قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ.
مادة (زين) من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات شتّى، قال تعالى: وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [سورة فصلت، الآية: 12]، و قال تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ [سورة يونس، الآية: ۲٤]، و قال تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [سورة القصص، الآية: 79]، و في حديث الاستسقاء: «اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها»، أي نباتها الذي يزيّنها.
و الزينة من الأمور الإضافية المختلفة بحسب اختلاف العادات و الأعصار و الأمصار، و أنها من الجماليّات التي يكون حسنها ممدوح و جذاب للنفوس، بل إن بعض مراتبها ممّا يدرك بالحسّ، و لا يمكن وصفها باللفظ، و الزينة الحقيقيّة هي ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله، لا في الدنيا و لا في الآخرة، و غيرها ممّا يوجب الشين في حالة دون اخرى، فهي زينة بالوجه و الاعتبار، و ليست هي حقيقيّة على الإطلاق.
و الزينة على أقسام ثلاثة: زينة نفسانيّة، كالعلم و الاعتقادات الحسنة و الكمالات النفسانية المقرّرة في الشريعة، و زينة بدنيّة جسمانيّة، كالشمائل الظاهريّة الحسنة، قال علي عليه السّلام: «زينة المرء حسن أدبه، و جمال الرجال في عقولهم، و عقول النساء في جمالهن»، و زينة خارجيّة كالمال و البنين و الاعتبار. و قد ذكر تعالى جميع ذلك في مواضع من القرآن الكريم.
فتارة: نسبها إلى نفسه عزّ و جلّ، قال تعالى: وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 7]، و قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ [سورة الأعراف، الآية: 32].
و اخرى: إلى الشيطان، قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام، الآية: ٤۳].
و ثالثة: لم يسم فاعلها- كما في المقام- و الوجه في ذلك أن اللّه تعالى خلق الدنيا و ما عليها وسيلة إلى نيل الكمال و الوصول إلى غاية حميدة، و هي الدار الآخرة، فكانت الدنيا متاعا و دار مقام ينزل إليها الإنسان في برهة من الزمن، ليتزوّد منها إلى سفر آخر طويل، فكلّما كان الزاد أحسن و أبقى، كان العيش في الآخرة أهنأ و أحسن، و قد خلق اللّه تعالى الدنيا زينة ليرغّب إليها الإنسان، و تكون وسيلة للتزوّد منها و يتوسّل بها إلى الدخول في رضوان اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا* وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [سورة الكهف، الآية: 7، 8] و إلى ذلك يشير كلّ ما ورد من الآيات التي تنسب الزينة إليه تعالى.
و أما إذا جعل الإنسان الدنيا و ما عليها من الزينة محط نظره، و اعتبرها أمرا مستقلا و جعلها هي الغاية من دون أن تكون وسيلة و ذريعة إلى الدخول في رضوانه تعالى، و أحبّها حتّى وصل بهم الأمر إلى أنهم جعلوا ما في الدنيا من الأموال و الأولاد تغني عنهم، فزيّنت لهم أعمالهم، فكانت الدنيا وبالا عليهم، فتكون الزينة مستندة إلى الشيطان أو إلى نفس الإنسان، و إن كانت الدنيا مخلوقة للّه تعالى، و قد أذن للإنسان أن يتمتّع بها، ليتمّ النظام، و لكن لم يزين الدنيا لتلهّي الإنسان بها و يعرض عن ذكره عزّ و جلّ، فإن اللّه تعالى أعزّ و أمنع من أن يدبر خلقه بما لا غاية له، أو يوصل الإنسان إلى غاية فاسدة، فالتعبير بالمجهول في (زين) للتنبيه على ما تقدّم كما سيأتي.
و تقدّم معنى الحبّ في آية ۱٦٥ من سورة البقرة.
و مادة (شهوة) تأتي بمعنى نزوع النفس إلى ما تريده. و هي إما صادقة، أي ما يقوم بها البدن و لا تتم الحياة البشرية إلا بها، و تكون من أتمّ ما بني عليه النظام الأحسن، بحيث لو اختلّت لبطل النظام و تعطلت امور الأنام، فإنها من سنن الحياة المستلذة بها. و إما كاذبة، و هي الشهوة المذمومة، أي الإغواء أو الدافع الشيطاني، و إنها مستقذرة حذّرت الأديان الإلهيّة منها، و جعلتها محور الانحرافات و الأخلاق الذميمة، سواء كانت خفيّة، أي الصفات الذميمة و الأخلاق السيئة التي يضمرها صاحبها و يصرّ عليها، كما في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان أخوف ما أخاف عليكم الرياء و الشهوة الخفيّة»، أم كانت ظاهريّة، و هي ما كانت ظاهرة من العمل.
