۲٤٦- قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى.
الملأ اسم جمع لجماعة من الناس يجتمعون على أمر و لا واحد له من لفظه كلفظ القوم، سموا بذلك لأنّهم يملؤون العيون منظرا و النفوس عظمة و بهاء.
و بعبارة أخرى: الجمع المعني بهم الناس.
و يأتي بمعنى الخلق و منه الحديث لما ازدحم الناس على الميضاة:
«أحسنوا الملأ فكلكم سيروى» أي أحسنوا خلقكم.
و هذا اللفظ كثير الاستعمال في القرآن الكريم قال تعالى: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النحل- 29]، و قال تعالى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص- 20]، و قال تعالى: وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص- 38]، و هو من الأمور الإضافية فإنّ لكلّ قوم ملأ و لكل ملإ رأيا.
و تقدم الكلام في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ.
و المراد به: ألم تعلم قصة هؤلاء الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى (عليه السلام).
قوله تعالى: إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
المراد ببعث الملك: إقامته فيهم و إمارته عليهم. أي: طلبوا من نبيّ لهم أن يقيم فيهم ملكا و أميرا تصدر الناس عن رأيه في السلم و الحرب و النظام يقاتلون تحت لوائه في سبيل اللّه.
و قد اختلف المفسرون في اسم هذا النبيّ فقيل: إنّه أرميا النبي. و قيل: إنّه يوشع بن نون. و قيل: إنّه شمعون.
و لكن جميع ذلك لا يمكن المساعدة عليه فإنّ أرميا معاصر لنبوخذ نصّر و سبي بابل و بينه و بين ما ورد في الآية الشريفة زمان طويل يقارب أربعمائة سنة و تسعة أجيال. و أما يوشع بن نون فهو فتى موسى و هو يخالف صريح الآية التي ذكر فيها أنّها كانت بعد موت موسى. و أما شمعون فإن كان هو ابن يعقوب فهو باطل و إن كان غيره فلم يعلم من هو هذا.
و لكن المشهور أنّه اشموئيل الذي هو معرب صموئيل المذكور في التوراة و كتب التاريخ و هو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) و في مجمع البيان و هو بالعربية إسماعيل و ذكره المحاسبي أيضا هذا و لكن ذكر شيخنا البلاغي (قدس سرّه) أنّ فيه منعا فإنّ إسماعيل في العبرانية (يشمع إيل).
و كيف كان فإنّ طلبهم من نبيهم كان بعد تسلط الملك الجبار عليهم و نالوا منه الذلة و الهوان و التشريد عن الديار و الأهل فطلبوا منه الجهاد.
و المستفاد من سياق الآية الشريفة و ذيلها وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أنّ السبب في ذلك ظلمهم، فإنّهم عملوا المعاصي و أظهروا الخطايا و الأحداث المغيّرة للدّين، فسلّط اللّه تعالى عليهم من ينتقم ذلك منهم فأخرجهم من ديارهم و أبنائهم، فتوسّلوا في ذلك إلى نبيّ لهم ليجاهدوا مع الجائرين.
و الملك الذي سلّطه اللّه عليهم هو جالوت الذي تملكهم و سار فيهم بما أوجب فقد استقلالهم في الحياة و إخراجهم من الديار و بعدهم عن الأهل و الأبناء حتّى بلغ بهم الأمر أن تيقظت فيهم روح العصبية فطلبوا من نبيهم أن يبعث فيهم ملكا يسيرون تحت لوائه و يقاتلون معه في سبيل اللّه، و يستفاد ذلك ممّا ورد في التوراة أيضا كما يأتي في البحث التاريخي.
قوله تعالى: قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا.
عسيتم- بفتح السين- و هي القراءة المشهورة و قرئ شاذا بالكسر.
و المراد بها في المقام: الإشفاق في المكروه أي: هل أتوقع منكم الجبن و التولّي في القتال إذا كتب عليكم.
و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ الأمر ليس بيد النبيّ الذي طلبوا منه الملك، بل أوكل الأمر إلى اللّه تعالى و لم يصرّح باسمه عزّ و جل تعظيما، لأنّ ما أوجب سؤالهم و هو المخالفة كانت مرجوة منهم و لذا ورد الخطاب على نحو الاستفهام و فيه إيماء إلى تولّيهم عن القتال و إنكارهم بعد ذلك لما ذكروه و تعهدوا به و إتمام للحجة عليهم. و الآية في كمال الفصاحة و البلاغة.
قوله تعالى: وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا.
أي: و ما يمنعنا من القتال و قد أخرجنا من الوطن و بعدنا عن الأهل و الأولاد، و الإخراج من الديار يوجب ذهاب الاستقلال و الوهن في العزيمة و المنع عن التمتع بملاذ الدنيا فقد كنّى سبحانه و تعالى عن جميع ذلك بالإخراج.
و ألّا: هي أن المصدرية و لا النافية كما ذكر في العلوم الأدبية.
و قد ذكر في الآية الشريفة سببان للقتال:
أولهما: كونه في سبيل اللّه و أنّه دفاع عن الحق و العقيدة و هذا أهمّ دافع في الجهاد.
الثاني: الظلم عليهم بإخراجهم من الديار و البعد عن الأولاد و منعهم عن التمتع بضروب الحياة فلا عذر بعد ذلك في ترك القتال و لا سبب عقليّ يتصوّر في الجبن و التولّي.
قوله تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
التولّي: هو ترك العمل بالتكاليف بلا عذر.
