الموضوع: بحث الأصول – مبحث الأوامر والنواهي.
المعروف بين القائلين بامتناع اجتماع الأمر والنهي أنه من توسط أرض المغصوبة وجب عليه الخروج وجوباً شرعياً، فهم قالوا بامتناع اجتماع الأمر والنهي في هذه المسألة المعروفة أنَّ من توسط الأرض المغصوبة بسوء اختياره فحكموا بوجوب الخروج عليه وجوباً شرعياً، واستدلوا على ذلك بأنَّ النهي ساقط خطاباً وملاكاً، لأجل الصلاة حيث أنه فعل مضطر إلى الخروج اضطراراً عقلياً الاضطرار يوجب سقوط التكليف عقلاً شرعاً فالنهي ساقط خطاباً وملاكاً، فيبقى الوجوب بوجود مقتضيه وعدم المانع، هذه خلاصة دليلهم قدس الله أسرارهم، فقالوا بأنَّ وجوب الترك المقتضي له ثابت والمانع عنه مفقود إذ المانع كان حيثية النهي والمفروض أنَّ النهي يسقط لأجل الاضطرار خطاباً وملاكاً، فالمقتضي لوجوب الترك موجود والمانع عنه مفقود.
وهذا الدليل حسن.
وأشكل عليه: –
أولاً: – بأنَّ النهي ساقط خطاباً لأجل الاضطرار مسلّم ولكن الملاك باقٍ – ملاك المبغوضية باقٍ – فيمنع عن ثبوت وجوب الترك، فالاضطرار يوجب سقوط النهي بلا إشكال ولكن ملاك المبغوضية باقٍ، وإذا كان ملاك المبغوضية باقياً مفعّلاً فلا وجه لوجوب ما هو مبغوض فعلاً.
ويرد عليه ما أشرنا إليه سابقاً:- من أنه في مورد التزاحم إذا قدم أحد المتزاحمين على الآخر لا يبقى للآخر خطاب ولا يبقى فيه ملاك، فالوجوب والحرمة في المقام من المتزاحم كما أثبت ذلك سابقاً، فإذا قدّمنا حيثية الوجوب على الحرمة فلا يبقى للحرمة ملاك ولا يبقى له خطاب ونحن نستكشف الملاك من الخطاب، فإذا سقط الخطاب فلا ملاك أيضاً، وأساس هذا الاشكال هو الفرق بين الخطاب والملاك، فقالوا إنَّ سقوط الخطاب لا يستلزم سقوط الملاك، ونحن نجيب عن الاشكال بأنَّ هذا:- أولاً:- في غير المتزاحمين، وأما في المتزاحمين فإذا قدّمنا أحدهما على الآخر خطاباً وملاكاً لا يبقى ملاك للآخر، وثانياً: – نحن نستظهر بقاء الملاك من بقاء الخطاب فإذا سقط الخطاب فلا ملاك، فلا وجه لهذا الاشكال.
وأشكل عليه ثانياً: – بأنَّ الخروج بعدما كان لابد منه عقلاً يكون الوجوب الشرعي لغواً وباطلاً، فإذا توسط في الأرض الغصبية فالعقل يحكم بلابدية الخروج ولزوم الخروج، فلا معنى للوجوب الشرعي بعد حكم العقل باللابدية لأنه يكون لغواً باطلاً، فقالوا في كل مورد كان هناك حكم عقلي منجّز فعلي يكون حكم العقل في حكم الترك في المورد لغواً لفرض أنَّ العقل يحكم سابقاً بحكم منجّز فعلي.
وهذا الإشكال باطل أيضاً: – لأنَّ حكم الترك في مورد حكم العقل يمكن أن يكون لتصحيح العقاب ولإتمام الحجة، ومع وجود تصحيح العقاب وإتمام الحجة لا يلزم لغوية حكم الشرع في كلّ مورد على العقل فيه بحكم منجّز فعلي، وفيما نحن فيه وفي مسألة مقدّمة الواجب وإن كان العقل يحكم باللابدية من كل جهة ويحكم بالحكم المنجّز الفعلي لكن يبقى حكم الشرع لأجل تصحيح العقاب على تركه ولأجل إتمام الحجة على المكلف.
وهذا قول المشهور قدس الله أسراهم الذين قالوا بالامتناع وقدموا جانب وجوب الخروج صحيح ولا إشكال فيه ولا نقاش.
