الموضوع: بحث الأصول – مبحث الأوامر والنواهي .
قلنا أنَّ مفاد الأوامر والنواهي إنما هو تمامية البيان وإكمال الحجة وأنَّ المتعلَّق فيها محبوبٌ وفي الثانية مبغوضٌ، وأما الحاكم بالإلزام أي بلزوم إتيان الأوامر وترك النواهي إنما هو العقل فقط، فيكون الوجوب بالنسبة إلى الأوامر والترك بالنسبة إلى النواهي حكماً عقلياً إلزاميا لقاعدة دفع الضرر المحتمل، فالحاكم بالوجوب والترك إنما هو العقل، لا أنَّ الوجوب مستفاد من الأوامر ولزوم الترك مستفاد من النواهي:-
وهنا إشكال يطرحه بعض الأعاظم: – وهو أنَّ الحاكم بالوجوب والحاكم بلزوم الترك لابد وأن يكون مسلطاً على الثواب في امتثال الأوامر والعقاب بالنسبة إلى إتيان النواهي، فالحاكم بالوجوب لابد وأن يكون من بيده الثواب بالنسبة إلى الأمر والعقاب بالنسبة إلى النهي، وهذا مختص بالشارع، لأنَّ العقل بمعزلٍ عن ذلك، فالثواب والعقاب بيد الشارع فقط، فلابد وأن يكون الوجوب في الأوامر وإلزام الترك في النواهي من الشارع أيضاً، وهذه قاعدة عرفية عقلائية وهي أن كل من كان بيده الزجر فعلاً أو تركاً بيده الأمر وبيده النهي، وحيث إنَّ الزجر مختص بالشارع وهو الذي يثيب ويعاقب فلابد وأن يكون الأمر والنهي من ناحيته أيضاً.
وهذا إشكال حسن ولكن يرد عليه:- إنَّ إتمام الحجة من قبل الشارع قطعاً ويقيناً، فالكل يقولون ويعترفون بلزوم إتمام الحجة من قبل الشارع ثم أنَّ العقل يحكم باستحقاق العقوبة على المخالفة بعد إتمام الحجة، فليس الكلام في فعلية الثواب والعقاب حتى تدّعى الملازمة بين فعلية الثواب والعقاب وفعلية الحكم، إنما الكلام في المقام في الملازمة الحقيقية بين تمامية الحجة واستحقاق العقوبة على المخالفة والحاكم بالاستحقاق هو العقل، فالحاكم بلزوم الامتثال هو العقل، فإنَّ فعلية العقاب على المخالفة لإمكان الاختيار الطارئ بلا إشكال، لكن الكلام ليس في مرتبة فعلية العقاب والثواب، وإنما الكلام في الحاكم باستحقاق العقوبة عند المخالفة وهو العقل المحض، فإنَّ العقول تدرك أنه بعد تمامية الحجة يستحق العقاب على المخالفة، وهذه الملازمة صحيحة، فلا ربط بمرحلة فعلية العقاب ومرحلة فعلية العقاب، فالإشكال مبني على الخلط بين الحكم باستحقاق العقوبة على المخالفة وبين فعيلة العقاب على المخالفة، فإذاً هذا المدّعى صحيح ولا إشكال فيه.
ثم إنَّ المعروف بين الفقهاء قدس الله أسرارهم وجميع الأصوليين من متقدميهم ومتأخريهم أنَّ الجمل الخبرية الواردة مورد الانشاء والبعث تفيد الوجوب أيضاً، وقد أرسلوا ذلك في كتبهم الأصولية وكتبهم الفقهية إرسال المسلّمات من أوّلها إلى آخرها، فلا فرق عندهم بين قولهم عليهم السلام ( توضأ وصلى ) أو ( يتوضأ ويصلي )، كما لا فرق عندهم بين قولهم عليهم السلام ( اغْتَسِلْ للجمعة )كجملة إنشائية أو ( المؤمنون اغتسلوا للجمعة )، ومثل هذه التعبيرات للجمل الخبرية الواردة في مقام البعث والإنشاء كثيرة في بياناتنا من الأصول أو الفقه.
