـّه غـيـر متنـاه فيه”([30])، وتنحصر المبالغة عنـده بـالتبليغ والإغراق والغلو، وهـو يـرى إن كان المدعى غير ممكناً عقلاً ولا عادة فتبليغ، وإن كان ممكناً عقلاً لا عادةً فإغراق، وإن كان غير ممكن عقلاً ولا عادةً فهو غلو([31]).

أمـّا ابـن حـجّـة الحمـوي (ت: ۷۳۸ هـ) فـذكر (الإغـراق) و (الغلـو) وجعلهما مما يتصل بالمبالغة، ولم يخرج ببيانهما عمّا ذكره القزويني من قبل([32]).

وقـد عـدّ الـدكتور عبـد العزيز عتيـق أنـواع المبالغـة ثـلاث فنـون بديعيـة مستقلة، ويرى أنّه فيه تطور لمفهومها، وهو أولى بالإتباع، لأنّه يميّز كـلّ فـن عـن الآخر، ويحول دون اختلاطها وتداخل بعضها في بعض([33]).

فالمبالغة وفقاً لما مرّ من الأساليب المستحسنة عند الكتاب، وأدرجت ضمن المحسنات المعنوية من فنـون البديع([34])، والمبالغة في المعنى في موضع ما لا يكون إلا لفائدة بلاغية، ويرى القرشي ـ مضافاً إلى ذلك ـ أنّها تبعث في النفس الدهشة والمتعة في آن واحد([35]).

ووقـف السيّد السبزواري عنـد هـذا الأسلوب، وعـدّه مـن أحـسن الأساليب البلاغية([36])، ولم يكتفِ في عرضه لأمثلة هـذا الباب بذكر الغرض البلاغي الذي أفاده، وإنّما كان له رأيه، فيرى أنّ المبالغة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى لا معنى لها ولا يمكن تصوّرها([37])، وهو يتساءل ويحاول أن يضع جواباً لتساؤله، فيقول: “كيف تتعقل المبالغة في ذاته المتعال، فلا بدّ من حمل المبالغة بالنسبة إليه عزّ وجلّ على أمور: أمّا على غاية الكمال الذي لا حدّ له، فإنّ المبالغة في المحاورات تكشف عن جمال الشخص الذي بُولِغ فيه، فكما أنّ معنى السمع فيـه عزّ وجلّ، عبارة عن أنّه لا تخفى عليه المسموعات، تكـون المبالغة فيه أنّه لا حدّ لكماله، فتكون فيه عزّ وجلّ عبارة عن أنّ لا حدّ لموردها، ولا يمكن للعقول أن تتصور لها حدّاً”([38]).

أكد أنّ المبالغة فيما يخص الله سبحانه وتعالى وأسمائه الحسنى غير واردة ولا يمكن تصورها فيما يخصّ معنى المبالغة نفسه، أمّا إذا وجهنا دلالتها لإفادة معنى أنّ الله لا حـدّ لكمالـه، وأيـضـا لإفـادة المعنـى نفسه بالنسبة لأسمائـه الحسنى، عند هذا الفهم تكون مقبولة وهي مبالغة غير متناهية، تتسع باتساع مدارك العقول لأنّ لا حدّ لموردها.

لهذا السبب نجد السيّد السبزواري يتعامل بحذر مع أسلوب المبالغة، ويشير إليه في المواضع التي تحتاج إلى إلفات نظر إلى أمرٍ ما، أو لأجل توجيه الناس إلى العمل به وإتيانه على أتم الوجوه وأكملها، لذا نراه إذا أشار إلى هذا الأسلوب في المواضع المناسبة فإنّه يشير إلى الفائدة والغرض الذي تحقّق منه.

ومن الأغراض التي أشار إليها:

1 ـ المبالغة في الذم:

يرى السيّد السبزواري أنّ اختيار ألفاظ معيّنة أو أسلوب مقصود دون غيره لأجل المبالغة في الذم، وأشار إلى ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}([39]) حيـث يرى أنّ جملة {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}، يمكن استبدالها بلفظ أقـصـر ويـؤدي المعنى نفسه، لكن التعبير بها أخصر: للمبالغة في الذم”([40]).

وأشار إلى الغرض نفسه عند تفسيره لقوله تعالى: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ}([41])، فرأى أنّ: “التعبير بذلك دون ما تكرهه أنفسهم للمبالغة في ذمّهم”([42])، فالتعبير بما تكرهه أنفسهم لا يتحقق منه المبالغة في الذم كما يتحقق بتعبير {لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ}، لأنّ إتباع الـهـوى يـوردهم المهالـك ويـصمّ أسماعهم ويعمي أبصارهم والكره ليس له ذلك الأثر.

2 ـ المبالغة في النهي:

وفي ضوء تتبع صاحب المواهب لأسلوب المبالغة، يشير إلى هذا الغرض عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}([43])، إذ رأى أنّ التعبير بأنفسكم يفيـد المبالغة في النهي لأنّهم يمثلون أمةً واحدة، فالمعتدي على أحد أفرادها كأنّما اعتدى على نفسه، قال: “إنّما عبّر سبحانه بالنفس وجعل غير النفس كأنّه نفسه مبالغة في النهي، وتأكيداً في الترك، ولأنّهم أمة واحدة وبينهم روابط القرابة والمصلحة والدين فما يصيب واحداً منهم، كأنّما الأمّة، وأراد الله سبحانه وتعالى بذلك تعليم حفـظ الوحدة بين الأفراد مهما أمكن، كقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ}([44])”([45]).

ويرى أيضاً أنّ نفي الجنس يتضمّن النهـي وهـو يفيـد المبالغة عنـد تفسيره لقـولـه تعـالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}([46]) قال: “نفي لجنس هذه الأمور الثلاثة مبالغة وهو يتضمن النهي عنها وهذا أبلغ”([47]).

وأشار إلى المعنى نفسه عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ}([48]) إذ قال: “التعرّض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها، كما في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}([49])، فإنّ النهي عن إظهار الزينة نهي عن إظهار محلّها”([50])، فالنهي هنا عن التعرض للهدي وهو المقصود، وجاء الخطاب بالنهي عن التعرض للقلائد للمبالغة في النهي.

3 ـ المبالغة في التنزيه:

وهو غرض آخر أبرزه صاحب المواهب يستفاد من بعض الألفاظ، فهي تضمن المبالغة في التنزيـه مثـل لفـظ (سبحانك) في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}([51]) يرى أنّه: “أسلوب بارع في تنزيه الله عزّ وجلّ وإبطال ما أدعته النصارى بأحسن وجه، وسبحانه تدل على شدّة التنزيه والمبالغة بأعلى صورها، وغاية ما يمكن أن يدرك من التنزيه لأمور كثيرة، منها: جهـة اشتقاقها التي تدل على البعـد والإيغال فيه، وكان اشتقاقه من السبح وهـو الـذهاب السريع البعيـد في الأرض، ومنهـا: جهـة النقـل إلى صيغة التفعيـل ـ أي: (التسبيح) ـ التي تدل على الكثرة، ومنها العدول عن هذه الصيغة التي هي مصدر إلى الاسم الموضوع له خاصته وجعله علماً عليها، ومنها: إقامة الاسم مقام المصدر مع الفعـل الـدال على شدة الحضور، كل ذلك يدل على غايـة التنزيه وشدّته بما يلائم عظمة السائل، لرفع قبح مورد السؤال”([52]).

ذكر صاحب المواهب الأسباب التي جعلت لفظ (سبحانك) يفيد المبالغة في التنزيـه مـن جهـة الاشتقاق والنقل والعدول من المصدر إلى اسم المصدر وإقامة الاسم مقام المصدر مع وجود دلالة الفعل ويرى أنّ في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}([53]) المبالغة في التنزيه أيضاً، لأنّ هذا الأسلوب يـدل على نفي الشأن المستلزم لنفي الفعل، قال: “يكون النفي عـن نفسه بنفي سببه مبالغة في التنزيه، وهو نفي لما يتوقف عليه ذلك القول، وهذا أبلغ في البراءة من نفي القول رأساً وإنكاره مجرداً، وهذا المعنى لا يتأتى في غير هذا الأسلوب، كما إذا قال: لم أفعل، أو لم أقل، فإنّه لا ينفي إمكان الوقوع، بخلاف ما ورد في الآية الشريفة فإنّه إنكار لأصل الإمكان فضلاً عن الوقوع”([54]).

يؤكد أنّ المبالغة تفيد التنزيه لما تحمل بعض الألفاظ مـن مبالغة في المعنى أو ما تفيده بعض الأساليب من المبالغة، كما هو حاصل من أسلوب النفي.

4 ـ المبالغة في الترك:

إنّ في اللغة العربيـة أساليب عـدّة تـدلّ على المبالغة، ولم تخـف هـذه الأساليب على صاحب المواهب، ومنهـا تـوالي الألفاظ المترادفة، كما في لفظ التولي إذا عقّب بالإعراض، فإنّه يفيد المبالغة في الترك، ذكر ذلك عنـد تفسيره لقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}([55]) قال: “بيان لما وقع منهم من عدم الوفاء بالميثاق ومعارضتهم لـه بالنفاق والتـولـي هـو الإعراض، وغالباً ما استعمل لفظ التولي في القرآن الكـريـم إلا وعقّـب بالإعراض مبالغة في الترك والتولي”([56])، وأشار إلى الفائدة نفسها عند تفسيره لقوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}([57]) قال: “تنزيل لعلمهم منزلة الجاهل المقصّر في العصيان واستحقاق العقاب، وفيه المبالغة في الترك والإهمال ما لا يخفى، يعني إنّكم مع علمكم بأنّه الحق فقد نبذتموه وراء ظهوركم فلم تحرّموا حرامه ولم تحللوا حلاله، فصار الجحود أشد والعقاب أكثر”([58])، يظهر أنّه يعتمد على المعنى المستفاد من السياق لتوجيه الفائدة من المبالغة فـيفـهـم مـن سياق النص القرآني السابق المبالغة في تـرك ونبذ الكتـاب وعدم العمل بأحكامه.

5 ـ المبالغة في التنفير:

إنّ السيّد السبزواري بإيضاحه الأغراض التي أفادها أسلوب المبالغة، يؤكّد على أنّ الأساليب البلاغية لا ترد اعتباطاً في القران الكـريـم، وإنّما دائماً تكون لفائدة مرجوّة منها يتضح ذلك ممّا سبق، وفي المثال القرآني الآتي أوضح أنّه يفيد المبالغة في التنفير في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى}([59]) قال: “أي: لا تحبطـوا صـدقاتكم بـالمنّ والأذى فإنّ رذيلـة المنّ والأذى ومفسدتهما تذهبان فضيلة الإنفاق وتهـدمان الغايـة الشريفة منه، وفي الآيـة التأكيـد على الابتعـاد عـن هاتين الرذيلتين، والمبالغة في التنفير عنهما والحث على تركهما”([60]).

ويوجّه المبالغة إلى إفادة الغرض نفسه عند تفسيره لقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}([61])، قال: “تعليـل لمنع الأخـذ مـن مـال المرأة وإنكار آخر له، وإرجاع إلى الفطرة مبالغة في التنفير وهو من أحسن الأساليب البلاغية”([62]).

إنّ المبالغة أسلوب بلاغي أشار إليه صاحب المواهب يمتاز بالحسن وله أثر في إدراك القارئ المعنى القرآني، ففي الآية الكريمة المتقدمة أفاد الأسلوب المبالغة في التنفير، مما ينبّه الـنفس ويحثّهـا بـالرجوع إلى الفطرة، ويعلّـل المنع بأسلوب تستقر عند سماعه النفس.

6 ـ المبالغة في الوعيد والتهديد:

غرض آخر رصده صاحب المواهب إفادته المبالغة، كان ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: “{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}([63])، قال: “الجملة مبالغة في الوعيد والتهديد وهي أبلغ من (انتهوا) كما هـو واضح”([64])، وهذه المبالغة إفادتهـا صيغة الاستفهام فيفهم منها الوعد والتهديد إذ لم ينتهوا عن الصد عن ذكر الله، وهو يرى أنّها أبلغ من صيغة فعل الأمر (انتهوا).

ويرى أن في قوله تعالى: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}([65]) ألفاظاً عدّة تدل على المبالغة، قال: “في الآية القرآنية الشريفة وجـوه تـدلّ على المبالغة في الوعيـد والشدّة في العذاب فقـد ذكـر فيهـا القـول، والعذاب، والحريق، والذوق”([66])، ويرى أنّ أسلوب الالتفات يفيد المبالغة في التهديـد عنـد تفسيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}([67])، قال: “الالتفات في قوله {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إلى الخطـاب للمبالغة في التهديـد لأنّ تهديـد العظيم بالمواجهـة أشد”([68]).

وفي ضوء ما عرض من أمثلة نجد أنّ صاحب المواهب يتعمق في أسلوب المبالغة ولا يكتفي بالإشارة إلى مواضعه، وإنّما يتعدى ذلك إلى ذكر الأغراض البلاغية التي أفادها ضمن السياق القرآني، وفي تفسيره الكثير من تطبيقاته إلا أنّ ما ذكرناه يكفي دليلاً للإبانة عنها، وهي تغني عـن ذكر ما تجاوزت عنه، وأكتفي بالإشارة إليها([69]).

