نسبه في الجواهر- إلى شرح المفاتيح- و قال: «و إن كنا لم نحققه».
و البحث في هذه المسألة تارة: بحسب الأصل العملي. و اخرى: بحسب الأصل اللفظي أي: الإطلاقات، و العمومات. و ثالثة: بحسب الأدلة الخاصة.
أما الأول: فالمسألة من الشك بين المتباينين و يجب فيها الاحتياط ان لم يعلم حكمها من الأدلة بأن يأتي بالعمرة بقصد القربة المطلقة و التكليف الواقعيّ و بعد التقصير يحرم للحج من مكة و يأتي بجميع أفعاله بقصد التكليف الواقعيّ الفعليّ أيضا. ثمَّ يأتي بعمرة اخرى رجاء على الأحوط و لكن لا تصل النوبة إلى الأصل العملي مع وجود سائر الأدلة.
و أما الثاني: فادعي أنّ مقتضى العمومات و الإطلاقات وجوب التمتع مطلقا إلا ما خرج بدليل معتبر.
منها: قول أبي عبد اللّه (عليه السلام): «عليك بالتمتع»٥.
و في خبر أبي بصير: «ما نعلم حجا للّه غير المتعة»٦.
و قوله (عليه السلام): «إن حج فليتمتع»۷، أو «من حج فليتمتع»۸ إلى غير ذلك من الأخبار المطلقة.
و قد ثبت في محله أنّه إذا قيد المطلق بقيد مردد بين الأقل و الأكثر يسقط الإطلاق في المتيقن من التقييد و يثبت في غيره مع استقرار الإطلاق، و ظهور اللفظ فيه ففي المقام يجب التمتع على من بعد عن مكة عند أقل التحديدات الواردة في الأخبار بناء على كونها في مقام بيان التحديد لوجوب المتعة. و أما بناء على انها لبيان مصاديق من وجب عليه الإفراد أو القران فلا ربط لها بالمقام، إذ يمكن أن تكون مصاديق الشيء متعددة كما هو واضح، فلا تكون هذه الأخبار مقيدة للمطلقات الواردة في وجوب حج التمتع بل مبنية لمصاديق حكم آخر.
مع ان لنا أن نقول: انه يجب القران أو الإفراد على من يكون حاضرا في مكة، أو من كان بحكم الحاضر خرج من بعد عنها بثمانية و أربعين ميلا قطعا و بقي الباقي تحت إطلاق الحاضر بالمعنى الذي يأتي التعرض له أيضا و لكن الشأن في صحة التمسك بهذه الإطلاقات، لعدم ورودها في مقام البيان من هذه الجهات حتى نتمسك بها.
و أما الأخير و هو العمدة فمن الأدلة الخاصة الآية الكريمة: و هي قوله تعالى ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ۹ و ذكرنا ما يتعلق بهذه الآية الشريفة في التفسير و تعرّضنا للبحوث التي تناسبها فراجع۱۰ و اللّه العالم.
و المراد بمسجد الحرام مكة المكرمة، كما في آية الإسراء سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى۱۱.
و المراد بعدم الحضور أما الدقة العقلية، أو الدقة العرفية، أو المسامحة العرفية كما في جميع الاستعمالات المحاورية.
و لا وجه للأول قطعا، بل و لا الثاني و إلا لوجب حج التمتع على أهل منى و نحوها من الأطراف القريبة لمكة المكرمة و هو مقطوع بخلافه، فالمتعيّن هو الأخير أي: من يكون بحسب تردده في حوائجه إلى مكة المكرمة كأنه من حاضريها، فالمراد بالحضور الحضور التنزيلي العرفي، و مقتضى المتعارف أنّ أهل القرى المجاورة للبلد كأهل ذلك البلد فيما يكون لهم و عليهم، و يصدق في المجاورة أنّهم كحاضريها و ليس المراد الحضور في مقابل السفر الشرعي، لعدم الدليل عليه في المقام بل هو على عدمه.
