البحث في هذه المسألة تارة: بحسب الأصل. واخرى: بحسب الأقوال. وثالثة: بحسب الأخبار.
أما الأول فمقتضى الأصل عدم المشروعية فيما زاد على الواحدة إن كان بقصد الأمر، لأنّ الشك في التشريع يكفي في الحرمة التشريعية، ويشكل الحكم بالنسبة إلى المسح أيضا من حيث احتمال كونه بماء غير الوضوء، فمقتضى قاعدة الاشتغال أيضا الاكتفاء بالمرّة.
و أما الثانية: فالأقوال ثلاثة:
(الأول) ما عن المشهور، بل عن غير واحد من قدماء الأصحاب دعوى الإجماع على أنّ الثانية سنة.
(الثاني): أنّها جائزة وليست بمندوبة، نسب إلى الكليني والصدوق والبزنطي وجمع من متأخري المتأخرين.
(الثالث): أنّها بدعة محرّمة ذهب إليها صاحب الحدائق، ومنشأها اختلاف الأخبار كما يأتي.
و أما الثالثة: فهي كثيرة وهي على أقسام أربعة:
منها: قول أبي عبد اللَّه عليه السلام في الصحيح: «الوضوء مثنى مثنى من زاد لم يؤجر عليه»(٤٤)، وقوله عليه السلام أيضا: «ثمَّ يتوضأ مرّتين مرّتين»(٤٥)، وقوله عليه السلام: «فرض اللَّه الوضوء واحدة واحدة، ووضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله للناس اثنتين اثنتين(٤٦)، وقوله عليه السلام لداود الرقي: «توضأ مثنى مثنى»(٤۷) وقوله عليه السلام: «إنّي لأعجب ممن يرغب أن يتوضأ اثنتين اثنتين، وقد توضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله اثنتين اثنتين»(٤۸).
إلى غير ذلك من الأخبار المشتملة على مثل هذه التعبيرات، وهي ظاهرة، بل صريحة في تشريع الغسلة الثانية، بل وجوبها، وإنما تحمل على الندب لقرائن خارجية وداخلية. وحملها على التقية، كما عن المنتقى، أو على أنّ المراد «بمثنى مثنى» استحباب التجديد، كما عن الصدوق، أو على أنّ المراد بها الغرفتان، كما عن المحدّث الكاشاني. أو على أنّ المراد بها الغسلتان والمسحتان. أو أنّ المراد بهذه الأخبار إسباغ الوضوء، كما عن بعض كل ذلك خلاف الظاهر.
و منها: المستفيضة الحاكية لوضوء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله(٤۹) الظاهرة في كون وضوئه مرّة مرّة، بل بكفّ كفّ بكل من الأعضاء المغسولة، ومرسل الفقيه: «و اللَّه ما كان وضوء رسول اللَّه الا مرّة مرّة- الحديث-»(٥۰). وعن الصادق عليه السلام: «ما كان وضوء عليّ عليه السلام الا مرّة مرّة»(٥۱).
إلى غير ذلك من الأخبار. (و فيه) أما الحاكية لفعل النبيّ صلّى اللَّه عليه وآله والوصيّ فالاكتفاء في مقام العمل بالواحدة لا ينافي استحباب الثانية، ولعل الاكتفاء بها كان لأجل تعليم الأمة سهولة الشريعة، ولدفع منشإ الوسواس عن الناس، فإنّهم عليهم السلام كثيرا ما كانوا يتركون بعض المندوبات لمصالح شتّى. مضافا إلى أنّ إعراض المشهور عنها أوهنها.
و منها: المستفيضة بل المتواترة المشتملة على الإسباغ، وهي على قسمين:
(الأول): مثل قوله عليه السلام: «من أسبغ وضوءه- إلى أن قال- فقد استكمل حقيقة الإيمان، وأبواب الجنة مفتحة لهم»(٥۲)، وهي لا تنافي المرتين بلا إشكال، لشمول إطلاقه لكلّ منهما.
(الثاني): مثل قوله عليه السلام: «الوضوء مرّة فريضة واثنتان إسباغ»(٥۳)، وهو أيضا لا ينافيها، لكونه شارحا لبيان الحكمة في تشريع المرة الثانية، وأنّه تترتب فائدة الإسباغ عليها مع وجود مصالح أخرى في تشريعها.
و منها: قوله عليه السلام: «من توضأ مرّتين لم يوجر»(٥٤)، وقوله عليه السلام: «إنّ الوضوء مرّة فريضة واثنتان لا يوجر، والثالثة بدعة»(٥٥) إلى غير ذلك مما سيق مساقها.
