لإطلاق النصوص الواردة في المقام كما سيأتي.
ثمَّ إنّه قد أطيل القول في مسألة التداخل في الأصول و الفقه و لا بأس بتلخيص المقال فيها و البحث فيها تارة: بحسب الأصل العملي. و أخرى:
بحسب الأصل اللفظي. و ثالثة: بحسب الكلمات. و رابعة: بحسب الأخبار.
أما الأول: فمع الشك في تعدد السبب و عدمه بحسب التكليف الواقعي يكون من موارد الأقل و الأكثر تجري البراءة العقلية، و النقلية بالنسبة إلى الأكثر و يكون المفاد متحدا مع تداخل الأسباب لو ثبت ذلك. و مع إحراز تعدده و الشك في أنّ المسبب الواحد يجزي عن أسباب متعددة أم لا؟ مقتضى قاعدة الاشتغال عدم الإجزاء، و تكون النتيجة متحدة مع عدم تداخل المسبب لو ثبت، و إن شك فيهما معا، فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر المشكوك، و يتحد مع تداخل الأسباب.
و أما الثاني: فمقتضى ظهور تعدد السبب تعدد حدوث التكليف بالمسبب عند كلّ سبب إلا مع دليل معتبر على الخلاف سواء كانت الأسباب من صنف واحد أو لا، مع قبول المحل لتعدد المسبب و لو بالاشتداد و التضعيف نعم، لو لم يكن المحلّ قابلا له مطلقا، فهو خارج عن مورد البحث تكوينا.
و ما يمكن أن يقال في الدليل على الخلاف أمور:
منها: أنّ تعدد المسبب بتعدد السبب يوجب اجتماع المثلين بالنسبة إلى ذات المسبب و طبيعته و هو محال.
و فيه: مضافا إلى ما تقدم مكررا- من أنّ اجتماع المثلين المحال إنّما هو في الأمور الخارجية، و الأحكام أمور اعتبارية ليست من الخارجيات- أنّ تعدد الجهة يرفع المحذور لو كان محذورا في الواقع.
و منها: أنّ ظهور إطلاق دليل المسبب يقتضي الاكتفاء بمسبب واحد، لأنّ المستفاد منه أنّ المطلوب إنّما هو صرف الوجود حتى مع تعدد السبب.
و فيه: أنه كذلك لو لم تكن قرينة على الخلاف و ظهور تعدد السبب يصلح للقرينة على الخلاف، مع أنّه يقتضي مطلوبية صرف الوجود بالنسبة إلى طلب كل سبب فقط مع قطع النظر إلى المسبب.
و منها: أنّ الجملة الشرطية عند تعدد الشرط لا تدل على حدوث المسبب عند حدوث كلّ سبب، بل تدل على مجرد الثبوت فقط، و هو أعم من الحدوث الحاصل بالسبب الأول و البقاء الكاشف عن الثاني، فأصل الحدوث يحصل بالسبب الأول و الباقي كاشف عنه، لا أن تكون من العلة المحدثة في شيء.
و فيه: أنّه من مجرد الدعوى بلا شاهد، و يلزم أن تكون جملة شرطية واحدة بالنسبة إلى شخص من العلية المحدثة و بالنسبة إلى آخر من العلية الكاشفة، بل يلزم ذلك بالنسبة إلى حالات شخص واحد أيضا، و هو غريب.
و منها: أنّ المسبب واحد واقعا و إن كان متعددا صورة، فيكون من تداخل المسبب كقوله: أكرم عالما، و أكرم عادلا، و أكرم هاشميا، فلو أكرم مجمع هذه الصفات، فقد أطاع و امتثل.
و فيه: أنّه يحتاج إلى دليل و هو مفقود، و المثال إنّما هو فيما إذا كان بين العناوين المنطبقة عموم من وجه، و المقام يكون المسبب شيئا واحدا قابلا للتكرار بذاته.
و منها: أنّ المسبب يحدث مع كلّ سبب تأكيدا لا تأسيسا.
و فيه: أنّه خلاف الظاهر.
و منها: أنّ الأسباب الشرعية معرفات لا أن تكون عللا حقيقة، فالسبب في الواقع واحد و المسبب يكون كذلك.
