الكفر: ستر الشيء، وتغطيته، ومنه سمّي الليل كافرًا، لأنّه يغطّي كلّ شيء بسواده، قال لبيد:
في ليلة كفر النجوم غمامها[1]
ووقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم، في ما يزيد عن خمسمائة مورد، بهيآت مختلفة، وكثرتها لأنّ من أهمّ مقاصد القرآن العظيم، الدعوة إلى التوحيد، ونبذ الشرك، والاختلاف، وتوجيه الإنسان إلى الكمال المنشود له، وإزالة العقبات التي تصدّه عن ذلك، ومن أعظمها: الكفر، وجحود الحقّ، ولأجل ذلك تكرّر ذكرها لإرشاد الناس، وتثبيت الحجّة عليهم.
ويطلق الكافر على الزارع، لأنّه يستر البذر تحت الأرض، قال تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ[2]، ومنه: كفر النعمة، والإحسان، إذا غطّاها بترك الحمد، والشكر عليها، أو جحدها، وفي الحديث: “رأيت أكثر أهلها ـــ النّار ـــ النساء لكفرهن، قيل: أيكفرن باللّه؟ قال: لا، ولكن يكفرن الإحسان، ويكفرن العشير”[3]، أي: يجحدن إحسان أزواجهن، ويسترنه، ومنه: سمّي الكافر، لأنّه كفر بالصانع، والمبدأ.
وفي عرف الكتاب، والسنّة، تستعمل الكلمة في ستر العقائد الحقّة، وعدم الاعتقاد بها، وجحودها مطلقًا، فإنْ أظهر الإيمان، والاعتقاد، وأخفى الجحود، فهو (المنافق)، وإن أظهر كفره بعد إظهار الاعتقاد، أو الإيمان، فهو المرتدّ، فإنْ قال بالشرك في الألوهيّة فهو المشرك، وإن تديّن، أو اعتقد ببعض الأديان الإلهيّة المنسوخة فهو الكتابيّ، وإن ذهب إلى قدم الدهر، وإسناد الحوادث إليه فهو الدهريّ، وإن كان لا يعتقد بالمبدأ، والباري، فهو المعطّل، أو الملحد.
والكفر هو ستر الحقّ: اعتقادًا، أو لسانًا، أو عملًا، في مقابل الإيمان، الذي هو اعتقاد بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان؛ وعليه للكفر مراتب، كمراتب الإيمان، فقد يكون الشخص كافرًا بالنسبة إلى مرتبة، وهو مؤمن بالنسبة إلى مرتبة أخرى.
وعن الصادق (عليه السّلام) في وجوه الكفر في كتاب اللّه عزّ وجل قال: “الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر اللّه، وكفر البراءة، وكفر النعم.
فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة، وهو قول من يقول: لا ربّ، ولا جنّة، ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال: لهم الدهريّة، وهم الذين يقولون: وما يهلكنا إلّا الدهر، وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبّت منهم، ولا تحقيق لشيء ممّا يقولون، قال عزّ، وجل: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ[4]، أنّ ذلك كما يقولون ، وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ[5]، يعني بتوحيد اللّه، فهذا أحد وجوه الكفر؛ وأمّا الوجه الآخر من الجحود على معرفة، وهو أن يجحد الجاحد، وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده، وقد قال اللّه عزّ وجل: وَجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وعُلُوًّا[6]، وقال اللّه عزّ وجل: وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ[7]، فهذا تفسير وجهي الجحود.
والوجه الثالث من الكفر: كفر النعم، وذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ومَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ[8]، وقال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ[9]، وقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ [10].
والوجه الرابع من الكفر: ترك ما أمر اللّه عزّ، وجلّ به، وهو قول اللّه عزّ وجل: وإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ ولا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ* ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ والْعُدْوانِ وإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ[11]، فكفّرهم بترك ما أمر اللّه عزّ، وجلّ به، ونسبهم إلى الإيمان، ولم يقبله منهم، ولم ينفعهم عنده فقال: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ويَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ ومَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[12].