الالتفات

الالتفات من الأساليب البلاغية المعروفة، وهـو في اللغـة مـن تَلَفَّتَ إلى الشيء والتَفَتَ إليـه، صَرَفَ وجهَهُ إليه، ولَفّتَ وجهَهُ عـن القـوم: صَرَفَهُ والتَفَتَ التِفاتاً، ويقال: لَفُتَ فُلاناً عن رأيه، أي صرفته عنه ومنه الالتفات([70])

ونجـد أنّ الأصـمعي (ت: 216 هـ) مـن الـذين أشـاروا إلى مصطلح الالتفات، فقـد ذكـره ضـمن حديثه عـن شعر جرير لمّا سئل الأصمعي أحـد جلسائه قائلاً: “أتعرف التفات جرير؟ قلت: لا، فما هي؟ قال:

أتنسـى إذ تـودعنا سليـمى بفرعٍ بشامةٍ؟ سُقي البشامُ([71])

ألا تراه مقبلاً على شعره، ثمّ التفت إلى البشام فدعا له”([72]).

ووضع ابن المعتز الالتفات ضـمن محاسن الكلام وعرّفه بقوله: “هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار ومن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك، ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر”([73]).

وأخذ مفهوم الالتفات يخلط بغيره من المفاهيم بعـد ابـن المعتز، من مثل الاعتراض والرجوع([74]) والاستدراك([75]) والانصراف([76])، إلى أن جاء ضياء الدين بن الأثير فعالجه بوضـوح، وكـشـف عـن كـثيـر مـن أسـراره البلاغيـة، قـال: “وحقيقته مأخوذة عن التفات الإنسان عن يمينه وشماله فهو يقبل بوجهـه تـارة كذا وتارة كذا، وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة لأنّه ينتقل فيه من صيغة إلى صيغة، كانتقاله خطاب حاضر إلى غائب أو من خطاب غائب إلى حاضـر، أو مـن فـعـل مـاضٍ إلى مستقبل أو مـن مـستقبل إلى ماضٍ”([77])، وأطلق عليـه ابـن الأثير اسم “شجاعة العربية” وعلـل لهذه التسمية بقوله: “وإنّما سمّي بذلك لأنّ الشجاعة هي الإقدام وذلك أنّ الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره… كذلك هو الالتفات في الكلام، فإنّ اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات”([78]).

ولم يستقر أسلوب الالتفات ضمن أي من علوم البلاغة الثلاثة، إذ وضعه ابن المعتز ضمن البديع([79]) والزمخشري ضمن البيان([80]) أمّا السكاكي فقد وضعه ضمن علم المعاني، وقال عنه: “ويسمى هذا النقل التفاتاً عند علماء المعاني”([81])، وذكره مرّة أخرى في المحسنات المعنوية، ولكنّه لم يتكلم عليه واكتفى بأن قال: “وقد سبق ذكره في علم المعاني”([82]).

وقد علل ابن يعقوب المغربي (ت: ۱۱۱۰ هـ) هذا التردد وبيّن مكانه في كلّ علم، يقول: “فإن قلت: لأي وجه خصص تسميته بعلم المعاني مع أنّ عدّ الالتفات من البديع أقرب، لأنّ حاصل ما فيه أنّه يفيد الكلام ظرافة وحسن تطريه، فيصغى إليه لظرافته وابتداعه، ولا يكون الكلام به مطابقاً لمقتضى الحال، فلا يكون من علم المعاني فضلاً عن كونه يختص بهم فيسمونه به دون أهل البديع؟ قلت: أمّا كونه من الأحوال التي تذكر في علم المعاني فصحيح، كما إذا اقتضى المقام فائدته من طلب مزيد الإصغاء لكون الكلام سؤالاً أو مدحاً أو إقامة حجة أو غير ذلك، فهو من هذا الوجه من علم المعاني، ومن جهة كونه شيئاً ظريفاً مستبدعاً يكون من علم البدي”([83]).

وتابع السيّد السبزواري السابقين في هذا الاضطراب، فقد بيّن مرّة أنّه من علم البديع، قال: “فهو من محاسن الكلام وبدائعه”([84])، ثمّ قال: “وهو عند أهل المعاني والبديع على أنواع”([85]).

لذا ارتأيت أن أضعه ضمن مباحث علم البديع لتأكيد السيّد السبزواري بأنّه من محاسن الكلام وبدائعه، ولما ذكره ابن يعقوب المغربي فيه.

واعتنى صاحب المواهب بمبحث الالتفات اعتناء فائقاً، وتناول كلّ ما يدور حوله وعرّفه بقوله: “هو أسلوب كلامي يظهر غالباً في كلام العظماء والملوك عند تكلمهم في موضع واحد عن قضايا كثيرة، على حسب سعة نفوذ أمرهم وسلطانهم، فينتقلون من الحاضر إلى الماضي أو إلى المستقبل أو إلى الأمر والنهي وقضايا متعددة، فهو يدل على كثرة نفوذ كلام المتكلم وسعة مقصده… فهو من محاسن الكلام وبدائعه، ويهتم به الأدباء اهتماماً بليغاً”([86]).

وذكـر لـه شـروطاً ثلاثة، وذكر أنّهـا مشهورة عنـد الأدباء “أحدها: أن يكون الانتقال على غير ما يقتضيه الكلام الظاهر، أي أنّ مقتضى الظاهر أن يكون التعبير بغير الالتفات فينتقل إليه، ثانيهما: أن يكـون الـضمير المنتقل إليه عائداً في نفـس الأمـر إلى المنتقـل عنـه، بخلاف مـا إذا كـان كـل واحـد مـن الضميرين يرجع إلى واحد من اثنين، كما في قول (أنت صديقي)، ثالثهما: أن يكون في جملتين”([87]).

وقـد ذكـر الـشرط الأول السكاكي([88])، أمّا الشرط الثاني والثالث فقـد ذكرهما السيوطي([89]).

وقـسّم السيّد السبزواري الالتفات، وذكـر أنّ هـذا التقسيم كمـا هـو معروف عند أهل المعاني والبديع، وهو على أنواع:

الأول: تعقيب الكلام بجملة مستقلة بعدما فرغ المتكلم من المعنى، تتلاقى الجملة الأخيرة مع الأولى في المعنى، على طريق المثل أو الدعاء أو نحوهما.

الثاني: أن يذكر المتكلم معنى، فيتوهم أنّ السامع اعترض قلبه شيء فيلتفت في كلامـه ليـزيـل مـا وقـع في قلبـه مـن شـك أو نحـوه، ثمّ يرجع إلى مقصوده.

الثالث: التفات الضمائر.

الرابع: بناء فعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلّمه.

الخامس: الانتقال من المذكر إلى المؤنث أو العكس.

السادس: انتقال الخطاب من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجمع إلى الآخر.

السابع: التفات الأفعال.

الثامن: الانتقال في الكلام مـن كـلّ مـن المتكلم والخطاب والغيبة إلى آخر([90]).

وقد ذكر السيّد علي المدني النوع الأول والثاني([91])، أمّا الأنواع الستة الأخيرة فقد ذكرها السيوطي([92]).

وأكد السيّد السبزواري أنّ النوع الثامن ـ أي الالتفات في الكلام من كلّ من المتكلم والخطاب والغيبة إلى آخر ـ هو أشهر ما عرف عند علماء الأدب، ويكون على ستة أقسام:

الأول: من التكلّم إلى الخطاب، الثاني: من التكلّم إلى الغيبة، الثالث: من الخطاب إلى التكلّم، الرابع: من الخطاب إلى الغيبة، الخامس: من الغيبة إلى الخطاب، السادس: من الغيبة إلى التكلم([93])، وقد ذكر هذه الأنواع السكاكي والسيوطي والسيّد علي المدني([94]).

كان مبحث الالتفات المبحث الوحيد الذي اهتم به السيّد السبزواري على المستوى النظري، كما هو واضح ممّا سبق، ووقف عنده وهو يفسّر الآيات الشريفة مبيّناً الغـرض الـذي أفـاده ضـمن السياق الذي وقع فيه، ومن هذه الأغراض التي أشار إليها:

1 ـ تنبيه المخاطب:

أدرك السيّد السبزواري إفادة الالتفات هذا الغرض، ففي قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}([95])، يرى أنّ الالتفات من خطاب الجمع إلى هطاب المفرد ثمّ إلى الجمع ثمّ إلى المفرد، أفاد تنبيه المخاطب على ما في الآية الكريمة من أحكـام توجب الإصغاء إليها، قال: “التفات عن خطاب الجمع الوارد في قوله تعالى: {يَحِلُّ لَكُمْ}، وقوله تعالى: {فَلا تَعْتَدُوهَا} إلى خطاب المفرد في قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} ثمّ إلى الجمع بقوله تعالى: {فَلا تَعْتَدُوهَا} ثمّ إلى المفـرد في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، كـلّ ذلـك لتنبيـه المخاطـب ورفع الكسل في الإصغاء وتنشيط الذهن ليستعدّ لسماع الحكم من غير ملل”([96]).

وفي سياق قرآنـي آخـر، في قولـه تعـالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}([97]) رأى أنّ فيه “التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، إيماء إلى أنّ العذاب تحقق وقرب وقوعه، وللتنبيه والإيقاظ لهم على ما غفلـوا عنه”([98])، وإلى هذا الغرض أشار القزويني عند حديثه عن الالتفات، فرأى أنّه يفيد التنبيه على المخاطب إذ أنّه أولى بالقصد([99])، وتنبيه المخاطب من الأغراض الرئيسية التي تستفاد من الالتفات، لما فيه من تطرية وتجديد لذهن السامع حتّى لا يسأم من الإصغاء.

2 ـ التوبيخ:

وقد يفيد الالتفات التوبيخ، وذكر هذا الغرض السكاكي عند حديثه عن التفاتات امرئ القيس في شعره([100])، وأشار صاحب المواهب إلى هذا الغرض عند تفسير قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}([101]) يرى أنّ في قولـه تعـالى: “التفـات لغـرض التوبيخ والتقريـع”([102])، وقـد أثبـت هـذا الغرض لأنّه يتماشى مع السياق العام للآية الشريفة ومع ما تريد أن تؤديـه مـن معنى ليقدّره السامع بكلّ نحو يُشعر به المقام من الهول.

3 ـ التعظيم:

يعتقد السيّد السبزواري أنّ من الأغراض البلاغية التي يفيدها الالتفات التعظيم، وأفاد ذلك الغرض الالتفات عـن الـضمير إلى الظاهر وعـن الحضور إلى الغيبة في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}([103]) ففي جملة {مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} قال: “التفـات عـن الـضمير إلى الظاهر تفخيماً لهذه الدرجة والمنقبة وتعظيماً لهذه الفضيلة، ولأنّ التكليم إنّما يكون فضيلة عالية وخصلة سامية إذا كان مع عظيم”([104])، وفي جملة {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} قال: “فيهـا التفـات عـن الحضور إلى الغيبـة أيـضـاً تعظيمـاً وتفخيماً لهذه الفضيلة السامية حيث نسب الرفع إلى الله تعالى”([105]).

وأشار إلى الغـرض نفسه عنـد تفسيره لقـولـه تعـالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}([106]) رأى أنّ فيهـا: “التفـات مـن التكلم إلى الغيبة تعظيماً للمطيعين وتنويهاً بجلالة مقامهم ثمّ الرجوع إلى التكلم مع الغير الـذي بُـنـي الـكـلام عليـه في الآية الكريمـة للإشـارة إلى قـرب حضورهم”([107]).

فالسياق القرآني يتبدّل من خطاب إلى آخر لإفادة أغراض معينة من ضمنها التعظيم دون أن يؤثر ذلك على وحدة السياق أو خروجه عن المألوف في صياغة الكلام، إنّما هو ممّا يزيد الأسلوب جمالاً وتماسكاً فضلاً عن فائدته البلاغية.

4 ـ اللوم والعتاب:

أشار السيّد السبزواري إلى إفادة الالتفات لهذا الغرض في أكثر من موضع، وأشار إليه من البلاغيين القدماء السكاكي، فذكر العتاب في معرض حديثه عن المعاني التي يفيدها الالتفات([108]).

ويرى المفسّر أنّ هذا الغرض تحقق من الالتفات في قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}([109]) قال: “في الآية الشريفة التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) ولعلّه لأجل ما يلوح من الآية الشريفة اللوم والعتاب للمؤمنين لمّا ظهر من بعضهم من الوهن في العزائم والفشل في القتال”([110]).

ويرى أنّ الالتفات أفاد الغرض نفسه عند تفسيره لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}([111]) رأى أنّ فيها: “التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) لأنّ الخطاب يتضمن اللوم والعتاب لما صدر عنهم في أحد وقد استحقوا بسببه التوبيخ من النبي (صلّى الله عليه وآله) والتعنيف فقد فعلوا ما أوجب الهزيمة”([112]) فاللوم والعتاب يمثلان المعنى المراد إيصاله من الالتفات في الآيتين السابقتين فتحول الخطاب فيهما إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) بعد أن كان موجهاً إلى المؤمنين لأجل لومهم وعتابهم على التقصير الذي ظهر منهم، فقد خسروا الخطاب المباشر مع الله سبحانه وتعالى.