أي: فلما فرض عليهم القتال و بعث الملك لهم بسؤال النبي من اللّه تعالى أعرضوا و تخاذلوا و جبنت نفوسهم لما رأوا العدوّ و فترت عزائمهم الا قليلا منهم ثبتوا على ما عاهدوا عليه و استمرت عزائمهم على القتال في سبيل اللّه تعالى.
و يستفاد من هذه الآية: أنّ إشفاق النبي عليهم في المخالفة لأجل أنّهم كانوا أهل الدّعة و العيش الرغيد و قد طلبوا الحرب بعد أن ثارت في نفوسهم الحمية الوقتية و أنفت نفوسهم من الظلم و لم يكن عن عقيدة راسخة، و التجربة تقضي بأنّ كلّ من كان كذلك يفتر عند الحرب و ينقاد إلى الطبع حين الشدة.
أو كان عن وحي من اللّه تعالى إليه بأنّهم سيتولّون عن القتال.
و كيف كان ففي الآية المباركة العبرة العظيمة و الإرشاد إلى الثبات و الاستقامة على العهد و الذمام و عدم الاغترار بالنفس في هيجانها و حماسها و لكنّها في الواقع لم تكن مستعدة و لم يثبت العزم فيها و إلى ذلك يشير ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تتمنّوا لقاء العدوّ و سلوا اللّه العافية فإذا لقيتموه فاثبتوا».
قوله تعالى: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
أي: و اللّه يعلم بالذين ظلموا من قبل ذلك، و الظلم ينطبق على التولّي عن أوامر اللّه تعالى و هو يوجب استحقاق العقاب عقلا، فهذه الآية الشريفة تفيد قضية عقلية مشتملة على العلة و المعلول أي: يجازيهم على ظلمهم لأنّه تعالى عالم بصدور ذلك منهم باختيارهم فتمت الحجة عليهم باستحقاقهم العقاب، و تسمّى مثل هذه القضية في علم الفلسفة بالقضايا التي قياساتها معها.
۲٤۷- قوله تعالى: وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً.
طالوت: هو من ملوك بني إسرائيل و يدعى المختار، لأنّه اختاره اللّه تعالى ملكا عليهم، ليجمعهم تحت سلطة واحدة و يمنعهم عن أعدائهم.
و كان أطول من سائر الناس من كتفه فما فوق و ذلك من المحاسن المأثورة لدى العبرانيين، ففي سفر صموئيل الأول: «من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب» و لعلّه لذلك سمّي في القرآن الكريم بهذا الاسم و إلّا فإنّه يدعى في كتب التاريخ و العهد العتيق ب (شاءول).
و هو ممنوع من الصّرف للتعريف و العجمة.
و في نسبة البعث إلى اللّه تعالى و تأكيده تنبيه لهم بأنّ اختيار الملك و إقامته إنّما يكون من اللّه تعالى و إرشاد لهم بأنّ الطلب لا بد أن يكون منه عزّ و جل و إن كان بواسطة النبي.
قوله تعالى: قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ.
أنّى: أداة استفهام للسؤال عن الحال و المكان، و هي تدل على تحيّرهم في اختياره ملكا عليهم مع أنّ الملك بزعمهم يجب أن يكون من بيت الشّرف و العزّة و أن يكون واسع المال، و لم يتوفر في طالوت ذلك فكان سببا في اعتراضهم على هذا الاختيار.
و لا يختص ما زعموه بهم، بل كلّ ملإ إذا أعرض عن الحقيقة و غفل عن قضاء اللّه و قدره و اقتصر على المحسوس الظاهر يذعن بأمور هي مخالفة للواقع، ففي المقام إنّهم اقتصروا على الظاهر و ما اعتاد عليه الناس من أنّ الملك إنّما يكون ملكا إذا كان شريفا من بيت العزّ و الشرف ذا مال يمكنه أن يؤسس ملكه عليه و يديره به و هما كانا منتفيين في طالوت و لذا اعترضوا على اختياره.
و قال بعض المفسرين: إنّ سبب إنكارهم أنّهم كانوا من أولاد لاوي أو بهوذا اللذين اجتمع فيهما النبوة و الملك و طالوت كان من أولاد بنيامين و أنّه كان فقيرا معدما.
و لكن ذلك غير صحيح:
أما الأول: فإنّ طالوت كان من أولاد شمعون كما في سفر التكوين- 46/ 9 أو من بني قهات كما في سفر أخبار الأيام الأول الإصحاح السادس:34 و لم يكن من أولاد بنيامين بل هذا هو بولس الرسول الذي كان اسمه شاءول أيضا كما هو مذكور في كتب التاريخ و سيأتي في البحث التاريخي مزيد بيان لذلك.
كما أنّ الملوكية لم تكن في بني إسرائيل قبل طالوت و هو أول ملك فيهم فكيف كانت في أولاد يهوذا.
و أما الثاني: فإنّ المذكور في كتب التاريخ أنّه لم يكن فقيرا معدما بل حصل جانبا من ثروة أبيه و ظاهر الآية الشريفة يدل على أنّه لم يكن واسع المال و هو أعم من الفقر، و أنّهم أحق بالملك لأنّهم الملأ من بني إسرائيل أصحاب عزّة و شرف و قد جبّل في نفوسهم إنكار من لم يكن مثلهم في العزّة و الشرف و الغنى.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ.
الاصطفاء: الاختيار أي: اختاره لتدبير شؤونكم و إصلاح أموركم و تحقيق طلباتكم.
