لا بد أن يذكر هذا البحث في مباحث الألفاظ،لرجوعه إلى كيفية الاستفادة من الدليلين المتعارضين بحسب المحاورات العرفية.
و هو أعم من التناقض و التضاد المعروفين في علم المنطق،فيكون المراد به في المقام مطلق التنافي عند المتعارف بين الناس.و لا اختصاص له بعلم دون آخر بل يجري في جميع العلوم النظرية،و الحرف و الصنائع الفكرية مطلقا.
و الظاهر كونه في غير الأخبار منتهيا إلى غير الاختيار،لأن منشأه اختلاف الأنظار في استخراج الواقعيات،و هو يحصل من اختلاف الاستعدادات،و هي ذاتية لا دخل للاختيار فيها.
و أما الأخبار فمنشأ حصول التعارض فيها أحد امور على سبيل منع الخلو:
منها:أنهم عليه السّلام تعمدوا في ذلك،كما يستفاد ذلك من جملة من الأخبار، كموثق زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام المنقول في الحدائق.
و منها:قصور نقل الناقلين و فهمهم خصوصا بعد التفاتهم إلى جواز النقل بالمعنى.
و منها:التقية.
و منها:اختفاء القرائن،إلى غير ذلك من الامور التي تظهر بعد التأمل.
و ليس ذلك من الإغراء بالجهل-كما قد يتوهم-لأنه بعد اهتمام الأئمّة عليه السّلام ببيان أحكام التعارض و شدة ترغيبهم في الوصول إلى الحقيقة،لا وجه لتوهم لزوم الإغراء بالجهل.
و إلى الدليل المركب منهما أيضا،و ذلك لمكان التضايف بين المدلول و الدلالة و الدليل،فتسري صفات كل منها إلى الآخر في الجملة،و لا ثمرة عملية في أنه من صفات أي منها إلا ما يتوهم من أنه إن كان من صفات المدلول يتحقق التعارض في مورد مثل النص و الظاهر،ثم يرفع بالجمع العرفي المحاوري من تقديم النص على الظاهر و نحوه،بخلاف ما إذا كان من صفات الدلالة،فلا يكون في موارد الجمع العرفي المحاوري تعارض أصلا،إذ لا يرى أهل المحاورة فيها تعارضا لما ارتكز في أذهانهم من الجمع بينهما فيها.
و يرد عليه:أن ما يأتي من أحكام التعارض إنما يترتب على التعارض الثابت المستقر في الجملة إلا ما يزول بأدنى توجه و التفات،و التعارض في موارد الجمع العرفي مما يزول بأدنى توجه و التفات فلا موضوع للتعارض فيها، سواء كان من صفات المدلول أو الدلالة،لأن موضوعه التحير الثابت المستقر،لا المتزلزل الزائل،سواء كان الزوال بالتخصص،أو الورود،أو الحكومة،أو التخصيص،أو الجمع العرفي أو غير ذلك.
و الأول عبارة عما إذا كان امتناع الجمع بين الحكمين من ناحية عدم قدرة المكلف فقط لا من ناحية الشارع،فإنهما تامان ملاكا و تشريعا،بل و حجة عليهما في مقام الإثبات أيضا من كل جهة،و يلزم ذلك كونه اتفاقيا،لأن جعل ما لا يقدر عليه المكلف دائما قبيح،و أن يكون الترجيح بحسب الملاك فقط لفرض تمامية الحجة عليهما في مقام الإثبات فلا منشأ للترجيح من هذه الجهة، و لو لم يوجد الترجيح الملاكي يتعين التخيير الثبوتي لا محالة.
و الثاني عبارة عن عدم إمكان تشريع الحكمين ثبوتا لكن مع اجتماع دليلهما لشرائط الحجية إثباتا.
و لا قصور له في مقام الإثبات،بل هو منحصر في مقام الثبوت فقط،إذ ليس في البين إلا حكم واحد،و أما مقام الإثبات فالدليلان جامعان لشرائط الحجية.فيكون الترجيح في مقام الإثبات لا محالة و مع عدمه فالتخيير الإثباتي، كما يأتي.
و الأخير يشترك مع الثاني في أنه ليس فيه أيضا إلا حكم واحد في مقام الثبوت،و يفترق عنه في مقام الإثبات،فإن الدليل فيه واحد لا تعدد فيه بوجه، فيكون خارجا تخصصا عن مورد التعارض و التزاحم،و لكنه يتردد بين كونه حجة أو غير حجة،كتردد رجال السند بين الثقة و غيره،و تردد الحديث بين كونه للتقية و عدمها،إلى غير ذلك من الجهات الموجبة لعدم الحجية،و المرجع فيه التفحص في ما يتكفل لبيان هذه الامور،و بعد الفحص و اليأس عن الحجية يرجع إلى الاصول العملية.
و لا ريب في تقدم الأول على الأخيرين،و الثاني على الأخير،لصلاحية النص للتصرّف فيهما بخلاف العكس،كما أن الأظهر يصلح للتصرف في الظاهر من دون عكس، و هذا من المسلّمات المحاورية.كالتسالم على اعتبار الظواهر،فلا يحتاج إلى إقامة دليل عليه من الخارج.
كما أن صحة الجمع العرفي كذلك،و هو عبارة عن التصرف في الدليلين أو أحدهما،بحيث إذا عرضا على المتعارف من أهل اللسان يعترفون بأنه لا تعارض بينهما مع هذا الوجه من التصرّف،بشرط أن تدل قرينة معتبرة على هذا الجمع و التصرّف،و إلا يكون من الجمع التبرعي الافتراضي.الذي يكون لغوا و باطلا.
و قد شاع عند من قارب هذه الأعصار من الأعلام لفظا الورود، و الحكومة،مع خلو كلمات القدماء عنهما.
و الورود:عبارة عن خروج مورد أحد الدليلين عن مورد الدليل الآخر موضوعا بعناية الجعل،فيكون مشتركا مع التخصص في الخروج الموضوعي إلا أن التخصص تكويني-كخروج الجاهل عن مورد أكرم العلماء-و الورود يكون بعناية الجعل-شارعا كان الجاعل أو غيره-كخروج مورد الاصول العقلية عن مورد الأمارات المعتبرة الشرعية،لأن اعتبار تلك الاصول إنما هو في مورد عدم وصول الحجة المعتبرة،و مع الوصول لا يبقى مورد لها قهرا.و استعمال الورود قليل الابتلاء في الفقه،كما لا يخفى على الفقهاء.
و الحكومة-و هي التي يكثر الابتلاء بها في الفقه-عبارة عن أن يكون أحد الدليلين صالحا لتوسيع مورد الدليل الآخر،أو تضييقه،أو يصلح لهما معا.
و الأول كقوله عليه السّلام:«التراب أحد الطهورين»بالنسبة إلى قوله عليه السّلام:«لا صلاة إلاّ بطهور»حيث يوسع الطهور إلى الطهارة الترابية أيضا.
و الثاني كقوله عليه السّلام:«لا شكّ لكثير الشكّ»بالنسبة إلى قوله عليه السّلام:«إذا شككت فابن على الأكثر»حيث يضيقه بالنسبة إلى خصوص الشكوك المتعارفة دون الكثيرة.
و الثالث كقوله عليه السّلام:«العمري و ابنه ثقتان فما أدّيا فعنّي يؤدّيان»فإنه يوسع العلم في قوله تعالى: وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إلى مورد الأمارات المعتبرة أيضا،كما يضيق موارد اعتبار الاصول مطلقا إلى غير موارد الأمارات المعتبرة.