ويعتقد أنّ الالتفات أفاد تشديد اللوم في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}([113])، قال: “التفات من الغيبة إلى الحضور لتسجيل أفعالهم، وتشديد اللوم عليهم بعد تذكيرهم بالخلق والربوبية العظمى التي خصّ الإنسان بها من بين مخلوقاته البديع صنعه تعالى فيها”([114]).

وبملاحظة ما سبق نجد أنّ صاحب المواهـب يـصرّح عـن الغرض الذي، أفاده الالتفات وهو جزء ممّا يتضمنه الخطاب القرآني من معنى، والذي لا يخرج عن المعنى المراد من سياق الآيات الشريفة، بل إنّ هذا التحول في الخطاب يخدم المعنى، وهو من الأساليب البليغة.

5 ـ التسلية:

وهو من المعاني التي يفيدها أسلوب الالتفات، كما أكد السيّد السبزواري عند تفسيره لقوله تعالى: “ {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}([115]) قال: “التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول تسلية لقلبه الشريف عمّا كان يشاهده من بعضهم في أمر الإنفاق والصدقات، فأبلغه عزّ وجلّ بأنّه ليس عليك إيصالهم إلى الحق المطلوب ولم تكن أنت مسؤولاً عن ذلك”([116])، ورأى أنّ الغرض نفسه أفاده الالتفات في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}([117])، ذكر أنّ في الآية التفات من الغيبة إلى خطاب المؤمنين، بعـد ما نزلـوا منزلة الغيبة في أول الكلام، والعدول عنه في أثنائه ثمّ الرجوع إليهم في الخطاب معهم، وذلك لوجـوه بلاغية، منها التسلية لنبينا الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه ممّا كانوا يلاقونه من المشركين المعاندين من صروف البلاء وأنواع الأذى([118])، تلحظ ممّا سبق أنّ التسلية وجه بلاغـي أفاده أسلوب الالتفات بنظـر صـاحب المواهـب، وهـو ممّـا يـصرح به مباشرة مثلـه مثـل الأغراض الأخـرى الـتـي تفـهـم مـن سـياق الكـلام وقرائن الأحوال.

6 ـ الترغيب:

من معاني القرآن السامية هـو ترغيب المؤمنين ودفعهـم إلى فعل الخير، وغالباً لا يكـون التعبير عـن ذلك مباشرة، وإنّما باستخدام مختلف الأساليب البلاغية بحسب ما يتطلبه السياق، ومنها أسلوب الالتفات، وأشار صاحب المواهب إلى إفادة الالتفات معنى الترغيب عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}([119])، يرى أنّ في جملة {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} “التفات إلى الحاضرين ترغيباً لهم إلى الإيمان بالنبي (صلّى الله عليه وآله) الذي يبيّن ما أخذ عليهم من المواثيق”([120]) ويرى أنّ الالتفات أفاد المعنى نفسه عند تفسيره قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}([121]) رأى أنّ فيهـا: “التفـات مـن الغيبـة إلى الخطاب والتكلم، لبيـان كمـال العـطـف والاهتمام والاقتراب إلى المتعبدين، وفيه من الترغيب إلى فعل الخير”([122])، توضّح الأمثلة السابقة التي بينت الأغراض المستفادة من أسلوب الالتفات، إنّه من الأساليب البلاغية المهمة التي لها شأن في رفع مستوى الأسلوب فضلاً عمّا يؤدّيـه من معانٍ دون التصريح بها مباشرة، وهو من الأدب القرآني ومن جمال الخطاب الإلهي، وقد أكّد السيوطي أنّ كلّ موضع من مواضع الالتفات يختص بنكت ولطائف باختلاف محله([123]).

وهذا ما عمل عليه المفسّر، فلم يعدم الالتفات حقّه، إذ توسّع في ذكر كلّ ما يتعلق به، وقد أفرز أساليبه وبيّنها، وأشار إلى الفائدة منها في مواضعها من القرآن الكريم، وتعامل معه بذوق بلاغي رفيع.

المشاكلة

المشاكلة في اللغة: المشابهة والموافقة، يقال شاكله، أي: شابهه([124])، وفي اصطلاح البلاغيين “هي أن تذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته”([125]).

وللمشاكلة دورها في حسن التعبير وبلاغته، وهي من أنواع البديع التي أشار إليها السيّد السبزواري عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}([126])، قال: “والحال أنّ الله تعالى هو خادعهم، أي يجازيهم على خداعهم، وإنّما عبّر سبحانه وتعالى عن فعله بالخداع بالمشاكلة، وهو نوع من أنواع البديع، والسبب في ذلك أنّ الخديعة والمكر إنّما يستعملان في الشرور والمعاني المذمومة غالباً، وقد عبّر عنها في فعله عزّ وجلّ، وسنّته في خلقه فيهم مخادعة، لأنّهم أوقعوا أنفسهم فيما يضلون به أنفسهم وينتهي بهم إلى العقاب والنكال”([127]), إنّ صاحب المواهب لم يخرج عمّا أقره السكاكي في تعريفه أنّ سبحانه وتعالى عبّر بلفظ الخداع ونسبه إلى نفسه من باب المشاكلة، لأنّه وقع مصاحباً للفظ الخداع الحاصل من المنافقين.

ويبيّن أنّ إطلاق النفس على الله سبحانه وتعالى من المشاكلة عند تفسيره لقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ}([128])، قال: وإطلاق النفس عليه جلّت عظمته لحسن المشاكلة ومراعاة الفصاحة والبلاغة”([129])، وسبب المشاكلة لاختصاص لفظ النفس بالأجسام، ولقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}([130]) والموت محال بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى فهو الحيّ القيوم… فلا يمكن فهم إطلاق لفظ (نفس) عليه إلا على سبيل المشاكلة([131])، وأكد صاحب المواهب في موضع آخر إنّ المشاكلة من المحسّنات البلاغية عند تفسيره لقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}([132])، قال: “يستفاد من قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} كمال رحمته وسعتها وفضله العميم وجوده الواسع… ولعلّ ذكر اليد لأجل المشاكلة والمجارة، فاليهود نسبوا غلّ اليد إليه عزّ وجلّ، وهو تعالى نفاه عنه بمثل ما قالوا، وليس بذلك عادم النظير، بل هو من المحسّنات البلاغية، قال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}([133])، وعلى هذا لا يكون الاستعمال إلا لأجل المشاكلة والمجاراة”([134]).

لقد بيّن صاحب المواهب أنّ نسبة المكر إلى الله سبحانه وتعالى مشاكلة في اللفظ، وهو مثل قوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}([135])، وكذلك قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}([136])، فالمكر “لا يجوز نسبته إليه عزّ وجلّ لأنّه منزه عن المكر والخديعة فلا يطلق عليه تعالى إلا عن طريق المشاكلة”([137])، وهو يخالف الزمخشري الذي يرى أنّ الله شُبّه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة([138]).

وفي ضـوء مـا عـرض مـن الأمثلـة نجـد أنّ السيّد السبزواري يؤكـد أنّ المشاكلة من المحسّنات البلاغية، وإنّ فيها حسناً ومزايـا تفتقـد إذا مـا ذكـر اللفظ الحقيقي المعبّر عنه، وهي أسهمت في فهم التعبير القرآني كإيضاحها نسبة المكر والخداع إلى الله سبحانه وتعالى.

الاستخدام

يعدّ الاستخدام فنّاً من الفنون البديعية وأحد محسّناته المعنوية وقد حدّه القزويني بقوله: “وهو أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما، ثمّ بضميره معناه الآخر أو يراد بأحد ضميريه أحدهما وبالآخر الآخر”([139])، من هنا يتبين أنّ للضمائر دوراً هاماً في الاستخدام ولا بدّ أن يراد بالاسم الظاهر غير دلالة الضميرين وإلا كان أحدهما خارجاً من الاستخدام([140]) ورأى الدكتور بسيوني عبد الفتاح إنّ بلاغة الاستخدام تكمن فيما يحققه من الإيجاز وكذلك فيما يحققه من تنبيه المخاطب وايقاضه وإثارة فكره، فيكون المعنى أوقع في النفس وأبلغ وأقوى أثراً([141]).

وأشار السيّد السبزواري إلى الاستخدام في تفسيره، وعدّه من محسّنات الكلام ومن أساليب العرب المعروفة، ذكر ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً}([142]) فرأى أنّ الضمير في بعولتهنّ يرجع إلى بعض المطلقات على سبيل الاستخدام، هنّ الرجعيات دون جميع المطلقات، قال: “في قوله تعالى نوع من الاستخدام الذي هو من المحسّنات الكلامية وهو عبارة عن أن تكون الكلمة لها معنيان فيذكر أحدهما ثمّ يراد بالضمير الراجع إليها معناه الآخر، ففي المقام يراد من المطلقات العموم ـ الأعم من البائن والرجعي ـ ومن الضمير الراجع إليها قسم خاص منها، وهو من الأساليب المعهودة في كلام العرب وورد في القرآن الكريم كثيراً”([143]).

وأشار في موضع آخر إلى الاستخدام وهو يفسر قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}([144]) رأى أنّ الضمير المنصوب راجع إلى البلد أو الحرم على سبيل الاستخدام بقرينة قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً}([145])، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً}([146]) وقوله تعالى: {نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً}([147])، فبيّن الاستخدام بقرينة آيات سابقة، فيها الأمن صفة للحرم مرّة وللبلد مرّة أخرى([148]).

وفي قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}([149]) يرى أنّ: “اسم (ليس) في قوله تعالى مستتر فيها يعود على الوعد بالمعنى المصدري أو الموعود المستفاد من سياق الآية الشريفة فهو قسم من الاستخدام الذي هو من الأساليب البديعية المعروفة ومن محسّنات الكلام([150]).

يؤكد السيّد السبزواري أنّ الاستخدام من محسّنات الكلام في الأمثلة التي يتناولها، ويذكر كذلك وروده في القرآن الكريم كثيراً، وهذا يشير إلى أنّ القرآن الكريم قد جارى العرب في أساليبهم ولم يخرج عن نطاق استعمالاتهم، فهو نزل بلغتهم دائراً في مدار أساليبهم الفصيحة.

الإبهام

الإبهام لغةً من أُبهم، وأبهم الأمر: اشتبه، وكلام مُبهم: لا يعرف له وجه، وأن يبقى الشيء لا يعرف المأتى إليه، وأبهمت الباب أغلقته([151]).

أمّا في الاصطلاح فقد حدّ الرازي الإبهام بقوله: “هو أن يكون للفظ معنيان أحدهما قريب والآخر بعيد فالسامع يسبق فهمه للقريب مع أنّ المراد هو ذلك البعيد”([152])، وقد ذكر هذا الفن البديعي ابن أبي الإصبع المصري ولكن بمفهوم مختلف عمّا ذكره الرازي، إذ عرّفه بقوله: “هو أن يقول المتكلم كلاماً يحتمل معنيين متضادين، لا يتميز أحدهما عن الآخر، ولا يأتي في كلامه بما حصل به التمييز فيما بعد ذلك، بل يقصد إبهام الأمر فيه قصداً”([153]).

وذكر العلوي الإبهام وأفرد له فصلاً خاصاً ومثّل له من القرآن الكريم والسنّة الشريفة قال فيه: “إنّ المعنى المقصود إذا ورد في الكلام مبهماً، فإنّه يفيد بلاغةً، ويكسب إعجاباً وفخامةً، وذلك لأنّه إذا قرع السمع على جهة الإبهام، فإنّ السامع له يذهب في إبهامه كلّ مذهب”([154]).

وعرض صاحب المواهب إلى هذا اللون البلاغي في إثناء تفسيره للآيات الشريفة، ونظر بعين الدقة وسبر أغوار المعاني التي يمكن أن يفيدها الإبهام، ومنها أنّه يفيد التعظيم كما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}([155])، قال: “وفي إبهام الأجر واختيار اسم الجلالة للدلالة على عظم الأجر الذي لا يقدّر بقدر ولا يعلم كنهه ولا حقيقته إلا هو لأنّه من الذات المقدسة”([156]).

فدلّ إبهام الأجر على عظمته لأنّه من الله، وليس باستطاعة أحد أن يصل إلى ماهيّته، ومنه ما جاء في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}([157])، قال: “إنّما ذكر عزّ وجلّ {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}، وهو ذنب التولي والإعراض الذي هو ذنب عظيم، إيذاناً بأنّ لهم ذنوباً، فهذا واحد من جملتها، وإيماء بتغليط العقاب، فإنّه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم، فيهلكوا أو تسوء عاقبتهم، فيكون الإبهام لتعظيم ذنب التولي”([158]).

أكـد هـذا المثال أنّ الإبهام يفيد التعظيم ليذهب ذهـن السامع فيـه كـلّ مذهب ويكون أدعى للموعظة.

وقد يبهم الفاعل في السياق القرآني ويجيء الفعل بصيغة المبني للمفعول لبيان أمـرٍ مـا كـمـا جـاء في تفسير قولـه تعـالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}([159])، قال: “يؤت مبني للمفعول مجزوم بأداة الشرط، والحكمة مفعـول ثانٍ، وإنّما أبهم تعالى الفاعل مع أنّه معلوم ممّا تقـدم وهـو الله تعالى، لبيان أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير، فالحكمة والخير الكثير مقرونان، فمـن تلبّس بهـا فقـد حـظـي بـالخير الكثير، فـلا يحتاج الانتساب إلى الفاعـل في توصيفها به”([160])، فإبهام الفاعل في الآية الكريمة أريد منه بيان أهمية الحكمة وإنّهـا أصل الخير الكثير، وأشار أيضاً إلى إبهام الفاعل في قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}([161])، قال: “إنّما أبهم الفاعل في قوله تعالى {يُوَفَّ} لبيان أنّ الغرض من الانتفاع يعـود إلى الفاعلين للإنفاق وليس هناك فاعـل غيرهـم”([162])، أنّ إبهام الفاعل لأجل إفادة معنى أنّ فاعل الإنفاق هو المنتفع وهو الذي سيجازى به.

