مادّة (م ل ك) بأيّ هيأة استُعملت تعني: الاستيلاء، والإحاطة، والاحتواء، سواء كان بالنسبة إلى الخلق، والإيجاد، أو بالنسبة إلى النظم، أو الانتظام؛ نعم، هي في المخلوق محدودة لمحدوديّة ذاته، وصفاته؛ وفي الخالق لا وجه للتحديد فيه بوجه من الوجوه، نحو قوله تعالى: بِيَدِهِ الْمُلْكُ[1]، وقوله تعالى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ[2]، وقوله تعالى: بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ[3]، عامّ يشمل جميع العوالم، ومالكيّته لها بالدلالة المطابقيّة.
وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يزيد على مئة وثلاثين موضعًا، وتُستعمل بالنسبة إلى جميع العوالم، قال تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، وقال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّار[4]، وقال تعالى: ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والْأَرْضِ[5].
والاستيلاء، والسلطنة، وهما معنى الملك، قد تكونان:
أوّلا: حقيقيّتان، بمعنى: الاستيلاء على الشيء من كلّ جهة: إيجادًا، وإبقاءً، وإفناءً، وربوبيّة، وتصويره بكلّ صورة شاء، وأراد، وهذا مختصّ باللّه سبحانه، وتعالى، فإنّه مالك لجميع خلقه، ملكيّة حقيقيّة من كلّ جهة يفرض فيها.
ثانيا: اعتباريّتان، يدوران مدار اعتبار العقلاء، نحو ملكيّة الإنسان للأشياء التي تقع تحت استيلائه، وفي الحديث: “املك عليك لسانك”[6]، أي لا تجرّه إلّا بما يكون لك لا عليك، وهذه الملكيّة الاعتباريّة تدور مدار اعتبار المعتبر، وقابلة للتغيير، والتبديل، والزوال.
وهذا القسم يلازم القسم الأوّل دون العكس. فيصحّ عدّ هذه الملكيّة بالنسبة إلى اللّه عزّ وجلّ بالأولى، لأنّ كلّ وصف ممكن لا يستلزم من إطلاقه النقص بالنسبة إليه عزّ وجلّ، يصحّ وصفه به، قال تعالى: وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ[7]، وقال تعالى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ[8]، ويصحّ انتزاع هذه الملكيّة الاعتباريّة عن الملكية الحقيقيّة؛ وبها تنظيم الأغراض العقلائيّة الفرديّة، والاجتماعيّة.
ثم إنّ الملكيّة الاعتباريّة:
تارة: تكون بوضع من اللّه تعالى، نحو: ملكيّة الإنسان لنفسه، وأجزائه، وتصرّفاته السائغة في بدنه، بحسب التكوين، والتشريع.
وأخرى: تكون بوضع، واعتبار من العقلاء.
أمّا بالنسبة إلى ملكيّة المولى للعبد، فإنّه لا ريب في كونها من المِلك (بالكسر) الاعتباريّ، لصحّة هذا الاعتبار عند الجميع، وأمّا كونها من المُلك (بالضم) ففيه منع، إذ لا يعدّ العقلاء بين المولى والعبد الملوكيّة، والرعيّة.
وردت هذه المادّة بأغلب مشتقاتها في القرآن الكريم، فقد أطلق فيه المَلِك (بفتح الميم وكسر اللام) بالنسبة إليه تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ[9]، وقال تعالى:فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ[10]، وقال تعالى: مَلِكِ النَّاسِ [11].
وورد المُلْك (بضمّ الميم، وسكون اللام) مضافًا إليه تعالى كثيرًا، قال تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ[12]، وقال تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ[13]، وقال تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [14].
وورد المالك، قال تعالى: اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ[15].
والمُلك: في قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء[16]، هو مطلق السلطنة، والاستيلاء، والمراد به: طبيعته وذاته، وهو ما يصحّ أن يقع تحت الاستيلاء، والسلطنة، ليشمل جميع الممكنات القابلة للوجود، والإيجاد، فيشمل المُلك (بالضم)، والمِلك (بالكسر)، والنبوّة، إذ هي ملك أيضًا، قال تعالى: وآتَيْناهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا[17]، فإنّ جميع ذلك واقع تحت سلطان اللّه تعالى، وإرادته المقدّسة، وهي من مواهبه، وعطاياه التي يمّن بها على من يشاء من خلقه، ويمنعها عمّن يشاء منهم، وقد بنى اللّه تعالى النظام التكوينيّ، والتشريعيّ، والاجتماعيّ، على الملك، وهو محبوب لدى المجتمع الإنسانيّ، تستقيم به حياتهم في النشأتين.
والمُلك: في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ[18]: إضافة ظاهرية بالنسبة إلى ما في الدنيا، تتّسع، وتتضيّق، بحسب ما يشاء اللّه تعالى، ويريد؛ وهذه الإضافة معرض لحدوث الإضافات الكثيرة، تفنى، وتزول، والمتلبّس بها في جهد شديد، في جلب مقتضياتها، ورفع موانعها، والحقيقية أنّه ليس إلّا متاع الغرور.