و عن بعض مشايخنا قدس سرّهم أن الحكومة تارة واقعية،كما إذا كان مورد الحاكم و المحكوم من الأحكام الواقعية.
و اخرى ظاهرية،و هي ما إذا كان موردهما من الأحكام الظاهرية.
و لكن لا ثمرة فقهية لهذا التقسيم أبدا،لأن الحاكم مقدم على المحكوم مطلقا بأي نحو كان.
و بالجملة أن الحكومة بحسب مقام الثبوت تارة للتوسعة.و اخرى للتضييق.و ثالثة لهما معا،و كل منها إما بالنسبة إلى الموضوع أو المحمول أو هما معا،فتصير تسعة،و كل من التسعة إما واقعية أو ظاهرية،فتكون ثمانية عشر.
ثم إن التخصيص مما يكون شائعا في المحاورات مطلقا و هو إخراج بعض أفراد العام عن حكمه فقط بلا عناية أن يكون دليل الخاص ناظرا إلى التضييق في أفراد العام و إن كان يترتب عليه ذلك قهرا.
و فرّق بينه و بين الحكومة:
تارة:بأن التخصيص من شئون الألفاظ،و الحكومة من شئون المعاني.
و فيه:أنه مجرد الدعوى،مع أن اللفظ طريق إلى المعنى فيصير التخصيص من شئون المعنى بالآخرة.
و اخرى:بأن إجمال الحاكم يسري إلى المحكوم مطلقا-متصلا كان أو غير متصل-بخلاف الخاص،فإنه إن كان منفصلا و تردد بين الأقل و الأكثر، يؤخذ بالعام بالنسبة إلى الأكثر.
و فيه:أنه يمكن أن يقال في الحكومة بهذا التفصيل أيضا.
و ثالثة:بأن التخصيص للتضييق دائما بخلاف الحكومة،فإنها ربما توسع كما تقدم.
و فيه:أنه تستفاد التوسعة من التخصيص أيضا،لأن قول:لا تكرم الفساق، يضيق مفاد أكرم العلماء و يوسع الفساق بشموله لفساق العلماء أيضا.
و قد ذكر وجوه اخرى ضعيفة،و لعل الفرق حيثية الشارحية التي تتقوّم بها الحكومة دون التخصص.
سواء كانا قطعيين من حيث السند و الدلالة،أو ظنيين كذلك،أو بالاختلاف،لأن الخاص قرينة للتصرّف في العام،و تقديم القرينة على ذيها من القطعيات في المحاورات،و لا فرق بين كونهما في كلام واحد أو لا.مع أن فرض تعدد الكلام حقيقة في شريعة خاتم الأنبياء مما لا وجه له،لأن ألسنة المعصومين عليهم السّلام من بدء البعثة إلى بدء الغيبة الكبرى لسان واحد يحكي عن واحد،و لا تلاحظ النسبة بينهما،فيقدم الخاص مطلقا على العام مطلقا،إذ ليست ملاحظة النسبة بين القرينة و ذيها من دأب العقلاء في أنحاء المحاورات،و كذا الكلام في المطلق و المقيد مع تحقق شرط التقييد،أي إحراز وحدة المطلوب.
و استدل عليها:
تارة:بالإجماع.
و اخرى:بأن الطرح طرح للدلالة الأصلية،و هي المطابقة،و في الجمع طرح للدلالة التضمنية أو الالتزامية،و طرح الدلالة التبعية أولى من طرح الدلالة الأصلية.
و ثالثة:بأن الأصل في الدليل الاعتماد عليه.
و الكل باطل:
أما الأول:فلا رسم و لا إشارة إليه بين القدماء مع كون المسألة ابتلائية بين العلماء،و على فرض الاعتبار فالمتيقن منه مثل المطلق و المقيد،و العام و الخاص و نحوهما من العرفيات المسلّمة في المحاورات، و هي مما ينبغي أن يستدل بها،لا أن يستدل عليها.
و أما الثاني:فلأن طرح الدلالة و بقاءها تدور مدار الأغراض الصحيحة المحاورية،فمع وجود الغرض الصحيح في البين يؤخذ بالدلالة الالتزامية و تطرح المطابقية-كما في الكنايات و نحوها-و مع عدمه تنتفي جميع الدلالات.
و بالجملة فإن ذلك كله يدور مدار الأغراض المعتبرة،و نفس هذه الجملة:طرح الدلالة التبعية أولى من طرح الدلالة الأصلية،يحتاج في إثباتها إلى دليل و هو مفقود،مع أن هذا الدليل عين المدعى بعد التأمل كما لا يخفى.
و أما الثالث:فهو بمعنى الغلبة في الجملة،لا بأس به،لكن في تمام مدلوله لا في بعضه،فلا دليل على كلية هذه القضية بوجه.
نعم،لو كان المراد بالجمع الجمع العرفي المقبول عند ذوي الأذهان القويمة و السلائق المستقيمة.
و المراد من الإمكان القياسي منه بالنظر إلى القرائن الخارجية و الداخلية، فهو حق لا ريب فيه،فيكون المراد بالاولى حينئذ هو اللزوم،كما في قوله تعالى: وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ.
و هذا النحو من الجمع شائع في الفقه؛بل في جميع العلوم مطلقا،فتكون القضية بناء على هذا التفسير من القضايا التي يغني تصورها عن الاستدلال عليها.
و أما إذا كان المراد بالجمع مطلق الجمع و لو كان بعيدا عن الأذهان و لم يكن عليه دليل و لا برهان.و كان المراد بالإمكان الذاتي منه في مقابل الاستحالة الذاتية،أو الإمكان الوقوعي في مقابل الامتناع العادي العرفي،فلم يقل بصحة هذا النحو من الجمع أحد من العقلاء فضلا عن العلماء.
و موضوع هذا الجمع إنما هو صدور المتعارضين عن واحد،أو من هو كالواحد-كالأئمة عليهم السّلام-و أما لو كان صدورهما عن المتعدد فلا موضوع للجمع حينئذ،كما في رأي مجتهدين في موضوع واحد،و إن كان الجمع حسنا و كان صحيحا في نفسه.
ثم إن القرائن الشاهدة على صحة الجمع لا تضبطها ضابطة كلية،بل تختلف باختلاف الموارد،كما أن ما يأتي من أحكام التعارض من الترجيح، و التخيير أو التساقط،لا تشمل موارد الجمع العرفي مطلقا،لأن موضوعها التعارض المستقر لا البدوي الزائل بأدنى التأمل و النظر.
كتقدمهما على الظاهر.و إن لم يكن أحدهما معلوما فإن أمكن تعينه بقرينة خاصة تتبع لا محالة،و إلا فتصل النوبة إلى القرائن العامة.
و قد يقال:بوجود القرينة العامة في بعض الموارد:
منها:ما إذا تعارض العام الاصولي-كأكرم العلماء-و المطلق الشمولي- كلا تكرم الفاسق-فيدور الأمر بين تخصيص الأول،أو تقييد الثاني.
فقيل:بأن العام الاصولي أظهر في العموم فلا بد من تقييد المطلق،لأن التصرف في المطلق أكثر،و لأن عموم العام وضعي،و إطلاق المطلق بمقدمات الحكمة و هي لا تجري مع ما يصلح للقرينية و العام يصلح لها،فلا موضوع للمقدمات مع وجوده.
