213- قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً.
مادة (الناس) مما اختلف فيها أهل اللغة في مبدأ اشتقاقها، فقيل إنّه أناس. و قال آخر: إنّه أنوس. و قال ثالث: إنّه إنسان. و كيف كان فهو معروف، و المراد به الأفراد المجتمعون من بني آدم. و قد ذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم فيما يقرب من مأتين و أربعين موردا، و جميع الكتب السماوية مشحونة به بلغات مختلفة، و هو محور حكايات ربّ السّماء، و مورد دعوة الأنبياء، لا حدّ لمقصده و مسعاه إذا كان للّه و إلى اللّه تعالى، كما لا غاية لمنتهاه لبقائه ببقاء اللّه تعالى.
و هذا القرآن المهيمن على كتب السّماء قد أشار إلى بعض أحواله و بيّن ما يجب عليه أن يكون من أقواله و أفعاله، و ذكر ما ينتهي إليه أمره في مآله، و يكفي في هداية الإنسان أن يتأمّل في نفسه و يعرف منزلته من أمته، و في الحديث عن عليّ (عليه السلام) «رحم اللّه امرءا عرف من أين و في أين و إلى أين».
و الأمة كلّ جماعة يجمعهم جامع واحد، سواء كانوا من ذوي العقول أم لا، و سواء كان ذلك الجامع زمانا أو مكانا أو شيئا آخر، تسخيريا كان أو اختياريا.
و لهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن، قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران- 110]، و قال تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام- 28]، و قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر- ۲٤]، و قال تعالى: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً [النمل- 82]، و قال تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء- 29]، و قال تعالى: وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص- 28].
و قد يطلق على الواحد قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ [النحل- 120]، باعتبار أنّه سبب في اتحاد جماعة و اتفاق في الدّين.
و لم يبيّن سبحانه متعلّق الوحدة لإفادة العموم فكان الناس متحدين في جميع الشؤون لا تفرق بينهم في الشرائع و النّحل، و إنّ الاختلاف بينهم في أمور الدنيا و ما يتعلّق بشؤون حياتهم، لما كانوا عليه من السذاجة و البساطة فكانوا على الفطرة الأولية التي لا اختلاف فيها و لا تفرق و ليس لهم من العلوم إلا البديهيات و الفطريات.
و يمكن تحديد هذا الدور بدور الطفولة في الحياة الإنسانية فلم يكن يعرف من رموز الحياة و أسرار الطبيعة و لم يكن همه من العيش سوى نيل البقاء بالطرق الأولية، فكان يأوي إلى الكهوف و المغارات للعيش، و يتغذّى على النبات و ما يقع تحت يده من الصيد، و يدافع عن نفسه بأبسط وسائل الدفاع.
و بالجملة إنّ في هذا الدّور من تاريخ حياة الإنسان على وجه هذه البسيطة لم يكن تعقيد في أيّ وسيلة من وسائل حياته، و هو على فطرته الأولية في جميع شؤونه العلمية و الاجتماعية و الدينية، و قد ورد في الحديث: «كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة اللّه لا مهتدين و لا ضلّالا».
فالوحدة هي الأصل ما لم يثبت التكثر و التعدد اللذين حصلا بعد قرون عديدة و لم يبق الإنسان على هذه الحالة بل بمقتضى السّير التكاملي إنّه استقبل أمورا لم يكن يعرفها من قبل، و ازدادت معارفه و علومه بعد أن كانت مقتصرة على المحسوسات فقط، و تمكن من الاستيفاء من الحياة بأفضل مما كان عليه فاقتضى هذا الوضع أن يبعث اللّه النبيين مبشرين و منذرين و ينزل معهم الكتاب ليبين لهم طريق السعادة و تحفظ لهم الوحدة و يرفع الاختلاف و التزاحم بينهم، و يسهّل لهم الاستفادة من مزايا الحياة بعد أن لم يتمكن العقل الذي هو شرع داخلي لوحده أن يتصدّى لذلك بل لا بد من شرع خارجي يعضده كما ذكرنا مرارا.
و من ذلك يعلم أنّه لا يشترط أن يكون بعث الأنبياء (عليهم السلام) إلا بعد حصول الاختلاف بين أفراد الناس، كما ذكره بعض المفسرين.
