الأمن: الطمأنينة، وزوال الخوف، وسكون النفس، والأمن، والأمان، والأمانة، تستعمل مصدرًا، واسمًا، ويفرّق بينهما بالقرائن.
وقد استعملت جملة من مشتقّاتها بالنسبة إلى الحرم الأقدس الإلهيّ، قال تعالى: أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا[1] وقال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا[2] وقال تعالى: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ[3].
والأمن المستعمل في القرآن أخرويّ، أو دنيويّ، أو هما معًا:
الأخرويّ: نحو قوله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ[٤]، وقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ[٥].
والدنيويّ: نحو قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا[٦]؛ والوصف بالأمن إمّا للإرشاد إلى أنّ المحلّ محلّ لا ينبغي أن يقع الظلم فيه مطلقًا، فيكون تنبيهًا للعقل، والعقلاء إلى عظمة المحلّ، نحو ما ورد في تعظيم القرآن، والوالدين، والمؤمن، فتترتّب على المخالفة المفسدة لا محالة، وإمّا أنّه أمر تكليفيّ، فعليّ، لجعل المحلّ آمنًا ممّا حذر ارتكابه في غيره، وكلّ منهما صحيح، ولا منافاة بينهما.
والدنيويّ، والأخرويّ: يصحّ أن يكون الأمن في الآية السابقة منه.
والأمانة: اسم مصدر سمّي به المفعول، وهي في قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا[7] عامّة، تشمل كلّ أمانة على الإطلاق، سواء أكانت خالقيّة، أم خلقيّة، ولكنّ المهمّ منها، والتي تتعلّق بها سائر الأمانات، وتتنظم، هي الأمانة المتعلّقة بحقوق اللّه تعالى، وأهمّها عبادته ـــ عزّ وجلّ ـــ وحده، بلا شريك، والإيمان به، وبرسله، والتحاكم الى شريعته، واتّخاذ دينه منهجًا في الحياة، فإذا تمّ ذلك، وأُدّيت تلك الأمانة بحذافيرها، انتظمت سائر الأمانات، وأُدّيت الى أهلها تلقائيًّا؛ لأنّه بأداء الأمانة الكبرى، يستشعر الإنسان تقوى اللّه تعالى، وتتحدّد مسؤوليته تجاه سائر الأمانات، فيكون مسؤولًا عن أدائها، ويكون مراعيًا لحقوق الآخرين، الّذين أمرنا اللّه تعالى بمراعاة حقوقهم، وإلا خرج عن أداء الأمانة الكبرى؛ بل يمكن أن يقال: إنّ كلمة أَهْلِهَا تدلّ على أنّه لا بدّ من أن يكون المؤدّى إليه الأمانة، له أهليّة الأمانة، فتختصّ الآية الشريفة بأداء الأمانة للّه تعالى، ورسله، وأنبيائه العظام، والأوصياء الأكرمين، فإنّ لهم أهليّة أداء الأمانة، وأمّا غيرهم فيكون ردّ أمانتهم لردّ أمانة أولئك المتقدّمين، ويشهد لذلك تعقيب هذه الآية الكريمة بالحكم بالحقّ، الّذي هو حقّ إلهي، وإطاعة اللّه، والرسول، وأولي الأمر منكم، فإنّه من باب التطبيق لتلك الأمانة، التي أمرنا بأدائها الى أهلها.
والإيمان: من الأمن، سمّي به، لكونه موجبًا لأمن المؤمن من العقاب في الآخرة، قال تعالى: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا[8]، أو لأمان النّاس به في الدنيا؛ وفي الحديث: “لأنه يؤمن على اللّه، فيجيز أمانه”[9]؛ وهو: الاعتقاد بالجنان، والعمل بالأركان، والإقرار باللسان، فليس الإيمان مجرد الإقرار، بل العمل بالوظيفة جزؤه، فهو في اللغة، والشرع, بمعنى واحد، وهو: التصديق الجازم.
ويستعمل لازمًا، وهو كثير في القرآن، قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ [10].
ويستعمل متعديا بـ (الباء)، وهو أيضًا كثير، قال تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [11].
ويستعمل متعدّيًا بـ (اللام)، قال تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ[12].