و يرد الأول بأن ذلك من مجرد الدعوى،كيف و قد اشتهر أنه ما من عام إلا و قد خص.
و الثاني بأنه صحيح إن كان العموم بالوضع،كلفظ(كل)و ما يرادفه،لا ما إذا كان ذلك بمقدمات الحكمة أيضا،كالعام الاصولي.
ثم إنه لا فرق بين كون صدورهما متقارنا أو متلاحقا،لأن تشريع الحكم و جعل القانون بجميع حدوده و قيوده-فصل الزمان بين بيانها،أو لم يفصل، طال أو قصر-كتشريع واحد و جعل فارد و لا سيما في أحكام الشريعة التي تكون جميع ألسنة تشريعها من المعصومين عليهم السّلام كلسان واحد،فإنها و إن تعددت صورة لكنها واحدة حقيقة.
فما عن صاحب الكفاية قدّس سرّه من أن عدم البيان الذي هو من مقدمات الحكمة،عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا خلاف التحقق،مع أنه خلاف مبناه في الفقه أيضا.
ثم إنه بعد عدم إحراز ترجيح التقييد على التخصيص و لا العكس،لا بد في مورد الاجتماع من الرجوع إلى الأصول العملية،لصيرورة الكلام مجملا حينئذ.
و منها:ما إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام شيء،و دار الأمر بين كونه ناسخا أو كاشفا عن المخصص السابق،أو مخصصا فعلا.
و عن الشيخ الأنصاري قدّس سرّه استحالة الثاني،فتكون الناسخية أظهر لا محالة، لتوفر الدواعي على ضبط ما ورد،فالعادة تقضي باستحالة التخصيص كشفا أو فعلا.
و فيه:أن الاهتمام بالضبط مسلّم و لكن وصول كل ما ضبطوه إلينا أول الدعوى،و قد ذكر أن المحقق قدّس سرّه ينقل عن اصول لا رسم لها عندنا و لا أثر راجع الجواهر بحث تطهير إناء الولوغ.
و قيل:بتقديم التخصيص على النسخ لكثرة الأول و قلة الثاني.
و فيه:أن ذلك لا يوجب الأظهرية،كما هو معلوم.
و قيل:بالعكس لأن النسخ تصرّف في زمان العام و التخصيص تصرّف في أفراده،و ظهور العام في الأفراد أقوى من ظهوره في الأزمان،لأن الأول بالوضع،و الثاني بمقدمات الحكمة.
و فيه:أن السريان الزماني في الأحكام ليس بمقدمات الحكمة،بل بالأدلة القطعية.منها ما دل على أن:«حلال محمد صلّى اللّه عليه و آله حلال الى يوم القيامة،و حرامه حرام إلى يوم القيامة»فيكون التخصيص أظهر.
و يمكن أن يقال:إن بناء المحاورات العقلائية في الدوران بينهما على تقديم التخصيص،و هذا البناء كالقرينة المعتبرة.
لا بد أن يذكر حكم التعارض في المبادئ لعدم اختصاصه بعلم دون آخر، أو يذكر في ختام المطلق و المقيد-كما فعلناه-لكونه من الامور المحاورية المتعارفة،و لكن مشايخنا قدس سرّهم تعرضوا له بعد الاصول العملية.
التعارض في الأدلة و الأقوال من الامور الشائعة في جميع العلوم،بل هو متحقق في العرفيات،و لا يختص بأدلة الفقه،و يمتنع عادة أن لا يكون للعقلاء في حكمه بناء مستمر،و سيرة مستقرة.و لأجل ذلك لا بد أولا من تحقيق بناء العقلاء في مورد التعارض،ثم الرجوع إلى الأدلة الشرعية،فإن كان ردع عن بنائهم فهو المتبع لا محالة،و إلا فيكفي عدم ثبوت الردع في اعتبار بنائهم في هذا الأمر العام البلوى،كسائر السير العقلائية،و إذا تأملنا في بنائهم نجدهم يحكمون بالفطرة في مورد التعارض بامور ثلاثة:
الأول:عدم الحجية الفعلية للمتعارضين بعد التعارض،لأن حجيتهما معا لا تعقل،و أحدهما بالخصوص ترجيح بلا مرجح،و هذا مما تحكم به الفطرة في جميع موارد التعارض مطلقا،و قد اتفق العلماء على ذلك أيضا.
و هذا الأصل من الاصول العقلائية المعتبرة لديهم،و لا إشكال فيه بناء على الطريقية المحضة التي استقرت عليها السيرة في الحجج المعتبرة.
و كذا بناء على السببية الباطلة أو الصحيحة التي هي عبارة عن وجود المصلحة السلوكية المتداركة للواقع عند التخلّف،لأن الظاهر عدم القائل بوجود مصلحتين كذلك في صورة التعارض،أو السببية المحضة،و على فرض وجود القول بذلك يكون من التزاحم في المصلحة السلوكية،لأنه يمكن ثبوتا جعل المصلحة كذلك في كل منهما.
و أما بناء على السببية الباطلة فلا يكون منه،لأن مورد التزاحم ما كان ثبوته ممكنا،و المفروض عدمه.
هذا،و لكن الحجية الاقتضائية ثابتة لا محذور فيها،إذ لا تعارض في مقام الاقتضاء و إنما هو في المرتبة الفعلية و التأثير.
إن قلت:كيف تسقط الحجية الفعلية مع كون المتعارضين حجة في نفي الثالث.
قلت:نفي الثالث مستند إلى التفحّص في الأدلة و عدم الظفر به،لا إلى المتعارضين،مع أن نفي الثالث مستند إلى الدلالة الالتزامية،و هي تابعة للدلالة المطابقية،لا لحجية المدلول المطابقي.أصل الدلالة شيء و حجيتها شيء آخر، و الساقط بالتعارض هو الثاني دون الأول،و لا فرق في ما ذكر بين الإلزاميات و غيرها،كالمندوبات و نحوها.
الثاني:أنهم بعد سقوط الحجية الفعلية يتأملون و يتفحصون في إيصال الحجية الاقتضائية إلى مرتبة الفعلية بإعمال ما يمكن أن يصير منشأ لذلك من المرجحات التي لا تضبطها ضابطة كلية،بل تختلف باختلاف الموارد و الأشخاص،و الظاهر أن هذا أيضا من الامور الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل و برهان.
الثالث:بعد استقرار التحيّر المطلق و اليأس عن الظفر على المرجح من كل حيثية و جهة،تبعث الفطرة إلى التخيير و تحكم به،و هو تخيير عقلائي،و قد يكون عقليا،كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين،هذه امور كلها يغني الوجدان فيها عن إقامة البرهان،و تجري في الجميع من البينات المتعارضة القائمة على الموضوعات،و أقوال اللغويين،و المفسرين و أهل الرجال،و آراء المجتهدين و غير ذلك مما يقع فيه التعارض و التنافي مما يكون موردا للابتلاء، فإن ثبت من الشرع ما يكون رادعا يتبع،و إلا فهو المحكم.
منها:ما يدل على الأخذ بالأخير، و المناقشة فيه
كما في مرسل حسين بن المختار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«أ رأيتك لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟قلت:كنت آخذ بالأخير.فقال عليه السّلام:رحمك اللّه»أو الأحدث،كما في خبر الكناني:«قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:يا أبا عمرو أ رأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟قلت:بأحدثهما و أدع الآخر.فقال عليه السّلام:قد أصبت يا أبا عمرو،أبى اللّه عزّ و جلّ لنا و لكم في دينه إلاّ التقيّة».و المراد منها واحد.