ومن الأغراض الأخرى التي أشار إليها صاحب المواهب التي تستفاد من الإبهام التخويف، وذكره عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}([163])، قال: “الناصب ليوم إمّا فعل محذوف تقديره (إذكر) على أنّه مفعول به، أو محذوف متأخر تقديره، ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، وترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف”([164])، أي أنّه عزّ وجلّ ترك ذكر ما يفعل بهم في يوم الحشر ليكون ذلك أقرب إلى التخويف حتّى يرتدوا عن فعل الذنوب.

وفي تفسير قولـه تعـالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}([165])، قال: “إبهام الشيء لبيان النهـي عـن كـلّ سـؤال يتعلـق بـأمر يتعلق الغرض بإخفائه، لكون الاطلاع على حقيقته يوقع الإنسان في المهلكة والشقاء”([166])، فالإبهام أرشد المؤمنين ونهاهم عن الأسئلة التي إن اطلعوا على حقيقتهـا تـؤدي بهـم إلى الـهـلاك لأنّهـا بعيـدة عـن تـصـورهـم وفـوق مستوى عقولهم.

نجد أنّ السيّد السبزواري يشير إلى الإبهام في مواضعه في القرآن الكريم، ويشير إلى بلاغته وأنّه أفصح في إيراد المقصود، وهـو يتابع العلـوي في وصفه للإبهام بأنّه من فنون البديع، وإذا نظر فيه حاذق بصير، وفكّر فيه المعيّ نحرير، وجـده مـع مـا قـد حـاز مـن البلاغة مشتملاً على مبانٍ جمّة، ونكت غزيرة، ومواعظ زاجرة على تقارب أطرافه وكثرة محاسنه وأوصافه([167]).


([1]) ينظر: لسان العرب، مادة (قبل): ۱۱ / ۲۱.

([2]) نقد الشعر: ۱۳۳.

([3]) کتاب الصناعتين: ۳۳۷.

([4]) ينظر: المصدر نفسه: ۳۹۹.

([5]) كتاب العمدة: 2 / 12.

([6]) مفتاح العلوم: 660.

([7]) المصباح: ۲۱۱.

([8]) ينظر: علم البديع، د. عبد العزيز عتيق: ۸۰.

([9]) آل عمران: الآيتان / 26 ـ 27.

([10]) مواهب الرحمن: 5 / ۲۲۲ – ۲۲۳.

([11]) آل عمران: الآية / 167.

([12]) الفتح: الآية / 11.

([13]) مواهب الرحمن: 7 / 55.

([14]) ينظر: الطراز: ۳۸۷.

([15]) آل عمران: الآيتان: 56 ـ 57.

([16]) مواهب الرحمن: 5 / 395.

([17]) ينظر: نقد الشعر: 133، وينظر: كتاب الصناعتين: 33، وينظر: مفتاح العلوم: 160.

([18]) آل عمران: الآيات / 196 ـ ۱۹۷ ـ ۱۹۸.

([19]) مواهب الرحمن: 7 / 206.

([20]) البقرة: الآية / 276.

([21]) مواهب الرحمن: 4 / 431.

([22]) البيت من الطويل للنابغة الذبياني، ينظر: ديوانه: ۱۱.

([23]) مواهب الرحمن: 11 / 437.

([24]) المائدة: الآية / 59.

([25]) ينظـر: مواهـب الـرحمن: 9 / 315، 9 / 316، 8 / 63، 11 / ۲۰۱، ۱۳ / ۱۱۰، ۱۳ / 324، 13، 328، 14 / 323.

([26]) ينظر: لسان العرب، مادة (بلغ): 1 / 486.

([27]) ينظر: البديع: 65.

([28]) نقد الشعر: 150.

([29]) کتاب الصناعتين: 365.

([30]) التلخيص في علوم البلاغة: 94.

([31]) ينظر: المصدر نفسه: 95.

([32]) ينظر: خزانة الأدب وغاية الأرب: ابن حجة الحموي: 8 ـ 16.

([33]) ينظر: علم البديع: ۸9.

([34]) ينظر: التلخيص: 94، وينظر: شرح عقود الجمان، السيوطي: 122.

([35]) ينظر: المبالغة في البلاغة العربية (تاريخها، مصادرها)، علي سرحان القرشي: 156.

([36]) ينظر: مواهب الرحمن: 5 / ۳۸۱، ۷ / 402.

([37]) ينظر: المصدر نفسه: ۱۰ / ۸ ـ ۹.

([38]) المصدر نفسه: ۱۰ / ۹.

([39]) المائدة: الآية / 82.

([40]) مواهب الرحمن: 12 / 134.

([41]) المائدة: الآية / 70.

([42]) مواهب الرحمن: 12 / 56.

([43]) البقرة: الآية / 84.

([44]) النور: الآية / 61.

([45]) مواهب الرحمن: 1 / 437.

([46]) البقرة: الآية / 197.

([47]) مواهب الرحمن: 3 / 175.

([48]) المائدة: الآية / 2.

([49]) النور: الآية / 31.

([50]) مواهب الرحمن: ۱۰ / ۲۹۱.

([51]) المائدة: الآية / 116.

([52]) مواهب الرحمن: 12 / 437 ـ 438.

([53]) المائدة: الآية / 116.

([54]) مواهب الرحمن: ۱۲ / 439.

([55]) البقرة: الآية / 83.

([56]) مواهب الرحمن: 1 / 434.

([57]) البقرة: الآية / 101.

([58]) مواهب الرحمن: 1 / 482.

([59]) البقرة: الآية / 264.

([60]) مواهب الرحمن: 4 / 366.

([61]) النساء: الآية / 21.

([62]) مواهب الرحمن: 7 / 402.

([63]) المائدة: الآية / 91.

([64]) مواهب الرحمن: ۱۲ / ۲۱۷.

([65]) آل عمران: الآية / 181.

([66]) مواهب الرحمن: 7 / 124.

([67]) آل عمران: الآية / 180.

([68]) مواهب الرحمن: ۷ / ۱۲۹.

([69]) ينظر: المصدر نفسه: 1 / 566، ۲ / ۲۷، ۳ / ۳۸۱، 4 / 7، 5 / 90، 6 / 59، ۸ / 175، 11 / 80، 11 / 127، 12 / 416، 13 / 178، 14 / 20.

([70]) ينظر: لسان العرب، مادة (لفت): ۱۲ / ۳۰۱.

([71]) البيت من الوافر لجرير، ينظر: ديوانه: 417.

([72]) کتاب الصناعتين: 392، وينظر: اعجاز القرآن: ۹۹.

([73]) كتاب البديع: 58.

([74]) ينظر: نقد الشعر: 146، وينظر: كتاب الصناعتين: 392، وينظر: اعجاز القرآن: ۹۹.

([75]) ينظر: العمدة: 2 / 45.

([76]) ينظر: البديع في نقد الشعر: ۲00.

([77]) المثل السائر: ۲ / ۱۸۱.

([78]) المصدر نفسه: ۲ / ۸۱.

([79]) ينظر: البديع: 58.

([80]) ينظر: الكشاف: 1 / 56.

([81]) مفتاح العلوم: 395.

([82]) المصدر نفسه / 668.

([83]) مواهب الفتاح: 1 / 466.

([84]) مواهب الرحمن: 2 / 168.

([85]) المصدر نفسه: 2 / 169.

([86]) المصدر نفسه: 2 / 168.

([87]) المصدر نفسه: 2 / 169.

([88]) ينظر: مفتاح العلوم: ۳۹۲.

([89]) ينظر: الاتقان: ۳ / ۲۲۱.

([90]) ينظر: مواهب الرحمن: 2 / 169 ـ 179.

([91]) ينظر: أنواع الربيع، السيّد علي المدني: ۱ / ۲۸۰.

([92]) ينظر: الاتقان: ۳ / ۲۱۷ ـ ۲۲۲.

([93])ينظر: مواهب الرحمن: ۲ / ۱۷۰ ـ ۱۷۱.

([94]) ينظر: مفتاح العلوم: 400 ـ 403، وينظر: الاتقان: ۳ / ۲۱۷ ـ ۲۲۰، وينظر: أنوار الربيع: 1 / 363 ـ 375.

([95]) البقرة: الآية / 229.

([96]) مواهب الرحمن: 4 / 17.

([97]) النساء: الآية / 151.

([98]) مواهب الرحمن: ۱۰ / ۱۱۹.

([99]) ينظر: التلخيص: ۲۷.

([100]) ينظر: مفتاح العلوم: 402.

([101]) آل عمران: الآية / 106.

([102]) مواهب الرحمن: 6 / ۲۱۷.

([103]) البقرة: الآية / 253.

([104]) مواهب الرحمن: 4 / 182.

([105]) المصدر نفسه: 4 / 183.

([106]) النساء: الآية / 122.

([107]) مواهب الرحمن: 9 / 315.

([108]) ينظر: مفتاح العلوم: 402.

([109]) آل عمران: الآية / 121.

([110]) مواهب الرحمن: 6 / 283.

([111]) آل عمران: الآية / 159.

([112]) مواهب الرحمن: 7 / 6.

([113]) الانعام: الآية / 2.

([114]) مواهب الرحمن: ۱۳ / ۲۲.

([115]) البقرة: الآية / 272.

([116]) مواهب الرحمن: 4 / 392.

([117]) البقرة: الآية / 214.

([118]) ينظر: مواهب الرحمن: ۳ / ۳۰۲ ـ ۳۰۳.

([119]) البقرة: الآية / 84.

([120]) مواهب الرحمن: 1 / 436.

([121]) البقرة: الآية / 197.

([122]) مواهب الرحمن: 3 / 176 ـ 177.

([123]) ينظر: الاتقان: ۳ / ۲۱۷.

([124]) ينظر: لسان العرب: مادة (شكل): 7 / 176.

([125]) مفتاح العلوم: 661.

([126]) النساء: الآية / 142.

([127]) مواهب الرحمن: 10 / 48.

([128]) المائدة: الآية: 116.

([129]) مواهب الرحمن: 7 / 141.

([130]) آل عمران: الآية / 185.

([131]) ينظر: مواهب الرحمن: 7 / 141.

([132]) المائدة: الآية / 64.

([133]) آل عمران: الآية / 54.

([134]) مواهب الرحمن: 11 / 476.

([135]) النمل: الآية / 50.

([136]) الأعراف: الآية / 99.

([137]) مواهب الرحمن: 5 / ۳۸۳.

([138]) ينظر: الكشاف: 2 / 126، وينظر: 3 / ۳۷۷.

([139]) الايضاح: ۲۰۲.

([140]) ينظر: البلاغة وقضايا المشترك اللفظي، د. عبد الواحد حسن الشيخ: 224.

([141]) ينظر: علم البديع. د. بسيوني عبد الفتاح فيود: 185.

([142]) البقرة: الآية / 228.

([143]) مواهب الرحمن: 4 / 16 ـ 17.

([144]) آل عمران: الآية / 97.

([145]) إبراهيم: الآية / 35.

([146]) العنكبوت: الآية / 67.

([147]) القصص: الآية / 57.

([148]) ينظر: مواهب الرحمن: 6 / 164.

([149]) النساء: الآية / 123.

([150]) مواهب الرحمن: 9 / 344.

([151]) ينظر: لسان العرب، مادة (بهم): 1 / 524، وينظر: معجم مقاييس اللغة: 1 / 311.

([152]) نهاية الإيجاز في دراية الاعجاز: 148.

([153]) تحرير التحبير: 566.

([154]) الطراز: 240.

([155]) النساء: الآية / 100.

([156]) مواهب الرحمن: 9 / ۱۹۳.

([157]) المائدة: الآية / 49.

([158]) مواهب الرحمن: 11 / 314.

([159]) البقرة: الآية / 269.

([160]) مواهب الرحمن: 4 / 385.

([161]) البقرة: الآية / 272.

([162]) مواهب الرحمن: 4 / 394.

([163]) الأنعام: الآية / 22.

([164]) مواهب الرحمن: 13 / 152.

([165]) المائدة: الآية / 101.

([166]) مواهب الرحمن: ۱۲ / ۲۸۰.

([167]) ينظر: الطراز: 241.