و المشهور بين المفسرين أنّ المراد بالآية الشريفة أنّ الناس كانوا أمة واحدة على الهداية، و الاختلاف إنّما نشأ بعد نزول الكتاب و بعث الأنبياء، فإن كان مرادهم من ذلك ما ذكرناه من أنّهم كانوا على الفطرة غير جاحدين للربوبية فلا إشكال، و إلا فإنّ الهداية إنّما تحصل من بعث الأنبياء (عليهم السلام) و إنزال الكتب و المعارف الإلهية.
ثم ما هو الدّاعي لزعزعة الوحدة ببعث الأنبياء الذين هم يبغونها و إشاعة الاختلاف و التنازع بين أفراد الإنسان؟!!.
و قيل: إنّ المراد بالاية المباركة أنّ الناس كانوا أمة على الضلالة بقرينة قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ لأنّ إرسال الرسل و إنزال الكتب إنّما يكونان لرفع الضلالة.
و لكن فساده واضح:
أما أولا: فلأنّ مصلحة إرسال الرسل و بعث الأنبياء لم تقتصر على ما ذكر، بل يمكن أن تكون لإتمام الحجة عليهم.
و ثانيا: إذا كانوا جميعا على الضلالة فما وجه نسبتها إلى البعض منهم و هم حملة الكتاب.
و قيل: إنّ المراد من الآية المباركة أنّ الناس أمة واحدة من حيث بعض الأمور الاجتماعية الفطرية فلا غنى لهم عن الاجتماع و التعاون و لا يمكن حصول الكمال إلا بهما بلا تحديد لذلك بوقت من الأوقات بل هو سنة جارية بعد أن كان الإنسان مدنيا بالطبع، و الاجتماع يؤدي إلى الاختلاف و التشاجر فلذلك بعث اللّه الأنبياء و المرسلين، فيكون الفعل الناقص في الآية المباركة (كان) منسلخا عن الزمان، و يدل على الثبوت.
و يشكل عليه: بأنّ ذلك خلاف ظاهر الآية الشريفة، كما أنّ تفريع بعث الأنبياء و المرسلين على مجرّد كون الإنسان مدنيّا بالطبع و أنّ الاجتماع يوجب الاختلاف غير صحيح، بل ذكرنا أنّ بعث الأنبياء (عليهم السلام) لم يشترط فيه الاختلاف و التنازع بل هو لأجل بيان الصراط المستقيم، و جلب السعادة، و إتمام الحجة عليه و الإنسان بفطرته يسعى إلى الكمال و جلب السعادة و لا يتحقق ذلك إلا بإنزال الكتب الإلهية و المعارف الربوبية، كان هناك اختلاف أولا.
قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ.
البعث يأتي بمعنى توجيه الشيء و إثارته، و يختلف باختلاف المتعلّق و بعث الأنبياء إنّما هو لتوجيه الناس إلى المعارف الحقة و إثارة ما في عقولهم، فعن عليّ (عليه السلام): «فبعث فيهم رسله و واتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكّروهم منسيّ نعمته، و يحتجوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول» فجميع المعارف الربوبية كانت موجودة في الفطرة الإنسانية على نحو الاقتضاء و الاستعداد، و لكن احتجبت بالحجب الظلمانية، و قد بعث اللّه الأنبياء لإزالة تلك الحجب. و هذا بحث نفيس من مباحث الروح، و قد أيدته نظريات علمية حديثة في مطلق علوم الإنسان، و يأتي في المحلّ المناسب الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.
و البشارة: هي الوعد برحمة اللّه و رضوانه و جنته.
و الإنذار: هو الوعيد بعذاب اللّه تعالى و عقابه، و هما من حكمة بعث الأنبياء و إرسال الرسل، و بهما يتصف ما يأتيه الأنبياء بصفة الثبوت، و التمكين في نفوس أغلب أفراد الإنسان و إن كان بعض المؤمنين الصالحين يعبدون اللّه تعالى خالصا لوجهه الكريم من دون أن تتعلّق نفوسهم بغيره.
و تقديم البشارة على الإنذار لأجل أنّه تعالى سبقت رحمته غضبه فيكون ذلك بلحاظ الجاعل و المشرّع، أو لأنّ تلك الوحدة التي كانت بين الناس في الاعتماد على الأمور الفطرية مما اقتضى تقديم البشارة على الإنذار في المقام.