و فيه:مضافا إلى مخالفتهما للمشهور-إذ لم أجد عاملا بهما في ما تفحصت-و معارضتهما بغيرهما مما هو كثير،أنهما ليسا في مقام بيان حكم المتعارضين،بل في مقام التنبيه على أن الاختلاف إنما كان لأجل التقية أو نحوها من المصالح،و لا ربط لهما ببيان حكم العلاج بين المتعارضين،و يشهد لذلك ذيل خبر الكناني،مع أنه لا وجه يتصور في الأخير إلا النسخ،و بناء عليه لا ربط لهما بالمقام أيضا،لعدم التعارض بين الناسخ و المنسوخ.فإنه لا وجه لاحتمال الأخذ بالأخير و لو كان مخالفا للكتاب و موافقا للعامة،و كان الأول بالعكس،و لا يرضى بذلك فقيه فكيف بالمعصوم عليه السّلام.فلا وجه لعدّ هذه الأخبار من أخبار علاج المتعارضين.
و منها:ما يدل على التوقف، و الجواب عنه
كموثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه،أحدهما يأمره بأخذه،و الآخر ينهاه عنه،كيف يصنع؟قال عليه السّلام:يرجئه حتّى يلقى من يخبره فهو في سعة حتّى يلقاه»،و عن الرضا عليه السّلام:«و عليكم بالكفّ و التثبّت و الوقوف و أنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا»،و عن أبي جعفر عليه السّلام:«و إن اشتبه عليكم الأمر فقفوا عنده و ردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا»، و عن سماعة عن الصادق عليه السّلام:«يرد علينا حديثان،واحد يأمر بالأخذ!و الآخر ينهانا عنه.قال عليه السّلام:لا تعمل بواحد حتّى تلقى صاحبك.قلت:لا بدّ و أن نعمل بواحد منهما!!قال عليه السّلام:خذ بما فيه خلاف العامة»،و هناك روايات اخرى.
و فيه:أنه مضافا إلى مخالفتها للمشهور،و معارضتها بما يأتي من مقبولة ابن حنظلة،أن المراد بالتوقف ترك العمل ابتداء،و ترك الاستعجال بالعمل،أو الطرح من غير تأمل و تفحص في الأخبار و القرائن،بل لا بد من التفحّص حتى الظفر بالمرجح ثم العمل بالراجح.
و ليس المراد التوقف إلى الأبد و ترك العمل مطلقا حتى لو ثبت الرجحان في أحدهما.
و المراد من الإرجاء حتى يلقى من يخبره،أو حتى يأتي البيان من عندهم،أو حتى نشرح لكم…،أو حتى تلقى صاحبك.هو العرض على ما صدر منهم عليهم السّلام في هذا الباب،ثم الحكم بمحصول ما يستفاد من المجموع،فإذا ظفرنا بالمتعارضين و عرضناهما على المقبولة يصدق أنه توقفنا،أي تركنا العمل بدوا و رجعنا إلى بيانهم عليهم السّلام،و ما شرحوه لنا،و لقينا صاحبنا-يعني ما ورد من صاحبنا-إلى غير ذلك من التعبيرات التي تقدمت في أحاديث التوقف.
فالتوقف عن العمل في المتعارضين اللذين يكونان مورد الابتلاء ملازم عرفا للتفحص عن القرائن الموجبة لصحة العمل بأحدهما،و المقبولة تشمل على تلك القرائن،فيكون لها نحو حكومة على غيرها من الأخبار التي تدل على التوقف الذي يكون عبارة اخرى عن التثبت و التفحص عما يوجب الرجحان و الاطمئنان بأحدهما.
و ما يقال:من أن التوقف ذكر في خبر سماعة قبل المرجح الذي هو المخالفة للعامة،و في المقبولة ذكر بعد تمام المرجحات،فيتعارضان من هذه الجهة.
مدفوع:بأن ما ذكر في خبر سماعة هو التوقف عن العمل لأجل الفحص و الظفر بالمرجح،و ما ذكر في المقبولة هو التوقف بعد الظفر به و اليأس عن غيره،فلا ربط لأحدهما بالآخر حتى يثبت التعارض.
و الحاصل:أنه ليس في أخبار التوقف ما يخالف بناء العقلاء و سيرتهم في المتعارضين.
و منها:ما دل على الأخذ بما وافق الاحتياط و ردّه
.
و فيه:مضافا إلى معارضته بالمقبولة و غيرها،و إلى أنه قد يكون المورد مما لا يمكن فيه الاحتياط،و إلى أنه خلاف المشهور،و خلاف سهولة الشريعة، أنه إرشاد إلى حسنه و لا يستفاد منه أكثر من ذلك،فليس فيه أيضا ما يخالف بناء العقلاء و سيرتهم.
و منها:ما يدل على التخيير- و الجواب عنه
و هي عدة روايات يأتي بعضها-ففي مرسل الاحتجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«إذا سمعت من أصحابك الحديث و كلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم فترد عليه»،و في مرسله الآخر عن الرضا عليه السّلام: «قلت:يجيئنا الرجلان و كلاهما ثقة بحديثين مختلفين،فلا نعلم أيّهما الحقّ، فقال عليه السّلام:إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت».
و فيه:أن التخيير بحسب المرتكزات إنما هو في مورد التحير المطلق، و هو منتف مع المرجح،فتختص بصورة فقد المرجح،فلا تشمل مورد تحقق الترجيح و لهذه القرينة الارتكازية المحفوفة بها،فلا إطلاق لها حتى يعارض بها المقبولة و نحوها مما يدل على الترجيح.فلا وجه لحمل ما يدل على الترجيح على الندب.
و منها: مقبولة عمر به حنظلة الاشكال عليها و الجواب عنه
المقبولة:«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعه في دين أو ميراث فتحاكما إلى السّلطان أو إلى القضاة،أ يحلّ ذلك؟قال عليه السّلام:من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت و ما يحكم له فإنما يأخذه سحتا و إن كان حقه ثابتا لأنه أخذ بحكم الطاغوت و إنّما أمر اللّه أن يكفر به.قال اللّه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى اَلطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. قلت:فكيف يصنعان؟قال عليه السّلام:ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما،فإنّي جعلته عليكم حاكما،فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ و علينا قد ردّ.و الراد علينا الراد على اللّه،و هو على حدّ الشرك باللّه. قلت:فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما فاختلفا في ما حكما و كلاهما اختلفا في حديثكم؟فقال عليه السّلام:الحكم ما حكم به أعدلهما،و أفقههما،و أصدقهما في الحديث،و أورعهما،و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.فقلت:فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا،لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟فقال عليه السّلام:ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكمنا به،المجمع عليه عند أصحابك،فيؤخذ به من حكمنا و يترك الشّاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك،فإنّ المجمع عليه مما لا ريب فيه-إلى أن قال- قلت:فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثّقات عنكم؟قال عليه السّلام:ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السّنّة و خالف العامة فيؤخذ به و يترك ما خالف حكمه حكم الكتاب و السّنّة و وافق العامة.قلت:جعلت فداك أ رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السّنّة و وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة و الآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟فقال عليه السّلام:ما خالف العامّة ففيه الرشاد. فقلت:جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟فقال عليه السّلام:ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر.قلت:فإن وافق حكّامهم الخبران جميعا؟قال عليه السّلام:إذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك،فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».