و الشهوات: جمع شهوة، و هي توقان النفس للملائم أو الملذ لها، و هي من أهمّ القوى التي خلقها اللّه تعالى في الحيوان، و لو لولاها لما قام له أصل و لا بنيان.
و سياق الآية المباركة يدلّ على أن فاعل التزيين هو الشيطان أو النفس، لأنّ حبّ الشهوات مذموم، و يشتدّ الذم كلّما اشتدّ الحبّ، و يخف كلّما خف حتّى يصل إلى مرتبة الحبّ النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة في الإنسان و الحيوان، فتزول المذمّة رأسا، بل يكون ممدوحا و يكون خلافه نقصا و مذموما، و على ذلك يحمل ما ورد عن سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله: «أحببت من دنياكم ثلاث: الطيب و النساء، و قرّة عيني الصلاة»، و سيأتي وجه آخر لحمل كلامه.
و يمكن أن تكون الآية الشريفة في مقام بيان طبيعة الإنسان و ما يتدخّل في سلوكه، فإذا وفّق بين الحبّ و الطبيعة، بحيث يتحكّم العقل بالتوفيق بينهما، كانت النتيجة فاضلة و الأثر عظيما، و يكون حبّا ممدوحا، و هو الذي يشاؤه اللّه و يريده و يرتضيه، و لا ريب في أنه ممدوح عقلا أيضا، فيكون تزيين اللّه تعالى هو إذنه و بيان حدوده، فقد زين حبّ المذكورات في الآية الشريفة المتقدّمة وفق الحكمة المتعالية ليكون وسيلة لتنظيم النظام و بقاء النوع و حسن الاجتماع، و أما إذا ألهى القلب عن التوجّه إلى اللّه تعالى و أوجب الغفلة عنه عزّ و جلّ، فهو من تزيين الشيطان و وساوسه، و هو مذموم عقلا أيضا.
قوله تعالى: مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ.
ذكر سبحانه و تعالى أمورا ستة من المشتهيات، و هي الأمور التي تتدخّل في شؤون الإنسان و سلوكه و تحدّد مصيره.
و (من) بيانيّة، و البنين جمع ابن، و هو الذكر من الأولاد، و لكن في المقام يشمل الذكور و الإناث، بقرينة قوله تعالى: إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [سورة التغابن، الآية: ۱٥]، و قوله تعالى: وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سورة سبأ، الآية: 37]، و قوله تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة الممتحنة، الآية: 3]، و إنما أتى عزّ و جلّ بصيغة الذكور إما تغليبا، أو يكون كناية عن حبّهم المذموم الذي كان دائرا بينهم.
و إنما زين حبّ البنين مع كونه من حبّ النساء أيضا، لأن البنين هم الغاية القصوى من حبّ النساء، و هم النتيجة لذلك الحبّ.
و القناطير: جمع القنطار، و هو المال الكثير، و في بعض الأخبار ملأ مسك ذهبا، و قيل: ملأ جلد ثور ذهبا، و قيل غير ذلك، و هو اسم لمعيار خاص أيضا، و سمّي المال بالقنطار، لأن صاحبه يعبر بواسطته الحياة الدنيا، و يختلف ذلك اختلافا كثيرا بحسب الأشخاص و الأزمنة و الأمكنة و غيرها، كالغنى الذي لا يمكن تحديده بحدّ خاص، و من حدّدهما إنما يحدّدهما بحسب الجهات الخارجيّة، لا بحسب ذاتهما.
و المقنطرة اسم مفعول جيء به للتثبيت و التوكيد، كما هو عادة العرب في توصيف الشيء بما يشتق منه للمبالغة و تثبيت معناه له. و هذا التعبير مشعر بالكثرة و الاقتناء.
و تعداد المشتهيات باعتبار كون الإنسان ذا أصناف، فإن بعضا منه يتعلّق حبّه بالنساء، و بعضا آخر يتعلّق بجمع المال و تخزينه، و ثالثا بالأولاد البنين منهم بالخصوص، و رابعا بالأنعام و الحرث. و ربما يجتمع في فرد أكثر من واحد من تلك المشتهيات، فإن الشهوة ذات مراتب متفاوتة شدّة و ضعفا بالنسبة إلى شخص واحد في حالات مختلفة، فضلا عن الأشخاص.