وعن بعضٍ:- أنهم قالوا بوجوب الخروج مع عدم العقاب في الحركات الخروجية لأجل الاضطرار، فسقط العقاب لأجل الاضطرار، فيجب الخروج لوجوب تحقيقه، ولكن البعض جمع بين الأخذ بقول المشهور من جهة وتركه من جهة أخرى، فقال بوجوب الخروج إذا توقف في الأرض الغصبية من دون اختياره وجوباً شرعياً فعلياً لما ذكرنا، ولكن قال بأنَّ هذا الشخص الخارج يعاقب على حركاته في الأرض المغصوبة من أجل العقاب السابق لا العقاب الفعلي، فإنَّ دخوله في الارض الغصبية باختياره كان معاقب عليه بلا إشكال شرعاً وعقلاً، فهذا العقاب السابق يجري على الحركات الخروجية أيضاً، فالعقاب بالنسبة إلى النهي الفعلي لا معنى له لفرض سقوط النهي الفعلي لأجل الاضرار، ولكن يأتي عليه حكم العقاب السابق بالنسبة إلى الحركات الخروجية لفرض أنَّ هذه الحركات الخروجية وقعت باختياره، فتمسكوا بجملة معروفة بينهم خصوصاً بين العامة حتى جعلوها من القواعد وتمسكوا بها في جملة من الموارد، وهي ( الامتناع في الاختيار لا ينافي الاختيار )، وجعل بعض أنَّ هذه الجملة من القواعد وتمسكوا بها كثيراً، وعن الخاصة التمسك بها في بعض الموارد منها موردنا، فالامتناع بالاختيار أنَّ من فعل شيئاً وقدم عليه بسوء اختياره لا ينافي ذلك عقاب المختار لذلك، فتمسكوا في المقام بهذه الجملة وقالوا بأنه يجب عليه الخروج ولكنه معاقب بسنخ العقاب الدخولي لا أن يكون معاقب بعقابٍ مستأنفٍ جديد، فجلمة قولهم هو هذا، وجملة دليلهم هو هذه المقالة.
ولكن هذه الجملة المعروفة بين العامة وقد تمسك بها بعض الخاصة ليست آية كريمة من قرآننا العظيم، ولا أنها سنَّة من السنن المعتبرة، فليست مورد إجماعٍ معتبر، فليس لنا أن نتمسّك بها فكيف بأن نجعلها قاعدة، فإذا ثبت في مورد العقاب بالنسبة إليه لأجل التمسك بالعقاب السابق لنصّ معتبر أو إجماعٍ معتبر فنتمسك بالنص والاجماع، ولكن لو لم يكن في البين نصَّ ولا اجماع معتبر فلا نتمسك بهذه القاعدة، بل لهذه القاعدة موارد كثيرة إلى ما شاء الله، فمن فعل فعلاً بسوء اختياره كمن سقطت الصلاة عنه قائماً يتبدّل إلى القعود إجماعاً ولا يعاقب على سقوط الصلاة القيامية بالنسبة إليه وإن فعل ذلك اختيارياً، فمن فعل فعلاً بسوء اختياره كما ول أنه أخذ شيئاً بحيث خرج وقت الصلاة بأن شرب شيئاً وصار مغمىً عليه لم يقل أحدٌ بثبوت العقاب بالنسبة إليه مع أنه فعل ذلك بسوء اختياره، ومن أتلف أمواله بسوء اختياره لم يقل أحدٌ بعقابه على الخمس والزكاة عليه لأنه فعل الموضوع باختياره، فهذه الجملة لا ينبغي أن يتمسك بها إلا في مورد يدل إجماعٌ بالخصوص على اعتبرها في هذا المورد، فليس هذا دليلاً ولا قاعدة بل لو دلَّ دليل في مورد على ثبوت العقاب بالنسبة إلى جريان العقاب السابق في اللاحق فنتمسك بذلك الاجماع أيضاً، فقالوا حكم الخروج عن المحل المغصوب عن التوسط بسوء اختياره، ونحن اخترانا أولاً أنه جائز لفرض أنَّ نوع المـلّاك يحكمون بأنه لابد من خروج الغاصب عن أرضهم، فتسقط جميع هذه الباحث، لأنَّ جميع هذه المباحث مبنية على عدم ذهاب الموضوع وجريان حكم الغصب، ونحن أذهبنا الموضوع أصلاً، ثم اخترنا بأنَّ ترك الأرض المغصوبة واجب وجوباً شرعياً، فيكون الخروج بلا عقاب، وأما الصلاة في الأرض المغصوبة فسيأتي تفصيله غداً إن شاء الله تعالى.