و الظاهر أنه لا إشكال في هذه المقبولة من حيث السند،فإنه قد يحصل الوثوق بصدورها من قرائن،كوقوع صفوان بن يحيى في الطريق،و اعتناء المشايخ الأجلاء-من المحدثين و الفقهاء في كل طبقة-بها ضبطا و عملا و بحثا، و قول الصادق عليه السّلام في ما ورد في الأوقات عن عمر بن حنظلة:«إنّه لا يكذب علينا»إلى غير ذلك مما يمكن استفادة توثيقه،كما لا يخفى على من راجع كتب الرجال،فلا إشكال فيها من هذه الجهة.
نعم،قد أشكل عليها بوجوه:
منها:أنها في مورد الحكومة فلا تشمل غيرها.
و فيه:أنها ظاهرة؛بل ناصّة في أن المدار على منشأ الحكم و دليله،لا أن يكون لنفس الحكم من حيث هو موضوعية خاصة،و لا فرق حينئذ بين كون الدليل دليلا للحكم أو للفتوى،فتشمل جميع الأحاديث المتعارضة الصالحة للدليلية مطلقا.
و منها:معارضتها بمرفوعة زرارة قال:«سألت أبا جعفر عليه السّلام فقلت له: جعلت فداك،يأتي عنكم الخبران و الحديثان المتعارضان،فبأيهما آخذ؟ فقال عليه السّلام:يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر.فقلت:يا سيدي إنهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟فقال عليه السّلام:خذ بما يقول أعدلهما عندك و أوثقهما في نفسك.فقلت:إنهما معا عدلان مرضيان موثقان؟فقال عليه السّلام: انظر ما وافق منهما العامة فاتركه،و خذ بما خالف،فإن الحق في ما خالفهم. قلت:ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين،فكيف أصنع؟قال عليه السّلام:إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك و اترك الآخر.قلت:إنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له،فكيف أصنع؟فقال عليه السّلام:إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر»،و في هذه المرفوعة ذكرت الشهرة أول المرجحات بخلاف المقبولة،حيث ذكرت فيها بعد صفات الراوي،مع أن سيرة العلماء على تقديم الترجيح بالشهرة على سائر المرجحات مطلقا.
و فيه:أن أول المرجحات الخبرية الشهرة،نصا و فتوى،و في المقبولة ذكرت في أول المرجحات الخبرية أيضا،و إنما ذكرت الصفات للحاكم من حيث أنه حاكم لذكر منصب الحكومة في صدر المقبولة،لا للخبر المتعارض من حيث أنه خبر متعارض،بل ظاهر قوله عليه السّلام:«الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما…»ذلك،كما أن ظاهر قوله عليه السّلام:«ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه..»أن الشهرة أول المرجحات الخبرية،فلا تنافي بين المقبولة و المرفوعة و ما استقر عليه عمل المشهور من تقديم الشهرة على جميع المرجحات.
و قد أرسل صاحب الجواهر في كتاب الكفارات إرسال المسلّمات أن الشهرة أقوى المرجحات،و لا يخفى أن المرفوعة غير مسبوقة بذكر الحكومة، فلا بد أن تذكر الشهرة أولا بخلاف المقبولة المسبوقة بها،فإنه لا بد من الإشارة إجمالا إلى مرجحات الحاكم ثم بيان مرجحات مدرك حكمه.
و منها:اختصاص المقبولة بزمان الحضور،لما ذكر في ذيلها:«فأرجئه حتى تلقى إمامك».
و فيه:أن التعبيرات مختلفة،ففي المقبولة:«حتّى تلقى إمامك»،و في موثّق سماعة:«حتّى يلقي من يخبره»،و في خبر آخر:«حتّى يأتيكم البيان من عندنا»، و في خبر آخر:«حتّى ترى القائم فترد إليه».
و يستفاد من الكل أنه ليس لملاقاة الإمام عليه السّلام،و رؤية القائم موضوعية خاصة،بل المناط كله الوصول إلى الحجّة المعتبرة الصادرة عن المعصوم.
و بعد التأمل في جميع الأحاديث الصادرة عنهم عليهم السّلام ورد مشابهاتها إلى محكماتها،يعلم أن الحجة المعتبرة عندهم إنما هي التخيير بعد التكافؤ من جميع الجهات.
و الحاصل:أنه لم يزد ما صدر عنهم عليهم السّلام في حكم التعارض على ما ارتكز في العقول من العمل بالراجح ثم التخيير،بل جميع ما صدر إرشاد إلى الفطرة وداع إليها.
ثم إنه قد ذكر في المرجحات في المقبولة الأصدقية،و لا وجه لها بالنسبة إلى نفس مطابقة الواقع،لأنها تتصف بالوجود و العدم،و لا تقبل الشدة و الضعف حتى يتحقق فيها التفضيل.
نعم،يصح التفضيل بالنسبة إلى جهة اخرى بأن يكون أحد الراويين يصدر منه الكذب الجائز شرعا أحيانا،و الآخر لا يصدر منه حتى ذلك.فتدبر.
الأول: انواع المرجحات المذكورة فى المقبولة، الاشكال عليها و الجواب عنه المراد من مخالفة العامة
المرجحات المذكورة في المقبولة أنواع ثلاثة:سندية،و مضمونية، و جهتية.
و الأول،كالأعدلية،و الأصدقية،و كون الخبر مشهورا.
و الثاني كموافقة الكتاب و السنّة.
و الثالث كمخالفة العامة،و مقتضى ذكرها في سياق موافقة الكتاب كونها من المرجحات المضمونية أيضا،فينطبق عليها المرجح المضموني و الجهتي معا،و لا محذور فيه.
و بحسب الأفراد ثمانية:1-الأعدلية.2-الأفقهية-3-الأصدقية.٤- الأورعية.5-الشهرة.6-موافقة الكتاب.7-موافقة السنة.8-مخالفة العامة. و جميعها مذكورة في المقبولة.
ثم إن الظاهر أن المرجحات في المتعارضات العرفية الدائرة بينهم تنحصر في هذه الثلاثة أيضا،إلا أن المرجح المضموني عبارة عن موافقة أحد المتعارضين لما كان معتبرا لديهم بحسب متعارفهم من القوانين المعتبرة لديهم، خالقية كانت أو خلقية،فكما أن أصل الترجيح في المتعارضين في الجملة عقلائي،كذلك يكون نوع الترجيح أيضا.
و مقتضى السيرة أن الشهرة أقوى المرجحات،و قد صرح بذلك صاحب الجواهر في أول كتاب الكفارات،كما عرفت.
ثم إنه قد يقال:إن الشهرة،و مخالفة العامة،و موافقة الكتاب لا يمكن إلا أن تكون لتمييز الحجة عن غير الحجة،لأن الشاذ و موافق العامة و مخالف الكتاب،ساقط عن الاعتبار بالمرة،فلا وجه لعدها من المرجحات.
و فيه:أنه ليس الترجيح باعتبار الحجية الفعلية من كل جهة في كل واحد من المتعارضين،لعدم تصورها كذلك فيها.بل معناه جعل الحجة الاقتضائية فعليا،و لا ريب في صحة ذلك،لفرض اعتبار السند فيهما.
