مادة (سلم) تأتي بمعنى: التعرّي عن العيوب, والآفات، سواء أكانت ظاهريّة أم باطنيّة, في الدّنيا, أم الآخرة؛ وهي من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم, بهيآت مختلفة, ومنها: الإسلام، والسلام، والسلامة. ولعلّ أعذب استعمالاتها قوله تعالى في وصف المتّقين: وإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا[1]، وقوله تعالى: وإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها[2].
وهذه المادة في جميع هيآتها محبوبة عند الناس، قد أطلقها اللّه تعالى على ذاته الأقدس في جملة من أسمائه الحسنى، لأنه لا يتّصف بما يتّصف به الخلق من العيب, والفناء, أو الحوادث, قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ[3]، فهو تعالى سلام فوق ما نتعقّله من معنى السلام، وسبيله تعالى سبيل السلام, وعباده الصالحين سلام من سلام.
ويقال للجنّة: دار السلام، لأنها دار خالية من العيوب, والآفات.
والسلام, والسلامة, بمعنى واحد, وهما مصدران من الثلاثيّ, يقال: سلم فلان من البلاء سلامًا, وسلامة, ومعناهما: العافية, والبراءة, , والسلام تحيّة الإسلام, يُستعمَل معرفة, ونكرة, فيقال: سلام عليكم, والسلام عليكم, وهو بمعنى: الدعاء بالسلامة من كلّ مايسوء, ولذا كان تأمين المسلّم عليه من أذى المسلّم, فصارت علامة المودّة, والمحبّة, وهو تحيّة أهل الجنة أيضًا, وقد صرّح به القرآن الكريم.
واختلف المفسرون في معنى السلام في قوله تعالى : وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[4], فقيل إنّه:
أوّلًا: تحيّة من الله تعالى, أمر رسوله الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يبدأ به الذين يؤمنون بآياته, إذا جاؤوه تلطّفًا بهم.
ثانيًا: تحيّة من الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمؤمنين بآيات الله سبحانه, أمره عزّ, وجلّ به.
ثالثًا: إخبار عنه بسلامتهم, وأمنهم من عقابه, ثم أردفه ببشارتهم بمغفرته, ورحمته.
والظاهر هو الثاني, ويلازمه البقيّة تطييبًا لنفوسهم, وسكنًا لقلوبهم, واطمئنانهم بالدخول في كنف رحمته، وفي الآية تعليم للمؤمنين بإفشاء السلام.
والسُلّم: المرقاة التي يُتوصّل بها الى الأماكن العالية, فيُرجى بها السلامة التي منها أُخذت هذه الكلمة, فتوسّع في الاستعمال فصار اسمًا لكلّ ما يُتوصّل به الى شيء رفيع, نحو: قوله تعالى : وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ [5], وقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ[6].
والإسلام: الدخول في السِلم, بكسر السين, وقد اختص بالإذعان، بإلهيّته تعالى, ورسالة خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه وآله), وشريعته, وقرآنه, المساوق للإيمان.
ويأتي بمعنى: الانقياد, والطاعة, والعبوديّة, التي حقيقتها الخضوع, والانقياد للمعبود، فكلّ عبوديّة, وطاعة للّه عزّ وجلّ إسلام، وكلّ إسلام له عزّ وجلّ عبوديّة له، سواء كانت في اللسان، أو في القلب، أو في العمل، أو في الجميع، وفي الحديث: “ما من آدمي إلّا ومعه شيطان، قيل: ومعك؟ قال: نعم، ولكن اللّه أعانني عليه فأسلم”[7]، أي: انقاد لي, وخضع, وقد كفّ عني، ويمكن أن يكون المراد بإسلام الشيطان في الحديث الشريف تسليمه من كلّ جهة للنبيّ الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله)، لفرض انقطاعه (صلّى اللّه عليه وآله) من كلّ جهة إلى اللّه تبارك, وتعالى، واستيلاء عقله المقدّس على جميع ما سوى اللّه تبارك وتعالى، لأنّه العقل الكلّي، وهو أوّل ما خلقه اللّه تبارك, وتعالى.
وللإسلام درجات, أعلاها ما كان عليه إبراهيم (عليه السلام), وأدناها ما عليه عامّة المسلمين, يحفظون به دماءهم, وأموالهم, مع ما عليه بعضهم من الفسق والشقاء. وقد جمع جملة من مراتبها نبيّنا الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله) في الحديث المعروف “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده“[8], فالإسلام الحقيقي مُظهرُ [بضم الميم] اللّه في الأرض, والمسلم الواقعي مَظهره (بالفتح) بين عباده.
وقوله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام): رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[9], معناه: ربّنا واجعلنا مخلصين لك في الإعتقاد, والعمل, وثبّتنا على الإسلام, بتوفيقك, وهدايتك.
وسؤال الإسلام لنفسه, وخواصّ ذريته, إنّما هو للثبات على مثل هذه المرتبة في الإسلام.
ويفاد من دعاء إبراهيم (عليه السلام): رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أنّ هذا الإسلام غير الإسلام الذي نحن عليه, لأنّ هذا الدعاء وقع بعد طي المراحل الأوليّة من الإسلام, مثل كسر الأصنام, والاحتجاج على بطلان عبادة الشمس, والقمر، والطعن على عبادة دون اللّه تعالى؛ فهو العبوديّة المحضة, وتسليم الأمر إليه تعالى, التي لخّصها بعضهم بقوله: “العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة”, والأحاديث, وشواهد العقل في عظمة هذه المرتبة من الإسلام, والعبوديّة, كثيرة جدًا.
والمسلّمة: في قوله تعالى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا[10], أي: سلّمها اللّه تعالى من العيوب.
[1] الفرقان: 63
[2] الأنفال: 61
[3] الحشر- 23
[4] الأنعام : 54
[5] الأنعام : 35
[6] الطور : 8
[7] النهاية في غريب الحديث – ج 2 – ص 395
[8] الكافي: ج2، ص 234، كتاب الايمان والكفر، بابا المؤمن وعلاماته، (ح 12)
[9] البقرة : 128
[10] البقرة : 71