للأصل بعد عدم دليل عليه، و الظاهر أنّ صدور الحروف عن مخارجها طبيعيّ غير التفاتي بالنسبة إلى من لم يكن في لسانه و مخارجة آفة.
نعم، لو لم تكن حرفا في لغة أو كانت في الجملة، كانت استعمالاتها قليلة تحتاج إلى توجه إلى مخرجها و كيفية صدورها في الجملة لا بالدقة العقلية بل بنحو المتعارف في المحاورة. قال في الجواهر: و نعم ما قال: «فوسوسة كثير من الناس في الضاد و ابتلائهم بمعرفة مخرجه في غير محلّها، و إنّما نشأ ذلك من بعض جهال من يدعي المعرفة بعلم التجويد من بني فارس».
و لا بد من بيان أمور:
الأول: قد تفحصت عاجلا بقدر و سعي في الأخبار لأن أظفر على ما ذكروه في التجويد في مخارج الحروف و سائر ما تعرضوا له، فلم أجد عينا و لا أثرا مع أنّ الأمر من الأمور الابتلائية لجميع المسلمين، و لو وجب شيء منها لشاع و بان.
إن قيل: إنّ الناس كانوا من العرب، فلم يحتاجوا إلى البيان، لكون جملة ما ذكروه فطريا لهم. يقال: لم يكن جميع المسلمين عربا و لا بد و أن يبيّن الحكم الإلهي العام البلوى مع أنّ مولانا الرضا عليه السلام كان مورد ابتلاء العجم مدة، و لم أظفر على شيء يدل على أنّ شخصا من الأعاجم قرأ قراءته لديه عليه السلام أو سأله أحد عن ذلك، مع أنّ ما ذكر في التجويد ليس من التكوينيات الفطرية، بل غالبها من الجعليات الصناعية.
و أما قولهم عليهم السلام: «اقرءوا كما تعلّمتم فسيجيئكم من يعلّمكم»۱4٥.
ففيه أولا: أنّه يمكن أن يراد به كمية آيات القرآن لا كيفية القراءة. و ثانيا:
يمكن أن يراد به ما يرجع إلى مادة الآيات أو كيفياتها الواجبة النحوية دون ما يتعلق بالتجويد. و أما قوله تعالى وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا۱4٦. فلا ربط له بالتجويد الحادث بعد رحلة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بسنين و قد ورد عن أبي عبد اللّه عليه السلام في تفسيره: «ينبغي للعبد إذا صلّى أن يرتل في قراءته فإذا مرّ بآية فيها ذكر الجنّة و ذكر النار سأل اللّه الجنة و تعوّذ من النار، و إذا مرّ ب يا أَيُّهَا النَّاسُ* و يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* يقول لبيك ربنا»۱4۷.
و عنه عليه السلام أيضا: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: و لا تهذه هذّ الشعر و لا تنثره نثر الرمل و لكن اقرعوا به قلوبكم القاسية و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة»۱4۸.
و لا ربط لهما بالتجويد أيضا، بل مفادهما التخشع و التفكر في القراءة.
نعم، روي عن عليّ عليه السلام في معنى الترتيل: «أنّه حفظ الوقوف و أداء الحروف»۱4۹.
و لكن عن الحدائق: لم أقف عليه في كتب الأخبار و لعله من مفتعلات العامة ترويجا لصناعة التجويد. و يأتي في (فصل مندوبات القراءة) معنى الترتيل المستحب، فلا دليل على لزوم ابتاع ما أوجبوه بل و لا استحباب متابعتهم فيه، فكيف بما ندبوه إلا إذا توقف أداء مادة الكلمة لغة أو هيئتها المعتبرة فيها عليه فيجب حينئذ الإتيان بمادة الكلمة و هيئتها المعتبرة لا من جهة لزوم متابعتهم.
الثاني: عدّ مخارج الحروف ستة عشر- كما عن سيبويه- أو سبعة عشر- كما عن الخليل- أو أربعة عشر- كما عن غيرهما- مبني على التقريب و الغالب لا
التحقيق و الدقة كما هو معلوم لكلّ من راجع وجدانه، مع أنّه لا دليل على اعتبار أصول هذه الأقوال من عقل أو نقل. و قال في الجواهر: و ما أحسن قوله: «فما له دخل في أصل طبيعة الحروف فلا ريب في وجوبه، و أما الزائد فقد يشكل استحبابه لو لا التسامح فضلا عن وجوبه».
أقول: لا موضوع للتسامح هنا أيضا لأنّه إما في حديث ضعيف نقل عن معصوم أو في قول فقيه بناء على التسامح و المقام خارج عنهما.
الثالث: المعروف بين أهل التجويد في تفصيل مخارج الحروف ما يلي:
(الأول): أنّ أقصى الحلق للهمزة، و الهاء، و الألف.
(الثاني): وسط الحلق: للعين، و الحاء.
(الثالث): أدنى الحلق، للغين و الخاء.
(الرابع): أقصى اللسان و ما فوقه من الحنك: للقاف.
(الخامس): ما يلي أقصى اللسان و ما يلي فوق الحنك للكاف.
(السادس): وسط اللسان و ما فوقه من الحنك: للجيم و الشين و الياء.
(السابع): أول إحدى حافتي اللسان و ما يليها من الأضراس للضاد.
(الثامن): ما دون طرف اللسان إلى منتهاه و ما فوق ذلك للام.
