لا بدّ أولا من تقديم أمور:
الأول: إنّ مورد البحث تارة في الأوليين من الإخفاتية، و أخرى في الأوّلتين من الجهرية، و ثالثة في الأخيرتين من الإخفاتية، و رابعة في الأخيرتين من الجهرية، و يأتي كلّ ذلك في هذه المسألة إن شاء اللّه تعالى.
الثاني: مقتضي الأصل اللفظي و العملي و المرتكزات بقاء جميع ما كان ثابتا للصلاة- واجبا كان أو مندوبا، شرطا أو جزءا أو مانعا في صلاة الجماعة أيضا إلّا مع الدليل على السقوط فيها فلا يجد المسلمون فرقا فيها بين الصّلاتين إلّا ما ثبت لديهم من المخالفة في مذهبهم. نعم، قد جرت عادتهم على التمييز بين الإمام المرضيّ و غيره بترك القراءة خلف الأول و القراءة خلف الثاني، و لا ريب أنّ ذلك مخالف للمجاملة المأمور بها و المرغب إليها، و حينئذ فالإطلاقات الدالّة على ترك القراءة مطلقا لا ظهور لها في الحرمة بقول مطلق، لورودها في مقام ردعهم عن عادتهم لا لبيان حكم اللّه الواقعي من كلّ جهة، و احتمال ذلك يكفي في عدم الجزم بالحرمة.
الثالث: قد ثبت في الأصول أنّ الأمر الوارد بعد الحظر، بل في مورد توهمه لا ظهور له في الوجوب و كذا النهي الوارد في مورد توهم الأمر لا ظهور له في الحرمة للاحتفاف بما يصلح للإجمال و الإهمال إن لم يكن ذلك من القرينة على الخلاف، و إلّا فالمرجع إنّما هو القرينة فقط.
الرابع: بناء على ثبوت حرمة القراءة خلف الإمام: الظاهر بطلان الصّلاة، لأنّها إما نفسية أو غيرية. أما على الأخير فواضح، و أما على الأول فيكون العمل مشتملا على الجزء المحرّم المبغوض، و التقرّب بالمشتمل على المبغوض غير مأنوس لدى العقلاء، مع العلم بأنّ كيفية الامتثالات الشرعية منزلة على المأنوس لديهم لو لم نقل إنّه من مجرد الإثم القلبي، و لا يتعدّى إلى العمل الخارجي، كما عليه جمع من المحققين. هذا إن قرأ بعنوان الجزئية و أمّا إذا قرأ بقصد مطلق القرآنية فلا حرمة في البيّن أصلا حتّى يبحث عن البطلان و عدمه، و لو كنا نحن و هذه الأمور المسلمة لقلنا بعدم حرمة القراءة خلف الإمام مطلقا إلّا إذا ثبت بدليل صحيح صريح.
الخامس: قد ثبت في محلّه أنّه مع الشك في الصحة و الفساد تجري أصالة الصحة و استصحابها، و مع الشك في المانعية تجري أصالة عدم المانعية فلو قرأ المأموم خلف إمامه و شك في صحة صلاته و بطلانها و مانعية القراءة و عدمها تجري أصالة الصحة و عدم المانعية إلّا إذا ثبتت المانعية بدليل معتبر.
السادس: القراءة خلف الإمام تتصوّر على وجوه:
منها: أن يقرأ خلف الإمام المرضيّ جهلا بالحكم أو بحسب الارتكاز و زعم الصحة.
و منها: أن يقرأ خلفه لعدم الاعتناء بإمامته، أو قصد إيذائه و إهانته.
و منها: أن يقرأ بقصد الرجاء.
و منها: أن يقرأ خلفه بقصد الورود. و الأخير إنّما هو مورد المقام، و يمكن أن تحمل بعض الأخبار الناهية على الصورة الثانية.
السابع: لو كانت القراءة محرّمة على المأموم تكليفيا أو وضعيا أو هما معا في هذا الأمر العام البلوى في جميع الأعصار و الأمصار لاشتهر من أول البعثة بين الأمة اشتهار الشمس في رابعة النهار و لم تصل النوبة إلى اجتهادات الأعلام.
الثامن: يظهر من المستند أنّ حرمة القراءة خلف الإمام للمأموم غير المسبوق في الجهرية كانت مشهورة عند الطبقة الثالثة، و الكراهة عند الطبقة الرابعة، و لم يتعرّض للمشهور بين الطبقتين الأوّلتين بشيء. و لكن تأتي إن شاء اللّه.
تعالى الأخبار المتكلّفة لحكم هذه الجهة، و ما هذا حاله فكيف يجزم الفقيه بالفتوى بشيء فيه.
إذا تبيّن ذلك نقول: أما حكم أولتي الإخفاتية بحسب الأدلّة الخاصة فهي على أقسام ثلاثة: الأول: المطلقات التي استظهر منها الحرمة كموثق ابن يعقوب: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الصّلاة خلف من ارتضي به أقرأ خلفه؟
قال (عليه السلام): من رضيت به فلا تقرأ خلفه»۱.
و خبر ابن كثير عن الصادق (عليه السلام): «سأله رجل عن القراءة خلف الإمام، فقال (عليه السلام): لا إنّ الإمام ضامن للقراءة- الحديث-»۲.