فالآية المباركة تبيّن طبع الإنسان على نحو القضية الحقيقيّة، كما أنها ليست في مقام حصر الشهوات، فقد يتعلّق حبّ الإنسان بالجاه و المقام و نحو ذلك، و إن كانت المشتهيات الاخرى- التي لم تذكر في الآية الشريفة- أقلّ تأثيرا ممّا ذكر فيها، فهي امور وهمية تتعلّق بها الرغبة و مقصودة ثانوية، فيكون الحصر إضافيا، فلا منافاة بين هذه الآية الشريفة و بين قوله تعالى: الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [سورة الكهف، الآية: ٤٦]، و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق به.
و تعلّق حبّ الإنسان بهذه الثلاثة واضح، لأن بها ينتظم النظام الاجتماعي في هذه الدنيا، بل النظام الفردي و الاقتصادي فيها، و بها تتحقّق أغلب رغباته، و بقدر اشتداد هذه المشتهيات و ضعفها يتحدّد سلوك الإنسان و يتعيّن خلقه في الدنيا و مصيره في الآخرة، فإن بالنساء تتحقّق المعاشرة الزوجية إليهن و تسكن النفوس، و هن الطرف الآخر من الحياة التي عليهن مسئوليات كثيرة في الكفاح و العيش، فالمرأة و الرجل متشابكان في عموم المنافع و انتظام النظام، و لأجل ذلك أسّس العلماء قاعدة اصطلحوا عليها بقاعدة الاشتراك، أي اشتراك النساء مع الرجال في الأحكام، إلا ما خرج بالدليل، و قد حدّد الشرع المقدّس هذه الشهوة بحدود خاصّة تحدّد مسئولية كلّ واحد منهما في هذه الحياة و تنظم شؤونهما، و التعدّي عنها يوجب الفساد و الدمار.
و إنما لم يذكر عزّ و جلّ حبّ النساء للرجال- مع أن الناس في صدر الآية الشريفة يشمل كلا منهما، كما أن بقية الشهوات عامة لهما- إما لأن من أدب القرآن الكريم و السنّة الشريفة الستر على النساء مهما أمكن، أو لأجل أن كثيرا من الأمور التي تتعلّق بهذه الشهوة إنما يتعلّق بالرجال و تقلّ في جانب النساء، فإن الأشد و لعا بحبّ النساء و اتخاذهن صواحب في اللذائذ و نحو ذلك هم الرجال، كما أنهن أشد تأثيرا على الرجال، إذا اشتد الغرام و التعشّق بهن.
قوله تعالى: وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ.
المسومة: إما بمعنى الراعية من سامت الإبل سوما إذا ذهبت لترعى، أو بمعنى المعلّمة لتعرف من غيرها من السمة بمعنى العلامة، و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله يوم بدر: «سوموا فإن الملائكة قد سومت»، أي اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضا، و هي تلك الخيل التي يقتنيها الأغنياء و غيرهم للافتخار و التباهي، مضافا إلى كونها ممّا يبذل بإزائها المال الكثير.
و الأنعام و هي الإبل و البقر و الغنم، و إنها أموال أهل القرى و البادية، و منها يكون معاشهم و ثروتهم.
و الحرث اسم لكلّ ما يحرث، أي المغروس و المزروع، فيشمل نفس الزرع و تربيته، فيكون فيه معنى الكسب. و الحاجة إليه أشدّ من غيره، و حبّه لا يكون ضارا بأمور الآخرة، و لذلك أخّره عن الأنواع السابقة، و بذلك تتمّ جميع ما يزين أصناف الناس، فقد ذكر سبحانه الأنواع التي توجب الافتنان بكلّ صنف، فالذهب و الفضة لأهل التجارة و الخيل للملوك و أهل الجاه و المقام، و الأنعام لأهل البادية، و الحرث لأهل القرى و الأرياف، فتصلح الآية الشريفة لكلّ عصر و مصر من دون اختصاصها بصنف خاص و مورد كذلك.
قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا.