الجناس

الجنس لغةً: الضرب من كلّ شيء، وهو من الناس والطير، والعروض والأشياء عامّة، والجمع أجنـاس وجنـوس، والجنس أعـمّ مـن النـوع، ومنـه المجانسة والتجنيس([1])، والجناس فن من فنون البديع اللفظيّة، وجعله ابن المعتز ثاني أنواع البديع الخمسة التي عدّها في كتابه البديع، وعرّفه بقوله: “التجنيس هو أن تجيء الكلمة تجانس أخرى في بيت شعر أو كلام، ومجانستها لها أن نشبهها في تـأليف حروفهـا”([2])، وسمّـاه الرمّـاني التجانس، وقال: “تجانس البلاغة هو بيان بأنواع الكلام الذي يجمعه أصـل واحـد في اللغة، والتجانس على وجهين: مزاوجة ومناسبة”([3])، وذكر الحاتمي المجانسة وقال: “هي اتفاق اللفظ واختلاف المعنى”([4])، وقسّم أسامة بن منقذ (ت: 548 هـ) الجناس على ثمانية أجناس، وهي: التجنيس المغاير، والتجنيس المماثل، وتجنيس التصحيف، وتجنيس التحريـف، وتجنيس التـصريف، وتجنـيس الترجـيح، وتجنـيس العكس، وتجنيس التركيب([5]).

وأشار السيّد السبزواري إلى الجناس عند تفسيره الآيات المشتملة عليه، فضلاً عن بيان نوعه، كما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}([6])، حيث بيّن أنّـه مـن تجنيس التحريف، قال: “في قوله تعالى: ينهـون وينأون من التجنيس البديع وأنّه من تجنيس التحريف، وهو أن تنفرد كلّ كلمة عن الأخرى بحرف، فينهون انفردت بالهاء، وينأون بالهمزة”([7]).

ثمّ ذكر التجانس اللفظي وهو يفسر قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}([8])، قال: “تسمية ذلك بالاستهزاء مـن بـاب التجانس اللفظي فقط، كما في قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}([9]) وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}([10])، فإنّ جزاء الظلم ليس بظلم”([11]).

وتابع صاحب المواهب الرماني وأبا هلال العسكري في عدّ الازدواج قسم من الجناس([12])، ونلحظ ذلك عند تفسيره قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}([13])، قال: “إنّما عبـّر سـبحانه وتعالى بالاعتداء من باب المجانسة اللفظية والازدواج في الكلام وإلا فليس ذلك اعتداء”([14])، فهو يؤكد أنّ الجناس من محسّنات الفصاحة والبلاغة، وهو معروف بين علماء الأدب، وهـو عبـارة عـن إتيان لفظين متّحـدي المعنى في الجملـة مـع اتصاف أحدهما بالحسن، والآخر بالقبح، فإنّ الاعتداء الأول قبيح، والثاني حسن، لأنّه من دفع الظلم والعدوان([15]).

ويرى أنّ في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ}([16])، جناساً حسناً، لأنّه لا يمكن أن يسمّى قتال المسلمين للكفار عدواناً مع أنّه حق، إنّما هو من باب المجانسة، فلأنّهـم في مقام الاعتداء فسمى جزاء الاعتداء اعتداء، أي أنّ أصل العدوان إنّما وقع عليهم بفعلهم([17]).

يلحظ ممّا تقـدم أنّ المفسّر لم يكتف بالوصف في طرحه البلاغي، إنّما كان محللاً ومعللاً للاستعمال القرآني للجناس، وأشار إلى أنّـه مـن الفـون البديعية الحسنة، على الرغم من قلّة إشاراته إلى مواضعه.

فالجناس له دور مهم في تحسين الكلام إذا لم يكن متكلّفاً، ويزيده حلاوة وجمالاً إذا جرى مجرى الطبع([18])، فالجناس كما كشفت أمثلته التي تعامل معها السيّد السبزواري لا يقف عند حدود الشكل، إنّما يتجاوز ذلـك ليـؤثّر في نسبة إدراك المعنى وتحليل الخطاب القرآني وفهمه وفق ضـوابط السياق التي ينتج عنهـا المعنى، وهـذا يفسّر نسبة ألفـاظ (الخداع، الاعتداء، الاستهزاء) إلى الله تعالى، وهي نسبة غير حقيقية.

رد العجز على الصدر

يعد ابن المعتز أوّل من تكلّم عن هذا الفن البديعي اللفظي، فقـد عدّه في كتابه أحد فنـون البديع الخمسة الكبرى، وسمّاه رد إعجاز الكلام على من تقدمها([19])، وسمّاه أبو هلال العسكري رد الإعجاز على الصدور، قال: “إنّ لرد الإعجـاز علـى الـصدور موقعـاً جليلاً من البلاغة، وله في المنظـوم محـل خطير”([20])، وجاء فخر الدين الرازي ليسمّيه رد العجز على الصدر، ويعرّفه بقوله: “هو كلّ كلام وجد في نصفه الأخير لفظ يشبهه لفظاً موجوداً في نصفه الأول”([21])، ورأى القزويني أنّ رد العجـز علـى الـصـدر يـرد في النثر والشعر على السواء، قال: “هو في النثر أن يجعل أحد اللفظين المكرّرين أو المتجانسين أو الملحقين بهما في أول الفقرة والآخر في آخرها، وفي النظم أن يكون أحدهما في آخـر البيـت والآخـر في صـدر المصراع الأول أو حشوه أو آخـره أو صـدر الثاني”([22]).

ولم يخف هذا الفن البديعي عن ملاحظة صاحب المواهب، إنّما أشار إليه في المواضع المناسبة وعدّه من بديع الأسلوب ومن المحسنات وسمّاه بإرجاع ختم الكلام إلى بدئه عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}([23])، قال: “إرجاع ختم الكلام إلى بدئه وهو من محسّنات البيان، فقد سبق أن ذكّر سبحانه وتعالى بني إسرائيل أنـواع نعمه، وهنـا خـتـم بتـذكيرهم لـهـا أيـضـاً لتتمّ الحجـة علـيهـم أو غـير ذلـك مـن المصالح”([24])، لقـد بيّن السيّد السبزواري في تفسيره للآية الكريمة دلالة أول الكلام على آخره وارتباط آخره بأوله في تذكير بني إسرائيل نعمه لمصالح عدّة، منها التأكيد على إتمام الحجة عليهم.

وفي موضع آخر أطلق عليه اسم رجوع الذيل إلى الصدر، وهـو يعـرض لقوله تعالى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}([25])، قال: “إنّ السبب في نفي الخيرية عنهم أنّهم اختلفوا ولم يجتمعوا على الإيمان والثبات عليه، فكـان هـذا الذيل راجعاً إلى صدر الآيات التي أمرنا فيها بالاعتصام بحبل الله والاجتماع، فيرجع الذيل إلى الصدر، وهـذا مـن بـدايع الأسلوب، كما فيه التأكيد على أهمية الاجتماع ونبذ الافتراق”([26])، بيّن أنّ رد العجز على الصدر فضلاً عن أنّه من بديع الأسلوب قد أفاد التوكيد لمعنى سابق، وهو إشارة إلى قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}([27])، والسبب لأنّ الاجتماع له أهمية في حفظ أركان المجتمع، فأشار عزّ وجلّ إليه في بـدء الكـلام أكد عليه عند ختمه لتأكيد المعنى، وأكّـد في موضع آخر أنّه من الأساليب الحسنة في الكلام عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}([28])، قال: “إنّما جمع الله سبحانه وتعالى بين طاعـة الله وطاعـة الرسول لبيان أنّ طاعته طاعة الله تعالى وإنّهما أصلان يكمّل أحدهما الآخر ولا سبيل للتفكيك بينهما ولتأكيد مضمون قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}([29])، فرجع الختام إلى ما بدء به الكلام وهو من الأساليب الحسنة في الكلام”([30]).

وفي ضـوء مـا تقـدم نجـد أنّ السيّد السبزواري يشير إلى أنّ هـذا الفـن البديعي من الأساليب الحسنة، وهو يفيد أيضاً توكيد مضمون الجملة التي بدأ بها الكلام، وبهذا يكون قد أثبت غرضاً مهماً لرد العجز على الصدر، فليس الغاية منه تحسين الكلام فقط، بل تجاوز الشكل وأفاد التأكيد، أي: إنّ جملة العجز مؤكّدة لمضمون جملة الصدر.

براعة الاستهلال

الاستهلال لغةً من: أهلّوا الهلالَ واستهلّوه: رفعوا أصواتهم عند رؤيته، وأهلَّ الصبي واستهلَّ إذ رفع صوته بالبكاء، وجئته عند مهلّ الشهر ومستهلّه، وما أحسن مستهلّ قصيدته: مطلعها([31]).

وقد درس علمـاء البديع هـذا المصطلح وأطلقـوا عليـه تسميات عدّة، كحسن الابتداء أو براعة المطلع فضلاً عن براعة الاستهلال، وقد عدّ ابن المعتز (حسن الابتداءات) من محاسن الكلام وضرب الأمثلة على ذلك واختارها من الشعر العربي، إلا أنّه لم يضع له حدّاً ولم يعلّق عليه([32]).

ويرى أبـو هـلال العسكري أنّ الابتداء إذا كـان حـسناً بديعاً، ومليحاً رشيقاً، كان داعيةً إلى الاستماع لما يجيء بعـده مـن الكـلام([33])، وخصّه العلـوي بفصل خاص اسماه (في المبادي والافتتاحات) ويرى أنّه: “ركـن مـن أركان البلاغة، وحقيقته آئلة إلى أنّه ينبغي لكل من تصدّى لمقصد من المقاصد وأراد شرحه بكلام أن يكون مفتتح كلامه ملائماً لذلك المقصد دالاً عليه”([34]).

ولم يخـف هـذا الفـن البـديعي علـى صـاحب المواهـب، وإنّما لاحقـه بالإشارة إليه عند تفسيره الآيات الكريمة، وبالذات عند مفتتح السور الشريفة، وأكّد أنّه لون معروف في علم البديع، فرأى أنّ ابتداء سورة المائدة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}([35])، من أجمل براعة الاستهلال، قال: “لعل الابتـداء بالدعوة إلى الوفـاء بـالعهود وحفـظ المواثيـق، وتخصيص الخطاب بالمؤمنين وذكرهم في مفتتحها وفوزهم بشرف النداء الربوبي، لأنّهم استعدّوا بعد الجولة الطويلة معهم له، وعرفوا عظيم الأمر في بقاء الشريعة الختمية وحفظها من كيد الأعداء والضياع، مع أنّ ذلك من أجمل براعة الاستهلال المعروفة في علـم البـديع، لأنّ فيهـا تلقين النفوس وترويضها علـى قبـول هـذا الحكم الإلهي، لأنّه من كمال الدين وإتمام النعمة”([36]).

وقد ردّ صاحب المواهب على صاحب الكشاف بخصوص الآية الكريمة، قال: “استظهر الزمخشري وتبعه آخرون أن يكون المراد عقود الله تعالى عليهم في دينه مـن تحليـل حلاله وتحريم حرامه، لما فيه من براعة الاستهلال، ومن التفصيل بعد الإجمال([37])، ولا يخفى إنّما ذكره وان كـان وجيهاً، إلا أنّه لا ينافي التمسك بعموم اللفظ، والحكم بأنّه يعمّ جميع ما ألزمه الله تعالى على عباده وعقد عليهم من التكاليف والأحكام وما يعقدونه بينهـم مـن العقـود والعهـود وغيرها ممّا يجب الوفاء بها فإنّ به يجمع بين ما يقتضيه اللفظ من الوجوه الأدبية البلاغية، ومن المقصود من ظاهر الكلام”([38]).

يدعو السيّد السبزواري ويؤكّد على مراعاة الوجـوه الأدبية والبلاغية عند تفسير القرآن الكريم، ومن براعة الاستهلال يستفاد أنّ المقصود من الآيـة الكريمة عموم التكاليف والأحكام والعقـود والعهـود، لا كما يرى الزمخشري من أنّها عقود الله عزّ وجلّ في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه.

وأكّد أيـضاً أنّ من براعة الاستهلال افتتاح السور الكريمة بما يتضمّن المقصود منها من نعم ظاهرية ومعنوية وغيرها، وكان اللفظ موجزاً والأسلوب جزلاً، فإنّ ذلك يكـون في غاية الحسن، بيّن ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}([39])، قال: “مفتتح سورة مباركة احتـوت مـن أصـول المعارف أعلاها وأزكاها، ومن العلوم الربانية أسناها وأعظمهـا، ففيهـا التوحيد بأدلته وبراهينه القويمة، وصفات الواحد الأحـد بأجزل الأسلوب وأعـذب بيان يتقبّله الطبع المستقيم وتشتاق إلى مضامينه القلوب على اختلاف طبايعها… فكانت الغايـة في حسن براعـة الاستهلال لتضمّنها المقصود والوسيلة والأداة، بـأوجز عبـارة وأجزل أسلوب”([40]).

وأوضح المعنى السابق نفسه ـ أي أنّ مـن براعـة الاستهلال أن يكـون مفتتح السورة متضمّناً ما فيها، كأنّه خلاصةٌ لها ـ وذلك عنـد تفسيره الآيات الأولى من سورة آل عمران وهو قوله تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}([41])، قال: “في الآيات المتقدمة براعة الاستهلال تتضمّن خلاصة ما يذكر في هذه السورة المباركة، فقد أثبت سبحانه وتعالى مهام صفاته العليا وأورد عزّ وجلّ ذكر الكتب الإلهية وحذّر الكافرين من أفعالهم وأوعـدهم بالعذاب الشديد، ثمّ ذكر ما هو بمنزلة العلّة لما ورد في المقدمة وأرشـد المـؤمنين إلى تذكّر آلاء الله تعالى وصفاته العليـا الـتـي بهـا يـدوم العـالم وينتظم نظـام الخلق”([42]).

وأشار إلى براعة الاستهلال عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}([43]).