و بعبارة اخرى:الترجيح ابداء المانع عن الحجية،لا إسقاط المقتضي لها، و بذلك يمكن الجمع بين الكلمات،فمن قال بكونها من المرجحات،أي لما فيه اقتضاء الحجية،و من قال بالعدم،أي في مقام الحجية الفعلية من كل جهة.
ثم إنه لا يخفى أن المعصوم عليه السّلام داع إلى كتاب اللّه تعالى و مفسّر و مبين له، و الداعي إلى الشيء و المفسر و المبين له لا يعقل أن يكون مخالفا له و مباينا معه، فعدم صدور مخالف الكتاب من المعصوم عليه السّلام من الفطريات التي تلازم دعوته إلى الكتاب و ليس من التعبديات،كما أن الأخذ بمخالف العامة أيضا كذلك،لأن أهل كل مذهب و ملة-حقا كان أو باطلا-لا يقدمون على أخذ شيء من أحكام مذهبهم من المذهب المخالف لهم إلا إذا ثبت الاتحاد فيه بالدليل المعتبر،و هذا أيضا في الجملة من الفطريات،و أوجب الشارع ذلك أيضا احتفاظا على المذهب الحق أن تتدخل فيه المذاهب الفاسدة.و قد احتمل فيه وجوه أخر:
منها:أنه لأجل التعبد المحض.
و فيه:ما لا يخفى.
و منها:أن لنفس المخالفة من حيث هي موضوعية خاصة.
و فيه:أنه إن رجع إلى ما قلناه فهو،و إلا فيحتاج إلى دليل و هو مفقود.
و منها:أن الصواب في خلافهم،و هو حق في الجملة.
و منها:أن الموافق صدر تقية.
و فيه:أنه يرجع إلى ما قبله.
و منها:أنه لأجل إلقاء الخلاف و إن كان الموافق أقرب إلى الواقع،و يشهد له صحيح زرارة حيث قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:«لو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم النّاس علينا و لكان أقل لبقائنا و بقائكم»،و في خبر أبي خديجة:«لو صلّوا على وقت واحد عرفوا فأخذوا برقابهم»،و هذا وجه حسن جدا،كما لا يخفى على من تأمل في حالاتهم عليهم السّلام و ما ورد عنهم.و قد ذكر غير ذلك من الوجوه المذكورة في الكتب المبسوطة.
و لا يخفى أن طرح الموافق عند التعارض لا ينافي وجوب الأخذ به أحيانا للتقية،لأن كلا من الطرح و الأخذ جهتي،لا أن يكون مطلقا.
الثاني: المراد من موافقة الكتاب
قد عرفت أن موافقة الكتاب من المرجحات،و المنساق منها ما إذا كان الحكم في الكتاب و كان موافقا له،و يمكن حملها على عدم المخالفة-كما في بعض الأخبار الأخر-ثم حمل عدم المخالفة على عدم المخالفة و لو على نحو السالبة بانتفاء الموضوع،فيصير عدم المخالفة حينئذ أوسع دائرة من الموافقة،كما هو معلوم.
و لا ريب أن في الكتاب الكريم مبينات و متشابهات،و المراد بالمخالف له ما كان مخالفا لمبيناته لا المجملات،لأنها ذات وجوه يستدل بها كل من المذاهب الإسلامية لمذهبه،و كما أن المراد بالمخالفة ما تحير أبناء المحاورة في الجمع بينهما،لا ما أمكن الجمع عرفا،كالمطلق و المقيد،و العموم و الخصوص و نحوهما.
و المراد بالسنّة أيضا ذلك،أي السنّة المبينة التي علم صدورها من النبي صلّى اللّه عليه و آله فهي التي لم يصدر من المعصومين عليهم السّلام خلافها بالمعنى الذي تقدم.
و الظاهر أن المراد بمبينات الكتاب التي لم يصدر منهم عليهم السّلام ما يخالفها أعم مما كان مبينا بذاته أو بواسطة السنّة النبوية،و لذا ذكرت السنّة أيضا في قولهم عليهم السّلام:«يترك ما خالف الكتاب و السنّة».
و الوجه في ذلك كله أن الداعي إلى الشيء و الحافظ له لا يخالفه و لا ينافيه،كما هو واضح لا ريب فيه،فالمراد بالكتاب الكتاب المبين بذاته،أو المشروحة بالسنّة المعتبرة.
الثالث: هل يمكن التعدى من المرجحات المنصوصة الى كل ما يحصل به الاطمئنان ؟ الدليل على ذلك
وقع الكلام في أن المرجحات المنصوصة هل تكون لها موضوعية خاصة-فلا يصح التعدي إلى غيرها-أو إنها ذكرت لأجل كونها موجبة للاطمئنان بالصدور غالبا،فيتعدى إلى كل ما كان كذلك؟أقواهما الأخير، لأن اعتبار نفس الأمارة من حيث الطريقية المحضة فتكون المرجحات أيضا كذلك،فكلما يوجب الاطمئنان العقلائي بالصدور يوجب الترجيح ما لم يردع عنه الشرع،هذا مع أنه لا وجه للتمسك بإطلاقات التخيير مع موجود محتمل الترجيح،لكونه من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية.
و أما الاستدلال على التعدي بقوله عليه السّلام:«الرشد في خلافهم»فإن إطلاقه يدل على أخذ كل ما كان فيه الرشد بالنسبة،و بقوله عليه السّلام:«فإنّ المجمع عليه ممّا لا ريب فيه»،إذ ليس المراد مما لا ريب فيه مطلقا صدورا و دلالة و جهة،فإنه مختص بالنصوص القرآنية،بل المراد ما لا ريب فيه بالإضافة،فكل ما لا ريب فيه بالإضافة إلى غيره،يكون له ترجيح بالنسبة إليه.
فهو مخدوش:لعدم دلالته في الكلام على أن قوله عليه السّلام:«الرشد في خلافهم»،و قوله عليه السّلام:«فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»من العلة التامة المنحصرة المستقلة للحكم،و من الممكن،بل الظاهر أنه من قبيل بيان الحكمة،و الشك في ذلك يكفي في عدم استفادة العلية التامة المنحصرة حتى يدل على صحة التعدي،مع أنه يمكن أن يكون المراد بقوله عليه السّلام:«المجمع عليه لا ريب فيه»أي عند الناس لا بالنسبة إلى الواقع،فإن الناس مجبولون على الأخذ بالمشهور لديهم مطلقا.
ثم إنه قد ذكر صاحب الوسائل في الفائدة الثامنة من خاتمة الوسائل امورا يمكن منها حصول الوثوق بالصدور،فراجع فإن جملة منها مما لا بأس به. و يشهد له قول الصادق عليه السّلام لجميل بن دراج:«لا تحدّث أصحابنا بما لم يجمعوا عليه فيكذّبوك»،و قول الرضا عليه السّلام ليونس بن عبد الرحمن:«يا يونس حدّث الناس بما يعرفون و اتركهم عمّا لا يعرفون»،و تشهد له التجربة القطعية أيضا، و من مثل هذه الأخبار يمكن استفادة صحة التعدي.
الرابع: سقوط الترتيب بين المرجحات المنصوصة بناء على التعدى، الجواب هما ورد من الاشكال
بناء على ما تقدم من أن المرجحات لا موضوعية فيها،بل تكون طريقا إلى الوثوق بالصدور و الوصول إلى الواقع،لا يبقى موضوع للبحث عن الترتيب بينها،لفرض تحقق مناط الترجيح في الجميع،مع أن مقتضى الأصل عدم الترتيب أيضا،و لا دليل على الخلاف إلا ما يتوهم من ذكرها مرتبة في المقبولة.