و يستفاد منه: أنّ الملوكية مزية خاصة يجعلها اللّه تعالى في بعض الأفراد لما فيه من الاستعداد و القابلية للتصدي لها. و فيه رد لمزاعمهم و أنّ الفضل ما فضله اللّه تعالى و الشريف من شرّفه عزّ و جل. و الملك هبة ربانية و منحة إلهية يمنحها لبعض عباده و لو كان خاملا حسب الحكمة المتعالية.
قوله تعالى: وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ.
البسطة: السعة، أي: أعطاه اللّه سعة في العلم و عظم الجسم و هما صفتان ينبغي وجودهما في كلّ ملك و قائد، فإنّ بالأول يدير النظم و يدبر الأمور و هما يتطلبان معرفة المصالح و المفاسد و العلم بخصوصيات الإدارة فإنّ الملك عبارة عن تدبير الرعية و استقرار السلطة عليهم بما يوجب وصولهم إلى الكمال اللائق بهم.
و بالثاني يمكن بسط نفوذه و هيبته في المجتمع و تحقيق إرادته و سلطته و هذه الآية تشير إلى ما هو القوام في كلّ ملك و رأي من العلم و الشجاعة و أحدهما مكمّل للآخر فإنّ بالأول تساس الرعية بالصلاح و بالأخير يجلب الأمن و الأمان في البلاد.
و من ذلك يستفاد: أنّه لا دخل للمال و لا الشرف في الملك بل الملوكية الحقة تستلزم إيجاد المال لتدبير الملك.
قوله تعالى: يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ.
حصر للملكية به تعالى وحده و بيان أنّ جميع المناصب الدنيوية تحت مشيته المباركة و إرادته المقدسة، فهو الذي يفيض الملك على من يشاء و يمنعه عمن يشاء و ليس لأحد الاعتراض عليه فهو السبب المطلق، و تبيّن ذلك عدة آيات منها قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران- ۲٦].
فلا يمكن أن ينال الملك بالمكر و الحيلة و الخديعة و الكذب، فإنّ الخلق عباد اللّه و لا يرضى لعباده ذلك.
هذا إذا كان الملك من قبل اللّه تعالى لأوليائه و أصفيائه قال تعالى: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص- 68]، و أما الملك الظاهري الدنيوي فإنّه أمر اعتباري يدور مدار تحقق أسبابه و لكنّه أيضا لا بد أن ينتهي إلى قضاء اللّه و قدره اللذين يعمان كلّ ممكن و لكن رضاه و ارتضاءه أخص منهما.
و هذه الإرادة و المشيئة و إن كانت مطلقة إلا أنّه تعالى لا يفعل ذلك جزافا من غير حكمة بل هو الحكيم العليم يفعل وفق الحكمة المتعالية يراعي في أفعاله صلاح العباد و كمالهم و يدل على ذلك أيضا عدة آيات.
كما لا يفيض فيضا على أحد إلا بالأسباب الظاهرية فإنّه تعالى: «أبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها» و تشهد لذلك الأدلة العقلية، و لهذا اعتبر سبحانه في الملك البسطة في العلم و الجسم و هو الموفق بتسخير الأسباب له.
فالآية بصدرها و ذيلها تبيّن أهم القواعد في النظام الأحسن فهو المفيض المطلق على العباد بما يرجع إلى مصالحهم و لكن الإفاضة لا تكون إلا بالأسباب الظاهرية لئلا يختل النظام و يعطل الإنسان عن العمل و يبطل قانون الجزاء.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
أي: و اللّه واسع في الفضل و التصرف و القدرة إذا شاء أمرا يقع لا محالة و لا يمنعه شيء.
عليم بوجوه الحكمة يفعل بما تقتضيه الحكمة في كلّ مقام.
و الواسع من أسمائه الحسنى يستعمل في كلّ جهاته المتصوّرة فيه جل شأنه ذاتا و صفة و فعلا و لهذا اللفظ سعة استعمالية يستعمل في الواجب و الممكن الجوهر و العرض. و إذا أطلق عليه سبحانه و تعالى يراد به أنّه ليس له حد محدود.
و قد قرن لفظ (واسع) بالعلم في عدة آيات، و لعله كناية عن السعة العلمية لجميع ما سواه و يستلزم ذلك السعة الوجودية و الغناء عن كلّ شيء و احتياج الكلّ إليه أي: فوق ما نتعقله من معنى السعة لأنّ العلم عين الذات فإذا كان للذات سعة فيكون العلم كذلك، و لكن لا يمكن درك هذه السعة.
فكما أنّ أسماء اللّه المقدسة توقيفية لا بد في إطلاقها عليه جل شأنه من ورود الإذن من الشرع و ليس لأحد استعمال كلّ لفظ فيه جلّت عظمته و إن كان مدحا، فكذلك المعاني في تلك الأسماء الواصلة إلينا من الكتاب و السنة المقدّسة و ليس للعقول تحديدها بما تتعقّلها فهو جلّت عظمته واسع في جميع شؤونه و جهاته فوق ما نتعقله من معنى السعة و لهذا كان الأولى تحديدها بالمعنى السلبي أي: لا يحده و لا يعجزه شيء. و إنّما التحديد يكون في المتعلّق. و لا نقص في العقل إن عجز عن درك ذلك بل كمال العقل الاعتراف بالتقصير و العجز أمام عظمته و كبريائه تعالى.
۲٤۸- قوله تعالى: وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ.
الآية: هي العلامة الظاهرة و الحجة المعروفة الدامغة. و التابوت: صندوق من الخشب يوضع فيه ما يراد حفظه و ستره.
