مادّة (ج ن ن) تدلّ على الستر، قال الراغب: أصل الجَنّ، بالفتح: الستر عن الحاسّة، يُقال: جَنّه اللّيل, وأجنّه، وأجنّ عليه، ومنه الِجنّة بالكسر، والجُنّة بالضمّ، وهي الترس الذي يُستر به.
وفي قوله تعالى : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ[1], جن الليل, أي: ستره بظلامه، وهو لايحصل بمجرّد غروب الشمس.
والجَنّة: البستان الكثير الشجر، لأنّها تجنّه أي: تستره, من ذلك قوله تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ.[2]
وفي قوله تعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ[3], اختلفت آراء العلماء, والمفسّرين, في جنة آدم (عليه السلام)، وعمدة الأقوال ثلاثة:
الأوّل: أنّها جنّة الخلد, التي أعدّها اللّه للمؤمنين في الآخرة, واستدلّوا بأنّها ذُكرت في الآيات السابقة، وبظواهر بعض الأخبار؛ وهذا القول ممتنع، لأنّه من قبيل تقديم المعلول على العلّة، لأنّ نعيم الجنة، وعذاب الجحيم, إنّما يحصلان بالعمل, وهو ظاهر الآيات, والأحاديث، بل إنّ الجنّة, والنار, قيعان محض, وإنّما تعمران بالأعمال, ولم يصدر من آدم (عليه السّلام), وحواء, عمل بعد حتّى تكون لهما جنة الآخرة؛ ومجرد الإطلاق لا يكفي في الانطباق على جنة الخلد, ما لم تكن قرينة على الخلاف.
الثاني: أنّها من جنان البرزخ, وادّعي الكشف, لإثباته, بل عن بعض من يدّعيه أنّه دخلها, ولم يزل يدخلها؛ وهذا باطل لأنّ دعوى الكشف لا تستقيم إلّا بأمرين:
أحدهما: كون من يدعيه كاملًا, من حيث العلم بالفلسفة الإلهيّة، والعمل بالأحكام الشرعيّة.
والآخر: ورود تقرير من الشرع لما كشف.
وكلّ ذلك ممنوع في من يدّعي الكشف في المقام؛ نعم لا ريب في وجود أصل عالم البرزخ بنصوص متواترة.
الثالث: أنّها جنّة من جنان الدنيا, خلقها اللّه تعالى لإسكان آدم (عليه السّلام), وحواء؛ وهذا هو المتعيّن, بل المنصوص عليه في الجملة.
وقد أيّد هذا القول بأمور:
الأوّل: أنّها لو كانت جنّة الخلد, لما وقع فيها تكليف، لأنّها دار النعيم, والراحة, لا دار التكليف.
الثاني: أنّها لو كانت جنة الخلد, لما خرج منها آدم (عليه السّلام), وحواء, لفرض أنّها دار الخلد.
الثالث: أنّ الجنّة الموعود بها لا يدخلها إلّا المؤمنون, المتّقون, فكيف يدخلها إبليس؟!
الرابع: أنّها لو كانت جنّة الخلد, كيف يقول الشيطان لآدم (عليه السّلام):هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلى[4]، فإنّه ليس له أن يقول ذلك.
ولكن يمكن المناقشة في هذه الأمور, بأنّ ذلك كلّه صحيح, إذا كان المراد من جنّة الخلد هي التي أُعّدت للمتقين بعد الحشر, والنشر, والفراغ من الحساب؛ وأمّا قبل وقوع ذلك, وكون المورد من مادّة الجنّة فقط, فلا دليل على امتناع ما ذكروه من عقل, أو نقل، فيكون نظير ما رواه الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله): “ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة؛ ومنبري على ترعة من ترع الجنّة”[5]، على الرغم من أنّه يحضر في تلك الروضة المقدسة البر, والفاجر.
وكيف كان فالجنّة هي من جنان الدنيا, أعدها اللّه تعالى لآدم (عليه السّلام), وحواء, إجلًالا لهما, ولاحتياجهما إلى الغذاء, والراحة، ويرشد الى ذلك أنّ آدم (عليه السّلام), خُلِق من الأرض, وفي الأرض, وللأرض، وقد سخّر اللّه تعالى له الأرض, والسماء, بعد تعليمه الأسماء كلّها, وجعله خليفة فيها. نعم, وقع الكلام في محل هذه الجنّة.
ويمكن أن يكون المراد من جنة الخلد ما ذكرناه، ومن جنة البرزخ ما ذكره الفلاسفة: من أن لجميع الموجودات نحو وجود برزخيّ في مقابل سائر أنحاء وجودها, قد يظهر ذلك لأهله، كما يظهر جملة من الموجودات في عالم النوم للنائم.
والجِنّ إذا أطلق يراد به: المقابل للإنس المعروف عندهم، إلّا إذا قام دليل على إرادة كلّ مستتر نحو: الملائكة, وغيرها.
وفي قوله تعالى : وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ[6], المعشر: الجماعة أمرهم واحد، وقال الطبرسي: الجماعة التامّة من القوم التي تشمل على أصناف الطوائف، ومنه العشرة, لأنّها تمام العقد. ويؤيده ما ذكر الراغب في ” مفرداته “، ولذلك سمّي الجن والإنس معشرًا، أو باعتبار كونهم جماعة من عقلاء الخلق، ويؤكّد ذلك أنّه ذكر لفظ المعشر مع الجن دون الإنس, لأنّ الإغواء كثيرا ما يقتضي التظاهر, والتعاون، وفي المعشر نوع إيماء فيه.
[1] الأنعام : 76
[2] البقرة: 265
[3] البقرة : 35
[4] طه: 120
[5] معاني الأخبار: 267
[6] الأنعام : 128