و في بعض الآيات الأخرى قدم سبحانه النذير على البشير، قال تعالى: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف- 188]، و قال تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ [هود- 2]، و يكون ذلك بلحاظ حال العباد و المكلّفين حيث إنّ التوعيد أقوى لديهم على الحث على العمل من التبشير، فمجموع الآيات الواردة في هذا السّياق تجمع بين ما هو مقتضى شأنه تعالى و ما هو مقتضى حال العباد، فيكون الاختلاف باختلاف حالات الأمم و سائر الجهات.
و إنّما عبرّ سبحانه و تعالى بالبعث دون الإرسال، لأنّ حال الإنسان في هذا الدور من حياته على الأرض كانت حال خمود و خمول لا يقصد إلا البقاء و الاستفادة من وسائل الحياة البسيطة كما ذكرنا فكان الأنسب أن يبعث اللّه النبيين ليثيروا لهم الدّفائن التي أودعها اللّه تعالى في عقل الإنسان و ينبهه بما يمتاز به عن سائر مخلوقاته، و ما يؤول إليه أمره و ينير له طرق كماله و منازل سيره الاستكمالي، و هذا هو وظيفة النبي الذي يبعثه اللّه تعالى إلى خلقه.
و قد ذكر سبحانه النبيين دون المرسلين، لأنّ النبي أعم من الرّسول فيشمل من ليس له كتاب و شريعة مستقلة، فإنّه بنفسه يكفي في الحجية و الدّاعوية إلى اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ.
بيان لكون الأنبياء مبشرين و منذرين أي: إنّ تبشيرهم و إنذارهم لا يكونان إلا من كتاب اللّه تعالى، و هو القانون الأتم الأكمل و النظام الرباني التشريعي.
و المراد به في المقام: هو الضم، سواء كان في الإرادة أو في اللفظ أو في الحروف، أو في الصحيفة، أو في الخارج، و كلّ شيء يراد فهو جمع في الإرادة، فإذا قيل فهو جمع في اللفظ، و إذا كتب فهو جمع في الصحيفة. و إن أنشئ خارجا فهو جمع في الاتحاد، و إذا عمل به فهو جمع في الخارج.
فالجامع في الجميع هو النظم و الجمع.
و قد استعمل الكتاب بتمام هذه الاستعمالات في القرآن الكريم، كما وردت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن العظيم، و في خصوص لفظ (الكتاب) في أكثر من مأتي مورد، و تستعمل في المعارف المعنوية و الشؤون الأخروية.
و الكتاب أخص من الصحيفة قال تعالى: صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة- 2]، و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنزل اللّه مائة و أربعة كتب و أنزل منها على آدم (عليه السلام) عشر صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على أخنوخ- و هو إدريس- ثلاثين صحيفة، و هو أول من خطّ بالقلم. و على إبراهيم (عليه السلام) عشر صحف، و التوراة، و الإنجيل، و القرآن».
و المراد من الكتاب في المقام جنسه ليشمل الشرائع السماوية الخمسة المختصة بأولي العزم من الأنبياء: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمد (عليهم السلام)، قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى [الشورى- 13].
و يستفاد من هذه الآية المباركة بانضمام الآيات الأخرى أنّ نوحا أول من أتى بشريعة في كتاب سماوي متضمن لمنهاج إلهي يرشد إلى الصّلاح و يشمل من الأحكام و المعارف التي تهدي الإنسان إلى السعادة في الدّارين، كلّ شريعة بحسب ما يلائمها من الظروف و القابليات إلى أن انتهت إلى شريعة خاتم الأنبياء الجامعة لجميع الشرائع الإلهية السابقة مع ما تختص بها من معارف ربوبية و أحكام إلهية.
و لا يستفاد من الآية أنّ لكلّ نبي كتابا مستقلا- كما عن بعض المفسرين- كما هو المعلوم من مثل هذا التعبير في المحاورات بل قصد منها أنّ النبيين يحكمون بالكتاب النازل من السّماء و لو كان نازلا على بعضهم، فيسمى من أنزل عليه الكتاب صاحب الشريعة و سائر الأنبياء إنّما يتبعون أحد هؤلاء، فإنّ النبوات السّماوية ذات مراتب متفاوتة، إما من جهة نفس النبيّ، و الأنبياء يختلفون في مرتبة الاستعداد الذاتي كاختلاف سائر أفراد الناس فيه، أو من جهة ما أمروا بالإنباء عنه فإنّه يختلف اختلافا كثيرا حسب المقتضيات و الظروف التي لا يحيط بها إلا اللّه عزّ و جل، أو من جهة الامة بعد اتفاق الجميع في الإنباء عن المبدأ و المعاد و بعض المستقلّات العقلية. فالآية تشمل كلا القسمين من الأنبياء (عليهم السلام).