أمّا الملك الذي آتاه اللّه تعالى إبراهيم (عليه السلام)، فهو مالكية حقايق الأمور، وتسلّطه على الممكنات، فيقلب الجوهر إلى آخر، ويبدّل الصورة إلى أخرى بإذن اللّه تعالى، وهو باق ببقاء اللّه عزّ، وجل، ولا مناسبة بين الملكين، إلا نسبة العدم إلى الوجود.
ومن العجيب أن يكون الثاني مبتلًى بالأوّل دائمًا، نحو: ابتلاء إبراهيم (عليه السلام) بنمرود، وموسى (عليه السلام) بفرعون، ومحمد (صلّى اللّه عليه وآله) بالطواغيت من أهل عصره، وليس ذلك إلّا لكمال الأوّل، وخسّة الثاني.
وورد المليك أيضًا، قال تعالى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر[19].
ولم يرد الملك (بكسر الميم وسكون اللام)، لإغناء المُلك (بضم الميم) عن ذلك بالأتم، والأكمل، ولعلّ عدم وروده في القرآن لأنّه غالبًا يُستعمَل في الأمور الزائلة، وهو تعالى منزّه عن إضافة مثله إليه.
والمُلك (بالضم) اسم لما يُملك، ويُتصرّف فيه، وهو على قسمين: ملك حقيقيّ، وهو التصرّف في شؤون الرعيّة تصرّفًا حقيقيًّا بكلّ ما يريد من غير مزاحمة، ولا معارضة، وهو مختصّ باللّه تعالى، أو ما يمنحه اللّه ــــ عزّ، وجلّ ـــــ لبعض أنبيائه، وأوليائه، فهو جلّت عظمته خالق كلّ شيء، ومالكه، وله الربوبيّة العظمى العامّة، والقيوميّة المطلقة، قال تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ[20]، فيرجع إلى المِلك (بالكسر) الحقيقيّ، وملازم له، ويصحّ أن يُعبّر عنه بأنّه ملك في ملك.
وأخرى: مُلك (بالضم)، اعتباريّ اعتبره الاجتماع، مثل ملوك أهل الأرض، الّذين يتسلّطون على جماعة من الناس، ويتصرّفون فيهم تصرّفًا يصلح بها شؤونهم.
وبعد فرض أنّه تعالى خالق لجميع الممكنات، وموجدها من العدم، ومبقيها، ومفنيها، وبيده تدبيرها، وتربيتها، وهو الربّ على الإطلاق، والقيّوم كذلك، فهو مالك، وملك، ومليك، وجميع هذه الإطلاقات من لوازم الفرض الذي فرضناه.
وقد ورد جميع ذلك في القرآن الكريم أيضًا قال تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [21]، فقد أثبت الملكيّة لنفسه، وقال تعالى: مَلِكِ النَّاسِ[22]، الذي أثبت الملوكيّة لنفسه، وقال تعالى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[23]، حيث أثبت المالكيّة، والملوكيّة لنفسه الأقدس.
وفي قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ[24]، المراد بـ مُّلُوكًا ، هو الاستقلال بالنفس، والتسلّط عليها، ومالكيّتهم لأمرهم بالحريّة، والتدبير، والملكيّة، بعد أن كانوا عبيدًا، أرقّاء للقبط، والفراعنة، ليست لهم أيّة سلطة على أنفسهم، وأموالهم، وأمور معاشهم، يسومونهم سوء العذاب، نحو ما ذكر عزّ وجلّ في عدّة من مواضع من كتابه الشريف، قال تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ويُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ[25].
وللملكوت: في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)[26]، وجهان: أدبيّ: وهو مصدر من الملك، كالرَحَموت، والجَبَروت، وفي بناء – فَعَلوت –إشعار بالتكثير، بل المبالغة، وفي العالم الربوبيّ، يُراد بها أكمل الصفات، وأشدّها، وآكدها، فيُراد به بحسب اللغة: آكد الملك، وأكمله، كما في سائر صفاته المقدسة، فإنّها تُستعمل بالمعنى اللغويّ، إلا أنّ المصداق فيه تعالى أتمّ، وأكمل، ووجه واقعيّ: يُبصَر به حقائق الأعيان، باعتبار شهودها على الألوهيّة العظمى، والوحدانيّة الكبرى، والربوبيّة التامّة، وخضوع ماسواه له، ومربوبيّتها له.
[1] تبارك: 1
[2] التغابن: 1
[3] المؤمنون: 88
[4] غافر: 16
[5] آل عمران:189
[6] النهاية في غريب الحديث – ج 4 – ص 358
[7] النور: 33
[8] التغابن: 1
[9] الحشر: 23
[10] طه: 114
[11] الناس: 2
[12] الحديد: 2
[13] فاطر: 13
[14] آل عمران: 26
[15] آل عمران: 26
[16] آل عمران : 26
[17] النساء: 54
[18] البقرة : 258
[19] القمر: 55
[20] فاطر: 13
[21] البقرة: 255
[22] الناس: 2
[23] القمر: 55
[24] المائدة : 20
[25] إبراهيم: 6
[26] الأنعام : 75