وردت هذه المادّة، بمشتقاتها، في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ممّا يكشف عن أهميّة الإيمان، وأنّه الأصل في الكمالات الإنسانيّة مطلقًا، بل جعل تعالى العقل- الّذي هو من أعظم مواهبه- دائرًا مداره، فقال عزّ وجلّ: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا[13]، فخصّ أولي الألباب بالمؤمنين.
وقرن العمل بالصالحات، بالإيمان، في كثير من الآيات، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ[۱٤]، وفي النصوص الكثيرة، أنّ الإيمان مبثوث على الجوارح جميعها، والإيمان أمر تشكيكيّ، وهو كسائر الصفات النفسانيّة، التي لها مراتب كثيرة: كمالًا، ونقصًا، وشدةً، وضعفًا، ويختلف باختلاف متعلّقه، من: القلب، واللسان، وعمل الجوارح، وأعلى مراتبه ما بيّنه تعالى في قوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[۱٥].
والإيمان على أنحاء أربعة:
الأوّل: الإيمان الانتسابيّ فقط، بأن يرى الشخص نفسه في بلاد المسلمين منسوبًا إليهم، بلا اعتقاد، ولا عمل.
الثاني: الإيمان الاعتقاديّ فقط، من دون عمل.
الثالث: العمل الظاهريّ من دون الاعتقاد.
الرابع: الاعتقاد القلبيّ، والعمل على طبق ما اعتقد.
وما يصدق عليه الإيمان حقيقة هو الأخير، وهو النافع للنفس الإنسانيّة في طريق استكمالها، وعوالمها الأخرويّة، وسائر الأقسام إنّما أطلق عليها الإيمان بالعناية، للتسهيل؛ نعم، لا يطلق عليه الكافر، إلّا إذا انتفى منه الاعتقاد، والعمل، والإقرار؛ وعند انتفاء العمل بالأركان فقط، يكون فاسقًا، إن لم يكن منكرا لضروريّ من ضروريّات الدين، فمن ترك واجبًا، وارتكب محرّمًا، فهو ليس بمؤمن من هذه الجهة، وإن كان مؤمنًا من جهة أخرى، قال النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله): “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن”[۱٦]، وعن الصادق (عليه السّلام): “فأمّا الرشا في الأحكام فهو الكفر باللّه العظيم“[17].
وفي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[18] المراد بالّذين آمنوا: من اتّخذ الدين القيّم، قال تعالى: دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا[19]، وليس المراد به: خصوص المسلمين، الّذين صدّقوا محمدًا (صلّى اللّه عليه وآله)، ويدلّ على العموم ذيل الآية الشريفة، فيكون ذكر الأصناف الثلاثة تخصيصًا بعد العموم، وتفصيلًا بعد الإجمال.
وعطف عمل الصالحات على الإيمان في آيات كثيرة، من عطف الجزء على الكلّ، لفائدة، وخصوصيّة، وهو من شؤون البلاغة، والفصاحة، وأيّ فائدة أحسن من كون الإيمان بالشريعة، يدور مدار العمل بها قال (صلّى اللّه عليه وآله):” لا قول إلّا بعمل، ولا قول ولا عمل إلّا بنيّة، ولا قول، ولا عمل، ولا نيّة، إلا بإصابة السنّة”[20]، وهو من اشتراط الشيء بأهم شروطه، نحو قول الإمام الباقر (عليه السلام): “لا صلاة إلّا بطهور“[21].
[1] العنكبوت: ٦۷
[2] البقرة: ۱۲٥
[3] التين: 3
[٤] الحجر: ٤٦
[٥] الدخان: ۱٥
[٦]البقرة: ۱۲٦
[7] النساء: ٥۸
[8] الجن: 13
[9] علل الشرائع 2/ ٥۲۳, الباب: 300, ح 1, والحديث للإمام الصادق (ع).
[10] البقرة: 13
[11] البقرة: 177
[12] يونس: 83
[13] الطلاق: 10
[۱٤] البقرة: 82
[۱٥] البقرة: 177
[۱٦] الكافي 2 / 32, كتاب: الإيمان والكفر, باب: بدون عنوان, ح1.
[17] الكافي 5 / 127, كتاب: المعيشة, باب: السحت, ح3.
[18] البقرة: ٦۲
[19] الأنعام: ۱٦۱
[20] الكافي 1 / 70 , كتاب: العقل والجهل, باب: الأخذ بالسنّة, ح 9.
[21] من لا يحضره الفقيه – ج 1 – ص ٥۸, باب: إنّ الطهور قسم من الصلاة, ح 129.