نعم، حيث ان هذا الموضوع قابل للتشكيك فحدده الشارع الأقدس بما يأتي من الأدلة بعد رد بعضها إلى بعض فنقول:
ان الأخبار الواردة على أقسام أربعة كلها واردة في تفسير قوله تعالى:
ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و حيث ان المفسّر واحد لا بد و ان ترجع تلك الأخبار إلى شيء واحد أيضا و الا فلا وجه للبيان و التفسير.
الأول: ما ذكر فيها الموضوعات الخارجية كقول أبي عبد اللّه (عليه السلام) في صحيح أبي بصير: «ليس لأهل مكة و لا لأهل مرّ، و لا لأهل سرف متعة و ذلك لقول اللّه عزّ و جلّ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ»۱۲ و مثله صحيح الأعرج۱۳.
و مر- مثل فلس- موضع يقرب مكة المكرمة من جهة الشام نحو مرحلة و كل مرحلة ۲4 ميلا و تصير ثمانية فراخس. و سرف- مثل كتف- موضع من مكة على عشرة أميال و يصير ثلاثة فراسخ و ثلث فرسخ، لأن كل فرسخ ثلاثة أميال و مثل هذا الخبر شارح لمعنى الحضور و إنّه شامل حتى لثمانية فراسخ حول مكة المكرمة.
الثاني: ما علق فيه الحكم على ثمانية عشر ميلا كقوله (عليه السلام) أيضا في صحيح حريز- الوارد في تفسير الآية الشريفة المتقدمة-: «من كان منزله على ثمانية عشر ميلا من بين يديها، و ثمانية عشر ميلا من خلفها، و ثمانية عشر ميلا عن يمينها، و ثمانية عشر ميلا عن يسارها فلا متعة له مثل مرّ و أشباهه»۱4 أسقطه عن الاعتبار عدم وجود العامل به.
الثالث: ما علق فيه الحكم على ثمانية و أربعين ميلا، كما في خبري زرارة المذكورين في المتن۱٥ و إنّ ذات عرق المذكور فيهما أول تهامة و على نحو مرحلتين من مكة. و عسفان محل بين مكة و المدينة على نحو مرحلتين من مكة أيضا، و قوله (عليه السلام): «كما يدور حول مكة» أي: يعتبر هذا الحد من جميع نواحي مكة و تمام أطرافه، كما في خبره الآخر.
و أما قوله (عليه السلام): «دون عسفان، و دون ذات عرق» فالظاهر أنّهما واديان وسيعتان يكن لهما أولا و وسطا و آخرا، و يمكن أن يكون من بعض حدودهما من طرف مكة أقل من ثمانية و أربعين ميلا، فلا يجب التمتع حينئذ.
بل يجب القران أو الإفراد.
و يمكن أن يحمل عليه أيضا خبر أبي بصير عن الصادق (عليه السلام):
«قلت لأهل مكة متعة؟ قال (عليه السلام): لا، و لا لأهل بستان، و لا لأهل ذات عرق، و لا لأهل عسفان و نحوها»۱٦ فان هذين الواديين وسيعان فيمكن أن يكون هذا التعبير بلحاظ حدودهما من طرف مكة التي تكون أقل من ثمانية و أربعين ميلا.
الرابع: ما علق فيه الحكم على ما دون المواقيت كقول أبي عبد اللّه (عليه السلام) في صحيح الحلبي في تفسير الآية المباركة: «ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد الحرام، و ليس لهم متعة»۱۷.
و عنه (عليه السلام) أيضا في صحيح حماد: «ما دون الأوقات إلى مكة»۱۸، و أسقطهما عن الاعتبار عدم عامل بهما.
و الحق: أنه لا تعارض بين هذه الأخبار، لما ثبت في محلّه من أنه لا مفهوم للقلب و لا للعدد، و جميع هذه الأخبار في مقام بيان المصاديق للحضور عند المسجد الحرام الذي يكون مناطا لوجوب القران و الإفراد لا أن يكون تحديدا لمحل وجوب المتعة حتى يلزم التعارض، فالتحديد لوجوب المتعة إنّما هو بعد ثمانية و أربعين ميلا عن مكة المكرمة و فيما دونه يجب القران أو الافراد.
و ما ذكر في الأخبار بيان لمصاديق وجوبها. هذا مع ما يأتي من الموهنات لما هو المخالف للمشهور.