على المشهور، للنصوص الكثيرة الواردة في الأبواب المتفرقة، و أصالة البراءة، و إطلاقات الأدلة، و السيرة القطعية. و في الجواهر: «أنّه من الضروريات بين العلماء».
و عن جمع وجوب الدفع إلى الفقيه الجامع للشرائط، لإجماع الخلاف و لأنّه أبصر بمواقعها، و لقوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها۱ فيكون في زمن الغيبة للفقيه الجامع للشرائط و لكن الأول مردود بذهاب المشهور إلى الخلاف. و الثاني لا كلية له. و الأخير في مقام أصل التشريع فقط، فلا إطلاق له يشمل جميع أحكام الحكم المشروع مع أنّه في مورد بسط اليد فلا يشمل غيره و يشهد له خبر جابر: «أقبل رجل إلى الباقر (عليه السلام) و أنا حاضر فقال: رحمك اللَّه اقبض منّي هذه الخمسمائة درهم فضعها في موضعها فإنّها زكاة مالي، فقال (عليه السلام): بل خذها أنت فضعها في جيرانك و الأيتام و المساكين، و في إخوانك من المسلمين. إنّما يكون هذا إذا قام قائمنا (عليه السلام)، فإنّه يقسم بالسوية، و يعدل في خلق الرّحمن، البرّ و الفاجر»۲.
و لا بأس بالإشارة الإجمالية إلى ولاية الفقيه الجامع للشرائط و إن أشرنا إليها في كتاب البيع- عند بيان ولاية الأب و الجد- و في كتاب القضاء و سائر الموارد المناسبة. فنقول:
لا ريب عند جميع المسلمين في أنّ له الولاية على الإفتاء و القضاء، بل جميع المسلمين يعتقدون في زعمائهم الدينيين ذلك فهي بالنسبة إليهم من الفطريات لا من النظريات التي تحتاج إلى الإثبات. إنّما البحث في ولايته العامة بالنسبة إلى كل ما كانت ولايته للنبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله) و خلفائه المعصومين، فالفقيه الجامع للشرائط بمنزلتهم- إلا ما اختصوا به من خواص النبوة، و الإمامة.
و الولاية العامة كجباية الصدقات و صرفها، و التصرف فيما يتعلق بالقصر، و نصب الأئمة للجمعة و الجماعة، و إقامة الحدود، و تجنيد الجنود، و الدعوة إلى الإسلام، و تنظيم أمور البلاد و الأنام إلى غير ذلك مما لا يحصى.
و يمكن الاستدلال على هذا التعميم بالأدلة الأربعة: فمن الكتاب قوله تعالى يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ۳ فيستفاد من ذيلها أنّ المناط في الخلافة الحكم بالحق و ترك متابعة الهوى، و بعد ثبوت نصبه من قبل المعصوم تشمله الآية الكريمة قطعا، و كذا قوله تعالى أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ4 لأنّه بعد نصبه للفتوى و القضاء يصير من أولي الأمر، فيشمله إطلاق الآية، و لا معنى للولاية إلا هذا النحو من الإطلاق. و توهم: أنّها حينئذ تختص بخصوص الفتوى و الحكم تخصيص في إطلاق الآية من غير مخصص.
و من العقل أنّ ما ثبت للإمام من حيث رئاسته الكبرى، و زعامته البشرية من الأمور التي يرجع فيها المرؤوسون إلى رئيسهم بالفطرة في كل مذهب و ملة حفظا للنظام و تحفظا على النفوس، و الأعراض إما أن تعطل بعده، أو تكون لشخص خاص غير الفقيه الجامع لشرائط، أو يكون جميع الناس فيه شرع سواء، أو يكون لخصوص الفقيه الجامع للشرائط.
و الكل باطل غير الأخير، إذ الأول: تعطيل لأحكام كثيرة من غير وجه، و هو قبيح. و الثاني: يحتاج إلى دليل على التعيين، و هو مفقود بل شددوا النكير على الرجوع إلى غيرهم. و الثالث: هرج و مرج و هو أقبح من الأول، فيتعيّن الأخير.