قال: “يـدل قولـه تعـالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} على عظـيـم فـضـل الرسالة وشرفها الكبير، إذ خاطب الله عزّ وجلّ بها أعز خلقـه وأحبهم إليه، وذكرهـا بالخصوص مع تعدد الأوصاف الكمالية لنبيّنا الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بتبليغ ما أوحي إليـه، فكـان فيـه براعة الاستهلال بأحسن أسلوب وأعذبه، ولاشتماله على الحنان والمحبة من لدن الحكيم الخبير لرسوله الكـريـم فـلا يبالي بما سيحدث من القوم، فإنّ الكامل لا يتأثّر بفعل الناقص”([44]).

رأى صاحب المواهب أنّ الخطاب بصفة الرسول لأجل ما تضمّنته الآية من التبليغ، فهو برهان على وجوب تبليغه، فهـو أمر مهـم يخصّ هـذا الـدين الذي تمّ تبليغه بأتمّ وجه، فكان الابتداء بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} فيه من براعة الاستهلال بأسلوب حسن وعذب.

وهو يتفق مع من كان قبله من علماء البلاغة، فالقزويني رأى أنّ جميع فواتح السور واردة على أحسن وجوه البلاغة وأكملها يظهر ذلك بالتأمّل فيهـا مع التدبّر([45])، ورأى ياسين النصير أنّ للاستهلال وظيفتـان، الأولى: جلـب الانتباه ويتمّ بأدوات كلامية حسنة، وبأسلوب تعبير مثير، أمّا الوظيفة الثانية: هي التلميح بأيسر القول عمّا يحتويه النص([46]) وقد أوضح المفسّر كلا الـوظيفتين عند إشارته إلى براعة الاستهلال كما هو واضح من الأمثلة السابقة.

أكّد صاحب المواهب من خلال ما مرّ في الإشارة إلى براعة الاستهلال على فواتح السور محاولاً إضاءتها والتنويه على ما فيهـا مـن لفتات بلاغيـة ومـا تضمنته مـن معـانٍ هـي خلاصةٌ لما في السور الكريمة أو أنّهـا تتضمن المقصود منها.

الاعتراض

وقف كثير من البلاغيين المتقدّمين عند الاعتراض، فقد وضعه أبـو هـلال العسكري ضمن فنون البديع، وحدّه بقوله: “هو اعتراض كلام في كلام لم يتمّ، ثمّ يرجع إليه فيتمّه”([47])، وأفرد العلوي فصلاً خاصاً به وعرّفه بقوله: “هـو كـلّ کلام أدخل في غيره أجنبي بحيث لو أُسقط لم تختل فائدة الكلام”([48])، وهـو يـرى أنّ الاعتراض يدخل لفائدة أو غير فائدة، وإنّ كتاب الله تعالى منزّه عن مثل هذا الاعتراض الذي ليس منه فائدة، لأنّه غير لائق بالكلمات البليغة([49])، وعرّفه ابن الناظم بقوله: “هو أن تأتي في أثناء الكلام بكلام يفيد: أمّا رفع الشك والاغناء عن تقـدير السؤال، وأمّا تقرير المعنى وتوكيـده”([50])، فهـو قـد خـصّ الاعتراض بفائدتين فقط، وهو خلاف ما أثبته العلوي من فوائد متعددة له([51]).

وتابع صاحب المواهب العلوي في رأيه من أنّ الاعتراض في القرآن الكريم لا يكـون إلا لفائدة، ونلحظ ذلك بصورة واضحة عند إشارته للأغراض التي يفيدها في كل موضع من مواضعه في القرآن الكريم، وهو يرى أنّه من الأساليب البلاغية المستحسنة عنـد البلغـاء والفصحاء، وقـد ذكـر ذلـك عنـد تفسير الآيـة الكريمة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([52])، رأى أن قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} كلام معترض جاء لفائدة واستدل على ذلك من سياق الآية الكريمة قال: “سياق الآية الكريمة يدل على أنّها جملة معترضة أُقحِمت في ضمن الآية الكريمة المباركة التي نزلت لبيان محرمات الطعام، ومن عادة القرآن الكـريـم أنّه إذا أراد بيان أمر من الأمور التي لها أهمية خاصّة أدرجه في ضمن الآيات الكريمة لحكم متعددة، ويعتبر ذلك أسلوباً بلاغياً مستحسناً عند البلغاء والفصحاء”([53]).

ثمّ يعطي مثالاً يختلف عن المثال الأول يؤكّد فيه أنّ الجملة الاعتراضية ترد في السياق القرآني لبيـان قـضية مهمة مـن مثـل عصمة أهـل البيت، في قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}([54])، قال: “إنّ الآيات الشريفة نزلت في شأن نساء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، إلا أنّ قوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} جملـة معترضـة ذات دلالة مستقلة لا تتوقف على بقية الآية الشريفة تبين قضية مهمة، وهي عصمة أهـل بيـت النبي الذين قرن الله طاعتهم بطاعته”([55])، ثمّ يعود بعد إيراد هذا المثال إلى المقام الأول لإيضاح فائدة الاعتراض وأهميته، قال: “في المقام: صـدر الآية المباركة يدلّ على حرمة الميتـه وبقيـة محرمات الطعام، وذيلـهـا يـدل على حليتهـا حـال الاضطرار والمخمصة، مجموع الصدر والذيل لـه وحـدة دلالية كاملة متناسقة لا تتوقف على شيء آخر، فيكون قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ…} كلاماً معترضاً أُقحِم في الآية الكريمة، ولا تتوقف دلالة أحدهما على الأخرى، فكل واحد منهما له دلالته الخاصة، ويبيّنان أمرين، أحدهما محرمات الطعام، والثاني كمال الدين وتمامه وظهوره على الشرك كلّه، وأنّه لا مطمع لأعداء هذا الدين في زواله ويؤيد ذلك أنّ أغلب الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية الشريفة تخص قولـه تعـالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ…} بالذكر ولم تتعرّض لصدر الآية المباركة ولا لذيلها، فيستفاد أنّ له نزولاً مستقلاً عـن نـزول الآية الشريفة، فإنّما وضع في وسط الآية لحكم”([56]).

وفق ما قاله السيّد السبزواري نجد أنّه يعيّن الجملة المعترضـة بعـد أن يؤكّد مخالفتها للسياق الذي وردت فيه محللاً ومعلّلاً ذلك، ومستنداً أيضا على روايات أسباب النزول ثمّ يـذكر بعد ذلك فائدتها التي تكـون ـ كما في المثال السابق ـ لإبراز أمر هام كالعصمة وكإكمال الدين، وإتمام النعمة، وهي من الأمور التي لها أهمية خاصة، فمجيئها ضمن سياق قرآني آخر كان لأجل إظهار هذه الفائدة.

وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}([57])، يرى أنّ جملة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} اعتراضية أفادت تعظيم شأن المولود، قال: “الجملة معترضة مقولة له عزّ وجلّ… والمراد من الجملة تعظيم شأن المولود، أي: إنّ الله تعالى هو الذي خلقها وصوّرها وهو أعلم بما تحمل من الأسرار وعظائم الأمور التي ربما لا تكون تلك ممكنة في المولود الذكر الذي كانت ترجوه والأم غافلة عن جميـع ذلـك، فـلـو كـانـت عالمـة بـذلك لما أظهـرت التحـزّن والتحسّر في وضعها أنثى”([58]).

فهو أشار إلى ما أشار إليه العلوي من أنّ الاعتراض يفيد التعظيم عند كلامه عن الفائدة التي تليق بالبلاغة، وقد استشهاد على ذلك ببعض الأمثلة من القرآن الكريم([59]).

ومن فوائد الاعتراض تقرير المعنى وقد ذكر ذلك كل من العلوي([60])، وابـن الناظم([61])، وأشار صاحب المواهب إلى هذه الفائدة عند تفسيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}([62])، حيث رأى إنّ جملة: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}، “اعتراضية مقرّرة لما سبق لعفـوه تعـالى، الذي يشمل جميع ما فرط منهم من الأسئلة التي كانت توجب المشقّة والضيق، فرحمهم عنها بغفرانه”([63]).

وأكد السيّد السبزواري أنّ الجملة الاعتراضية يؤتى بها لغرض التوكيد، وهـو بـذلك يـرى مـا يـراه ابـن النـاظـم الـذي جعـل التوكيـد مـن فـوائـد الجملـة الاعتراضية([64]) وكـشـف عـن ذلـك عنـد تـفـسيره لقوله تعالى: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}([65])، فعـد قوله تعالى: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} “جملة اعتراضية بين أقوال الكائدين جيء بها للتأكيد على عدم أضرار كيدهم بمن لطف به الله تعالى، ولتثبيت إيمان المؤمنين، وللتعجيـل في تقريعهم، والاهتمام ببيان فساد ما ذهبوا إليه، وتسفيهاً لآرائهم”([66]).

يظهر ممّا سبق أنّ المفسّر قد اهتم بمبحث الاعتراض، يلحظ ذلك من خلال تعيين مواضعه مع الإشارة للفائدة المتحققة منه في كلّ موضع، فمجيء جملة اعتراضية بين جمل مترابطة يشدّ بعضها بعضاً وحدة كلامية لا يكون إلا لغرض معيّن، فهو لا يرد اعتباطاً ضمن السياق القرآني إلا لأجل معانٍ سامية.

يستفاد ممّا تقـدم مـن إشارات السيّد السبزواري إلى فنـون البديع المعنوية واللفظية أنّها من الفصاحة والبلاغة، وأنّ دورهـا يتعدى حدود الشكل وتحسين الكلام، إنّما مع هذه الفائدة لها فوائد بلاغية كما لمباحث علمي المعاني والبيان، وهذا يؤكّد النظرة الحديثة لعلم البديع، كما جاء في قول الدكتور ناصر حلاوي: “النظرة إلى المحسّن البديعي على أنّه ظاهرة عرضية زائدة لم تعـد أمراً مقبـولاً في ضوء المفاهيم اللغوية الحديثة”([67]).

يكشف هذا أنّ فنون البديع من ضمن الأدوات التعبيرية المهمة التي تشكّل في النهاية مع أدوات أخرى سياق الكلام المؤثّر، الغني بالمعنى في اللغة العربية ولا يؤتى به لأجل تزيين وتجميل العبارة فقط.


([1]) ينظر: لسان العرب، مادة (جنس): ۲ / ۳۸۳.

([2]) کتاب البديع: 25.

([3]) النكت في اعجاز القرآن: 91.

([4]) حلية المحاضرة: 1 / 146.

([5]) ينظر: البديع في نقد الشعر: ۱۲ ـ ۳۲.

([6]) الأنعام: الآية / 26.

([7]) مواهب الرحمن: ۱۳ / ۱۷۹ ـ ۱۸۰.

([8]) البقرة: الآيتان / 14 ـ 15.

([9]) الشورى: الآية / 40.

([10]) البقرة: الآية / 194.

([11]) مواهب الرحمن: ۱ / ۱۳۲.

([12]) ينظر: النكت في إعجاز القرآن: 91، وينظر: كتاب الصناعتين: 260.

([13]) البقرة: الآية / 194.

([14]) مواهب الرحمن: 3 / 144.

([15]) ينظر: المصدر نفسه: 3 / 153 ـ 154.

([16]) البقرة: الآية / 193.

([17]) ينظر: مواهب الرحمن: 3 / 143.

([18]) ينظر: فن الجناس (بلاغة ـ أدب ـ نقد)، د. علي الجندي: 15.

([19]) ينظر: كتاب البديع: 47، وينظر: علم البديع، د. عبد العزيز عتيق: 215.

([20]) کتاب الصناعتين: 385.

([21]) نهاية الإيجاز: 62.

([22]) التلخيص: 104.

([23]) البقرة: الآية / 122.

([24]) مواهب الرحمن: 1 / 580.

([25]) آل عمران: الآية / 110.

([26]) مواهب الرحمن: 6 / 245.

([27]) آل عمران: الآية / 103.

([28]) النساء: الآية / 69.

([29]) النساء: الآية / 59.

([30]) مواهب الرحمن: 9 / 6.

([31]) ينظر: أساس البلاغة، الزمخشري: 2 / 551.

([32]) ينظر: كتاب البديع: 75.

([33]) ينظر: كتاب الصناعتين: 437.

([34]) الطراز: ۳۳۰.

([35]) المائدة: الآية / 1.

([36]) مواهب الرحمن: ۱۰ / ۲۸۰.

([37]) ينظر: الكشاف: 1 / 635.

([38]) مواهب الرحمن: 10 / 285.

([39]) الأنعام: الآية / 1.

([40]) مواهب الرحمن: 13 / 5 ـ 7.

([41]) آل عمران: الآيات / 1 ـ 6.

([42]) مواهب الرحمن: 5 / 4 ـ 5.

([43]) المائدة: الآية / 67.

([44]) مواهب الرحمن: ۱۲ / ۲۳.

([45]) ينظر: الايضاح: 244.

([46]) ينظر: الاستهلال (فن البدايات في النص الادبي): ۲۲ ـ ۲۳.

([47]) کتاب الصناعتين: 394.

([48]) الطراز: ۲۸۳.

([49]) ينظر: المصدر نفسه: 286 .

([50]) المصباح: ۲۲۸.

([51]) ينظر: الطراز: 283 ـ 286.

