الأول من مذاهب الجبر:ما نسب إلى الأشاعرة من نفي الإرادة و الاختيار عن العبد مطلقا،و قالوا:إن نسبة الفعل إلى اللّه بالحقيقة و إلى العبد بالمجاز،و إن العبد بالنسبة إليه تعالى،كالقلم في يد الكاتب،و السيف في يد القاتل.و من أمثلتهم:قال الحائط للوتد:لم تشقّني؟قال:سل عمن يدقّني.و استدلوا عليه بظواهر بعض الآيات،كقوله تعالى: وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ، و قوله تعالى: وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.و أن التوحيد الخالص في الفعل يقتضي نفي الإرادة و الاختيار عما سوى اللّه تعالى.
و يرد عليه:
أولا:أن تلك الآيات معارضة بما هو أقوى منها في الدلالة على نسبة الفعل إلى العبد،كقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ `وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، و يصح نسبة خلق عمل العبد إليه تعالى بالتسبيب مع اختيار العبد،كما يأتي.و نفي الرمي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة،لا بالنسبة إلى الفعل المباشري الصادر منه صلّى اللّه عليه و آله.
و ثانيا:أنه مستلزم لنفي الحسن و القبح العقلي المتفق عليهما بين العقلاء.
و ثالثا:أنه يلزم منه نفي استحقاق الثواب و العقاب المتفق عليهما في جميع الشرائع الإلهية إلى غير ذلك من المفاسد التي يأبى العقل عنها.
و لو لا ظهور بعض كلماتهم في التعميم لأمكن حمل بعضها على ما لا دخل للاختيار فيه،كالعزّة،و الذلّة،و الغنى و الفقر و نحوهما،و يمكن أن يحمل الجبر في قولهم على الجبر الاقتضائي،يعني أن مقتضى الإرادة القاهرة الأزلية الإلهية أن لا تكون في البين إرادة غيرها،و لكنه تعالى جعل للإنسان بل مطلق الحيوان،إرادة في الجملة لمصالح كثيرة،و الجبر الاقتضائي لا ينافي الاختيار الفعلي من العبد.
الثاني:ما ذهب إليه جمع من القول بوحدة الوجود،بل الوحدة المطلقة، فلا اثنينيّة بين الخالق و العبد حتى تكون فيه الإرادة و الاختيار،لأن ثبوتهما للعبد يتوقف على تعدد وجوده مع وجود اللّه تعالى،و مع الوحدة لا اثنينيّة في البين، فلا وجه لهما بالنسبة إلى العبد في مقابل اللّه تعالى.
و فيه:مضافا إلى جميع ما ورد على قول الأشاعرة،أنه قد ثبت في محله بطلان القول بوحدة الوجود مطلقا فضلا عن الوحدة المطلقة،بل قد ثبت في الفقه أن هذا القول كفر مع الالتزام بلوازمه.
الثالث:ما عن بعض من أن علم اللّه تبارك و تعالى علة تامة لحصول معلوماته،و فعل العبد معلوم له تعالى،فعلمه تعالى علة تامة لحصوله،فلا أثر لإرادة العبد و اختياره في فعله أصلا.
و فيه:أنه لم يدل دليل من عقل أو نقل على كون العلم علة لحصول المعلوم،بل مقتضى الوجدان خلافه،و في جملة من الأخبار الواردة في باب أسباب الفعل-التي جمعها في الكافي-دلالة عليه أيضا،فراجع.
نعم،يعلم اللّه تعالى أن العباد يفعلون أعمالهم بإرادتهم و اختيارهم، بحيث أن لهم أن يفعلوا و لهم أن يتركوا،فتعلّق علمه تعالى بأفعالهم من حيث أنها مختارة،لا أن يتعلّق العلم بأحد طرفي الاختيار فقط.
ثم إن أسباب الفعل هي:المشيئة،و الإرادة،و القدر و القضاء،و الإمضاء و نحوها،و هي جارية في كل فعل صادر من كل عالم قادر،سواء كان هو اللّه تعالى أم العباد.
و الفرق بين المشيئة و الإرادة بالكلية و الجزئية،و كل ذلك من المقتضيات، و ليست من العلة التامة في شيء.