و لو كنا نحن و هذا الخبر لا نحكم بحرمة القراءة لأنّ المضمون عنه لا يحرم عليه أداء ما ضمنه الضامن.
و صحيح ابن مسلم قال أبو جعفر (عليه السلام): «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: من قرأ خلف إمام يأتم به فمات بعث على غير الفطرة»۳.
و فيه أنّ الفطرة هي الإسلام بعرضه العريض فمن ترك حكما من أحكامه- إلزاميا كان أو غيره- بل من ترك بعض محاسن أخلاقه يكون على غير الفطرة من هذه الجهة لا أن يكون على غير الفطرة الإسلامية رأسا بحيث كان كافرا، و يدل على ما ذكرنا أخبار متفرّقة في أبواب مختلفة.
منها: قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «خمس من الفطرة: تقليم الأظفار، و قصّ الشارب، و نتف الإبط، و حلق العانة، و الاختتان»4.
كما أنّ الكفر قد يكون من كل جهة، و أخرى يكون من بعض الجهات، و يدل عليه أخبار متفرّقة:
منها: قوله (عليه السلام): «و أما الرشا في الأحكام فهو الكفر»٥. و حينئذ فما ورد في الصحيح المزبور من «أنّ من قرأ خلف من يأتم به بعث على غير الفطرة» لا ظهور له في الحرمة إلّا بدليل خارجي، لاحتمال أن تكون هذه الفطرة من المندوبات و الأخلاقيات و المجاملات، فالفطرة كالعام الانحلالي الأصولي المنحل إلى جميع ما في الإسلام من الأحكام و الآداب و السنن و المجاملات، فكلّ من ترك شيئا منها يخرج من الفطرة، من هذه الجهة و إن بقي عليها من جهات أخر، و كذا الكلام بعينه في الكفر، إذ الإيمان مبثوث على الجوارح، كما في نصوص مستفيضة٦.
الثاني: من الأخبار الخاصة ما فصّل فيه بين الجهرية و الإخفاتية، مثل صحيح ابن الحجاج: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الصّلاة خلف الإمام أقرأ خلفه؟ فقال (عليه السلام): أما الصّلاة التي لا يجهر فيها بالقراءة فإنّ ذلك جعل إليه، فلا تقرأ خلفه، و أمّا الصّلاة التي يجهر فيها فإنّما أمر بالجهر لينصت من خلفه فإن سمعت فأنصت و إن لم تسمع فاقرأ»۷.
و قريب منه صحيحي الحلبي و زرارة۸ و غيرهما. و لا يستفاد من قوله عليه السلام: «فإنّ ذلك جعل إليه» غير الضمان الذي مرّ في خبر ابن كثير و قد تقدّم عدم دلالته على الحرمة فيسقط بذلك ظهور النهي عنها أيضا، مع أنّ في هذا التعليل خفاء جدّا، لأنّ أصل القراءة مطلقا جعل للإمام و هي في ضمانه مطلقا، فلا فرق بين الجهرية و الإخفاتية، و حيث إنّ الإخفاتية مقام توهم وجوب القراءة على المأموم قال (عليه السلام) لدفع هذا التوهّم فلا تقرأ خلفه فلا يستفاد منه الحرمة، لما مرّ في الأمر الرابع.
الثالث: خبر المرافقي المنجبر بالشهرة عن جعفر بن محمد أنّه: «سئل عن القراءة خلف الإمام، فقال (عليه السلام): إذا كنت خلف إمام تولاه و تثق به فإنّه يجزيك قراءته، و إن أحببت أن تقرأ فاقرأ في ما يخافت به، فإذا جهر فأنصت، قال
و في صحيح ابن خالد: «أ يقرأ الرجل في الأولى و العصر خلف الإمام و هو لا يعلم أنّه يقرأ؟، فقال (عليه السلام): لا ينبغي له أن يقرأ، يكله إلى الإمام»۱۰.
فإنّ قوله (عليه السلام): لا يعلم إما بمعنى لا يفهم قراءة الإمام، لكون الصّلاة إخفاتية، أو بمعنى يشك و هو أيضا في حكم القراءة من جهة الحمل على الصحة، و على أيّ حال إطلاق قوله (عليه السلام): «لا ينبغي» الذي هو ظاهر في الكراهة يشمل الصورتين.
و صحيح ابن يقطين «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الركعتين اللتين يصمت فيهما الإمام، أ يقرأ فيهما بالحمد و هو إمام يقتدى به؟ فقال (عليه السلام):
إن قرأت فلا بأس، و إن سكت فلا بأس»۱۱.
بناء على أنّ المراد بالصمت هو الإخفات، كما عن جمع، و إنّ المراد بالركعتين الأولتين، لأنّهما المنساق منهما عند الإطلاق خصوصا بقرينة قوله (عليه السلام): «و إن سكت فلا بأس» لأنّ السكوت في الأخيرتين غير مأنوس عند المتشرّعة و حينئذ فعلى فرض ظهور القسم الأول و الثاني في الحرمة يرفع اليد عنها بالقسم الثالث فتحمل على الكراهة جمعا.