([52]) المائدة: الآية / 3.

([53]) مواهب الرحمن: 10 / 341.

([54]) الأحزاب: الآيات / 32 ـ 34.

([55]) مواهب الرحمن: 10 / 341.

([56]) مواهب الرحمن: 10 / 341 ـ 342.

([57]) آل عمران: الآية / 36.

([58]) مواهب الرحمن: 5 / ۲۸9.

([59]) ينظر: الطراز / 284 .

([60]) ينظر: المصدر نفسه: 284.

([61]) ينظر: المصباح: ۲۲۸.

([62]) المائدة: الايتان: ۱۰۱ ـ ۱۰۲.

([63]) مواهب الرحمن: 12 / 285.

([64]) ينظر: المصباح: ۲۲۸.

([65]) آل عمران: الآية / 73.

([66]) مواهب الرحمن: 6 / 64.

([67]) البلاغة العربية، البيان، البديع: 119.

القرآن الكريم

* الإتقان في علوم القرآن: لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي (ت: 911 هـ) ضبطه وصححه وخرّج آياته: محمّد سالم هاشم، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة فخر الدين (د ـ ت).

* أثر النحاة في البحث البلاغي: د. عبـد القـادر حسين، دار قطـري بـن الفجاءة للنشر والتوزيع، الدوحة ـ قطر، ط1، 1986 م.

* أساس البلاغة: جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري (538 هـ)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط3، 1985 م.

* أساليب بلاغيـة (الفصاحة، البلاغة، المعـاني) د. أحمـد مطلـوب، دار غريب للطباعة 1980 م.

* أساليب البيان في القرآن: سيّد جعفر الحسيني، مؤسسة الطباعة والنشر (طهران) ط1، 1413 هـ .

* أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين: د. قيس إسماعيل الاوسي، مطبعة بيت الحكمة بغداد، ۱۹۸۸ م.

* الاستهلال، فن البدايات في النص الأدبي: ياسين النصير، مطبعة دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد، ط۱، ۱۹۹۳ م.

* أسرار البلاغـة: عبـد القـاهر الجرجـاني (ت: 471 هـ)، شـرح وتعليـق الـدكتور محمّد عبـد المـنعـم خـفـاجي، مكتبـة القـاهرة، ط3، 1399 هـ ـ ۱۹۷۹ م.

* أصـول البيـان العربي، رؤيـة بلاغيـة معاصـرة: د. محمّد حـسين علـي الصغير، مطبعة دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986 م.

* الأصول في النحو: لأبي بكر بن السرّاج، تحقيق: د. عبد الحسين الفتلي، النجف ۱۹۷۳ م.

* إعجاز القرآن: لأبي بكـر محمّد بـن الطيـب الباقلاني (ت: 403 هـ)، تحقيق: السيّد أحمد صقر، دار المعارف بمصر، القاهرة، ط3، (دـ ت).

* ألطـاف البـاري مـن نفـحـات الإمـام الـسبزواري: السيّد عبـد الـستار الحسيني، مطبعة الكوثر ط3، 2004 م.

* أنوار الربيع في أنواع البديع: السيّد علي صدر الدين بن معصوم المدني (ت: ۱۱۲۰ هـ) حققه وترجم لشعرائه: شاكر هادي شكر، مطبعة النعمان ـ النجف الأشرف، ط1، 1388 هـ ـ 1968 م.

* الايضاح في علوم البلاغة: لجلال الدين محمّد بن عبد الرحمن الخطيب القزويني (ت 739 هـ) مطبعة محمّد علي صبيح وأولاده، مصر، ۱۳۹۰ هـ ـ 1971م

* بحث حول الدعاء: السيّد عبد الأعلى السبزواري: مكتبة دار المهذب، النجف الأشرف سوق الحويشي، ط1، 1425 هـ .

* بحوث المؤتمر الأول للإعجـاز القرآني المنعقد ببغـداد، ۱۹۹۰ م، مطبعـة الأمة، بغداد 1410 هـ ـ 1990 م.

* البديع: عبد الله ابن المعتز (ت: 296 هـ)، اعتنى بنشره وتعليق المقدمة والفهارس: اغناطيوس كراتشفوفسكي، مطبعة المثنى، (د. ت).

* البديع في ضـوء أساليب القرآن: د. عبد الفتـاح لاشين، دار المعارف، القاهرة، ط1، ۱۹۷۹ م.

* البديع في نقـد الـشعر: أسامة بن منقـذ (ت: 548 هـ)، مكتبة المثنى ـ بغداد (د ـ ت).

* بديع القرآن: ابن أبي الاصبع المصري (ت: 654 هـ)، تقـديـم وتحقيق: د.حنفي محمّد شرف، مكتبة نهضة مصر بالفجالة، القاهرة، ط1، 1957 م.

* البرهـان في علـوم القـرآن: بـدر الـدين محمّد بـن عبـد الله الزركشي (ت:794 هـ)، قدم له وعلّق عليه: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، 1408 هـ ـ 1988 م.

* البلاغة: لأبي العباس محمّد بن يزيد المبرد (ت: 285 هـ)، تحقيق: رمضان عبد التواب مكتبة الثقافة، ط2، 1985 م.

* البلاغـة تـطـوّر وتـاريخ: د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط6، (دـ ت).

* بلاغة الصورة القرآنية، الجماليات والتجليات: د. صادق سعد شبلي، دار البراق ـ القاهرة (د ـ ت).

* البلاغة العربية: د. سعد سليمان حموده، دار المعرفة الجامعية، 2005 م.

* البلاغة العربية (البيان والبديع): د. ناصر حلاوي، د. طالب محمّد الزوبعي، مطبعة جامعة بغداد ـ بغداد، ۹۹۱ م.

* البلاغة العربية بين التقليد والتجديد: د. محمّد عبد المنعم خفاجي، د. عبد العزيز شرف، دار الجيل ـ بيروت، ط1، 1412 هـ ـ 1992 م.

* البلاغـة العربيـة في ضـوء الأسلوبية ونظريـة الـسياق، د. محمّد بركـات حمدي أبو علي، دار وائل للنشر، الأردن ـ عمان، ط1، ۲۰۰۳ م.

* البلاغة عند الجاحظ: د. أحمد مطلوب، دائرة الشؤون الثقافية والنشر، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1403 هـ ـ 1983 م.

* البلاغـة عنـد السكاكي: د. أحمد مطلوب، منشورات مكتبة النهضة، مطبعة دار التضامن ـ بغداد، ط1، 1384 هـ ـ 1964 م.

* البلاغة الغنية: علي الجندي، مطبعة نهضة مصر، الفجالة، القاهرة (د ـ ت).

* البلاغة والأسلوبية: د. محمّد عبـد المطلـب، الهيـأة المصرية للكتـاب،  1984 م.

* البلاغة والتطبيق: د. أحمد مطلوب، د. کامل حسن البصير، الجمهورية العراقية، ط1 1402 هـ ـ 1982 م.

* البلاغة وقضايا المشترك اللفظي: د. عبد الواحد حسن الشيخ، مؤسسة شباب الجامعة الاسكندرية، 1986 م.

* بناء الصورة الفنية في البيان العربي: د. كامـل حـسن البصير، مطبعـة المجمع العلمي العراقي ـ بغداد، 1407 هـ ـ 1987 م.

* البيان والتبيين: لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت: 255 هـ)، تحقيـق وشـرح عبـد السلام محمّد هـارون، مكتبة الخانجي ـ القاهرة ـ مصر، ط5، 1405 هـ ـ 1985 م.

* البيان العربي (دراسة في تطور الفكرة البلاغية عند العرب ومناهجها ومصادرها الكـبرى): د. بـدوي طبانـه، دار العـودة ـ بيروت، ط5، ۱۹۸۲ م.

* تاريخ البلاغة العربية: د. عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، ۱۹۷۰ م.

* تأويـل مشكل القـرآن: لابـن قتيبه، عبـد الله بن مسلم، شرحه ونشره: السيّد أحمد صقر المكتبة العلمية، بيروت ـ لبنان، ط1، ۱۹۸۱ م.

* تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيـان إعجـاز القرآن: لابـن أبـي الاصبع المصري (ت: 654 هـ)، تقديم وتحقيق: د. حنفي محمّد شـرف، مطابع شركة الاعلانات الشرقية القاهرة، 1383 هـ ـ 1963 م.

* تطور البحث الدلالي (دراسة في النقد البلاغي واللغوي): د. محمّد حسين علـي الـصغير دار الكتـب العلميـة ـ بغـداد، ط1، 1408 هـ ـ ۱۹۸۸ م.

* تطور دراسات إعجاز القرآن وأثرها في البلاغة العربية: د. عمر الملا حويش، مطبعة الأمانة ـ بغداد، ۱۹۷۲ م.

* التعبير القرآني (رؤية بلاغية نقدية): د. شفيع السيّد، دار الفكر العربي، 1402 هـ ـ 1982 م.

* التعبير القرآني: د. فاضل صالح السامرائي، ساعدت جامعة بغداد على نشره 1986 م ـ ۱۹۸۷ م.

* التعريفات: لأبي الحسن علي بن محمّد بـن علي الجرجاني (740 هـ)، تحقيق: إبراهيم الابياري، دار الكتاب العربي: 1985 م.

* التفسير الكبير: فخر الدين الرازي، منشورات دار التفسير، قم ـ ايران، ط3، (د.ت).

* تلخيص التمهيـد (مـوجز دراسات مبسطة عـن مختلـف شـؤون القـرآن الـكـريـم): محمّد هـادي معرفـة، مؤسسة النشر الاسلامي، قم، ط2)، 1422 هـ .

* التلخيص في علوم البلاغة: لجلال الدين محمّد بن عبد الرحمن الشافعي الدمشقي المعروف بالخطيب القزويني، حقّقه وشرحه وأعد فهارسه: د. عبد الحميد هنداوي منشورات محمّد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، ط1، 1418 هـ ـ 1997 م.

* تهذيب السعد ترتيب لكتاب (مختصر المعاني): مسعود بن عمر بن عبد الله سعد الدين التفتازاني (ت: 791 هـ)، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة الحجازي مصر ط3، 1950 م.

* جامع البيـان عـن تأويـل القـرآن: لأبي جعفـر محمّد بـن جرير الطبري (ت: ۳۱۰ هـ) حققـه وعلّـق عليـه: محمـود محمّد شـاكر، راجعـه وخـرّج أحاديثه: أحمد محمّد شاكر، ط۲، دار المعارف بمصر، ۱۹۷۱ م.

* الجامع الكبير في صناعة المنظـوم من الكلام والمنثور: لأبي الفتح ضياء الدين بن الاثير تحقيق: د. مصطفی جواد و د. جميل سعيد، مطبوعات المجمع العلمي العراقي 1375 هـ ـ 1956 م.

* جرس الألفاظ ودلالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب: د. ماهر مهدي هلال دار الحرية للطباعة، بغداد، ط1، ۱۹۸۰ م.

* جمال السالكين، العالم الرباني السيّد عبد الأعلى السبزواري: السيّد حسين بجيب محمّد منشورات دار التفسير، قم ـ ايران، ط1، 1385 هـ .

* جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع: أحمد الهاشمي، دار احياء التراث العربي بيروت ـ لبنان (د ـ ت).

* حلية المحاضرة في صناعة الشعر: لأبي علي محمّد بن الحسن بن المظفر الحاتمي تحقيق: د. جعفر الكتاني، دار الرشيد للنشر، بغداد، ۱۹۷۹ م.

* الحيوان: لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق وشرح: عبـد سـلام هارون، مطبعة مصطفى الباب الحلبي وأولاده، القاهرة، ط2، 1362 هـ ـ 1943 م.

* خزانة الأدب وغاية الإرب: تقي الدين أبي بكر علي المعروف بابن حجة الحموي (ت: ۸۳۷ هـ)، شرح: عصام شعيتو، دار الهلال ـ بيروت، دار البحار، 2004 م.

* الخصائص: لأبي الفتح عثمّان بن جني (ت: ۳۹۲ هـ): تحقيق: محمّد علي النجار، نشر دار الكتاب العربي، بيروت ـ لبنان، (د ـ ت).

* دراسات بلاغية ونقدية: د. أحمد مطلوب، دار الرشيد للنشر، بغداد، ۱۹۸۰م.

* دلائل الإعجـاز في علـم المعـاني: لعبـد القـاهر الجرجاني (ت: 471 هـ)، صحح أصـله الشيخ محمّد عبـده، والشيخ محمّد محمـود التركـزي الشنقيطي، وعلّق على حواشيه السيّد محمّد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان. 1398 هـ ـ ۱۹۷۸ م.

* ديوان امرؤ القيس: تحقيق: محمّد أبـو الفـضل ابراهيم، دار المعارف، ط3، 1969 م.

* ديوان جرير: دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، 1379 هـ ـ 1960م.

* ديوان شعر ذي الرمّة، غيلان بن عتبة العدوي: عُني بتصحيحه وتنقيحه كارليل هنري هيس مكارتني، طبع على نفقة كلية كمبريج، ۱۹۱۹ م.

* ديوان النابغة الذبياني: جمع وتحقيق: الشيخ محمّد الطاهر ابـن عاشـور، الشركة التونسية للتوزيع ـ الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1976 م.

* الرمزية في الأدب العربي: د. درويش الجندي، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة القاهرة (د ـ ت).