(و فيه): مضافا إلى قصور سندها، وإعراض المشهور عنها أنّها محمولة على ما إذا لم يستيقن بأنّ الواحدة تجزيه بقرينة قوله عليه السلام في خبر ابن بكير: «من لم يستيقن أنّ واحدة من الوضوء تجزيه لم يوجر على الثنتين»(٥٦)، فيكون مفسرا لما دل على أنّ الثانية لا توجر.
كما أنّ قوله عليه السلام: «و الثالثة بدعة» مفسّر لقوله عليه السلام: «من تعدّى في وضوئه كان كناقصه»(٥۷)، فيكون المراد بالتعدّي المرة الثالثة لا الثانية، فيكون المتحصل من مجموع الأخبار بعد رد بعضها إلى بعض: أنّ الواحدة تجزي في حصول الطهارة ولا يجوز الاكتفاء بها في ذلك وبعد ذلك، الثانية مندوبة لمصالح. منها: الإسباغ، ومنها: زيادة نظافة ظاهر الجسد، ولا ينافي ذلك استحباب الإسباغ في الأولى أيضا، لأنّ للإسباغ مراتب متفاوتة.
فما نسب إلى البزنطي والكليني ومن تبعهما: من جواز الثانية وعدم استحبابها تمسكا بما دل على اكتفاء النبيّ صلّى اللَّه عليه وآله والوصيّ بالمرّة مخدوش، لما تقدم من أنّ الاكتفاء في مقام العمل أعم من عدم الاستحباب، مع أنّ في خبر عمرو بن أبي المقدام «قد توضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله اثنتين اثنتين»(٥۸).
و أما ما دل على أنّ عليّا عليه السلام «كان إذا ورد عليه أمران كلاهما طاعة للّه تعالى أخذ بأحوطهما وأشدّهما على بدنه»(٥۹) فمضافا إلى قصور سنده، وعدم الكلية فيه، كما لا يخفى على من راجع حالاته المباركة، إنّما هو فيما إذا لم تكن مصلحة في الأخذ بالأسهل الأيسر لمصالح كثيرة. منها: كيفية تعليم رفع الوسواس عن الناس، وغير ذلك من المصالح.
و أما ما عن صاحب الحدائق: من حرمة الثانية، فعمدة مستنده قوله عليه السلام فيما تقدم: «الثانية لم توجر» بدعوى: أنّ عدم الأجر كاشف عن عدم الأمر، فيكون الإتيان بقصد الأمر تشريعا محرّما، فقد تقدم الجواب عنه، وأنّه ترغيب إلى الأخذ بالأسهل الأيسر، خصوصا مع قلة الماء في تلك الأزمنة لا سيّما في الحجاز.
فروع- (الأول): الأحوط والأولى قصد التجديد أو الإسباغ في المرة الثانية. خروجا عن خلاف مثل صاحب الحدائق.
(الثاني): مقتضى الإطلاقات صحة التبعيض بأن يغسل وجهه- مثلا- مرّة، ويده مرّتين. أو بالعكس. ولكن الأحوط حينئذ قصد الإسباغ.
(الثالث): لا يستحب التكرار في المسح إجماعا بقسميه.
(الرابع): تعدد صب الماء على الوجه أو اليد لا يعد من المرّة الثانية ولو صب عشر مرّات.
(الخامس): لا فرق في استحباب المرّة الثانية بين الوضوء الترتيبي والارتماسي، لظهور الإطلاق.
(السادس): تحرم الغسلة الثالثة إذا كانت بعنوان الوضوء، لظهور النص(٦۰) ودعوى الإجماع، وإن لم تكن كذلك فلا تحرم، ولكن يبطل الوضوء من جهة المسح بنداوتها، لأنّها ليست من نداوة الوضوء. هذا إذا غسل تمام الأعضاء ثلاث مرّات. وأما إذا غسل الوجه فقط، أو الوجه واليمنى، فإن كان من قصده حين نية الوضوء ذلك يبطل الوضوء من حيث التشريع. وإن لم يكن كذلك وقصدها بعد غسلهما مرّتين، ففي البطلان إشكال، لعدم لزوم المسح بالماء الجديد، فتقع الثالثة لغوا لا محالة ولكن يظهر من إطلاق بعض الكلمات البطلان حتّى في هذه الصورة.
(السابع): لو غسل الأعضاء بزعم أنّها ثانية، فبانت ثالثة يبطل الوضوء ويصح في العكس.