و قوله تعالى بِالْحَقِّ يصح تعلقه بالكتاب كما يصح تعلقه بالنزول للتلازم بين حقيقة النزول و حقيقة الكتاب، فإذا تعلّق بأحدهما يستلزم التعلق بالآخر.
و إنّما وصف سبحانه الكتاب بالحق لأجل إعلام الناس بأنّ الأنبياء إنّما بعثوا و أنزل معهم الكتاب لبيان الحقّ و الهدى، فالقيد توضيحي أتي به تجليلا و تعظيما للكتاب السّماوي لا أن يكون احترازيّا، و له نظائر في القرآن الكريم تأتي الإشارة إليها.
قوله تعالى: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.
أي ليحكم الكتاب المنزل من اللّه تعالى المتضمن للشرع الإلهي. أو ليحكم اللّه عزّ و جل المنزل للكتاب بين جميع الناس. و لا فرق بين الوجهين بعد اعتبار الحكم مطلقا عند العقلاء بحسب الفطرة ففي العرف يقال: حكم القانون، أو حكم الجاعل للقانون.
و هذه الآية و ما في سياقها بيان لإحدى حكم و فوائد إنزال الكتب السّماوية، و يدل عليه البرهان العقلي بالقول: بأنّ الاختلاف وجداني بين الناس و يجب رفعه في تنظيم النظام، و رفعه منحصر بالحكم بالحق فيجب الحكم بالحق لرفع الاختلاف بين الناس، سواء كان في أمور الحياة أو في غيرها مما يكون منشأه الجهل و الأهواء الباطلة.
و الحكم بين الناس بالحق من أهم الأمور النظامية، و بزواله و اختلافه يختل النظام، و لذلك اهتم الإسلام به و حصر الحكم و الحاكم في أربعة:
الأول: أن يكون الحاكم و الحكم كلّ منهما بالحق، و الحاكم يعلم أنّ حكمه حق، و هذا مطلوب للرّحمن و يكون مصيره إلى الجنان.
الثاني: أن يكون الحاكم فاقدا للشرائط و كان حكمه حقّا، و هذا مبغوض للرّحمن و مصيره إلى النّيران.
الثالث: الصورة السابقة مع كون حكمه باطلا و هذا أيضا مثل السابق بالأولى.
الرابع: أن يكون الحاكم جامعا للشرائط، و حكمه حق، و هو لا يعلم أنّه حق، و هو أيضا مبغوض و مصيره إلى النّار، كلّ ذلك لكثرة أهمية الحكم بالحق الذي هو من صفات اللّه تعالى و أعظم منصب من مناصب الأنبياء فلا وجه لأن يدنّس بما لا ينبغي أن ينسب إليهم (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، و قد ذكرنا بعض ما يتعلّق بالمقام في كتاب القضاء من (مهذب الأحكام).
قوله تعالى: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.
الاختلاف: هو التغاير في الجملة، و المتخالفين أعم من الضدين و المتناقضين لإمكان ارتفاعهما و اجتماعهما، و الثاني لا يمكن اجتماعهما و إن أمكن ارتفاعهما، و الأخير لا يمكن فيه ارتفاعهما و لا اجتماعهما. و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن بهيئات مختلفة.
و الاختلاف إما تكويني، كاختلاف الليل و النّهار، و اختلاف الألوان و الألسنة؛ أو اختياري ينتهي إلى الإرادة و هي تنتهي إلى خصوصيات الاستعدادات الذاتية فتنتهي أخيرا إلى الذات، و هو ينتهي إلى القدرة الأزلية، و أشير إلى ذلك في قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ [الروم- 22].
و لو قلنا بأنّ الاختلاف بين الناس في المقاصد و الغايات و سائر الفطريات لهم في الجملة مقهورة تحت إرادة الحي القيوم على نحو الاقتضاء لا العلية التامة لكان حسنا، و يترتب على ذلك أهم أمور النظام الأحسن و أعظمها، و يأتي شرح هذه الجمل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و مادة (بغي) تأتي بمعنى تجاوز الاقتصاد في ما هو قابل للتجاوز سواء تجاوز أم لا. و هو على أقسام: فتارة من الحق إلى الحق. و أخرى من الباطل إلى الحق، و هما ممدوحان. و ثالثة من الحق إلى الباطل. و رابعة من الباطل إلى الباطل، و هما مذمومان.
و يمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى: يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فهو بالمفهوم يدل على ثبوت البغي بالحق.
و المراد به في المقام القسمان الأخيران من الأقسام.
و قد تستعمل بمعنى أصل الطلب، و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة كلّها بالنسبة إلى الناس، و لم أجد استعمالها بالنسبة إلى اللّه تعالى، و لا بالنسبة إلى أهل الآخرة فيها، سواء كان في النعيم أو في الجحيم.
و المعنى: إنّ الاختلاف إنّما حصل من حملة الكتاب العالمين به بغيا منهم و تجاوزا فحرّفوا كتاب اللّه تعالى و ضيّعوه و تعدّوا حدوده.
و يستفاد من قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أنّ الاختلاف الحاصل في الكتاب و الشريعة لا يكون إلا من حملة الكتاب الذين قد استبانت لهم الآيات، و هم الأصل في الاختلاف الواقع في الأديان الإلهيّة و أنّ غيرهم و إن كانوا على الخلاف، و لكنّهم منحرفون عن الصّراط و ليسوا بغاة، و يشهد لذلك الاختلاف في كلّ علم فإنّه يكون من العالمين به دون غيرهم ممن لا علم له به.
كما يستفاد من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أنّ الكتاب إنّما نزل لرفع الاختلاف و التوفيق بين الناس و إسعادهم بما فيه من الحجج الواضحة و البراهين القويمة، و لكن يشوب الحق أهواء العالمين به و أغراضهم الفاسدة و زيغهم بتحريف الكتاب أو تأويله بما لا يرتضيه عزّ و جل، أو بتبديل آياته، أو الأخذ بمتشابهاته و الإعراض عن محكماته.
و من مجموع الآية المباركة يستفاد أنّ الدّين المنزل من اللّه تعالى لا اختلاف فيه، و هو موافق للفطرة التي لا تلبيس فيها، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم- 30]، و الاختلاف إنّما يكون من غيره عزّ و جل الحاصل بين علماء الكتاب و حملته من بعد علم، و لذا يكون من بغي و هو تعالى لا يعذر الباغي في الدّين، و أما غيره ممن انحرف عن الدّين فقد يعذره إن اشتبه عليه و لم يستطع حيلة، و على ذلك دلّت آيات كثيرة قال تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الشورى- ٤۲].
قوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ.
مادة (أذن) تأتي بمعنى الإرادة و المشيئة، و قد استعملت فيهما في القرآن الكريم فيما يقرب من عشرين موردا. و يلزمهما العلم، و لا ريب في أنّ الإرادة و المشيئة أخص من العلم، قال تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة- 102]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء- ٦٤]، أي بإرادة اللّه و أمره. و قال تعالى: فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران- ٤۹]، و قال تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة- 339]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
و الآية في مقام بيان الإيمان الحق الذي لا اختلاف فيه واقعا إلا اختلاف حصل من بغي حملة الكتاب.
و المعنى: إنّ اللّه تعالى هدى الّذين آمنوا في مورد اختلاف الناس في الحق الّذي هو الدّين و المعارف الإلهية بعلمه و إرادته، فالهداية الحقيقية التي هي أشرف المقامات الإنسانية و أجلّ المعارج العرفانيّة تنتهي إليه جلّت عظمته على نحو الاقتضاء لا على نحو العلية التامة ليلزم الإلجاء و الجبر، فإنّ اللّه تعالى لا يجبر أحدا على الإيمان و الهداية و يدل على ذلك قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
و يستفاد من الآية المباركة: أنّ للّه تعالى أفرادا من الناس في كلّ أمة لهم قابلية الهداية و الاهتداء إلى الحق و هم المؤمنون الذين لا يؤثر فيهم اختلاف الناس في الحق. بهم ينوّر اللّه السّبيل، و قد أفنوا حياتهم في سبيل اللّه تعالى، و هم في سكون و اطمئنان و سائر الناس في اختلاف و اضطراب، و بهم تتم الحجة على العباد.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أي: يهدي و يوصل- على سبيل الاقتضاء- من أراد من عباده إلى الواقع الذي هو الصراط المستقيم كما مر.