المتاع اسم لكلّ ما يتمتّع به، و يعبّر عنه لكلّ ما هو في معرض الزوال و الاندثار، و التعبير به للتزهيد في الدنيا و الترغيب للآخرة، التي هي دار البقاء و الحيوان، أي: ما ذكر من المشتهيات هي امور يتمتّع بها في هذه الدنيا الفانية التي يتزوّد منها برهة من الزمن، يقضي بها حوائجه من دون أن تكون باقية دائمة.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.
المآب: المرجع، و حسن المآب هو المرجع الذي لا فناء فيه و لا عناء و المنزّه عن كلّ نقص و عيب، فلا يشغل المتاع الزائل في الدنيا عن الخير الآجل و المطلق في العقبى.
و في الآية المباركة كمال الترغيب إلى الاخرة، و تحقير الدنيا و التقليل من شأنها.
قوله تعالى: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ.
تفصيل لما أجمل سابقا، و بيان لقوله تعالى: وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، فقد أمر سبحانه و تعالى نبيّه ببشارة المتّقين، بأن لهم عند اللّه تعالى ما هو أعظم من هذه المشتهيات الزائلة المحدودة، التي لا تبقى و لا تدوم، و هو الخير للإنسان، فلا خير في ما سواه، و هو و إن كان مشابها لما في هذه الدنيا و مجانسا للشهوات الإنسانية، و لكنها أجل النعم و أعظمها، و هو خال عن النقص و بريء عن القبح و الشرور، و قد ذكر سبحانه ذلك في كلام بليغ تتوجّه إليه النفوس و تهتزّ من فرح اللقاء الأرواح و القلوب. و فيه جذبة ربوبيّة من الملكوت الأعلى للمتّقين المسجونين في سجن الدنيا، و قد وعدهم الجنّة و مطهرات الأزواج و الرضوان.
و من إطلاق الخير يستفاد أنه خير في ذاته و من جميع شؤونه و جهاته.
و إنما أتى سبحانه بالكلام على صورة الاستفهام، لتوجيه النفوس إلى الجواب و تشويقهم إلى العمل، و هو أسلوب فصيح يؤثّر في النفس و يستفزّها على إصغاء الجواب.
قوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ.
جملة (للذين اتقوا) خبر مقدّم، و جملة: (جنات تجري) مبتدأ مؤخّر. و التقوى هي إتيان الواجبات الشرعية و اجتناب المحرمات الإلهيّة، و هي المراد بالعمل الصالح الذي كثر الاهتمام به في القرآن الكريم، كما أنها الورع الذي حثّت عليه السنّة المقدّسة بألسنة شتّى، فقد ورد: «أن من اجتنب محارم اللّه فهو من أورع الناس»،
و هي أساس الكمالات و قرّة عين الأنبياء و المرسلين، و هي السبب المتّصل بين أهل الأرض و السماء، و بها ينتظم نظام الدنيا و العقبى.
و لفظ الجنّات يدلّ على كثرة الأشجار و استتار الأرض بها و تعدّدها و جريان الأنهار من تحت الأشجار إنما هو لأجل تماميّة بهجة الجنّات و ازدياد رونقها، و كون الجنّات كذلك من أجلى مظاهر الفرح و الانبساط، لا سيما إذا استيقن الإنسان بدوام تلك النعمة، و لذا عقّبها بقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها، لتماميّة النعمة، بخلاف نعيم الدنيا.
و لجريان الأنهار أنواع كثيرة: منها ما إذا كان منبع الأنهار من غير تحت الأشجار، و منها ما إذا كان المنبع من تحتها، و منها ما إذا كان نزول الماء من الفوق في الأنهار ثم الجريان منها صاعدا (على نحو الفوارة) بالقدرة الأزلية الخلّاقة إلى غير ذلك، و بالجملة أن هذه الجنّات تشتمل على جميع اللذائذ بأعلى مراتبها.
و الأزواج المطهّرة هي تلك الأزواج التي يرغب إليها الإنسان، التي تكون طاهرة من جميع الرذائل و مبرّأة من كلّ عيب و ذم و نقصان، خلقا و خلقا بما يلائم طبع الإنسان، فهي في غاية الملاحة و البشاشة و السرور، و في ذلك تمام النعمة.
و قد خصّ اللّه تعالى الأزواج بالذكر من بين سائر اللذائذ الجسمانيّة، لأن النساء أعظم المشتهيات النفسانيّة، و الوقاع من أشدّ اللذائذ عند الإنسان.
قوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ.
الرضوان بكسر الراء أو ضمها من الرضا مصدران، و هو ملائمة الشيء لنفس صاحبه و سرورها به.
