محاضرة رقم: – ( 033 ) للسيد عبد الأعلى السبزواري(قده).
الموضوع: – مبحث البداء – ملحق مبحث العام والخاص – مباحث الألفاظ – بحث الأصول.
الجهة الأولى من مباحث البداء: – إنَّ البداء ليس في مرتبة ذاته تبارك وتعالى ولا في مرتبة علمه، وإنما البداء في مرتبة القضاء والقدر، ولا يعقل أن يكون البداء في مرتبة الذات ولا في مرتبة العلم، لأنَّ العلم عين الذات على ما أثبتوه بالأدلة العقلية والنقلية، ولو ارتبط البداء في مرتبة ذاته أو مرتبة علمه يلزم التقييد في ذاته تبارك وتعالى وهو محال وباطل، فكل من أثبت البداء من الأنبياء والمرسلين وكذا ظاهر الآيات الكريمة من مرتبة كتاب المحو والاثبات واللوح المحفوظ فجميع ذلك أثبتوه في غير مرتبة الذات بل بمرتبة خارجة عنه، هذا مسلّم ولا إشكال فيه من أحد.
وحقيقة البداء بالنسبة إليه تبارك وتعالى وبالنسبة إلى كل ذي عقلٍ واختيار عبارة عن تجدد الاختيار، وهذه عبارة مختصرة مشتملة على معانٍ كثيرة، قالوا إنَّ البداء إظهار المخفي، أو أنَّ البداء عبارة عن الإبداء، وكل ذلك تطويل بلا طائل، وإنما البداء هو عبارة عن تجدد الاختيار في مرتبة البقاء، فحدوث الاختيار في أوّل حدوث البقاء، فكما أن كل فاعل مختار في حدوث الفعل في أن يفعل ذلك الفعل أو يتركه فالبداء عبارة عن علم هذا الاختيار في مرحلة البقاء، ففي مرتبة البقاء أيضاً يكون مختاراً في أن يفعل الفعل أو يتركه، حيث أنَّ جمعاً من الحكماء قالوا إنَّ الاختيار بعد الحدوث يسقط، فالاختيار إنما هو بالنسبة إلى أصل الحدوث فقط وبعد الحدوث لا يصح الاختيار ويسقط الاختيار، والشريعة الاسلامية جاءت وأبطلت هذا القول الباطل الفاسد وأثبتت أنَّ الاختيار كما أنه حاصل حين الحدوث حاصلٌ أيضاً حين البقاء، فلله تبارك وتعالى أن يختار هذا الشيء حدوثاً وبعد أن اختاره له أن يختار ما ينافيه ويضادّه بعين اختياره الذي كان له حينئذٍ، وإن شئتم تعبروا عن البداء ببقاء الاختيار في مرحلة البقاء فتحققه في مرحلة الحدوث، أو قالوا إنَّ البداء تجدد الاختيار بقاءً كتحققه حدوثاً.
وقد أشكل على البداء بوجهين بالنسبة إلى بدائه تبارك وتعالى: –
الوجه الأول: – إنَّ الله تبارك وتعالى حيث هو عالم بأنه يبدو له هذا الفعل أولا فإذا قضى أنَّ عمر زيد ثلاثين سنة ثم غيره إلى أربعين سنة لأجل صلة الرحم وفي المواظبة على العبادات والطاعات هل أنه يعلم بأنه يغير عمر هذا الشخص أو لا يعلم؟! فإن لم يكن يعلم بذلك فهو جهلٌ والجهل محال بالنسبة إليه تبارك وتعالى بالأدلة العقلية والشرعية، وإن علم وغيّر فهذا لغوٌ بالنسبة إليه.
وكل من أنكر بداء الله جل جلاله استدل على البطلان بهذا الوجه، لأنَّ تجويز البداء على الله تبارك وتعالى إما أن يكون مستلزماً للجهل أو يكون مستلزماً للغو وكل منهما محال عليه.
وهذا الاشكال إشكال حسنٌ وقد ذكر أعاظم مفكري العامة وأعاظم متكلمي العامة الذين أنكروا البداء: – فقالوا إنه تبارك وتعالى هل يعلم معارضة الأمر وأنه يغيّر هذا أو لا يعلم، فإن قلتم إنه لا يعلم فهو جهلٌ والجهل محال بالنسبة إليه تبارك وتعالى، وإن قلتم إنه يعلم بالتغيّر ومع ذلك غيّره وأخبر بالقضية الأولى فهذا لغوٌ واللغو محال، فلا معنى للبداء بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى، هذا هو الاشكال وقد ذكره القوم في كتبهم الكلامية والتفسيرية.