و فيه:أن الترتيب الذكري أعم من الواقعي،مع أنها مذكورة في سائر الأخبار غير مرتبة و سياقها آب عن التخصيص.
إن قيل:إن مع وجودها في المتعارضين بلا ترتب يشك في شمول إطلاق أدلة التخيير،فلا بد من مراعاة الترتيب.
نقول:لا وجه للشك مع إحراز اتحاد المناط و إطلاقات الأدلة في المرجحات الآبية عن التقييد،و كون الترتيب في المقبولة لفظيا لا واقعيا.
نعم،المشهور بين الفقهاء فتوى و عملا أن الشهرة أقوى المرجحات،فلا يبقى مجال معها لإعمال سائر المرجحات،كما لا موضوع معها لإطلاق أدلة التخيير،و يشهد له العرف أيضا،فإن الظاهر أنهم يقدمون الشهرة الاستنادية في أمورهم المعاشية و المعادية على سائر المرجحات في موارد التعارض.
الخامس: اقسام الشهرة
الشهرة تارة:استنادية،بأن احرز استناد القدماء إلى الرواية لاعتمادهم عليها في الاحتجاج و العمل بها.
و اخرى:نقلية،بأن كانت مضبوطة في الجوامع و المجامع من غير إحراز استنادهم إليها في العمل و الاحتجاج.
و ثالثة:فتوائية محضة،بأن اشتهرت الفتوى بشيء عند القدماء قدس سرّهم مطابقة للرواية من غير إحراز استنادهم إليها.
و تحقق الاولى بالنسبة إلى خبر ضعيف جابرة لضعفه،لأن جمعا من خبراء الفن إذا اعتمدوا على شيء من فنهم و احتجوا به لا محالة يحصل من ذلك الاطمئنان العقلائي باعتبار ذلك الشيء.كما أن إعراضهم كذلك عن خبر صحيح موهن له،لأن إعراض الخبراء عما هو صحيح يكشف عن ظفرهم بما يوجب الوهن.
و الثانية:قد تكون من المرجحات و قد لا تكون،و لا كلية في ذلك.
كما أن الثالثة أيضا كذلك،و سيأتي بعض القول في حجية الظن إن شاء اللّه تعالى.
و المناط في كل ذلك حصول الوثوق و الاطمئنان بالصدور،و هو دائمي في الشهرة الاستنادية،و اتفاقي في الأخيرتين.
السادس: معاملة المرجح من الظن ان لم يقم دليل على اعتباره و لا على عدم اعتباره
الظن إن قام على اعتباره الدليل يصلح للترجيح،و إن قام على عدم اعتباره دليلا فلا يصح عليه التعويل،و إن لم يكن من الأول و لا من الأخير فقد جرت سيرة الفقهاء على معاملة المرجح معه أيضا،فتراهم يقولون:«عليه الأكثر»،و«عليه جمع من القدماء»،و«كما عليه الشهيدان و المحققان»إلى غير ذلك من التعبيرات الكثيرة الموجبة للاعتماد.
و لعل الوجه في ذلك أنه مع وجود هذه الظنون يحصل الشك في شمول إطلاقات أدلة التخيير،فلا يصح التمسك بها حينئذ مع ثبوت ملاك سائر المرجحات فيها،و هو حصول الاطمئنان في الجملة،بل قد جرت عادة الفقهاء على عدّ الموافقة للأصل من المرجحات،فراجع الجواهر و غيره.
لا يخفى أنه كما أن حجية أصل الخبر الموثوق به إنما هو ببناء العقلاء كذلك متممات الحجية و فروعها أيضا تكون ببناء العقلاء،فإن التعارض و أحكامه من لوازم الحجة الموجودة بين العقلاء و الدائرة بينهم،و لا يمكن أن يكون هذا الأصل النظامي دائرا بينهم بينما تكون لوازمها و فروعها مغفولا عنها لديهم،مع كونها من مقومات محاوراتهم و احتجاجاتهم،و قد تقدم أن الأنواع الثلاثة للمرجحات ثابتة عند المتعارف أيضا في محاوراتهم الشائعة لديهم، و لا بد و أن يبحث عن حكم المتعارضين بعد التكافؤ من جميع الجهات عند العقلاء،و أنه بعد استقرار الحيرة لديهم هل يختارون الاحتياط في العمل إن أمكن،أو يتوقفون عنه مطلقا،أو أنهم يرجعون إلى التخيير بحكم فطرتهم؟
اشار الى امور
أما الأول: عدم اختصاص التخيير بزمان الغيبة بناء على كونه عقليا الكلام فى ذلك
فهو و إن كان حسنا ثبوتا و لكنه خلاف البناء المحاوري النوعي في الطرق المعتبرة لديهم و الحجج الدائرة بينهم،مع أنه تشديد في الأمر الذي
التحير و عدم إمكان رفعه،و على هذا لا وجه لإتعاب النفس في ملاحظة النسبة بين الأخبار الدالة على التخيير و سائر الأخبار الواردة في حكم المتعارضين،لأنه مع استقرار التحير و عدم إمكان رفعه عرفا يثبت التخيير،سواء كان عقلائيا أو شرعيا،و سواء كان في زمان الحضور أو زمان الغيبة.و مع عدم استقراره و إمكان رفعه عرفا لا موضوع له أصلا،بلا فرق بين الزمانين،و لا بين كونه عقلائيا أو شرعيا.
الثاني: التخيير لا يكون إلاّ بعد الفحص عن المرجحات و الياس عنها
لا موضوع للتخيير مطلقا إلا بعد الفحص عن المرجحات و اليأس عنها،لأن موضوعه إنما هو قبح الترجيح بلا مرجح،فمع وجوده أو احتماله لا موضوع له لا عقلا و لا شرعا.
الثالث: اختصاص موضوع التخيير بالمجتهد
موضوع هذا التخيير-سواء كان عقلائيا أو شرعيا-إنما هو في أخذ الحجة أي المسألة الاصولية،فيختص بالمجتهد،إذ العامي بمعزل عن ذلك،و لا يكون استمراريا،لأنه بعد الأخذ بأحدهما يصير ذا حجة معتبرة فلا يبقى موضوع للتخيير حينئذ،كما لا وجه لاستصحاب التخيير بعد صيرورته ذا حجة معتبرة.
الرابع: الجواب عما يتوهم من حمل اخبار الترجيح على الاستحباب و الاخذ باطلاق اخبار التخيير
بعد كون موضوع التخيير مطلقا-إنما هو صورة فقد المرجح-لا وجه لتوهم حمل أخبار الترجيح على الاستحباب،و الأخذ بإطلاق أخبار التخيير،لأنه من إثبات الإطلاق في ما لا موضوع له،و هو قبيح.نعم،يمكن أن يقال:إن مجرد الوثوق بالصدور في كل واحد من المتعارضين يكفي في الحجية،لإطلاق أدلة اعتبار الخبر الموثوق به و إطلاق السيرة العقلائية،فيتحقق موضوع التخيير بمجرد الحجة الاقتضائية و إعمال المرجحات إن كان لزيادة الوثوق فلا دليل على أصل اعتباره،لفرض حصول أصل الوثوق في الجملة.و إن كان لجهة اخرى فهي مدفوعة بالأصل.و لعل نظر من حمل المرجحات على الندب إلى ذلك و إن كان بعيدا عن ظاهر كلماتهم،و لم أجد ما ذكرناه محررا في كلامهم فراجع.
