أرسل ذلك إرسال المسلّمات الفقهية، بل المذهبية إن لم تكن دينية، و عن جمع دعوى الإجماع عليه، و استدلوا عليه بأمور كلّها مخدوشة:
منها: قوله تعالى (وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)۱. و فيه: أنّه مجمل يحتمل وجوها، كإيجاد العمل باطلا فاقدا للشرائط و الأجزاء، و إبطال ثوابه بالإحباط، كما يظهر من بعض الروايات، و إبطاله بالمعنى المدعى في المقام. و مع احتماله لهذه الوجوه، كيف يمكن الاستدلال به لأحدها إلا مع القرينة الخارجية، و هي مفقودة للمدعي.
و منها: ما دل على أنّ تحريم الصلاة التكبيرة و تحليلها التسليم ۲بدعوى ظهورها في حرمة المنافيات تكليفا و وضعا. و فيه: أنّ الحرمة الوضعية معلومة، و لذا اشتهر التمسك بها عند الفقهاء. و أما التكليفية فمن مجرد الاحتمال، و لا يكفي ذلك في الاستدلال.
و منها: ما عن العلامة رحمه اللّه: «إنّ الإتمام واجب، و هو ينافي القطع». و فيه: أنّه من المصادرة الواضحة.
و منها: النصوص الناهية عن ارتكاب المنافيات۳. و فيه: أنّ ظهورها في الحكم الوضعي مما لا ينكر.
و منها: النصوص الدالة على ترخيص أشياء خاصة في الصلاة كما تقدم4 فيستفاد منها حرمة القطع مطلقا. و فيه: أنّه لا يستفاد منها إلا الحكم الوضعي ترخيصا و منعا و لا ربط لها بالحكم التكليفي.
و منها: ما دل على أنّ «أسرق الناس من سرق من صلاته»٥، و ما دل على عدم جواز تضييع الصلاة، و أنّها تقول: «ضيعتني ضيعك اللّه»٦، و ما ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في من لم يتم ركوعه و لا سجوده في صلاته: «لئن مات هذا و هكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني»۷.
إلى غير ذلك من الأخبار. و فيه: أنّ السرقة من الصلاة، و تضييعها، و عدم إتمام ركوعها و سجودها غير قطع الصلاة اختيارا خصوصا إذا كان لطلب الأفضل، كمن يصلّي في غير المسجد و يقطع صلاته لأن يصلّي فيه أو مع الجماعة أو نحو ذلك من موارد الفضل.
و منها: الاستدلال بما ورد في كثير الشك من قوله عليه السلام: «لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه»۸. و فيه: أنّ سياقه النهي عن إطاعة الشيطان، و لذا تعم غير الصلاة أيضا، و لا ربط له بالقطع اختيارا.
و منها: الاستدلال بالنصوص المشتملة على الأمر بالإتمام و النهي عن القطع، كصحيح ابن وهب: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرعاف أ ينقض الوضوء؟ قال عليه السلام: لو أنّ رجلا رعف في صلاته و كان عنده ماء أو من
يشير إليه بماء فتناوله فقال (فمال) برأسه فغسله، فليبن على صلاته و لا يقطعها»۹.
و غيره من الأخبار. و فيه: أنّها إرشاد إلى صحة الصلاة و عدم لزوم الاستئناف و لا ربط لها بوجوب الإتمام و حرمة القطع.
و منها: الاستدلال بصحيح حريز عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا كنت في صلاة الفريضة فرأيت غلاما لك قد أبق، أو غريما لك عليه مال، أو حية تتخوّفها على نفسك، فاقطع الصلاة فاتبع غلامك أو غريمك و اقتل الحية»۱۰.
و بموثق سماعة: «عن الرجل يكون قائما في الصلاة الفريضة، فينسى كيسه أو متاعا، يتخوف ضيعته أو هلاكه، قال عليه السلام: يقطع صلاته، و يحرز متاعه، ثمَّ يستقبل الصلاة. قلت: فيكون في الصلاة الفريضة، فتغلب عليه دابة أو تغلب دابته، فيخاف أن تذهب أو يصيب فيها عنت. فقال عليه السلام: لا بأس بأن يقطع صلاته، و يتحرّز و يعود إلى صلاته»۱۱.
فيستفاد من تعليق الترخيص في القطع على السبب المنع عند عدمه.
و فيه: أنّ مثلهما لا يدلان على أزيد من أصل المرجوحية و مطلق الحزازة في الجملة و أما الحرمة فلا.
و منها: أنّ القطع اختيارا خلاف سيرة المصلّين من المسلمين. و فيه: أنّ السيرة حصلت من قول علمائهم، و الكلام في مدرك قول العلماء (قدّس سرّهم).
فعمدة الدليل على الحرمة الإجماع، و إن نوقش فيه بأنّ مدركه الاستظهار مما ذكر من الأخبار، فلا دليل في البين أصلا.
إن قيل: قد علق جواز القطع في الأخبار على موارد خاصة فلا يجوز في غيرها. يقال: هذا صحيح فيما إذا ثبتت الحرمة أولا بعنوان العموم، و خرج ما خرج لا ما إذا شك في أصل عموم التحريم أولا.
و قد صرّح جمع من متأخري المتأخرين بعدم الوقوف على الدليل، بل في
الحدائق عن بعض معاصريه الفتوى بجواز القطع اختيارا، و المتيقن من الإجماع خصوص الفريضة، بل قد صرّح جمع من مدعي الإجماع بذلك، بل عن السرائر و قواعد الشهيد الإجماع على جواز قطع العبادة المندوبة، و يقتضيه أصالة البراءة أيضا، لعدم الدليل عليه، و على فرض اعتبار الإجماع على عدم الجواز، فالمتيقن منه ما إذا لم يكن في البين غرض صحيح عقلائي في القطع، كما هو الحال في جميع الأعمال التي لها وحدة صورية، فلا يقطع في البين إلا لأغراض صحيحة. و يمكن أن يكون الإجماع على فرض اعتباره ناشئا عن هذا الأمر المرتكز في الأذهان لا أن يكون إجماعا تعبديا، و يأتي التفصيل في المسائل اللاحقة.