و قد تكرّرت مادة (رضى) في القرآن الكريم بهيئات شتّى تبلغ سبعين موردا، و قد ينسب الرضا إلى اللّه عزّ و جلّ و يراد به عناية خاصة غير محدودة بأي حدّ من النعم المعنويّة، بلا فرق بين أن يكون رضاؤه تعالى بالنسبة إلى أفعال العباد و طاعتهم له عزّ و جلّ، أو صفاتهم و أحوالهم، أو بالنسبة إلى أمر آخر يتعلّق بهم، قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الفتح، الآية: 18]، و قال تعالى: وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة، الآية: 3]، و قال تعالى: وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [سورة الزمر، الآية: 7].
و قد ينسب إلى العبد، و هو آخر مقامات العبوديّة الخالصة الذي هو التخلّق بأخلاق اللّه تعالى، و التفاني في حبّه، و لذلك درجات كثيرة، منها رضاء العبد عن اللّه تعالى لجزائه الحسنى و حكمه، قال تعالى: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التوبة، الآية: 100].
و رضوان اللّه تعالى هي الغاية القصوى لكلّ ذي لب، و هي أعلى مراتب اللذائذ الروحانيّة، و ذكره بالخصوص إنما هو لأجل بيان أن الرضا هو أقصى ما يشتهيه الإنسان من مشتهيات الدنيا، بل هو الغاية منها، فلا بد من السعي إلى رضوان اللّه تعالى الذي هو من أعظم اللذائذ عند المتّقين و ذوي الألباب، فهو الخير الذي لا يتصوّر أعظم منه، لا ما يتصوّره الإنسان من الخير في المال و القناطير، فإن ذلك إنما يكون برضائه تعالى، و لذلك اعتنى عزّ و جلّ به و أفرده بالذكر في مقابل الجنّات و الأزواج المطهّرة في هذه الآية و في سائر الآيات التي اقترن بغيره من اللذائذ، قال تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً [سورة المائدة، الآية: 2]، و قال تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 21]، و قال تعالى: وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ [سورة الحديد، الآية: 20].
و قد جمع سبحانه و تعالى في هذه الآية الشريفة اللذائذ الجسمانية في الآخرة، و هي الجنّات و الأزواج المطهّرة، و اللذّة المعنويّة الروحانيّة، و هي: الرضوان الذي لا يحدّه حدّ و لا يشوبه نقص.
و يستفاد من الآية الشريفة اختلاف درجات المتّقين في الآخرة، و أن لأهلها مراتب و طبقات، فمنهم من لا يليق به إلا اللذائذ الجسمانيّة، كالجنّات و الأزواج المطهّرة، و منهم من عظمت منزلته و ارتقى إدراكه و علا قربه، فلا يليق به إلا رضوان اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ.
أي: و اللّه خبير بعباده عليم بأفعالهم و ما تطويه ضمائرهم، فلا تخفى عليه خفاياهم و أمورهم، فيجازي كلّ فرد بما يكسبه و ما يليق بأفعاله.
و يستفاد من الآية الشريفة أن امتياز كلّ فرد من أفراد الإنسان بما يشتهيه الداخل في عواطفه و سلوكه في حياته الدنيويّة و الاخرويّة تحت إرادة اللّه تعالى و حكمته البالغة، و هو عالم بمصالحهم و جزائهم لا تخفى عليه أمورهم، فهذه الآية الشريفة بمنزلة التعليل لجميع ما سبق ذكره.
قوله تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ.
بيان لصفات المتّقين المدلول عليهم بقوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، و هي من الصفات الحميدة، و فيه إشارة إلى بعض صفات المحبّين المخلصين، و بعض مقامات العارفين، كلّ ذلك في خطاب بليغ إلى أعزّ حبيبه و أطهر قلب من الشرك و أنواع العيب، و فيه تظهر المعبوديّة المحضة للمعبود الحقيقي، كما أن فيه وعد الاستجابة للطائعين و العابدين.
و القول: مطلق ما يشعر بالحكاية عمّا في الضمير، بخلاف الكلام فإنه أعمّ من القول، فكلّ كلام قول و لا عكس، و المراد به في المقام مطابقة ضمائرهم مع ما يقولون بألسنتهم، و سياق الآية الشريفة شاهد لما قلناه.