والوجه الخامس من الكفر: كفر البراءة، وذلك قول اللّه ـــ عزّ، وجلّ ـــ يحكي قول إبراهيم: كَفَرْنا بِكُمْ وبَدا بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ والْبَغْضاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ[13]، يعني تبرّأنا منكم، وقال، يذكر إبليس وتبرؤه من أوليائه من الإنس يوم القيامة،: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [14]، وقال: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [15]، يعني يتبرّأ بعضكم من بعض”[16].
أقول: يمكن جعل جميع ما في هذه الرواية من التقسيم العقليّ، بأن يقال: الكافر إمّا لا يعتقد بمُبدئ أصلًا، وهو الكافر المطلق، ويطلق عليه الجاحد بالمعنى العامّ أيضًا، أو يعتقد به في الجملة، ثمّ يجحده، وهو كفر الجحود، بالمعنى الخاصّ، أو يعتقد به، ولا يجحده، ولكن يكفر بنعمه، وهو كفر النعم، أو يعتقد به، ولكن يترك ما أمر اللّه به، وهو كفر ترك الطاعة، ويشمل هذا ترك كلّ واجب شرعيّ، أو إتيان كلّ ما نهى اللّه عنه، أو يعتقد بذلك كلّه، ولكن لا يبرأ من عدوّه، ولا يتولّى وليّه، وهو كفر البراءة.
ومن هذا الحديث يعرف بيان ما أطلق فيه الكفر على تارك الصّلاة، أو على إتيان بعض المحرّمات، أو التولّي لأعداء اللّه، أو التبرّي من أولياء اللّه، فهذا الحديث هو الجامع لجميع أنواع الكفر.
وفي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ[17]، المراد بالكفر: ترك ما أمر الله به عزّ، وجلّ، وهو الذي، أمر نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتبليغه ، نحو قوله تعالى، في آية الحجّ: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[18].
وكفّر اللّه عنه الذنب: إذا ستره، ومحاه عن العبد، فالتكفير نقيض الإحباط، وورد ذكر تكفير السيئات في القرآن الكريم في نحو ثلاثة عشر موردًا، متعدّيًا بكلمة (عن)، والمفاد منها أنّ المراد منه: العفو عن السيئات، وحطّ وزرها عن المسيء، وإنّما يتحقّق بفعل الطاعات، وترك الكبائر، فتكفير السيّئات حينئذ من اللّه جلّت عظمته: محو الذنب، وإسقاطه بالمرّة، فلا يضرّ فعله بالعدالة إلّا بالإصرار على الصغائر، فيكون من الكبائر، فلا يتحقّق حينئذ شرط التكفير، وهو الاجتناب عن الكبائر، وهذا من أحسن التدبيرات الإلهيّة في عباده، إذ لا يبعدهم عن رحمته الواسعة بمجرّد ارتكاب المخالفة؛ نعم، الإصرار إنّما يتحقّق بعدم تخلّل التوبة بين ارتكاب صغيرة، وصغيرة أخرى، وإمّا مع تخلّلها، فلا موضوع حينئذ للإصرار.
[1] لبيد بن ربيعة العامري (دراسة أدبيّة)، ص 73
[2] الحديد: 20
[3] بحار الأنوار ــ ج 71 ــ ص 246، الباب: الرابع عشر.
[4] الجاثية: 24
[5] البقرة:6
[6] النمل: 14
[7] البقرة: 89
[8] النمل: 40
[9] إبراهيم: 7
[10] البقرة: 152
[11] البقرة: 84 ـــ85
[12] البقرة: 85
[13] الممتحنة: 4
[14] إبراهيم: 22
[15] العنكبوت: 25
[16] الكافي ــــ ج ــ 2 ـــ ص ــــ 389 ـــــ 391، كتاب: الإيمان والكفر، باب: وجوه الكفر، الحديث 1.
[17] المائدة : 67
[18] آل عمران:97.