وهذا الاشكال ساقط من أصله حيث نقول: – إنه تبارك وتعالى يعلم بالتغيير ومع ذلك أخبر بخلاف ما يغيّر، فإنَّ الله تبارك وتعالى يعلم أنه يغيّر عمر زيدٍ إلى أربعين سنة ومع ذلك أخبر أوّلاً إلى نبيه أنه يعمر ثلاثين سنة، فهو عالم بالأقل وعالم بالأكثر وعالم بالتغيير وعالم بمصلحة التغيير، ففي نفس إخبار أنَّ زيداً يعمر ثلاثين سنة مصلحة، وفي التغيير أيضاً مصلحة، وفي بيان منشأ التغيير أيضاً مصلحة، زيد يعمر ثلاثين سنة إن لم يتصدق فهذا مكتوب في لوح المحو والاثبات بلا إشكال، وأنه يعمر أربعين سنة إن تصدّق ووصل رحمه، فتحقق أولاً سبب العمر لثلاثين سنة ثم وجد سبب زيادة عمره إلى أربعين سنة ولكل واحدٍ من الحادثين سببٌ وعلّة مخصوصة، فالله تبارك وتعالى عالمٌ بالتغيير وإنما أخبر بثلاثين سنة لترغيب الناس إلى الدعاء والصلاة والتصدق وصلة الرحم وما شاكل ذلك، فالمعلوم الأول معلومٌ له تبارك وتعالى، وهو أيضاً يعلم بالتغيير إلى شيءٍ آخر، ويعلم أنَّ هناك مصلحة في التغيير، ويعلم أنَّ هناك مصلحة في الإخبار الأول وهو ذات المصلحة عبارة عن ترغيب الناس إلى الدعاء وصلة الرحم والخيرات ويزيل عنهم الشرور، فهذا الاشكال مبني على أنه تبارك وتعالى إذا أخبر بالقضية الأولى فهذه القضية غير قابلة للتغيير والتبديل أصلاً وأبداً، ولكن لا وجه لهذا القول بل جميع قضاياه التي وقعت في مرحلة القضاء والقدر قابلة للتغيير والتبديل لأجل المصالح والمفاسد.
الاشكال الثاني: – وهو أنهم أشكلوا من ناحية المصلحة هل تكون بالحكم الأول الذي حكم به الله تبارك وتعالى مصلحة أو لا، فإن لم تكن مصلحة في البين فالقضاء الأول باطل لفرض أنه لا مصلحة فيه، وإن كان في القضاء الأول مصلحة فهو غير قابلٍ للتغيير، فلا يصح البداء.
فالإشكال الأول جاء من ناحية العلم، وهذا الاشكال جاء من ناحية المصلحة الموجودة في مورد القضاء، فقالوا إنَّ القضاء الأول الذي قضى به الله تبارك وتعالى ثم بدا له هل تكون فيه المصلحة أو لا، ومع عدم المصلحة لا وجه للقضاء أصلاً لكونه بلا مصلحة، ومع وجود المصلحة لا وجه للتغيير لأنَّ المصلحة محدودة بحدّ معين.
وهذا الاشكال ساقط أيضاً: – لأنا نقول إنَّ في القضاء الأول مصلحة وفي القضاء الثاني مصلحة أيضاً، ولكن مصلحة القضاء الأول ليست محدودة بحدٍّ خاص من حيث المصلحة، وإنما مصلحة القضاء الأول لا اقتضاء فيمكن أن ينقص أو يزيد أو غير ذلك، فلكل واحدٍ من القضاءين مصلحة بلا إشكال، ولكن القضاء الأول غير محدودة مصلحته بحدٍّ خاص بحيث لا تكون قابلة للزيادة والنقصان، فمن حيث المصلحة القضاء الأول يكون لا اقتضاءً، فيجوز أن تنقص أو يزيد لأجل العوارض الخارجية والجهات الخارجية، وعليه فلا إشكال في أصل البداء ثبوتاً ولا إثباتاً.
الأمر الآخر: – إنَّ مورد البداء بعد أن اثبتناه بالأدلة ليس كلياً في العوالم، بل إنما مورد البداء ما يتعلّق بعمل المكلفين من حيث الاقتضاء ومن حيث القضاء والقدر، فليس لنا أن نقول بدا لله تبارك وتعالى أن يزيل كرة الشمس، فبالنسبة إلى التكوينيات الخارجة عن اختيار البشر لا معنى للبداء بالنسبة إليها، وإنما مورد البداء إنما يكون مرتبطاً بأفعال البشر المنوطة باختيارهم ودعائهم وأفعالهم الحسنة وأفعالهم السيئة، مثلاً قدّر الله تعالى لشخصٍ مرتبة خاصة ولكن بسبب معصيةٍ تتغير هذه المرتبة عنه وينزل عن تلك المرتبة، أو قدَّر له مرتبةً خاصة من العمر فيصل الرحم فتتغير هذه المرتبة إلى مرتبة أخرى، فمورد البداء على ما وصل إلينا من نصوص الأنبياء ونصوص أئمتنا عليهم السلام إنما هو أفعال البشر من حيث أنها مربوطة بهم من حيث جهات شرورهم وحسناتهم ونحو ذلك.