و هذا التابوت كان له شأن كبير في بني إسرائيل، و قد وصفه العهد العتيق بأوصاف متعدّدة غريبة و يستفاد منه أنّ له أصلا أصيلا و موقعا محترما لدى الأنبياء بل كانت أمة موسى (عليه السلام) يتبركون به و يتوسلون إليه في الشدائد و يغلبون به على أعدائهم.
و يقال: إنّه الصندوق الذي وضعت أم موسى ابنها فيه بعد ولادته و ألقته في اليمّ بوحي من اللّه تعالى كما حكى اللّه قصتها في القرآن الكريم.
و روي أنّ بني إسرائيل كانوا في مأمن به من الأخطار و الشدائد تحترمهم الأمم و الشعوب ما داموا مهتمّين باحترام التابوت و تعظيمه و بقدر احترامهم تلك الآية الربانية كانوا معزّزين محترمين حتّى عصوا و استخفوا به فغلبوا على أمرهم و انتزع منهم فوقع فيهم الأحداث و تشتت جمعهم ثم رده اللّه تعالى إليهم تحمله الملائكة.
و ذكر بعض المفسرين: أنّ الأصل في هذا التابوت النزعة الوثنية التي كانت عند بني إسرائيل التي عرفوها من أيام المصريين الوثنيين.
و لكن ذلك باطل نشأ من الجهل بالتاريخ، بل المستفاد من الأدلة الواصلة إلينا أنّ التابوت من المقدسات الدينية التي كانت محترمة حتّى عند الأنبياء كغلاف المصحف الشريف الذي هو مقدّس عند المسلمين لكونه حاويا لأعلى المعارف الإلهية و أسناها و كل مقدّس ديني- كالحجر الأسود مثلا- إذا استهين به يرفعه اللّه تعالى بلا فرق بين أمة و أمة أخرى، و لم يلاق المسلمون ما لا قوه إلا من جهة استهانتهم بالقرآن الكريم و ما أنزله اللّه تعالى و قد ورد في بعض الأخبار «لتتبعنّ سنن من قبلكم باعا فباعا حتّى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» و تشهد به التجربة أيضا و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بالتابوت.
و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ بني إسرائيل لم يقتنعوا بما احتج به نبيهم عليهم فجعل لهم علامة تدل على أنّ طالوت مختار من قبل اللّه تعالى و مؤيد منه و ستتحقق به أمانيهم و ترد إليهم عزّتهم و شوكتهم و وحدتهم فيكون التابوت من أدلة صدق ذلك الملك كما هو كذلك في جميع الدّعاوى، لأنّ نسبة التابوت في أمة موسى (عليه السلام) كنسبة المقدّسات الدينية في سائر الأديان السّماوية فإذا ظهر على يد أحد و هو يعمل بما فيه يكون ذلك دليلا على صدقه.
قوله تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ.
السكينة: من السكون، و يراد منها ما تسكن إليه النفس فقد تكون موهبة ربانية كالحكمة توجب سكون النفس و قوة العزيمة تنبث على الجوارح و الجوانح فتصدر الأفعال و الأعمال وفق الحكمة و الشريعة قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح- ٤].
و قد تكون السكينة مكتسبة مما أنزله اللّه تعالى من الأحكام و المعارف، لأنّها توافق الفطرة فتطمئنّ النفس إليها و تبتعد عن الاضطراب و الشكوك و الأوهام.
و كان التابوت يشتمل على ألواح موسى (عليه السلام) و ما أنزل اللّه تعالى على أنبياء بني إسرائيل و قد رأوا منه العجائب و الغرائب في حياتهم في سلمهم و حربهم، فأوجب فيهم السكينة و اطمينان القلب و ربط الجأش و غيرها من الصّفات الحميدة و ما ورد في الروايات من أنّ فيها ريحا هفافة من الجنّة كلّها مصاديق و إشارات إلى ما يوجب السكون.
و لا ريب في أنّ هذه السكينة بأيّ معنى أخذت تشتمل على لطيفة ربانية هي معجزة، فتكون بمنزلة الروح بالنسبة إلى الأجساد كما يسمّى القرآن و الوحي السّماوي روحا قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى- ٥۲]، و قال تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [المؤمن- ۱٥]، و إدراك هذا الرّوح يختص بمن كان مؤمنا له الأهلية لذلك، و هذا هو المستفاد مما وصل إلينا من النصوص.
قوله تعالى: وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ.
آل الرجل: خاصته، و يطلق على الفرد تعظيما كإطلاق الأمة عليه. و آل موسى و آل هارون نفسهما و من يتبعهما في العمل بما أتيا به، و هذا الإطلاق صحيح لا ريب فيه.
و بقية آل موسى و آل هارون: تشمل البقايا الجسمانية و المعنوية و آثار النبوة كعصا موسى و بعض ثياب الأنبياء (عليهم السلام) التي كانوا فيها يعبدون اللّه تعالى و يجاهدون في سبيله عزّ و جل لإزالة الشرك و العدوان و الألواح و غيرها من الآيات.
و هي موجودة كسائر آثار الأنبياء (عليهم السلام) و لا تقدر الطبيعة على إزالتها و فنائها و إنّها باقية مدى الدّهر و ستظهر إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ.
جملة حالية من يأتيكم. و هي تدل على أهمية التابوت و عظمته و فيها إشارة إلى أنّ التابوت بمكان من القداسة لا يليق بكلّ يد أن تلمسه لما فيه من السّكينة من اللّه فإنّه لا يمسّه إلا المطهّرون من الأقذار المعنوية و الظاهرية لا سيّما في شريعة موسى (عليه السلام) التي بنيت على التشديد و لذلك كانت تحمله الملائكة و لم يكن أحد يرى الملائكة إلا أنبياء اللّه تعالى و أصفياؤه و هم الأقلون.
