قد اضطربت الروايات في هذه المسألة و من أجله صارت الكلمات أشدّ اضطرابا- كما هو دأب الفقهاء في كل مسألة تختلف فيها الأحاديث- و قد ارتقت أقوالهم (قدّست أسرارهم) في المقام إلى سبعة كما ذكر في المفصلات.
و أهمّ الأقوال اثنان:
الأول: ما عن جمع من الأعاظم منهم الشهيدان و العلامة من عدم اعتبار تبييت نية السفر، فمع الخروج قبل الزوال يفطر مطلقا، و مع الخروج بعده يصوم كذلك.
الثاني: أنّه مع تبييت النية يفطر إن خرج بعد الزوال، و مع عدم التبييت لا يفطر و إن خرج قبله، ذهب إليه جمع منهم المحقق. و أما الشيخ الطوسي (رحمه اللَّه) فاختلفت أقواله جدّا، فلا ينبغي عدّه مخالفا لقوم دون آخرين.
و لا بد أولا من بيان أنّ المسألة تعبدية محضة ليس للعقل و الوجدان إليها سبيل. أو أنّ عليهما التعويل و لكن الشارع كشف عن ذلك بنحو من البيان و التعليل. و الحق هو الأخير، لأنّ تبييت نيّة السفر يتصوّر على وجوه:
منها: أن تكون له موضوعية خاصة من كل حيثية و جهة تحقق السفر
خارجا أو لا. و هو واضح البطلان، إذ القصد و النية طريق إلى المقصود و المنويّ و لا موضوعية فيهما بوجه كما يشهد به الوجدان.
و منها: أن يكون طريقا لعدم تحقق نية الصوم، لأنّه مع تبييت نية السفر و الالتفات إليه لا يتحقق نية الصوم.
(و فيه): أنّه لا ريب في تحقق نية الصوم مع العلم بالسفر، فإنّه ينوي الصوم بنحو ما جعله الشارع، فينوي الصوم ثمَّ يفطر بعد الخروج عن حدّ الترخص.
و منها: أن يكون طريقا لتحقق السفر أينما تحقق قبل الزوال أو بعده (و فيه): أنّ له وجه لو لم يكن إطلاق معتبر وارد في مقام البيان على خلافه، و لم يكن شاهد عرفيّ على الخلاف أيضا.
أما الإطلاق: فهي المتواترة الواردة في مقام التسهيل و الامتنان الدالة على سقوط الصوم في السفر مطلقا غير القابلة للتقييد، كقول الصادق (عليه السلام): «الصوم في السفر معصية»4٦، و قوله (عليه السلام): «من شهد فليصمه و من سافر فلا يصمه»4۷ خرج السفر بعد الزوال لنصوص متواترة- كما يأتي- و بقي الباقي.
و أما العرف: فقد كان المتعارف في الأزمنة القديمة إحداث السفر بعد طلوع الفجر و جرت العادة عليه، و إحداثه في طرف العصر كان قليلا إلا لضرورة تقتضي ذلك، و قد أدركنا بعض ذلك الزمان، فعلى هذا فيكون تبييت النية عبارة أخرى عن السفر قبل الزوال. و لا ريب في أنّ نفس السفر ليس من مفطرات الصوم- كالأكل و الشرب و نحوهما- بحيث يعتبر قصد عدمه في الصوم. بل يكون الحضور شرطا للصحة و الوجوب كسائر شرائطهما. و لا بد فيه من متابعة مقدار دلالة النصوص الواردة في المقام بعد رد بعضها إلى بعض و هي على أقسام أربعة:
الأول: قول أبي عبد اللَّه (عليه السلام) في صحيح ابن مسلم: «إذا سافر الرجل في شهر رمضان فخرج بعد نصف النهار فعليه صيام ذلك اليوم و يعتد به من شهر رمضان»4۸.
و في الموثق: «إذا خرج الرجل في شهر رمضان بعد الزوال أتم الصيام، فإذا خرج قبل الزوال أفطر»4۹.
و في صحيح الحلبي: «إن خرج من قبل أن ينتصف النهار فليفطر و ليقض ذلك اليوم، و إن خرج بعد الزوال فليتم يومه»٥۰ إلى غير ذلك من النصوص المتواترة الصريحة دلالة المخالفة للعامة، مع كونها في مقام البيان و التفصيل و التسهيل، و التيسير تنزيلا للمسافرة بعد الزوال منزلة المسافرة بعد الغروب في عدم إخلاله بالصوم، و عدم إبطاله ما تحمّله المكلف من تعب الصوم من أول الفجر، و إطلاقها يشمل مورد تبييت النية و عدمه و هي من محكمات أخبار الباب، و قد عمل بها جمع من الفقهاء (رحمهم اللَّه)، فلا بد من حمل غيرها عليها أو ردّها إلى أهلها.