* الروض المربع في صنع البديع، ابن البناء المراكشي العـددي، تحقيق: رضوان بنشقرون دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1985 م.

* سر الفصاحة: لأبي عبد الله بن محمّد بن سعيد بن سنان الخفاجي (ت: 466 هـ) شـرح وتصحيح: عبد المتعال الصعيدي، مكتبة ومطبعة محمّد علي صبيح وأولاده. 1969 م.

* شرح ابن عقيـل: لقاضي القضاة بهاء الدين عبد الله بن عقيل (ت: 769 هـ) على ألفية الإمام أبي عبد الله محمّد جمال الدين بن مالك (ت: ۷۷۲ هـ)، ومعه كتاب منحة الجليل، بتحقيق شرح ابن عقيل: محمّد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة أمير، قم (دـ ت).

* شرح ديوان العجاج، تحقيق: د. عزة حسن، لبنان، ۱۹۷۱ م.

* شرح عقـود الجمان في علـم المعـاني والبيان: لجـلال الـدين السيوطي، مطبعة البابي الحلبي وأولاده، 1358 هـ ـ 1939 م.

* شروح التلخيص في علـوم البلاغة: لجـلال الـدين الخطيـب القـزويني، تحقيق: محمّد هاشم دويدري، القاهرة، 1937 م.

* الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها: أبو الحسين أحمد بن فارس (ت: 395 هـ) حقّقه وقدّم له: مصطفى الشويمي، مطبعة مؤسسة بدران، بيروت ـ لبنان (د ـ ت).

* صفحة من حياة الامام السبزواري: السيّد محمّد حسن الطالقاني، مطبعة الكوثر النجف ـ العراق، ط1، 1425 هـ .

* الصورة الفنية في المثل القرآني: د. محمّد حسين علي الصغير، دار الرشيد للنشر، بغداد ۱۳۷۳ هـ ـ1981 م.

* الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز، يحيى بن حمزة العلوي (ت: 749 هـ)، مراجعة وضبط وتدقيق: محمّد عبـد السلام شاهين، دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان ـ ط1، 1415 هـ ـ 1995 م.

* عبد القاهر الجرجاني، بلاغته ونقده: د. أحمد مطلوب، بيروت ـ لبنان، ط1، ۱۳۹۳ هـ ـ ۱۹۷۳ م.

علم البديع: د. عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ط۲، ۱۹۷۰ م.

* علـم البيـان: دراسـة تاريخيـة فنّيـة في أصـول البلاغـة العربيـة: د. بـدوي طبانه، مطبعة مكتبة الانجلو المصرية، ط۲، ۱۳۹۷ هـ ـ ۱۹۷۷ م.

* علم البيان (دراسة تحليلية لمسائل علـم البيـان): د. بسيوني عبد الفتاح فيّود، دار المعارف الثقافية، الاحساء، ط۲، 1418 هـ ـ 1998 م.

* علم المعاني: د.عبد العزيز عتيق، دار الآفاق العربية، 1424 هـ ـ 2004 م.

* علـم المعاني (دراسة بلاغية ونقديـة لمسائل علـم المعاني): د. بسيوني عبد الفتاح فيّـود دار المعارف الثقافية، الاحساء للنشر والتوزيع، ط2، ۱۹۹۸ م.

* علم المعاني ودلالات الأمر في القرآن الكـريم دراسة بلاغية: د. مختار عطية، دار الوفاء للطباعة والنشر، الاسكندرية، جمهورية مصر العربية، 2004 م.

* العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده: لأبي الحسن بن رشيق القيرواني (ت: 456 هـ) تحقيـق: محمّد محيـي الـدين عبد الحميد، بيروت ـ لبنان، 1401 هـ ـ 1981 م.

* عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، جمال الدين أحمد بن علي بن الحسين الأصغر الـداوودي الحسني (ت: ۸۲۸ هـ)، مـن منشورات المكتبة الرضوية، النجف ـ العراق، ۱۳۳۷ هـ ـ 1918 م.

* عيار الشعر: أحمد بن طباطبا العلوي (ت: (۳۲۲ هـ)، شرح وتحقيق: عباس عبد الساتر، ومراجعة: نعيم زرزور، منشورات محمّد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، ط2، 1426 هـ، 2005 م.

* فن الجناس (بلاغة ـ أدب ـ نقد)، د. علي الجندي، دار الفكر العربي، مصر، 1954 م.

* الفن الرمزي: هيغل، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط1، ۱۹۷۹ م.

* الفوائـد الـضيائية شـرح كافيـة ابـن الحاجب: نـور الـديـن عبـد الـرحمن الجامي (ت: 898 هـ) دراسة وتحقيق: د. أسامة طـه الرفاعي، مطبعـة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، العراق ط۲، 1403 هـ ـ 1983 م.

قواعد الشعر: ثعلب (ت: 29۱ هـ) شرحه وعلّق عليه محمّد عبد المنعم خفاجي مطبعة الباب الحلبي، ط1، 1948 م.

* الكـافي: لثقـة الإسـلام الكليني (ت: 329 هـ) دار الكتـب الاسلامية، طهران، ط4، 1365 هـ .

* الكامل في اللغة والأدب: لأبي العباس محمّد بـن يزيد المبرد، تحقيق: د. زكي مبارك، مكتبة ومطبعة الباب الحلبي، القاهرة، ط1، 1936 م.

* الكتاب: لأبي بشر عمرو بن عثمّان بن قنبر الملقب بسيبويه (ت: 180 هـ) تحقيق وشرح: عبد السلام محمّد هارون، عالم الكتب، بيروت، ط3، 1403 هـ ـ ۱۹۸۳ م.

* كتاب الصناعتين الكتابة والشعر: لأبي هلال الحسن بـن عبـد الله سهل العسكري (ت: 395 هـ) تحقيق: علي محمّد البجاوي ومحمّد أبـو الفضل ابراهيم، دار احياء الكتب العربية، ط1، 1952 م.

* الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر بن محمّد الزمخشري (ت: 538 هـ) حقّقه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي بيروت ـ لبنان، ط2، 1421 هــ 2001 م.

* لسان العرب: جمال الدين أبي الفضل محمّد بن مكرم المعروف بابن منظور (ت: ۷۱۱ هـ)، دار احياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت ـ لبنان، ط۳، (د ـ ت).

* اللغة العربية، معناها ومبناها: د. تمام حسّان، عالم الكتب، القاهرة، ط3، 1418 هـ ـ ۱۹۹۸ م.

* المبادئ العامّة لتفسير القرآن الكـريـم: د. محمّد حسين علي الصغير، مطبعة مكتبة الرواد بغداد، ۱۹۸۲ م ـ ۱۹۸۳ م.

* المبالغة في البلاغة العربية (تاريخها، مصادرها): علي سرحان القرشي، مطبعة المعارف بغداد، ط1، 1969 م.

* المثـل الـسائر في أدب الكاتـب والـشاعر: لـضيـاء الـديـن ابـن الأثـير (ت: 637 هـ)، قدّم له وحقّقه وشرحه وعلّق عليه: د. أحمد الحوفي و د. بدوي طبانه، دار الرفاعي، الرياض ط2، 1984 م.

* مجاز القرآن: لأبي معمر بن المثنى (ت: 2۰۹ هـ)، تحقيق: د. محمّد فؤاد سزكين، دار الفكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1970 م.

* مجمع  الأمثال: لأبي الفضل أحمد بن محمّد بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري الميداني (ت: 518 هـ)، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، ط۲، ۱۳۷۹ هـ ـ 1959 م.

* مجمع البيان في تفسير القرآن: للشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي صححه وحقّقه وعلّق عليه الحاج السيّد هاشم الرسول المحلّاني، دار احياء التراث العربي، بيروت لبنان، ۱۳۷۹ هـ .

* مستدرك الوسائل: المحدّث النـوري (ت: ۱۳۲۰ هـ)، الناشر مؤسسة آل البيت، قم، ط1 1408 هـ .

* المشجر الـوافي في السلسلة الموسـوية: حسين السيّد علـي أبـو سـعيدة الموسوي، مطبعة الجاحظ، بغداد، 1426 هـ ـ 1996 م.

* المصباح في المعاني والبيان والبديع، لأبي عبد الله بدر الدين بن مالك الدمشقي الشهير بـابن النـاظم (ت: 686 هـ) تحقيـق: د. عبـد الحميـد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، ط1، 1422 هـ ـ 2001 م.

* المطوّل، شرح تلخيص المفتاح: للعلامة سعد الدين مسعود بـن عمـر التفتازاني (ت: 792 هـ)، صححه وعلّـق عليـه: أحمـد عـزّو بمانه، دار احياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، ط1، 1425 هـ ـ 2004 م.

* المعاني في ضـوء أسـاليب القـرآن: د. عبـد الفتـاح لاشين، طبعـة دار المعارف، مصر، ط۳، ۱۹۷۸ م.

* معاني القرآن: لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء (207 هـ)، تحقيق: أحمد يوسف نجاتي محمّد علي النجار، طهران، (د ـ ت).

* معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: د. أحمد مطلوب، مطبعة المجمع العلمي العراقي 1406 هـ ـ 1986 م.

* معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق وضبط: عبـد الـسلام محمّد هـارون، مكتبـة الاعـلام الإسلامي، قم، 1404 هـ .

* مع المقدس السبزواري في قبسات من مواهبه: السيّد محمّد تقي الحجار، منشورات مكتبة المهذب، النجف العراق، 1420 هـ .

* مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: لأبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن هشام الأنصاري (ت: 761 هـ)، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة، (د ـ ت).

* مفتـاح العلـوم: لأبـي يعـقـوب يـوسـف بـن محمّد بـن عـلـي الـسكاكي (ت: 626 هـ)، تحقيق: أکرم عثمّان يوسف، مطبعة دار الرسالة، بغداد، ط1، 1402هــ ـ ۱۹۸۲ م.

* المقتصر في شرح الايضاح: لعبد القاهر الجرجاني، تحقيق: د. کاظم بحر المرجان منشورات وزارة الثقافة والاعلام، الجمهورية العراقية، 1982 م.

* المقتضب: لأبي العباس محمّد بن يزيد المبرد، تحقيق: محمّد عبد الخالق عضيمه، القاهرة 1386 هـ .

* من أسرار البلاغة: د. محمّد السيّد شيخون، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط1، 1404 هـ ـ 1984 م.

* من بلاغة القرآن الكريم: أحمد أحمد بدوي، مطبعة دار نهضة مصر، القاهرة 370 هـ ـ 1950 م.

* من بلاغة النظم العربي (دراسة تحليلية لمسائل علـم المعاني): د. عبد العزيز عبد المعطي عرفه، بيروت ـ لبنان، ط2، 1405 هـ ـ 1984 م.

* منهج السيّد عبد الأعلى السبزواري في التفسير: د. عبدالرؤوف عبد الغفور النجف، العراق، (د ـ ت).

* مواهـب الـرحمن في تفسير القـرآن: للـسيّد عبـد الأعلى الموسـوي السبزواري، نشر دار التفسير، مطبعة شريعت، ط۲، 1428 هـ ـ ۲۰۰۷ م.

* مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح: لأبي العباس أحمد بن محمّد أبي يعقـوب المغربي (ت: 1110 هـ)، تحقيق: د. خليـل إبـراهيم خليـل، منشورات محمّد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، ط1، 1424 هـ ـ 2003 م.

* الميزان في تفسير القرآن: محمّد حسين الطباطبائي، دار الكتب الإسلامية، طهران ـ إيران ط۲، ۱۳۸۹ هـ .

* نقد الشعر: لأبي الفرج قدامه بن جعفر الكاتب البغدادي (ت: ۳۳۷ هـ)، تحقيق: كمال مصطفى، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط3، (د.ت).

* النكت في إعجاز القرآن: للرماني (ت: 386 هـ)، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني، حقّقها وعلّـق عليها: محمّد خلف الله ومحمّد زغلول سلام، دار المعارف بمصر، ط1، 1986 م.

*  نهاية الأرب في فنـون الأدب: لشهاب الـديـن أحمـد بـن عبـد الوهـاب النويري (ت: 733 هـ) تصحيح: أحمد الزين، دار الكتب، وزارة الثقافة والارشاد القومي، المؤسسة المصرية العامّة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، (د ـ ت).

* نهاية الإيجاز في دراية الاعجاز: محمّد بن عمر فخر الدين الرازي، تحقيـق وتقديم: د. إبراهيم السامرائي و د. محمّد بركات حمدي أبو علي، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان ـ الأردن، 1985 م.

* الوساطة بين المتنبي وخصومه: للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت: ۳۹۰ هـ) تحقيق، محمّد أبـو الفـضـل إبراهيم وعلي محمّد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، (د ـ ت).

الرسائل الجامعية

* البحث البلاغي في تفسير الميزان، رياض خلف خزي المرشدي، رسالة ماجستير، قدمت إلى مجلس كلية التربية / جامعة القادسية، 1427 هـ ـ 2006 م.

* المصطلح البلاغي عند ابن أبي الاصبع المصري في كتابيه تحرير التحبير وبديع القرآن سالم إبراهيم الأحمد، رسالة ماجستير، قدمت إلى مجلس كلية الآداب / جامعة بغداد 1422 هـ ـ 2001 م.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"