و فيه: أنه لا فرق بين الأسباب الشرعية و غيرها في أنّها قد تكون معرفات و قد تكون حقيقية، و مع عدم القرينة تحمل على الثانية مطلقا، فمقتضى الأصل اللفظي- و هو أصالة الإطلاق- تعدد المسبب بتعدد السبب بلا فرق بين ما إذا كانت الأسباب من صنف واحد أو لا. نعم، يمكن أن يقال: إنّ أهل العرف- في الأسباب المتعددة من صنف واحد مع عدم تخلل ارتفاع المسبب- يحكمون بأنّ جميع تلك الأسباب كسبب واحد و الأدلة الشرعية منزلة على المتعارف.
أما الثالث: فنسب إلى المشهور تعدد المسبب بتعدد السبب مطلقا ما لم يدل دليل على الخلاف. و إلى جمع القول. بكفاية مسبب واحد. و إلى بعض التفصيل بين اتحاد الجنس و تعدده. و الكلّ اجتهاد، و استظهار بنظرهم، لا أنّه قد وصل إليهم ما لم يصل إلينا.
أما الرابع: فقد وردت أخبار كثيرة دالة على إجزاء الغسل واحد عند تعدد الأسباب و اعتمد المشهور عليها.
منها: قول أبي جعفر عليه السلام: في صحيح زرارة الذي ورد لبيان قاعدة كلية: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة، و الجمعة، و عرفة، و النحر، و الحلق، و الذبح، و الزيارة، فإذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد و كذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها، و إحرامها، و جمعتها، و غسلها من حيضها، و عيدها»۲۹.
و قوله عليه السلام في المستفيضة الدالة على الإجزاء للمرأة عن الحيض، و الجنابة بغسل واحد: «إذا حاضت المرأة و هي جنب أجزأها غسل واحد»۳۰.
و منها: قول أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأه عنه ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم»۳۱.
و منها: رواية زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: ميت مات و هو جنب كيف يغسل؟ و ما يجزيه من الماء؟ قال عليه السلام: يغسل غسلا واحدا يجزي ذلك للجنابة و لغسل الميت، لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة»۳۲.
إلى غير ذلك من الأخبار۳۳. و لا بد من بيان أمور يسهل بها استفادة حكم المسألة:
الأول: الغسل- بالضم- شيء واحد لغة و عرفا، لا تختلف خصوصياته بحسب اختلاف أسبابه. و الوضوء أيضا كذلك، فلا يختلف باختلاف أسبابه، بل الطهارة الخبثية لا تختلف باختلاف المناشئ، و الأسباب، فيصح أن يقال بقول مطلق: إنّ الطهارة الحدثية، و الخبثية لا تختلف حقيقتهما باختلاف الأسباب.
و المناشئ. نعم، قد يدل الدليل على اعتبار خصوصية خاصة في بعضها دون بعض كاعتبار السدر و الكافور، في غسل الميت، و اعتبار التعدد في غسل البول، و ذلك لا يوجب الاختلاف في أصل الحقيقة، كما أنّ الاختلاف من حيث الإضافة إلى الأسباب، أو الاختلاف من حيث المرتبة لا يوجب ذلك.
الثاني: مقتضى إطلاقات الأدلة و أصالة البراءة كفاية قصد الغسل فقط، لأنّ اعتبار قصد الإضافة إلى السبب، أو قصد المرتبة مشكوك، يرجع فيه إلى الإطلاق، و البراءة- كما في سائر القيود المشكوكة- و قد تقدم في [مسألة ٤] من (فصل الوضوءات المستحبة) ما ينفع المقام فراجع و على فرض الاعتبار يكفي القصد الإجمالي، فيكون قصد الغسل عند الالتفات إلى أسبابه في الجملة قصدا لها أيضا، و لا دليل على اعتبار أزيد من هذا القصد، بل مقتضى الأصل عدمه هذا في الأغسال الرافعة للحدث.
و أما الأغسال المندوبة أو المجتمعة منها و من الواجبة، فيدل على عدم اعتبار قصد الأسباب فيها- مضافا إلى أصالة البراءة- إطلاق قوله عليه السلام:
«إذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد»۳4.
الذي سيق مساق القاعدة الكلية في مثل هذا الأمر العام البلوى و قريب منه غيره من الروايات.
و دعوى: أنه ليس في مقام البيان، أو أنّه مختص بالواجبة، لعدم شمول الحق للمندوب. مردودة لكون سياقها بيان القاعدة الكلية، فلا بد و أن تكون في مقام البيان، و قد أطلق (الحق) في الأخبار على المندوبات كثيرا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «للمسلم على أخيه ثلاثون حقا»۳٥.