و هذه كلها تارة التفاتية تفصيلية،و اخرى على نحو الإجمال و الارتكاز و هو الغالب.
الرابع من المذاهب في أفعال العباد:التفويض،و نسب إلى المعتزلة، فقالوا:إن الأفعال منسوبة إلى العباد بالحقيقة و إلى اللّه تعالى بالمجاز،و أنه لا تكون أفعال العباد مورد إرادة اللّه تعالى أصلا،و إنما هي مختارة باختيارهم فقط، و لا دخل لاختياره تعالى فيها،لأنه لو كانت أفعال العباد موردا لإرادته تعالى لزم الجبر،مع أنه لا يصح أن تكون السيئات و الأفعال القبيحة موردا لإرادته تعالى.
و فيه:انه مردود عقلا و نقلا،أما الأول فلما يأتي من بيان الأمر بين الأمرين.و أما الثاني فلقوله تعالى: إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ، و قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ.
و لما ورد من المعصومين من قول:«لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه»،و لما ورد في الدعوات الكثيرة من الاستعانة به تعالى في جميع الامور.
و الجميع ظاهر ظهورا عرفيا في صحة إضافة أعمال العباد إلى اللّه تعالى، إما بنحو القضاء و الرضا معا،كما في الحسنات،أو على نحو القضاء فقط،كما في السيئات.و قضاؤه تعالى ليس من العلة التامة المنحصرة في شيء أبدا،و إلاّ فهو جبر باطل.
و يمكن حمل كلامهم على التفويض الاقتضائي،بأن يقال إن نهاية استغنائه تعالى عن خلقه تقتضي إيكال الإرادة إلى العباد بعد بيان طريق الحق و الباطل و إتمام الحجة عليهم،و لكنه تعالى لم يفعل ذلك لمصالح كثيرة،بل جعل إرادته عزّ و جلّ مسيطرة على إرادة عباده على نحو لا يلزم منه الجبر،و هذا هو عين الأمر بين الأمرين الذي يأتي بيانه،و على هذا فلا نزاع في حاق الواقع بين المسلمين.
و أما الأمر بين الأمرين،فهو ما ورد عن أئمة الدين أنه:«لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين»،و هو الحق المطابق للوجدان و البرهان،و قد ذكروا في بيانه وجوها:
أولها:أن أفعال العباد إما من الحسنات،أو من المباحات،أو من السيئات و لا رابع في البين.
و لا ريب في أن الأمر بين الأمرين متقوّم بالانتساب إليه تعالى و إلى العباد انتسابا يحكم بصحته العقلاء،و من رضائه تعالى بالحسنات و ترغيبه إليها، و التأكيد في إتيانها و الثواب عليه و العقاب على الترك في بعضها،يصح الانتساب إليه تعالى-و أي انتساب أقوى و أحسن من ذلك-و يسمى بالانتساب الاقتضائي،لا يبلغ حدّ الإلجاء و الاضطرار.
و من إذنه تعالى في المباحات و ترخيصه لها،صح انتسابها إليه تعالى اقتضاء أيضا،كما تقدم في الحسنات.فتحقق بالنسبة إلى الحسنات و المباحات رضاؤه تعالى بها و قضاؤه لها.
و من خلقه تعالى للنفس الأمّارة و الشيطان،صح نسبة السيئات إليه تعالى، لكونه خالقا لمنشئها،و هذا الوجه يجري في الأولين أيضا،لأن خلق ذواتنا خلق لأفعالنا بالعرض.
و بالجملة يصح نسبة الخلق التسبيبي إليه تعالى في الجميع،من الحسنات و المباحات و السيئات.
إن قيل:إنه تعالى منزّه عن انتساب السيئة إليه مطلقا.
قلت:لا وجه للانتساب إليه تعالى بمعنى رضائه بها و ترغيبه إليها بلا إشكال فيه من أحد،بل هو لغو.نعم،هو تعالى خلق الذات المختارة القادرة على السيئة مع نهيه عنها،و إظهار سخطه و توعيده عليها،و قد فعلها العبد بسوء اختياره،فمنشأ النسبة إليه تعالى من جهة أنه خلق الذات القادرة المختارة مع ابلاغ النهي و التوعيد،و قد علم بها و قضاها على نحو الاقتضاء لا القضاء الحتم، و لا منقصة في هذا القسم من النسبة أبدا.و لعل هذا أحد معاني قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ فَمٰا لِهٰؤُلاٰءِ اَلْقَوْمِ لاٰ يَكٰادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً.