و مادة (غفر) تأتي بمعنى إزالة الوسخ و الدنس، يقال: «اغفر ثوبك في الوعاء ليذهب عنه وسخه». و هي من الموارد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة جدا، و قد أضافها اللّه تعالى إلى نفسه الأقدس في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، فهو الغفّار و الغفور، و أن منه المغفرة، قال عزّ و جلّ: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ [سورة الرعد، الآية: ٦]، و قال تعالى: وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [سورة طه، الآية: 82]، و قال تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ [سورة هود، الآية: 11]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [سورة آل عمران، الآية: ۳٥]، و قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [سورة يوسف، الآية: 98].
و مادة (ذنب) تأتي بمعنى التبعة، أي القبح الذي يتبع صاحبه، و الفرق بينه و بين الجرم بالاعتبار، لأنه بمعنى القطع، أي يقطع ارتباط صاحبه باللّه تعالى، فكلّ مجرم مذنب و كذا العكس.
و الآية المباركة في مقام بيان استنجاز الوعد بعد الإيمان باللّه تعالى و لذا فرع غفران الذنوب على الإيمان، يعني: أننا و فينا بما عهد إلينا و هو الإيمان، فانجز اللهم بوعدك بستر ذنوبنا بعفوك و خلاصنا من عذابك. و عهد اللّه تعالى هذا مذكور في جملة من الآيات صريحا و ضمنا، منها قوله تعالى: وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ [سورة الأحقاف، الآية: 31]، و قوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [سورة الزمر، الآية: ٥۳]، و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة الصف، الآية: 9- 12].
و معنى الآية الشريفة: الذين يؤمنون و يعترفون بحقيقة العبوديّة للّه تعالى و الإيمان به عزّ و جلّ، و يجعلون ذلك وسيلة لطلب غفران الذنوب و نجاتهم من عذاب النار، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
و الآية المباركة ليست في مقام المنّة عليه عزّ و جلّ، بل له تعالى المنّة على عباده أن هداهم إلى الإيمان.
و إنما خصّوا اسم الربّ في دعائهم لما فيه من إظهار العبوديّة و الاسترحام.
و إطلاق الآية المباركة يشمل جميع الذنوب الكبيرة و الصغيرة، و قد قرّر عزّ و جلّ إيمانهم مع ذلك، فتكون الآية الشريفة حجّة على من قال بأن ارتكاب الكبيرة لا يجتمع مع الإيمان.
نعم، لو أراد أنه حين الارتكاب يزول إيمانه العملي بخصوص ما ارتكبه، كما هو المستفاد من قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا يزني الزاني و هو مؤمن»، فله وجه، لكنّه لا ينافي بقاء أصل الإيمان بنحو الجملة و الإجمال.
و الوقاية من عذاب النار و النجاة منها أعمّ من المغفرة و الدخول في الجنّة، و إنما طلبوا النجاة من عذاب النار لأنها الوسيلة للوصول إلى الجنّة و مقدّمة له.
قوله تعالى: الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ.
الصابر هو الحابس نفسه عن ارتكاب المعاصي و الملازم لامتثال الأوامر، و الصادق المخبر بالشيء على ما هو عليه، و القانت المطيع، و القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، و قد فسّر بكلّ واحد منهما أيضا، و لكن إذا استعمل في الأنبياء و الأولياء و عباد اللّه المخلصين يراد به هما معا، قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ [سورة النحل، الآية: 120]، و الإنفاق هو بذل ما هو راجح بذله، فيشمل المال و الجاه و العلم و قضاء حوائج الناس، و الأسحار جمع سحر، و هذه المادة في أية هيئة استعملت تفيد معنى الخفاء و الإخفاء. و في المقام عبارة عن اختلاط ظلام آخر الليل بضياء الفجر، و هو اسم لذلك الوقت، و هو أفضل الأوقات و أشرفها و أحسنها للعبادة، و أطيبها لحضور القلب و الإقبال على الدعاء و المناجاة مع الربّ، و أبعدها عن مداخلة الرياء، و كلّما قيل في مدحه و فضله فهو قليل، فكم للّه تعالى فيه من نفحة عطرة منّ بها على من يشاء و جائزة موفرة يخصّ بها من أخلص في الدعاء، و كم من عبادة فيها هبّت عليها نسمات القبول، و دعوة من ذي طلبة مشفوعة بالمأمول، فهو وقت العلماء العاملين و العرفاء المتعبّدين، و هو وقت نجوى الحبيب مع الحبيب، بلا تخلل مغاير أو رقيب، فالسعيد من أدرك هذا الوقت الشريف و استفاد من رحمة الربّ اللطيف.