و قد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية الشريفة ما لا يليق بكلام اللّه تعالى و قداسة هذه المأثرة النبوية الخالدة فإنّ أغلب ما ذكروه هو من الإسرائيليات التي وردت في العهد القديم و هي غير سليمة من التحريف.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: إنّ في الإخبار بأنّ طالوت جعل ملكا و إتيانه بالتابوت الذي فيه السكينة و آثار النبوة و غير ذلك علامة مشخصة على أنّه منصوب من اللّه تعالى إن كنتم من المؤمنين باللّه و آياته لا من المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فإنّهم لا تنفعهم آيات اللّه تعالى و دلائله، إذ المنافق عرف بالجحود و اللجاج فلا ينفعه البرهان و الاحتجاج.
و في الآية الشريفة دلالة على أنّهم سألوا نبيّهم الآية على صدق دعواه.
۲٤۹- قوله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي.
فصل الجنود: إخراجهم عن مقرهم و السير إلى الحرب. و الفصل يأتي بمعنى القطع و المفارقة و منه قوله تعالى: وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ [الأنعام- ٥۷]، كما أنّ منه مفارقة المكان قال تعالى: وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ [يوسف- ۹٤]، و منه الفصل المعروف في العلوم لانقطاع ما قبلها عما بعدها.
و الجنود جمع جند و هو: بمعنى المجتمع القوي من كلّ شيء، و سمي العسكر به لتزاحم الأفراد فيه و قوتهم. و في الكلمة دلالة على كثرة عددهم.
و الابتلاء: الاختبار قال تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [البقرة- ۱۲٤].
و النّهر: مجرى الماء الفائض و جمعه أنهار، و النّهر- بفتحتين- لغة في النهر بالفتح و السكون، و النّهار: الوقت الذي ينتشر فيه الضوء، فالفيضان و الانتشار مأخوذ فيهما لكن الأول في الماء و الثاني في النور.
و الشرب معلوم: و هو تناول الماء بالفم و بلعه.
و المعنى: فلما ملك طالوت و جنّد جنوده من بني إسرائيل خرج بهم عن معسكرهم و قال لهم: إنّ اللّه يمتحنكم في طريقكم بنهر ليبين المطيع من العاصي.
و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ بني إسرائيل بعد أخذ المواثيق من نبيهم وفوا بما قاله لهم و اتخذوا طالوت ملكا عليهم فنظّم الجنود و رتبهم حسب درجاتهم و مراتبهم و استعرضهم ليعرف مقدار استعدادهم و أرشدهم إلى الحقّ و اختبرهم، لمعرفة الرّوح المعنوية فيهم و تمييز الثابت على إيمانه و الحافظ لذمامه عن غيره.
و أضاف الاختبار إلى اللّه تعالى ليعظم ذلك في قلوبهم، و لأنّه ولي الجميع و من عنده النصر و الظفر، و كان إبلاغ الاختبار قبل وقته لتتم الحجة به عليهم، و لا بد أن تكون الظروف و الحالات هي التي أوجبت أن يكون الاختبار بالشرب من النهر حتّى يكون مناسبا لحالهم، و قد ورد في التاريخ:
أنّهم كانوا في مفازة و كان الوقت حارا فشكوا قلة الماء فابتلاهم اللّه بالنهر و شرب الماء منه، كما هو مذكور في الآية الشريفة.
و يمكن أن يكون المرشد له إلى هذه الأمور هو النبي الذي نصبه ملكا على بني إسرائيل، و يدل عليه قوله تعالى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي لأنّ مخالفة الأمر توجب سلب الانتساب عن المخالف فيسلك حينئذ في مسلك العدو.
قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي.
الطعم: تناول الغذاء و نسبته إلى الطاعم كنسبة الأكل إلى الآكل، و قد يطلق على ما يتناول أيضا قال تعالى: وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ [المائدة- ۹٦]، و يطلق الطعام على البرّ كثيرا كما في الاستعمالات الفصيحة
ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في صدقة الفطرة: «صاع من طعام أو شعير».
و تستعمل المادة في شرب الماء على الطعام إما لأجل التغليب أو لأجل أنّ طعم الماء لا يدرك غالبا إلا في هذه الحالة، و قد أطلق على ماء زمزم أيضا
كما قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّه طعام طعم و شفاء سقم».
و لا يختص الطعام بالجسمانيات بل يشمل المعنويات أيضا، ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أبيت عند ربّي فيطعمني و يسقيني ربّي» و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام و الشراب، فإنّ اللّه يطعمهم و يسقيهم» و قد ورد في تفسير قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ [عبس- ۲٤]، أي: إلى علمه عمّن يأخذه.
و المراد به في المقام: الذوق، أي: و من لم يذقه فإنّه من أصحابي و سيكون معي.
قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ.
الغرفة- بالضم-: المقدار الذي يتجمع في الكف، و الاغتراف: الأخذ من المائع باليد و نحوها، و الاستثناء من الشرب، فيكون المنهي عنه هو الشرب بحيث يرتوي الشارب إلا من أخذ غرفة بيده.
و الآية تدل على أنّ الامتحان كان بالشرب بحيث يرتوي من الماء فالذين شربوا منهم كذلك هم الخارجون الذين تبرأ منهم، و من لم يشرب كذلك كان من المؤمنين المطيعين و هذا القسم على درجات في الصبر فمنهم من لم يتذوق الماء أصلا و هم على أكمل و أعلى درجات الإخلاص و الاعتماد على اللّه تعالى، و منهم من اغترف الماء بيده فقط و هم أدنى من الطائفة السابقة في الإيمان و الصّبر.
