البحث في هذه المسألة من جهات:
الأولى: في الحكم التكليفي للرجوع و عدمه. الثاني: في حكم إتمام الحج.
الثالث: ضمان المبذول له لما صرفه من مال الباذل، و ضمان الباذل لما يصرف المبذول له في مصارف الرجوع.
أما الأولى: و هي سيالة في الفقه و تقدم في [مسألة ۱۱] من (فصل مكروهات الدفن)، و [مسألة ۲۱] من (فصل مكان المصلّي)، و [مسألة ۲۹] من الاعتكاف إلى غير ذلك مما مرّ، و يأتي في هذا الكتاب. و كبرى المسألة أنّه إذا كان شيء متدرج الوجود و كانت صحة هذا الشيء متوقفة على إذن شخص و رضاه فهل يكفي إذنه في مجرّد حدوث هذا الشيء و لا يحتاج بعد ذلك إلى إذنه، بل لا أثر لمنعه و نهيه، أو يعتبر إذنه حدوثا و بقاء فله المنع في مرحلة البقاء؟ و ليس في هذه المسألة السيالة نصّ و لا إجماع معتبر، بل المسألة نظرية اجتهادية تختلف فيها الآراء و الأنظار كما هو الشأن في جميع الفروع الاجتهادية. و القواعد التي يمكن أن يعوّل عليها في المقام و هي كثيرة:
الأولى: قاعدة السلطنة الدالة على أنّ صحة ذلك متوقفة على إذن المالك و رضاه حدوثا و بقاء و له السلطنة على ماله بأيّ نحو شاء ما لم ينه عنها الشرع و المفروض عدم ورود نهي من الشارع عن رجوعه عن إذنه، و مع رجوعه عن إذنه لا وجه للصحة من عقل أو نقل، فكل من يعتمد عليها لا بد له من أن يقول بالبطلان بعد الرجوع عن الإذن.
الثاني: قاعدة «الإقدام» يعني: أنّ المالك حيث إنه كان متوجها و لو في الجملة أنّ العمل متدرج الوجود و يستغرق مدّة من الزمان قليلة كانت أو كثيرة، فكأنّه بمجرد إذنه هتك ماله في مرحلة البقاء و أسقط رضاه عن الاعتبار، فللمتصرف حق عليه في الإتمام لا أن يكون له حق على المتصرف في النقض و كل من اعتمد عليها لا بد من القول بالصحة و لو مع نهي المالك.
و فيه: أنّ مجرّد الإذن في شيء أتمّ من هذا النحو من الاقدام و لا يستفاد ذلك منه بأيّ نحو من أنحاء الدلالات. فهذه القاعدة لا وجه لها في المقام.
الثالث: قاعدة «أنّ الإذن في الشيء إذن في لوازمه» فإذا أذن في الحدوث فقد أذن في البقاء أيضا فلا أثر للرجوع بعد ذلك، و كل من اعتمد عليها لا بد له من القول بالصحة.
و فيه: أنّه لم تثبت هذه القاعدة بنحو الكلية بدليل عقليّ أو نقليّ: نعم، هي ثابتة في الجملة و بنحو الإهمال، و قاعدة السلطنة حاكمة عليها بلا إشكال.
الرابع: قاعدة: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»۷۸ فإبطال مثل الصلاة، أو الإحرام معصية فلا بد و أن لا يرتكبها المتلبس بهما لأجل طاعة المخلوق الذي هو المالك.
و فيه: أنّ المقام من البطلان، لقاعدة أنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه لا الإبطال كما هو واضح.
الخامس: عدم جواز إبطال عمل الغير فلا يجوز للمالك الرجوع، لأنّه إبطال لعمل الغير.
و فيه: أنّها على فرض الصحة إنّما يكون فيما إذا لم يكن لمن يتعرض للإبطال حق في البين، و أما إذا كان له الحق لقاعدة السلطنة فلا، فقاعدة السلطنة حاكمة على هذه القاعدة على فرض ثبوتها.
السادس: قاعدة «إنّ حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد» و ظاهرهم التسالم على أنّه لو أذن المالك بالبناء و الغرس أو الزرع في ملكه ثمَّ رجع عن إذنه يلزم على المأذون إخلاء الأرض عما عمل فيه- على تفصيل يأتي في المعاملات.