و هذا الوقت من آخره معلوم، و هو اختلاط ظلام الليل بضياء النهار، و أما من أوّله، فعن جمع هو السدس الأخير من الليل، و عن آخرين أنه الثلث الأخير منه، و عن آخر أنه الثمن، و الكلّ صحيح بحسب مراتب الفضل، و قد تعرّضنا لبعض الكلام فيه في كتابنا [مهذب الأحكام] فراجع.
و الآية المباركة تشتمل على خمس خصال وصف بها المتّقون، و هي أمهات الصفات الحسنة و الخصال الحميدة و الأخلاق الكريمة، فبالصبر ينال الإنسان أعلى المقامات و يتحلّى بمحاسن الأخلاق، و بدونه لا يمكن أن يصل إلى درجة التقوى، و لذا قدّمه سبحانه في الكلام. و إطلاقه يشمل الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية و الصبر عند المصيبة، و هو و الصدق من أعلى مقامات السالكين إلى اللّه تعالى و أفضل درجات أهل الحقّ و اليقين، خصوصا إن عمّمنا الصدق ليشمل صدق اللسان و الحركات و خطرات الجنان و تطابق الظاهر مع الباطن، فحينئذ لا يتصوّر للعبوديّة مقام فوق ذلك إن طابق كلّ ذلك مع الشرع المبين و اقترن مع الخضوع و التذلّل للّه تعالى.
و هذه الخصال الخمس تستجمع جميع الخصال الحميدة و الأخلاق الكريمة، و لا يشذ منها كلّ متّق، و هي خصال متكاملة تشيد صرح الإنسانية الكاملة و تبلغها إلى أوج السعادة و أقصى الدرجات.
و بالأولى منها ينال الإنسان تلك الصفات و الخصال الكريمة التي تعلق بالنفس و تبعدها عن رذائل الأخلاق.
و بالصدق يتحلّى بالصفات التي تتعلّق بالظاهر.
و هاتان الخصلتان ترجعان إلى نفس الإنسان و تصلحان سريرته و علانيّته.
و القنوت للّه تعالى يجعل الإنسان خاضعا ذليلا بين يدي عظمته، مطيعا لإرادته عزّ و جلّ، و هذه الخصلة تصلح ما بينه و بين اللّه تعالى.
و الإنفاق يبعده عن رذيلة الشح و يجعله يشعر بما يجري على أخيه الإنسان، فيتحسّس بالمسؤولية، فهذه الخصلة تصلح بينه و بين الناس.
و أما القيام بالسحر، فهو ارتباط مع عالم الغيب طلبا منه العون في جميع أموره و الاستعاذة من الشيطان و النفس الأمّارة.
و الاستغفار بالأسحار هو القيام آخر الليل و الصلاة فيه و طلب الرحمة و المغفرة، كما فسّرته السنّة المقدّسة بذلك، و ما ورد في الآيات الكريمة بالنسبة إلى السحر على أقسام ثلاثة:
الأول: هذه الآية الشريفة و قوله تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ* وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ [سورة الذاريات، الآية: 17- 19].
الثاني: قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة السجدة، الآية: 17، 18].
الثالث: قوله تعالى: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [سورة الإسراء، الآية: 79]، و التهجّد بالليل هو الاستيقاظ بالعبادة من قراءة القرآن و الدعاء و الصلاة و نحوها من العبادات، و يستفاد من الجميع مطلوبيّة أصل الاستغفار في خصوص هذا الوقت الشريف، و لها مراتب كثيرة، منها أن يكون في الوتر من صلاة الليل، و هي أفضلها و أشرفها، و منها أن يكون في ضمن الدعاء و المناجاة و لو كانا في غير الصلاة، و منها نفس كلمة: «استغفر اللّه ربي و أتوب إليه»، و مقتضى الإطلاق مطلوبيّة الجميع مع اختلاف المراتب.
و الاستغفار بالسحر يوجب التوفيق لترك الذنوب في أثناء النهار، فيكون سببا لمحو الذنب السابق، و مقتضيا لترك الذنب اللاحق، فتستعدّ نفوس المستغفرين في الأسحار بذلك للاستعانة بأنوار الجلال و الاستفادة من فيوضات الرحمن التي لم تزل و لا تزال.