و بعبارة أوجز:أن في الحسنات و المباحات تعدد جهة الانتساب إليه تعالى من الرضاء و القضاء،و الإذن و الترغيب،و خلق الذات القادرة المختارة. و في السيئات منحصرة بخصوص الأخيرة،و القضاء بنحو الاقتضاء مع النهي و التوعيد و إتمام الحجة على الترك من كل جهة،و كل ذلك موافق لقانون العقل و العدل.
ثانيها:أن لكل فعل أسبابا خفية لا تدركها العقول،و أسبابا ظاهرة تدركها، و الاولى يصح أن تكون من اللّه تعالى،و الثانية من العبد.
ثالثها:أن يكون المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من اللّه تعالى،و هو محسوس لكل أحد،فكم من مريد لشيء يصرف عن إرادته و كم غير مريد يصادفه ما يشتهيه.
إن قلت:بعد ما اشتهر من أنّ السعيد من سعد في بطن أمه،و الشقي من شقي في بطن أمّه،و ما ورد في الأخبار من أن الإنسان مركب من طينة العلّيّين، و طينة السّجّين،و مصير الاولى إلى الجنّة و الثانية إلى النار،لا أثر للاختيار.
قلت:يجاب عنه بوجوه:منها أن المراد بالسعادة الحظوظ الدنيوية، و بالشقاوة الحرمان عنها،المستندة إلى الأسباب الخفية التي قصرت العقول عن الإحاطة بها.
و منها:ما في مرسل ابن أبي عمير:«سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام:عن معنى قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:الشقي من شقي في بطن أمّه،و السّعيد من سعد في بطن أمّه؟فقال عليه السّلام:الشّقيّ من علم اللّه و هو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل الأشقياء،و السّعيد من علم اللّه و هو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل السعداء…».
و منها:ما في بعض الأخبار أنه يكتب في جبينه-و هو في بطن أمه-ما سيئول إليه أمره من الشقاوة أو السعادة،و في بعض الأخبار:«السعيد من ختم اللّه له بالسعادة،و الشّقيّ من ختم له بالشقاوة»،و في جملة من الدعوات المعتبرة: «اللّهم إن كنت شقيّا فامحني و اكتبني من السعداء».
و على أي تقدير السعادة و الشقاوة المنسوبتان إلى جعله تعالى اقتضائيتان،لا على نحو العلة التامة المنحصرة الذاتية،لأنه مع الشقاوة و السعادة الذاتية يلزم منه توالي فاسدات لا يرتضيها العقل و العقلاء،و تصير هذه الدعوات باطلة،كما لا يخفى.
و أما ما ورد في الطينة،فلا تدل على أنها علة تامة منحصرة،بل غايتها إثبات الاقتضاء لها في الجملة،ثم بعد الخلط بين الطينتين يصير الاقتضاء أيضا ضعيفا،فقد خلق اللّه تعالى الإنسان من مقتضى الخيرات،و من مقتضى الشرور لمصالح شتى،ثم خلق فيه العقل و الاختيار،ثم بعث الرسل و أنزل الكتب و بشّر بالثواب على الخيرات و أنذر بالعقاب على الشرور،و خلق الجنة و النار،فلا منشأ لتوهم الجبر و التفويض في أفعال العباد،كما ورد تفصيل ذلك في الأخبار عن الأئمّة الأطهار،و تدل عليه الأدلة العقلية،كما فصّل في محله.
ثم إنه لا اختصاص للأمر بين الأمرين بخصوص أفعال العباد،بل يجري في جميع المعلولات الحاصلة بالعلل التكوينية،فالنبات الذي ينبت في الربيع- مثلا-ينسب إلى المقتضيات التكوينية،كما ينسب إلى إرادة اللّه تعالى،و كذا في تكوين الإنسان و الحيوان،و الدم،و اللحم،و غيرها مما لا يحصى.