يمكن أن تكون الآيات الشريفة إشارة إلى معاني عرفانيّة، تتشوّق النفوس إليها و تنشط الأرواح بها و تزيل التعب عنها و تتوجّه الى خالقها و تستعين منه، و لعلّ الآية المباركة: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إشارة الى عهود العشّاق المنقطعين عن ما سواه و العاكفين على أبواب فيضه و رحمته، فعقدوا معه جلّ شأنه على بذل وجودهم لنيل مقصودهم- و هو رضاه- و تحمّلوا ألم الفراق و عذابه لأجل لقاء جماله، و صبروا على المكاره حتّى يتقرّبوا إليه بالشوق الى دنوّه، فأنت الّذي وهبت لهم من فيضك قدر ما يستحقّون، و أنعمت عليهم من آلائك قدر ما يتأهّلون باختيارهم، و جعلت في قلوبهم شوق لقائك، فهم منك، و إليك، و لك، و معك تعاهدوا و تعاقدوا إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111]، و قال تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة البقرة، الآية: 207].
أو إشارة الى أنّ ما تفضّل به على الإنسان و وهب له أعضاء يستخدمها في حياته، فكلّ عضو- نعمة وهبة- له عقد معه جلّ شأنه بأن لا يصرفه في معاصيه و نواهيه، فلا بدّ من الوفاء بهذه العقود الّتي عقدت معه تعالى، و يدلّ عليها روايات كثيرة ذكرها علماء الأخلاق في كتبهم.
أو إشارة إلى ما بذلوا من الجهد في هداية خلقك، و مهّدوا السبيل لهم للفوز إلى القرب من حضرة جمالك، و تعاقدوا ببذل أغلى و أعلى ما عندهم بقبولك بالدخول مع عبادك.
أو إشارة الى إماتة الإنسيّة للنيل الى المقامات العالية و العقد على مخالفة الهوى و طرد الشيطان؛ لتلقّي أنوارك.
و كيف ما كان، فمن أوفى بعهوده و دام على عقوده و صبر على بلائه و نجح في امتحانه، فقد فاز بمقصوده و تلقته السعادة، و تمثلته الإنسانيّة، و دخل الجنّة بعد ما أزلفت له.
و لعلّ المراد من قوله جلّ شأنه: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ احلّ ذبح بهيمة النفس الّتي هي كالأنعام بل أضلّ سبيلا، و قتل الأهواء الشريرة حتّى تنكشف الحقائق و تزيل الأوهام، فعن علي عليه السّلام: «المؤمن ينظر بنور اللّه»؛ لأنّه من اللّه تعالى و الى اللّه تعالى، و هو في نور اللّه و يرى بنور اللّه، إن عرف اللّه و أزال الحجب بينه و بين اللّه تعالى، و هذه الأنوار غير محدودة، كما تقدّم في أحد مباحثنا السابقة، و لكن الاستعداد و اللياقة بل الأهليّة لها دخل فيها.
و لعلّ الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ يشير الى الخلّص من عباده، و هم النفوس المطمئنة الثابتة الّتي فازت بالقرب الى ساحة جماله، و تشرّفت بالخطاب الأبدي الربوبي، فسمعت باذن نقية داعية قوله تعالى: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَ ادْخُلِي جَنَّتِي؛ لأنّها أحرمت بالتنفّر عن الدنيا و ما فيها و توجّهت الى كعبة الوصال بتلبية الشوق، و تمسّكت بعرى العشق لحضرة الجمال، و آنست مع الطائفين حول بيت الحقيقة و الأمان، و أوت الى الركن خوفا من الأغيار، و تجرّدت عن ما سواه، و انفردت عن كلّ محبوب و مطلوب بالتوجّه الى المقام؛ و لذلك كلّه يرى في كلّ شيء جماله جلّت عظمته كما عن سيد العرفاء و إمام الموحّدين عليه السّلام.
و لا شكّ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بترقي النفوس اللائقة و بذبح النفس إن اتّصفت بصفات البهيمة، و رعت في مراتع الحيوانات السفليّة، و رفثت كما ترفث الحيوانات البريّة، و تشبّهت بالحيوانات السبعيّة حتّى تنال طعمة من المآكل الدنيّة.
ما يُرِيدُ كما يشاء و يريد، فإنّه رؤف كريم يحبّ أن يرى آثار نعمه على عباده، و في الحديث: «انّ اللّه جميل و يحب الجمال»، الأعمّ من الظاهري و المعنوي، و لا يحبّ القيود و السلاسل «و يبغض العبد القاذورة». أي: الصفات الذميمة المتوطنة في النفس أو الأوساخ الظاهرة على الجسد.
و لعلّ المراد من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ لا تقطعوا السبل عمّن أراد وجهه تعالى؛ لأنّ الجهة عظيم لا السالك شريف- إلّا إذا كان مؤمنا- فإنّ القلوب تتسارع الى الفضائل إن انكشفت لها الحقائق و تؤمن باللّه العظيم و ملائكته و رسله؛ لأنّ العبرة بالخاتمة، فلا تتهاونوا بحرمات اللّه تعالى بصدّ السير للسالك الى المنازل و الصعود من المواقف الدنيّة إلى التجرّد للقائه تعالى.