و توهم: أنّ الولاية العامة على جميع الأمور تتوقف على الخبروية في جملة كثير من الموضوعات، و الإمام (عليه السلام) ليس من أهلها فضلا عن الفقيه. (ساقط):
لأنّ الولاية التدبيرية و التنظيمية لأمور الخلق و شؤونهم الدنيوية و الأخروية التي سنبحث عنها أعمّ من المباشرة و التسبيب بأهل الخبرة من كل شيء، كما كان ذلك عادة نبينا الأعظم، و خلفائه و سائر أنبياء اللَّه تعالى، و الولاية الشخصية التدبيرية المنزلية متقوّمة بالأعمّ من المباشرة و التسبيب، فكيف بالولاية التدبيرية العامة، و يشهد لما قلناه الوجدان فنرى أنّ جميع أهل الأديان السماوية يتبادر في أذهانهم عند تنظيم المهمات النوعية و الشخصية- جزئيّة و كليّة- أن يستندوا فيه إلى الوحي السماويّ، لأنّه المعتمد عليه في الإتقان و الاستحكام و ليس النظر في ذلك محصورا على خصوص بيان الأحكام و فصل الخصومات فقط، بل كل ما له دخل في نظم الجامعة البشرية نظما فرديا و نوعيا. نعم، حيث غلب الجور على الزمان و أهله يركنون إلى الظالمين بطبيعتهم الثانوية لا بفطرتهم الأولية فإنّها مقتضية للتوجه إلى اللَّه تعالى و وسائط فيضه التكويني و التشريعي ما لم تمنعه الموانع التي لا تحصى، إذ الفطرة محفوفة بالموانع بحيث كادت أن تذهب بأصل اقتضاء المقتضي عنها.
و تفصيل هذا البحث يحتاج إلى بسط الكلام في جهات لا مجال للتعرض لها.
و يشهد به الاعتبار أيضا، لأنّه بعد ما وجب أن يسدّ باب الظلم و الجور، و يستأصل الظالمين و الجائرين، و الأمة في نهاية الاحتياج إلى من يدبر شؤونهم المالية و النفسية و العرضية، و ينظم بلادهم و يجمع شتاتهم في كل ما يتعلق بهم تدبيرا و نظما إلهيّا بما سنه و قننه النبيّ الأعظم (صلّى اللَّه عليه و آله) فعلى من يجب أن يتصدّى لذلك، أ فهل يتوهم أن يكون هذا المنصب لغير الفقيه الجامع للشرائط المخالف لهواه و المطيع لأمر مولاه؟!! و الظاهر أنّ التشكيك في ذلك من التشكيك في البديهات.
و أما الأخبار فهي متواترة المضمون إجمالا:
منها: قوله (عليه السلام) في مقبولة ابن حنظلة- في حديث-: «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخف بحكم اللَّه و علينا رد، و الراد علينا الراد على اللَّه»٥ و ذكر الحكم من باب المناسبة لمورد السؤال لا الخصوصية.
و المنساق من الحديث تنزيل من نظر في حلالهم و حرامهم منزلة أنفسهم (عليهم السلام) إلا ما خرج بالدليل.
و منها: قوله (عليه السلام): «اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فإنّي قد جعلته عليكم قاضيا»٦ و إطلاق جعل القضاوة يشمل جميع لوازمها و ملزوماتها العرفية كالولاية و شؤونها.
و منها: التوقيع الشريف: «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواه حديثنا، فإنّهم حجتي عليكم و أنا حجة اللَّه- الحديث-»۷.
و إطلاق الحجية يقتضي التنزيل من كل جهة، كما أنّ إطلاق الحوادث يشمل جميع الحوادث التي تحتاج إليها الأمة في شؤونهم الدينية و الدنيوية التي يرجع فيها المرؤوس إلى الرئيس.
و منها: قوله (عليه السلام) في شأن محمد بن عثمان العمري: «فإنّه ثقتي و كتابه كتابي»۸.
فإطلاق التنزيل يشمل الجميع بعد حمل الكتاب على مجرّد المثال و قصور الظروف عن ذكر غيره، مع أنّ إطلاق الكتاب يشمل جميع ما كتب من شؤون الولاية التدبيرية.
و منها: قوله (عليه السلام) في صحيح جميل بن دراج: «أمناء اللَّه على حلاله و حرامه لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوة و اندرست»۹.
و من أهمّ آثار النبوة- و الأمانة على الحلال و الحرام- الولاية التدبيرية في أمور العباد و البلاد و ليس المراد مجرّد نقل الحديث، فإنّه يصح عن كل عاميّ ثقة- رجلا كان أو امرأة، و لا يحتاج إلى هذه التجليلات الكثيرة. نعم، نقل الحديث أيضا داخل في العموم، بل كان الأهم في تلك العصور التي كانت أيدي العدل مقبوضة من كل جهة، و يشهد له قول أبي عبد اللَّه (عليه السلام): «لو لا زرارة و نظراؤه لظننت أنّ أحاديث أبي (عليه السلام) ستذهب»۱۰.
و منها: قوله (عليه السلام): «هؤلاء حفاظ الدّين و أمناء أبي (عليه السلام) على حلال اللَّه و حرامه»۱۱.