مع أنّ جملة من تلك الحقوق من الآداب و المندوبات- مع أنه قد أطلق الحق في الصحيح على الأغسال المندوبة، كما تقدم- فالمراد بالحق مطلق ما أثبته الله تعالى واجبا كان أو مندوبا، فمقتضى إطلاق مثل هذه الأخبار كفاية قصد مجرد الغسل فقط عند الاجتماع مطلقا.
الثالث: يمكن أن يقال: إنّ الأحداث الموجبة للغسل متحدة في أصل الحدثية و مختلفة من حيث المرتبة كاختلاف مراتب الظلمة، و الغسل يرفع تلك الظلمة بمراتبها، فيكون الداخل حينئذ عزيمة إذ لا يبقي موضوع للغسل مع الإتيان بغسل واحد جامع للشرائط، و يحتمل أن يكون رافعا للحدث في الجملة، و لكن الشارع اكتفى به. هذا في الأغسال الرافعة للحدث.
و أما المندوبة، فمنشأها إما حصول النشاط، أو الاهتمام بالزمان، أو المكان، أو العمل، أو حصول مرتبة من الطهارة، و الجميع يحصل بإتيان الغسل الرافع للحدث أيضا، فالتسهيل الذي بنيت عليه الشريعة المقدسة يقتضي التداخل فيها بعضها مع بعض و مع الأغسال الرافعة للحدث أيضا.
الرابع: قد تقدم أن مقتضى إطلاق دليل المسبب كفاية غسل واحد عند تعدد الأسباب، و أنه مع تحقق الإطلاقين يمكن تقديم إطلاق دليل المسبب و مع عدم الجزم به يسقط إطلاق دليل السبب، لاحتفاف الكلام بما يوجب الإجمال، فيرجع إلى أصالة البراءة. و أخبار المقام إما وردت مطابقة، لأصالة الإطلاق في المسبب بناء على تقديمها على إطلاق السبب، أو مطابقة لأصالة البراءة بناء على سقوط الإطلاقين، و لكن مع وجودها لا بد من العمل بها سواء طابقت مع الإطلاق أو لا، و وافقت أصالة البراءة أو لا.
الخامس: الأغسال المتداخلة تارة: واجبة و يقصد الجميع و لو إجمالا.
و أخرى: واجبة و يقصد خصوص غسل الجنابة فقط، و لا إشكال في ظهور الإطلاق، و الاتفاق في صفحة الاكتفاء بغسل واحد في الصورتين، و حصول الامتثال بالنسبة إلى الجميع في الصورة الأولى و الأداء بالنسبة إلى الجميع، و الامتثال بالنسبة إلى خصوص المقصود في الصورة الأخيرة بناء على أنّ الامتثال متوقف على قصد الأمر، و فيه بحيث تعرضنا له في الأصول.
و ثالثة: تكون مختلفة في الوجوب، و الندب مع كون المنوي غسل الجنابة و المشهور فيه الصحة و الإجزاء عن الجميع، للإطلاق الوارد لبيان القاعدة الكلية.
و عن بعض عدم الإجزاء، لعدم شمول الإطلاق لهذه الصورة. و فيه: أنّه من مجرد الدعوى، فالحق مع المشهور، لما تقدم.
و رابعة: تكون واجبة مع قصد غير الجنابة من الأغسال الواجبة.
و خامسة: تكون مختلفة مع قصد غير الجنابة.
و سادسة: تكون مختلفة مع قصد بعض الأغسال المندوبة، و مقتضى الإطلاق الوارد لتأسيس القاعدة الكلية- غير القابل للخدشة- الصحة و الإجزاء في الجميع. و من استشكل في الإجزاء لا منشأ له، الا أصالة عدم التداخل بعد الخدشة في الإطلاق.
و فيه: أنه لو أمكنت الخدشة في مثل هذا الإطلاق الوارد لتأسيس القاعدة لاختل التمسك بالإطلاقات مطلقا، فالإطلاق محكم و الأصل لا مورد له مع الإطلاق إلا إذا ثبت إجماع معتبر على الخلاف و ثبوته مشكل، بل ممنوع و يأتي في وجوب سجدتي السهو، و كفارة الصوم، و الإحرام، و الحدود ما ينفع المقام.