يكون أصله مبنيا على التسهيل و التيسير،لأن هذه كلها من فروع اعتبار الخبر الموثوق به الذي هو من أهم الامور النظامية التسهيلية.
و كذا الثاني مع أنه قد يؤدي إلى اختلال النظام لديهم،مضافا إلى أنه قد لا يكون المورد قابلا للتوقف بل لا بد من العمل به في الجملة فيتعين الأخير، فيكون التخيير أيضا في تعارض الحجج المعتبرة بعد التكافؤ و استقرار الحيرة من الاصول النظامية الدائرة لديهم في محاوراتهم عند تحقق الحيرة المستقرة.
و الأخبار الواردة في التخيير عند الحيرة المستقرة وردت على طبق هذا الأمر المرتكز في الأذهان بحكم فطرة الإنسان فلا يكون من الامور التعبدية،و ما ورد من الشارع إنما هو لأجل التقرير و عدم الردع عن هذه الطريقة المعهودة المرتكزة عند العرف.
فالتخيير إما تكويني محض،كما في دوران الأمر بين المحذورين مع عدم كون أحدهما قربيا.أو عقلائي،كما في نظائر المقام.أو شرعي،كما في خصال الكفارات مثلا.و على هذا لا اختصاص له بخصوص تعارض الروايات، بل يشمل جميع موارد التعارض،سواء كان فيها،أو في أقوال الرجال،و أهل اللغة أو غيرها.
نعم،بناء على كون التخيير في المقام شرعيا محضا لاختص بخصوص مورد الأخبار المتعارضة،لاختصاص أدلة التعارض بها،و لكن عرفت أنها وردت في مقام عدم الردع عن طريقة العقلاء،فلا وجه للاختصاص،و لذا يمكن القول بشموله لموارد اختلاف النسخ و اختلاف النقل أيضا بعد التكافؤ المطلق و التحير المستقر.
و ينبغي الإشارة إلى امور:
الأول:بناء على كون التخيير عقلائيا لا يختص بزمان الغيبة،بل يشمل زمان الحضور أيضا بعد عدم قدرته عليه السّلام ظاهرا على رفع التحير،إما لعدم المقتضي أو لوجود المانع،بل و كذا لو كان تعبدا من الأخبار لفرض استقرار
يختص حكم التعارض-من الترجيح،ثم التخيير-بالمتباينين فقط و لا وجه له في العام و الخاص،و لا المطلق و المقيد،لتحقق الجمع العرفي المقبول فيهما،بل تقدم عدم كونهما من التعارض في المحاورات أصلا،فيخرجان عنه تخصصا.
و كذا موارد العموم من وجه،لأن المتفاهم من أدلة حكم التعارض ما إذا لم يمكن الأخذ بالدليلين في الجملة،و هو ممكن في مورد الافتراق من الدليلين،بل و كذا في مورد الاجتماع أيضا،لأن المنساق من دليل حكم التعارض-ترجيحا أو تخييرا-إنما هو في ما إذا لزم من الطرح و الرجوع إلى الأصل محذور شرعي،و لا يلزم ذلك في مورد الاجتماع من العامين من وجه، بل الشائع في المحاورات هو الطرح،و لا محذور فيه إلا لزوم التفكيك في العمل بمدلول الدليل و لا إشكال فيه،بل هو كثير في الفقه،كما لا يخفى.
التعارض بين أكثر من الدليلين كثير في الفقه،كما في تحديد الكر، و انفعال البئر،و حكم السلام المخرج عن الصلاة،و حكم الركعتين الأخيرتين من الرباعيات من حيث القراءة و التسبيحات،و حكم ذبيحة الكتابي،و حكم أكثر النفاس إلى غير ذلك مما لا يستقصى.و لا تضبطها ضابطة كلية حتى تذكر في الاصول،و يختلف حكمها حسب اختلاف الأبواب و الموارد،و قد يضطرب في بعض موارده الخبير الماهر.
قال في الجواهر في بحث السلام:«و يكفيك أن الشهيد مع شدة تبحره و حسن وصوله إلى المطالب الغامضة قد اضطرب عليه المقام،كما لا يخفى على كل ناظر للذكرى…».
ثم إنه قد تعرض الاصوليون لبعض صور التعارض بين الأدلة:
منها:ما إذا ورد عام،كأكرم العلماء،و خاصان بينهما التباين،كلا تكرم الكوفيين منهم و لا تكرم البصريين منهم.و حكمه تخصيص الخاص بكل واحد من الخاصين ما لم يكن محذور في البين من التخصيص المستهجن و نحوه، و إلا فيعامل معاملة التعارض بين العام و مجموع الخاصين،و يؤخذ بالأرجح منهما في البين،و مع فقده فالتخيير.
و منها:ما إذا ورد عام و خاصان،و كان بينهما العموم المطلق،كأكرم العلماء و لا تكرم العراقيين،و لا تكرم الكوفيين.و حكمه كالقسم الأول،كما هو الظاهر من المحاورات.
و ما يقال:من تخصيص العام بأخص الخاصين ثم ملاحظة النسبة بينه و بين الخاص الآخر،لا شاهد عليه من عرف أو عقل أو شرع،و كونه القدر المتيقن من التخصيص،لا يوجب الظهور في التخصيص به أو لا.نعم،لو كانا متصلين بالعام يصادم الظهور في العموم،و حينئذ يكون التعارض بين الدليلين لا أكثر،فيخرج عن مورد البحث.
و دعوى:أنه مع ملاحظة التخصيص بأخص الخاصين قد تنقلب النسبة إلى العموم من وجه،فلا بد من ملاحظة النسبة المنقلب إليها.
و هذه الدعوى فاسدة:لأن المدار في النسب الملحوظة في الظواهر، النسبة الظاهرة الأولية المنساقة من ظاهر الكلام،لا المنقلبة إليها بعد التخصيص.
و منها:ما إذا ورد عام و خاصان بينهما العموم من وجه،كأكرم العلماء و لا تكرم النحاة،و لا تكرم الصرفيين.و ظاهرهم الاتفاق على تخصيص العام بكل منهما ما لم يلزم محذور في البين.
و منها:ما إذا ورد عامان من وجه،ثم ورد دليل آخر لإخراج مورد افتراق أحد العامين،مثل أكرم النحويين،و لا تكرم الصرفيين،و بعد ذلك قال:يستحب إكرام النحوي غير الصرفي.فتنقلب النسبة إلى العموم المطلق،إذ يصير مفادهما هكذا:أكرم النحويين و لا تكرم النحوي الصرفي،فيعمل معه معاملة المطلق و المقيد.
و منها:ما إذا كان بينهما التباين،كأكرم العلماء و لا تكرم العلماء،ثم ورد دليل آخر على إخراج العدول من لا تكرم العلماء،فتنقلب إلى العموم المطلق، إذ يصير مفادهما أكرم العلماء و لا تكرم فساقهم،و الحكم في الجميع تخصيص العام بتمام المخصصات ما لم يلزم محذور التخصيص القبيح،بلا فرق بين ورودها في عرض واحد أو متقدما و متأخرا.هذا بعض ما يتعلق بالمقام و التفصيل يطلب من الفقه في المواضع المناسبة.
ثم إنه لا يخفى أنه لا فرق في الأحكام العامة للتعارض بينهما إذا كان التعارض بين الدليلين أو أكثر،فيجري جميع ما تقدم في المقام أيضا.