ولنحكي في هذه المسألة في جهات: –
الجهة الأولى:- إنَّ تلك الجمل الخبرية الواردة في مقام البعث والإنشاء مستعملة في معانيها الحقيقية، فالإخبار في الجملة الخبرية عبارة عن إيقاع النسبة بين الطرفين والإخبار بثبوت النسبة بين الموضوع والمحمول، فهذه الجمل الخبرية الواردة مورد الإنشاء والبعث لا فرق في مفادها المطابقي للمفاد في الجمل الخبرية، فكما إذا قلنا ( يتوضأ زيد للصلاة ) يستفاد من هذه الجملة الإخبار بثبوت التوضؤ لزيد عند إرادة الصلاة، ففي المقام أيضاً ( يتوضأ ويصلي ) إخبارٌ لثبوت المحمول للموضوع، فالمعنى في جميع الجمل الخبرية سواء استعملت في مقام الإنشاء أو استعمل في مقام الإخبار حقيقة المعنى واحدة وهو الإخبار عن نسبة المحمول إلى الموضوع، وإنما الفرق في اختلاف الداعي، ففي المقام هذه الجملة استعملت بداعي البعث والتحريك والإنشاء أما في سائر الموارد فقد استعملت بداعي الإخبار، فالمعنى المستعمل في جميع الجمل الخبرية واحدٌ سواء استعملت في مقام الإخبار أو استعملت في مقام الإنشاء، وإنما الفرق في الداعي لا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه – لا الاستعمال -، فالمراد أنَّ هذه الجملة استعملت لأجل يحريك المكلف نحو المطلوب وبعثه نحو المطلوب أما في سائر الجمل الخبرية استعملت بدواعٍ أُخر، فلا اختلاف في الجمل الخبرية بين الموضوع له والمستعمل فيه وإنما الاختلاف في الداعي فقط، فهناك استعملت في داعي البحث والتحريك أما في سائر المقامات قد استعملت بدواعٍ أخرى.
الجهة الثانية: – إنَّ داعي البعث والتحريك على أقسام: –
القسم الأول: – ما إذا حرز من القرائن الداخلية أو الخارجية أنَّ الجملة استعملت في مقام البعث والتحريك، هذا هو مورد كلا الفقهاء والأصوليين.
القسم الثاني: – ما إذا أخذ بقرائن داخلية أو خارجية أنَّ الجملة استعملت بدواعٍ أخرى لا بداع البعث والتحريك، ومثالة كثير في جميع الموارد الأخرى.
القسم الثالث: – ما إذا شككنا أنَّ الجملة استعملت في مقام البعث والتحريك أو لا.
وفي القسمين الأخيرين لم يقل باستفادة الوجوب من الجملة وينحصر استفادة الوجوب بخصوص القسم الأول، فإذا أحرزنا بالقرائن الداخلية أو الخارجية أنَّ الجملة استعملت بداعي البعث والتحريك فحينئذٍ يستفاد منها الوجوب.
الجهة الثالثة: – ما هو الدليل على هذا المدعى؟ فما دلليهم قدس الله سرأهم من أنهم اتفقوا على أنَّ الجمل الخبرية الواردة في مورد البعث والإنشاء يستفاد منها اللزوم؟
الظاهر أنه من القضايا التي دليلها معها، وأن مثل هذه الجملة مع إحراز أنها وردت في مورد البعث والتحريك تكفي لتمامية البيان على المكلف، فكلما تكفي تمامية البيان على المكلف فالعقل يحكم بلزوم الاتيان بالفعل، فبعد أن أحرزنا بالقرائن المعتبرة أنَّ الجملة سيقت مساق البعث والتحريك فلا فرق بينها وبين الإنشاء بوجه من الوجوه، لأنَّ الانشائيات أيضاً سيقت مساق البعث والتحريك، فالعقل يحكم أيضاً بتمامية البيان من جهة المولى ووجوب الاتمام على المكلف فيما نحن فيه أيضاً إذا أحرزنا أنَّ الجملة سيقت مساق البعث والتحريك فالعقل يحكم أيضاً بأن البيان قد تم من ناحة المولى فيجب عليك الامتثال، فالحاكم بالوجوب في الموردين ومنشأ الوجوب في الموردين في الانشائيات والإخباريات شيء واحد وهو إحراز البعث والتحريك والحاكم بالعقاب على المخالفة هو العقل، فلا فرق من حيث منشأ الحكم ومن حيث لزوم القعاب على المخالفة.