كما أنّ بعض النفوس المؤمنة تشرّفت بالقرب لساحته جلّ شأنه و فازت بنيل رضاه بالإفاضة عليها، كذلك بعض الأمكنة أشرق عليه نور ربّه جلّ شأنه فتشرّف و سمى على غيره، و كذا بعض الأزمنة فضّل على غيره لتجلّيه تعالى فيه، و هو تعالى فضلّ الأشهر و الأيام و الأوقات و الأمكنة بعضها على بعض، كما فضّل الرسل و الأمم بعضها على بعض؛ لتتسارع النفوس المستعدّة لشوق اللقاء بعد تطهيرها عن الرذائل و الأغيار، ثمّ التحلية بصفات الأخيار، فقال تعالى: وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ، أي: لا تستحلّوا المآثم فيه و قدّموا التخلية بإزالة الصفات الذميمة حتّى تنالوا شرف التحلية فيه، فإن للزمان و المكان و الصاحب و الأستاذ الدخل الكبير في تأثير النفس للايصال إلى المقصود بها، و في تحلية النفوس فيها.
و لا تمنعوا قوما أرادوا التشرّف الى كعبة الآمال و ساقوا الهدي للقربان لأجل التوصّل لما يوجب الغفران من الآثام، حيث قال تعالى: وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلائِدَ، أي: لا تحلّوا الهدي الّذي يريد صاحبه التقرب به، و لا القلائد الّتي أسعرت بالشدّ لفكّ الشدّة.
و لعلّ المراد من قوله تعالى: وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أنّ كلّ مخلوق من حيث إضافته الى خالقه جلّ شأنه حسن، مع قطع النظر عن كونه سعيدا أو شقيا؛ لأنّه تعالى خلقه بيديه و من روحه و هو على صورته كما في بعض الأخبار، و إن لم يرض المولى بكفره- فإحسانه لخلقه لا لكفره- و إذا قصد بيت الأمن و الأمان و أراد التوجّه إليه بالمقام، فلا تصدّوه عنه علّه يتحلّى بمكارم الأخلاق و محاسن الأفعال و يتشرّف بهدي الإسلام؛ لأنّهم كسائر العباد يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً من التجارة في العاجلة أو الرضوان في الآخرة حسب زعمهم، و اللّه يهدي لرضوانه من يشاء حسب لياقته و شأنه، فلا يجوز تحقيرهم بمنعهم عن الوصول الى حرم الأمان، إلا إذا خبثت ضمائرهم، فخرجت عن قابلية الصلاح و الإصلاح، فحينئذ لا يؤم البيت الحرام.
و يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا الوصول الى مرحلة التطهير بتمييز الحقّ عن الباطل بالعيان؛ لأنّه إذا حلّيت النفوس بعد التخلية و قربت الى ساحة جماله بأداء شعائره، و رقّت الأرواح حتّى وصلت الى شهود أنواره، و خلت للأجسام النظر الى صفاته و الأخذ من رياض بهجته و بهائه، و استعدّت القلوب بعد ترويض النفوس و تزكيتها للمقام الرفيع، فحينئذ نالت مرحلة: «كلي و اشربي و قرّي عينا»، فأحاط التعظيم بها من كلّ جانب و شاهدت ما شاهدت و ميّزت الخبيث من الطيب، و ذاقت النفس طعم الحبّ و ألم الفراق، و قال بعض العرفاء:
لا محبّة إلّا بأصول و لا وصول إلّا غالي
و لا شراب إلّا مختوم و لا مقام إلّا عالي
و لعلّ المراد من قوله تعالى: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أن لا يصدّكم عن السير نحو الكمال بالوصول الى مقام التسليم و الرضا بعد الخلع بالبعد عن مساوئ نفوسكم الّتي هي الأغيار في جنوبكم، أو لا تمنعكم الصفات الذميمة في غيركم- الّذين هم في زيّ الصادقين و عملهم عمل المعرضين- عن إصلاح سرائركم و تنوير قلوبكم و النيل بالأحبّة و الفوز بمقام الخلّة بالتحلّي بصفات الغرّة، و قال شاعرهم:
أمّا الخيام فإنّها كخيامهم و أرى نساء الحي غير نسائها
لا و الّذي حجّت قريش بيته مستقبلين الركن من بطحائها
ما أبصرت عيني خيام قبيلة إلّا بكيت أحبّتي بفنائها
قال تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [سورة الأحزاب، الآية: 8]، فإذا سأل الصادقين عن صدقهم أ يترك المدّعين من غير سؤال؟! فإنّ البعد عن الحقّ و الحقيقة، و النيل من العزّ بذلّ العبوديّة بالأهواء ظلم و اعتداء؛ لأن الادّعاء أعمّ من الواقع و الحقيقة، فلا تحملنّكم الصفات الذميمة على الاعتداء بالهبوط عن رفيع المقام و أسمى المنزلة أشرف الملكات الّتي هيّأها اللّه تعالى لكم.
و إنّ المراد من قوله تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ أنّ كلّ ما يشغل القلب عن ما سواه و يمنع عن الوصول الى الحقّ و الحقيقة، فدفعه إعانة على البرّ، و لا يمكن دفع ذلك إلّا بواسطة الشرع المبين. و أنّ تمكين حبّ الدنيا في النفس، و تكدير الروح بعد صفائها، و تسويد القلوب بعد جلائها هي من الإعانة على الإثم، وَ اتَّقُوا اللَّهَ في جميع الحالات، و في كلّ الأمور و عند كلّ مقام، و منزلة ف إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فاتّقوه حتّى تنجوا من عقابه الشديد و عذابه المديدة، فمن عقابه عدم الوصول الى تلك المنازل، و من عذابه عدم نيل رضاه، و عدم الظفر بالحقّ و الحقيقة. و اللّه العاصم من الزلل و الخطأ.