البحث في هذه المسألة تارة: بحسب الأصل، و أخرى: بحسب العمومات، و ثالثة: بحسب الأدلة الخاصة.
أما الأولى: فقد يقال إن مقتضى أصالة البراءة عن الضمان جواز الاستيفاء بدونه.
و فيه: أن الشك في أصل ثبوت الولاية بدونه، فيرجع إلى عدم الولاية بدونه، و هي مقدمة على أصالة البراءة بعد قصور العمومات عن الشمول للمقام.
لما يأتي، و لنا أن نتمسك بالعمومات الدالة على عدم جواز تفويت مال الغير إلا بالضمان و الاستيثاق، ثمَّ الاستيفاء، لأن ذلك من شؤون ولاية الولي عرفا.
و أما الثانية: فهي عمومات ولاية الولي من الكتاب و السنة، كقوله تعالى:
وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً۳۲، و عن الصادق عليه السّلام في صحيح ابن سنان: «من قتل مؤمنا متعمدا قيد منه إلا أن يرضى أولياء المقتول أن يقبلوا الدية»۳۳، و مثله غيره.
و فيه: أنه لا يصح التمسك بها بعد الشك في شرعية ولايته بدون الاستيثاق و الضمان، فمن نسب إليهم الجواز بدون الضمان- و منهم ابن إدريس- إن كان مستندهم ذلك فلا وجه له.
و أما الأخيرة: ففي معتبرة أبي بصير عن الصادق عليه السّلام: «في رجل يقتل و عليه دين و ليس له مال، فهل لأوليائه أن يهبوا دمه لقاتله و عليه دين؟ فقال: إن أصحاب الدين هم الخصماء للقاتل، فإن وهبوا أوليائه دية القاتل فجائز و إن أرادوا القود فليس لهم ذلك حتى يضمنوا الدين للغرماء، و إلا فلا»۳4.
و نوقش فيها بضعف السند، و موافقتها للعامة، و اختلال النظم.
أما الأول: فلا وجه له بعد الاعتناء بضبطها، و البحث عنها، و الاعتماد عليها.
و أما الثاني: فكذلك، إذ ليس كل موافق للعامة لا بد و أن يطرح، و إنما هو في موارد خاصة ليس المقام منها.
و أما الأخير: فيحمل على الهبة فيما زاد من نصيبهم عن مقدار الدين، و قال في الجواهر: «الضمان في خصوص القود مجبور بالشهرة المحكية في الدروس، و الإجماع المحكي في الغيبة» و قوله عليه السّلام: «إن أصحاب الدين هم
الخصماء للقاتل»، بيان لقاعدة كلية يعني لا بد من مراعاة حقهم، فتشمل صورة الهبة و صورة القود معا، لا أن يكون علة لإحداهما فقط، و التأمل في الحديث يقتضي بأنه ليس فيه الاختلال و لا مخالفة القواعد. نعم كان الأولى ذكر قوله عليه السّلام: «إن أصحاب الدين هم الخصماء للقاتل» بعد تمام الجملتين، ليكون أوضح في العلية لهما، و لعله لم يراع هذه الجهة لأجل تنبيه العلة للهبة من غيرها، و إلا فالعلة علة لهما، و يشهد له خبره الآخر كما في التهذيب قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قتل و عليه دين؟ فقال: إن أصحاب الدين هم الخصماء للقاتل، فإن وهب أولياؤه دمه للغرماء و إلا فلا»۳٥، بل و خبره الثالث عن الكاظم عليه السّلام قلت له: «جعلت فداك، رجل قتل رجلا متعمدا أو خطأ و عليه دين و ليس له مال و أراد أولياؤه أن يهبوا دمه للقاتل؟ قال: إن وهبوا دمه ضمنوا ديته، فقلت: إن هم أرادوا قتله؟ قال: إن قتل عمدا قتل قاتله. و أدّى عنه الإمام الدين من سهم الغارمين، قلت: فإنه قتل عمدا و صالح أولياؤه قاتله على الدية، فعلى من الدين؟ على أوليائه من الدية؟ أو على امام المسلمين؟ فقال: بل يؤدوا دينه من ديته التي صالحوا عليها أولياؤه، فإنه أحق بديته من غيره»۳٦، فان عموم التعليل في قوله عليه السّلام: «فإنه أحق بديته من غيره» يدل على أنه حكم أولي مطابق للقاعدة، يجري في جميع الصور و الفروض، و ما قاله عليه السّلام في الصدر: «إن قتل عمدا قتل قاتله، و أدّى عنه الإمام الدين من سهم الغارمين» كان حكما ثانويا بيّنه عليه السّلام لجهة من الجهات.
و بالجملة: التأمل في هذه النصوص يقتضي بأنه يمكن إرجاعها إلى شيء واحد، و إمكان تطبيقها على ما لدينا من القواعد العامة.
و إنما عبرنا بالاحتياط خوفا من مخالفة جمع من الأصحاب، كابن إدريس و من تأخر عنه، بل قد ادعي الإجماع على جواز الاستيفاء من دون الضمان،
و دعوى الإجماع موهونة بدعوى الإجماع على الخلاف، و ليس لهم دليل بعد الإجماع الموهون إلا الأصل و العمومات، و قد مر ما فيهما، فراجع و اللّه العالم بحقائق الأحكام.