القسم الثاني: ما ظاهره التفصيل بين تبييت نية السفر و عدمه، فمع التبييت يفطر، و مع عدمه يصوم، كموثق ابن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): «في الرجل يسافر في شهر رمضان أ يفطر في منزله؟ قال (عليه السلام): إذا حدّث نفسه في الليل بالسفر أفطر إذا خرج من منزله، و إن لم يحدث نفسه من الليلة ثمَّ بدا له في السفر من يومه أتمّ صومه»٥۱.
و في خبر رفاعة قال: «سألت أبا عبد اللَّه (عليه السلام) عن الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان حين يصبح قال: يتم صومه (يومه) ذلك»٥۲.
و في مرسل صفوان قال: «إذا خرجت بعد طلوع الفجر و لم تنو السفر
من الليل فأتم الصوم و اعتد به من شهر رمضان»٥۳، و قريب منه مرسلا ابن مسكان، و إبراهيم بن هشام٥4.
(و فيه) أولا: أنّ من تأمل في كيفية الأسفار القديمة يعلم أنّ غالب أسفارهم كان بعد طلوع الفجر كما مرّ، و أنّ من كان يريد السفر في النهار يهتم بتهيئة أسبابه من أول الليل و ينوي ذلك و يبني عليه، فمثل هذه الأخبار محمولة على الغالب و لا تنافي بينها و بين القسم الأول من الأخبار.
و ثانيا: أنّها موافقة للعامة، لنقل مضمونها عن الشافعي، و مالك، و أبو حنيفة، و الأوزاعي٥٥ و غيرهم من العامة، فلا تصلح لتقييد الأخبار السابقة التي تكون من المحكمات، بل عدها من المعارض و كونها لبيان الحكم الواقعي لا وجه له بعد إطباق عامة العامة على مفادها.
القسم الثالث: ما يظهر من الملازمة بين القصر و الإفطار، فيفطر و لو خرج قبيل الغروب و نسب القول به إلى ابن بابويه، و المرتضى كقول الصادق (عليه السلام): «إذا أفطرت قصّرت، و إذا قصّرت أفطرت»٥٦، و خبر مولى آل سام: «في الرجل يريد السفر في شهر رمضان قال: يفطر و إن خرج قبل أن تغيب الشمس بقليل»٥۷.
(و فيه): أنّ ما دل على الملازمة بين الإفطار و القصر قد خصصت بالقسم الأول من الأخبار، فلا وجه للتمسك بإطلاقها، مع أنّ خبر مولى آل سام غير مسند إلى المعصوم (عليه السلام).
القسم الرابع: أخبار شاذة كقول الصادق (عليه السلام): «إذا أصبح في بلده ثمَّ خرج فإن شاء صام و إن شاء أفطر»٥۸.
و في خبر سماعة قال: «سألته عن الرجل كيف يصنع إذا أراد السفر؟
قال: إذا اطلع الفجر و لم يشخص فعليه صيام ذلك اليوم، و إن خرج من أهله قبل طلوع الفجر، فليفطر و لا صيام عليه»٥۹.
و قول أبي الحسن الرضا (عليه السلام): «إذا أصبح في أهله فقد وجب عليه صيام ذلك اليوم إلا أن يدلج دلجة»٦۰ أي: السير في الليل. و لا بد من رد هذه الأخبار إلى أهلها، و لعلّ الوجه في كثرة اختلاف الأخبار اختلاف آراء العامة فوردت مختلفة حفظا للشيعة، كما في اختلاف أخبار الأوقات و غيرها كما تقدم. و اللَّه العالم.
فرع: المستفاد من مجموع الأخبار أنّ نفس السفر من حيث هو سفر ليس من المفطرات- كالأكل و الشرب، و الجماع- بل مفطريته من باب الوصف بحال المتعلق لا بحال الذات، و يشهد له الأصل، و أدلة حصر المفطرات. نعم، قصد الصوم في السفر حرام و هو غير كون السفر من حيث هو من فعل المفطر كما لو أكل عمدا. و حينئذ لو سافر عمدا قبل الزوال ثمَّ رجع إلى وطنه قبله و نوى الصوم لا دليل على بطلان صومه، و كذا لو سافر قبله و دخل محل الإقامة و نوى الإقامة ثمَّ نوى الصوم.
إنّ قيل: لا وجه لصحة الصوم في شهر رمضان، لعدم دليل على امتداد وقت النية فيه إلى الزوال لمثل الفرض.
يقال: يدل عليه المستفيضة الدالة على أنّ من قدم من سفره قبل الزوال يصح صومه٦۱. و يأتي في [مسألة ۱] من (الفصل التالي) بعض الكلام.