قوله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا.
أي: فخرج أكثرهم من الابتلاء عاصين إلا قليلا منهم وفوا بما عاهدوا اللّه عليه و قد ثبت فيهم الإيمان و هذه الطائفة قليلون في كلّ عصر، و لا بد أن يجتاز الإنسان الامتحان ليعرف المؤمن الخالص عن غيره قال تعالى: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت- 3]، فليس كلّ من يدّعي الإيمان يكون صادقا في إيمانه إلا إذا خرج من الامتحان الإلهيّ مطيعا ثابتا. و امتحاناته تبارك و تعالى كثيرة لا حدّ لها و لا حصر يمتحن بها عباده حسب الاستعداد و مراتب الإيمان.
و اختلفوا في عدد الذين ثبتوا معه و المروي أنّ عددهم كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا و يأتي في البحث الروائي ما يتعلّق به.
قوله تعالى: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ.
الطاقة: القوة و القدرة. و جالوت هو القائد الفلسطيني المشرك الذي أذل اليهود و أخرجهم من ديارهم و الضمير في (جاوزه) يرجع إلى النّهر.
و الجواز: التخطي و المفارقة عن المكان قال تعالى: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ [يونس- 90].
أي: فلمّا تخطّى طالوت و جنوده المؤمنون به النّهر قال بعضهم لبعض: لا قدرة لنا على محاربة جالوت و جنوده لكثرة عددهم و عدتهم.
و يستفاد من تعقيب هذه الآية بعد الامتحان بالكيفية السابقة أنّ المغترفين هم الذين قالوا هذا الكلام لأنّهم لم يكونوا على اليقين الذي عليه الطائفة التي لم تطعم الماء أبدا.
قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ.
الظن يستعمل في القرآن الكريم بمعنى اليقين، و بمعنى مطلق الرجحان، و بمعنى الوهم، و الفارق القرائن و تقدم في آية (٤٦) ما يرتبط بالمقام.
و قيل: إن استعمل مع (أنّ) المؤكدة يكون بمعنى اليقين، و يمكن أن يكون ذلك قرينة.
و هو في المقام: بمعنى اليقين، و القرينة على ذلك ملاقاة اللّه تعالى أي: غلبهم الشوق إلى لقاء اللّه تعالى و استيقنوا بالموت الذي يرفع به الحجاب عنهم و عن ملاقاة ربّهم فيجازيهم.
و هذه هي الطائفة التي لم تطعم من الماء و لم يغترفوا منه.
قوله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ.
الفئة: الجماعة المتظاهرة التي يرجع بعضهم إلى بعض.
و الإذن بالنسبة إليه عزّ و جل: يستعمل في العلم و القدرة و الإرادة، و الأولان من صفات الذات و الأخيرة من صفات الفعل، فيستعمل الإذن في كلّ من صفات الذات و صفات الفعل و إن كان استعماله في الإرادة أغلب.
و العلم و القدرة و الحكمة و إن كانت مفاهيم مختلفة لكنها بالنسبة إليه تعالى ترجع إلى شيء واحد، لأنّ علمه جلّ شأنه عين ذاته الأقدس، و قدرته العليا ترجع إلى علمه و كذا الحكمة، و أما إرادته فإنّها عين فعله و الفعل منبعث عن العلم و الحكمة، فيرجع الجميع إلى شيء واحد، و الفرق بينها في القرآن العظيم يستفاد من القرائن التي منها سياق الآية المباركة بملاحظتها مع نظائرها.
و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ كثرة الجنود أو القوى الدافعة ليست بأنفسها منشأ للغلبة، بل هي من بعض الأسباب الظاهرية و السبب الحقيقي إرادة اللّه جلّت عظمته، و الأدلة العقلية و النقلية، بل التجربة تدل على ذلك، و في الكلام احتجاج على الخصم لإقناعه ببيان بعض المصاديق.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
وعد منه عزّ و جل بالمعية مع الصابرين، و هذه المعيّة معيّة قيّومية لا يعقل معها الهزيمة فإنّها من الخلف.
و فيه بشارة للصابرين بالجزاء الجميل و تلقين الجنود الصّبر و الثبات عند تقلب الأحوال و توارد الأهوال فتزداد شوكتهم و تشتد عزائمهم.
۲٥۰- قوله تعالى: وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
مادة (برز) تأتي بمعنى: الظهور في الفضاء، و الظهور من الأمور الإضافية، له مراتب كثيرة، و هو إما تكوينيّ كقوله تعالى: وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف- 47]، أو اختياري كقوله تعالى: فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ [النساء- 81]، و منه مبارزة الصفوف للقتال، و المقام منه أو تسخيري مثل قوله تعالى: وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [ابراهيم- 48].
و الإفراغ: الصب السيال بحيث يخلو المحل منه، و أصل الفراغ الخلو، شبّه الصّبر بالماء الذي في وعاء و هو كناية عن كمال الصّبر و نهايته، فطلبوا إفراغه عليهم.
و المراد منه: إفاضة الصّبر عليهم بتمامه.
و التنكير فيه لأجل شمول أنحائه من القتل و الجرح و الجوع و فراق الأهل و الأحبة و غير ذلك.