و لا ريب في أنّ حفظ الدّين بالعمل به مقصود الأنبياء و المرسلين خصوصا خاتم النبيين، و حفظ الدّين بالعمل بالنسبة إلى الفقيه الجامع للشرائط عبارة أخرى عن إعمال ولايته.
و منها: قوله (عليه السلام): «بهم يكشف اللَّه كل بدعة، ينفون عن هذا الدّين انتحال المبطلين و تأويل الغالين، ثمَّ بكى، فقلت: من هم؟ فقال (عليه السلام): من عليهم صلوات اللَّه و عليهم رحمته أحياء و أمواتا: بريد العجلي، و أبو بصير، و زرارة، و محمد بن مسلم»۱۲.
و يستفاد من إطلاقه ثبوت الولاية، فإذا كان مثل هذه الأخبار دالا على الاستيمان في الأحكام تدل على الاستيمان في موضوعاتها بالأولى، و لا معنى للولاية إلا ذلك.
و منها: قوله (صلّى اللَّه عليه و آله): «يحمل هذا الدّين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، و تحريف الغالين و انتحال الجاهلين»۱۳.
و هو ظاهر في التنزيل أي: تنزيل الفقيه الجامع للشرائط منزلة الإمام و لا معنى للولاية إلا ذلك.
و منها: قوله (عليه السلام): «قال اللَّه تعالى وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً- فنحن و اللَّه القرى التي بارك فيها، و أنتم القرى الظاهرة»۱4.
فإنّه ظاهر في عموم التنزيل.
و منها: قوله (عليه السلام): «فاصمدا في دينكما على كل من في حبنا، و كل كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء اللَّه تعالى»۱٥.
و الجملتان الأخيرتان لا موضوعية لهما، بل كناية عن الإحاطة بحلالهم و حرامهم و النظر فيهما و هذه الرواية أيضا شاهد للتنزيل.
و منها: قوله (صلّى اللَّه عليه و آله): «اللهم ارحم خلفائي- ثلاثا- قيل: يا رسول اللَّه و من خلفاؤك؟ قال (صلّى اللَّه عليه و آله): الذين يأتون بعدي يروون حديثي و سنتي»۱٦.
فإطلاق الخلافة يشمل الولاية، و ذكر رواية الحديث من باب الغالب لا التخصيص، و إلا فالرواية المعتبرة تصدر عن كل أمين- رجلا كان أو امرأة- و لا يحتاج ذلك إلى إطلاق الخلافة.
و احتمال: أنّ المراد بالخلافة، و قوله: «أمناء اللَّه على حلاله و حرامه» خصوص المعصومين (باطل) بالنسبة إلى سياق هذه الأخبار، لأنّ الصادق (عليه السلام) أطلق أمناء اللَّه على حلاله و حرامه بالنسبة إلى أصحابه فيما مرّ من الحديث.
و قال في الجواهر في كتاب الزكاة- و ما أحسن ما قال رضوان اللَّه تعالى عليه-:
«إطلاق أدلة حكومته خصوصا رواية النصب التي وردت عن صاحب الأمر (عليه السلام) يصيّره من أولي الأمر الذين أوجب اللَّه علينا طاعتهم. نعم، من المعلوم اختصاصه في كل مما له في الشرع مدخلية حكما أو موضوعا، و دعوى اختصاص ولايته بالأحكام الشرعية يدفعها معلومية توليه كثيرا من الأمور التي لا ترجع للأحكام، كحفظه لمال الأطفال و المجانين و الغائبين و غير ذلك مما هو محرّر في محله و يمكن تحصيل الإجماع عليه من الفقهاء، فإنّهم لا يزالون يذكرون ولايته في مقامات عديدة لا دليل عليها سوى إطلاق الذي ذكرناه المؤيد بمسيس الحاجة إلى ذلك أشدّ من مسيسها في الأحكام الشرعية» و قال (رحمه اللَّه) في كتاب الخمس ما يقرب من ذلك. و قد تعرّضنا في كتاب البيع، و كتاب القضاء و الحدود لما يناسب المقام.
و من الإجماع إجماع المسلمين في الجملة و إن وقع الخلاف في بعض الخصوصيات و الجهات، و لكنه لا يضرّ بأصل الإجماع كما لا يخفى على من راجع كتب الفريقين و لكن مع ذلك كله الأمر خطير جدّا. و قد نسب بعض مشايخنا۱۷ إلى شيخنا البهائي، و المحقق الثاني أنّهما قالا: «إنّ التلبس بالزعامة العامة قد يلازم سقوط مخالفة الهوى، فيلزم من فرض ثبوت هذه الولاية عدمها» و لعل السرّ في سكوت قدماء الفقهاء عن تفصيل الكلام كان لأجل التفاتهم إلى جملة من الأمور مع إمكان المناقشة في بعض ما استدللنا به.