(التاسع): ما يلي ذلك للراء.
(العاشر): ما يلي ذلك: للنون.
(الحادي عشر): طرف اللسان و أصول الثنايا: للطاء، و الدال، و التاء.
(الثاني عشر): طرف اللسان و الثنايا: للصاد، و الزاء، و السين.
(الثالث عشر): طرف اللسان و طرف الثنايا: للظاء، و الذال و الثاء.
(الرابع عشر): باطن الشفة السفلى و طرف الثنايا العليا، للفاء.
(الخامس عشر): ما بين الشفتين، للباء، و الميم، و الواو.
(السادس عشر): الخيشوم: للواو الساكن و يسميان بحروف الغنّة.
و بتقسيم أخصر: أنّ المخارج إما مخرج حلقي أو فمي أو شفوي، و لا يخفى أنّ ذلك كلّه تبعيد للمسافة و جعل اصطلاح خاص لما جعله اللّه تعالى
بالتكوين و الفطرة و ليس له ثمرة عملية، بل و لا علمية و كذا ما يأتي في الأمر الخامس.
الرابع: الظاهر إمكان النطق ببعض الحروف عن غير المخارج التي عينوها و حيث إنّهم أرادوا بالتعيين الغالب و التقريب لا الدقة و التحقيق فلا نزاع معهم في البين، و قد مرّ أنّه لا دليل على اعتبار أصل قولهم.
الخامس: قد ذكروا أنّ الأسنان أربعة أقسام: الأول: ثنايا و هي في مقدم الفم ثنتان من فوق و ثنتان من تحت. الثاني: رباعيات و هي تلي الثنايا من كلّ جانب واحد. الثالث: أنياب و هي التي تلي الرباعيات من جانب واحد أيضا.
الرابع: أضراس و هي بقية الأسنان و أربعة منها تسمّى ضواحك، ثمَّ اثنتا عشر طواحن، ثمَّ أربعة نواجذ و تسمّى ضرس العقل أيضا، و قد لا توجد في بعض الأفراد و ذكروا ذلك مقدمة لما فرعوا عليه من تعيين مخارج الحروف و أسماء الأسنان ترجع إلى علم اللغة، و لكن ما فرّعوا عليه يحتاج إثباته إلى دليل و هو مفقود.
السادس: قد ذكروا في صفات الحروف: الجهر، و الهمس، و الشدة و الرخاء، و التوسط بينهما، و الاستعلاء، و الاستقبال، و الإطباق، و الانفتاح و الانزلاق، و الإصمات و قد جعلوا لكلّ واحد منها حروفا خاصة و حيث إنّ أصل قولهم بلا دليل، فلا وجه للتفصيل. و من شاء فليراجع كتبهم.
السابع: مقتضى الأصل جواز الوقف على كلّ كلمة ما لم يمنع عنه مانع يضر بمادة اللفظ أو هيئته أو معناه، و ما افتعلوه من أنّ الوقف في القرآن خمسة آلاف و ثمانية و عشرون، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال:
«إنّ من ضمن لي أن يقف على عشرة مواضع ضمنت له الجنة».
كما في الجواهر، و أنّ الوقف الحرام ثمانية و خمسون، و أنّ من وقف على واحد منها متعمدا، فقد كفر كلّ ذلك يكون زخرفا من القول و زورا، إذ لم يشر إلى شيء مما قالوه في أحاديث أهل البيت الذين نزل القرآن في بيتهم و علّمهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله علوم القرآن و أحكامه و معارفه. نعم، حيث إنّه قد وردت مستفيضة- عن أهل البيت عليهم السلام جمع بعضها المحدث الكاشاني
في مقدمات تفسيره- دالة على أنّ علوم القرآن عند أهل البيت۱٥۰ افتعلت علوم أخرى للقرآن عند غيرهم لصرف وجوه الناس عنهم عليهم السلام.
الثامن: اختلفت أقوالهم في مخرج الضاد بين الإفراط و التفريط: فذهب بعضهم- إلى أنّ مخرج الضاد و الظاء متحدان- كأحمد بن مطرف و أقام على ذلك أدلة و شواهد، و نسب ذلك إلى شيخنا البهائي أيضا، و ذهب جمع إلى أنّهما متقاربا المخرج لا متحداه. و قال راجزهم:
الضاد و الظاء لقرب المخرج |
|
قد يؤذنان بالتباس المنهج |
|
|
|
و قال آخر منهم:
و يكثر التباسها بالضاد |
|
إلا على الجهابذ النقاد |
و قد حصل الاختلاف في مخرج الضاد، بين علماء الخاصة و العامة و قد كتبوا في ذلك كتبا و رسائل منها الاعتضاد في معرفة الظاء و الضاد، و الحمد للّه الذي أذهب بذلك كلّه و أظهر أنّ المخارج تكوينية لمن ليست به آفة.
ثمَّ إنّ الظاهر، بل المعلوم أنّ التأمل كثيرا في التجويد سواء كان في الصلاة، أم في قراءة القرآن أو الأذكار و الدعوات يسلب الخشوع، لأنّ توجيه النفس إلى جهة خاصة يوجب انصرافها عن سائر الجهات، و لعلّ هذا أحد الأسرار التي لم يهتم أئمة الدّين بترغيب الناس إلى ذلك، و قال صلّى اللّه عليه و آله:
«من انهمك في طلب النحو سلب الخشوع»۱٥۱.