و مادة (ثبت) في أي هيئة استعملت تدل على اللزوم و الاستقرار فهي ضد الزوال و المحو في جميع استعمالاتها و هي كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد- 39]، و قال تعالى: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء- ۷٤]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد- 7]، و قال جلّ شأنه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [ابراهيم- 27]، إلى غير ذلك مما هو كثير في القرآن و السنة الشريفة و العرف، و المراد به الاستقامة في الحق.
و ثبوت الأقدام الذي هو الفاصل بين الإنسان و غيره و الاستقامة من أعلى منازل السالكين إلى اللّه عزّ و جل، و هي أول مقامات السير في الربوبيّة العظمى المطلقة و الأحدية التي لا يعقل تحديدها بحد.
و النصرة: العون، و اللفظ كثير الاستعمال في القرآن الكريم قال تعالى: وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران- ۱۲٦]، و قال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ [آل عمران- ۱٦۰]، و النصير من الأسماء الحسنى.
و المعنى: و لما ظهر طالوت و جنوده المؤمنون في ساحة الحرب و القتال مع أعدائهم جالوت و جنوده لجأوا إلى اللّه تعالى يطلبون منه الصّبر في الوغى و الثبات على الحق و الجهاد و العون و النصرة على القوم الكافرين و لم يعتمدوا على أنفسهم مهما بلغوا في الإيمان و الطاعة.
و إنّما قدّموا الصّبر على الثبات و النصرة لأنّ بالصّبر يتحقق الثبات على الحق و به تتحقق النصرة على الأعداء فيكون ترتب النصر على الاستقامة من قبيل ترتب المعلول على العلة، فهم راعوا الترتيب الطبيعي.
و قد لوحظ في الآية الشريفة ما هو المطلوب في أدب الدعاء و هو أمور:
الأول: استعمال لفظ (الرّبّ) فإنّه يدل على قربه مع مربوبه و معيته معه، و قد ذكرنا في سورة الحمد ما يتعلق به و قلنا: إنّه يستعمل في دعوات الأنبياء و من يتلو تلوهم عند انقطاعهم إلى ربّهم.
الثاني: طلبهم جميعا العون و الثبات و النّصر منه تعالى، قال تعالى: وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [آل عمران- ۱٤۷].
الثالث: مراعاة الترتيب في كيفية الدعاء كما ذكرنا و تدل على كل واحد من هذه الأمور السنة الشريفة.
۲٥۱- قوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ.
الهزم و الدفع و الحطم و الكسر و الخرم نظائر، و الفرق بينها بالاعتبار، و يمكن أن يجعل الجامع الفصل و القطع، و لم تستعمل هذه المادة في القرآن الكريم إلا في موضعين أحدهما المقام و الثاني قوله تعالى: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [ص- 11].
و المراد بإذن اللّه هنا: إرادته القاهرة الغالبة في استجابة دعوتهم و هزيمة عدوّهم.
و إنّما قدّم سبحانه الهزم مع أنّه يكون بعد قتل جالوت عادة للدلالة على سرعة استجابة دعائهم، فإنّ الدّعاء حين تحقق الابتلاء أقرب إلى الاستجابة لانكسار القلوب و توجهها إلى الواحد الأحد المحبوب، و إنّ النصر حليف ثبوت الاستقامة و الجد و الاجتهاد، و الأخبار في ذلك متواترة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و آله الطّاهرين (عليهم السّلام).
قوله تعالى: وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ.
أخر ذكر القتل ليكون ما ذكره عزّ و جلّ لداود من الفضائل على وتيرة واحدة و نسق متحد، فإنّه أبلغ في التمجيد و لبيان عظم النعمة عليه.
و المراد بالملك الملك الظاهري، كما أنّ المراد بالحكمة الملك المعنوي سواء أريد بها النبوة، أو المعارف الإلهية.
و حكمة داود و آله معروفة في السير و الأحاديث، و قد ورد فيها: «أنّ زبور داود كان مائة و خمسين سورة كلّها مواعظ و حكم و تمجيد ليس فيها حكم من الأحكام» و قد علّم سبحانه داود فصل الخطاب و ما يتطلبه الملك و الحكم و الإدارة و التدابير الظاهرية.
قوله تعالى: وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ.
الآية المباركة تبيّن حكما من الأحكام الاجتماعية الواقع في النوع الإنساني، كما تذكر وجها من وجوه الحكمة في مشروعية القتال و الجهاد مع أعداء اللّه تعالى.
و المعنى: و لو لا دفع اللّه أهل البغي و الشر و الظلم بأهل الصّلاح و الإيمان لعمّ الطغيان و الفساد الأرض و أهلها، و يفسد المجتمع الإنساني باستيلاء أهل الشرور و الآثام.
و الآية تبيّن حقيقة من الحقائق و هي أنّ فساد النوع الإنساني يوجب فساد الأرض و ما عليها بالتبع كما أنّ صلاح الأرض إنّما يكون بصلاح أهلها، و يدل على ذلك آيات متعدّدة مثل قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف- ۹٦].
و ذلك لأنّ اللّه تعالى خلق الأرض و ما فيها من القوى المادية الطبيعية و جعل بينها تجاذبا طبيعيا تسير وفق النظام الأحسن و حكمة متعالية لا يمكن التخلف عنها، و هي تتحرّك نحو الكمال المعدّ لها، فلو اختلت هذه الوحدة المجعولة بينها لاختل النظام الكوني و نتج منه خلاف المطلوب هذا بالنسبة إلى النظام الكوني.
و أما بالنسبة إلى الإنسان الذي خلقه فوق هذه البسيطة و سخر له عالم المادة بجميع أجزائها و جزئياتها ليتمتع بها و قد جعله مختارا في أفعاله يفعل وفق إرادته و لكنّ اللّه تعالى أنزل التشريعات السّماوية و أودع العقل في الإنسان ليهديه إلى سبل السعادة و يرشده إلى الكمال الذي يتوخاه في سعيه، و لا يمكن الوصول إلى السعادة إلا بالاتحاد و التعاون بين أفراد المجتمع الإنساني و باختلال تلك الوحدة يغلب الفساد على النوع و من ثمّ يسري إلى الأرض التي سخرها له، و إنّما تختل الوحدة في النوع الإنساني لغلبة أهل الشر و الفساد على أهل الصّلاح و الإيمان و يعم الظلم أرجاء العالم و لا يمكن رفعه الا بدفع أهل الشر و الفساد و الغلبة عليهما ليمكن إعادة الوحدة بين الأفراد و تتحقق السعادة بها، فهي إنّما تقوم على أساس المغالبة بين الأفراد و الا كانت إرادة كلّ فرد من أفراد المجتمع هي الملزمة و لا يمكن للآخر دفعها و في ذلك إبطال الاجتماع باستيلاء الفساد و الشر دائما و لا يمكن دفعه بوجه من الوجوه، و هذا خلاف الحكمة.
فالدفع و الغلبة من فطريات كل ذي شعور و عليهما يتحقق الاجتماع الإنساني و هما يوقفان الفساد عند الأفراد و هذا من أهم القوانين التي بينها القرآن الكريم في النظام الاجتماعي للإنسان.
ثم إنّ الدفع و الغلبة لهما مصاديق مختلفة فقد يتحقق كلّ منهما بغلبة المؤمن على الكافر المفسد كما في مورد الآية المباركة، و قد تتحقق بدفع اللّه العذاب عن الأشرار و الفجار بسبب الأبرار و في ذلك وردت روايات خاصة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) ففي الحديث «إنّ اللّه يصلح- بصلاح الرجل المسلم- ولده و ولد ولده، و أهل دويرته و دويرات حوله، و لا يزالون في حفظ اللّه ما دام فيهم» و ربما يتحقق بدفع الظالم بالظالم و تضعيف شوكته ليستعد المصلح و يتمكن من قهره و الغلبة عليه. و ربما يكون من إلقاء اللّه تعالى الخوف في نفوس المفسدين من صولة القوة و ثورة النزاع و فوز الخصوم فيكون رادعا نوعيا في وقف الفساد و كبح جماح المفسد من الطغيان.
و يمكن تعميم دفع اللّه الناس بعضهم ببعض بمطلق الإرشاد إلى الحق سواء كان بالقول أو العمل أو العلم، و يشمل جميع أنحاء الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر مع تحقق الشرائط، كلّ ذلك صحيح و لا بأس به بعد انطباق الآية المباركة عليه.
قوله تعالى: وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ.
أي: أنّ دفع الفساد في الأرض بدفع الناس بعضهم ببعض تفضل من اللّه تعالى، و اللّه ذو فضل على الخلق لأنّ في تركه مفسدة عظيمة و إخلالا بالحكمة و إبطالا للاجتماع كما عرفت.
۲٥۲- قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
التلاوة: عبارة عن القراءة المتتابعة فكلّ تلاوة قراءة و لا عكس.
أي: أنّ تلك الحوادث التي وقعت في القرون الماضية و ما حكاه اللّه تعالى في هذه الآيات من إحيائه جلّت عظمته الموتى، و سؤال الملإ من بني إسرائيل من نبيهم ما سألوه في أمر الملك و القتال مع الأعداء و ابتلائهم بما قال لهم نبيهم، و صيرورة طالوت ملكا عليهم و ظهور التابوت و ودائع النبوة و غلبة داود على جالوت، و غلبة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، و جعل اللّه داود ملكا و إعطائه الحكمة و العلم كلّ ذلك علامات علم اللّه و حكمته و قدرته تلاها للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) بالحق لتكون دليلا على نبوته و رسالته و إنّ الإحاطة بها من الأمي الذي لم يكن مرتبطا مع أحد من أهل الكتاب مستحيلة عادة إلا بوحي من السّماء و لا ينزل وحي السّماء إلا على الرسل و الأنبياء.
و قوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ في مقام التعليل لقوله تعالى: نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ. كما أنّ قوله تعالى: بِالْحَقِّ يبيّن معنى تلاوته جلّ شأنه.
يعني: إنّ تلك التلاوة حق و صدق لا مرية فيها فتكون تلاوته عز و جل بذاتها برهانا متقنا على حقية نبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، لأنّ الممكن لا يصل إلى حد الواجب بالذات و ما من شؤونه إلا بنحو الإشارة. كما يقول أحدنا (أنا) مشيرا إلى نفسه و هو لا يعلم نفسه إلا بهذه الإشارة بل جميع العلماء مع نهاية جهدهم لم يحيطوا بها، فإذا كان هذا حال الممكن المحتاج فكيف بالواجب الغني بالذات، و يشهد لما قلناه كثير من الأدلة العقلية و النقلية تقدم بعضها و يأتي بعضها الآخر.
و لو عبّرنا عن ذلك بتجلّي الحق لنبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) لا بأس به فإنّ تجلياته المباركة لا تختص بجهة دون أخرى فهو كما يريد و يشاء.
ثم إنّ ذكر رسالة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في آخر الآيات المتقدمة لبيان أنّ العلّة الغائية مقدمة في العلم و إن كانت متأخرة في الوجود الخارجي، و يكون توطئة لذكر الرسل في الآية التالية، و للإشارة إلى جلالة و عظمة رسالة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).