و فيه: أنّه إن ثبت إجماع فهو معتبر في مورده دون المقام، و كذا ما لو قالوه من أنّه لو أذن في رهن ملكه ليس له الرجوع عن الإذن بعد وقوع الرهن لا يجزي ذلك في المقام أيضا، لأنّه يحصل بالرهن حق للمرتهن فرجوعه يكون تصرفا في حقّ الغير فلا سلطنة له عليه، و يمكن أن يقال في المقام أيضا: إنّه يحصل حق للّه تعالى في مثل الصلاة و الإحرام فلا سلطنة له في إبطال هذا الحق.
السابع: قاعدة «الصحة» و استصحاب الوجوب على الباذل بعد الشك في شمول قاعدة السلطنة في المقام، و لها وجه خصوصا إن كان المالك في مقام الاقتراح بلا غرض عقلائيّ صحيح، فالأحوط الوجوبيّ للمالك عدم الرجوع بعد التلبس بالإحرام، مع استنكار المتشرعة للرجوع بلا فرق في ذلك بين كون البذل وعدا، أو إيقاعا، فالشك في ثبوت سلطنته و ولايته حينئذ يكفي في عدم جريانهما و جريان استصحاب الوجوب، مع أنّ مثل هذه الموارد يرى العرف، و كذا وجدان الباذل أنّ هذا الإقدام إنّما هو إقدام على إتمام العمل، إذ مجرّد الحدوث من حيث إنّه حدوث لا أثر له حتى يقدم العاقل عليه إلا أن يزاحمه شيء أهمّ منه، فالرجوع بلا مزاحمة الأهم خلاف العرف و الوجدان.
و يمكن أن يستدل على وجوب الوفاء على الباذل حتى يتم العمل بإطلاق أدلة المقام الدال على وجوب الإتمام على المبذول فإنّه يدل بالملازمة العرفية على وجوب الوفاء و عدم الرجوع بالنسبة إلى الباذل أيضا، إذ ليس المراد بالوجوب مجرّد حدوث الحج فقط، بل الحج بمعنى اسم المصدر أي: العمل الخاص من أوله إلى آخره، و لا فرق فيه تمكن المبذول له من إتمام الحج من شخص آخر أم لا، لأنّ إطلاق ما دلّ على الوجوب يشمل الصورتين و العرف يرى الملازمة بين الوجوبين فيهما، فكما أنّه يجب على المستطيع صرف المال في إتمام الحج يجب على الباذل صرف المال في إتمام من أحجه، فعدم جواز الرجوع في المقام أوفق بالاعتبارات و المرتكزات.
و أما الرجوع في أثناء الصلاة إذا أذن المالك في الصلاة في ملكه ثمَّ رجع فيمكن أن يقال: إنّ عمدة الدليل على حرمة قطع الصلاة في سعة الوقت هو الإجماع و المتيقن منه غير هذه الصورة فلا موضوع للبحث عن عدم جوازه، كما أنّ عدم جواز رجوع الزوج بعد الإحرام فيما إذا أحرمت الزوجة بإذنه، و كذا الولد بالنسبة إلى الوالدين لأجل أهميّة إتمام الإحرام من مراعاة حقهما فلا مورد لمراعاة الحق حينئذ، إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»۷۹. و كذا في الرجوع في الاعتكاف الواجب و تأتي في المعاملات جملة من الفروع المناسبة للمقام.
و أما الجهة الثانية و هي: حكم إتمام الحج فمقتضى الأدلة الدالة على أنّه لا يتحلّل من الإحرام إلا بما جعله الشارع محلّلا وجوب إتمام الإحرام إما متسكعا، أو في نفقة غيره بالأجرة أو نحو ذلك، و مع عدم التمكن من ذلك كله يجري عليه حكم المحصور. و أما إجزاء حجه عن حجة الإسلام فقد تقدم حكمه في [مسألة ۲۸] فراجع.
و أما الجهة الثالثة و هي: ضمان الباذل الراجع عن بذله لمصارف المبذول له حتى يرجع إلى محله فدليله منحصر بقاعدة الغرور، و الظاهر أنّه مطابق لمرتكزات المتشرعة أيضا و إن كان الأحوط التصالح و التراضي.
و منه يظهر عدم ضمان المبذول له للنفقات المصروفة بعد رجوع الباذل لكونه مغرورا من قلبه فلا ضمان بالنسبة إليه و إن كان الأحوط التراضي.
و أما توهم اختصاص قاعدة الغرور بخصوص الموارد التي ورد فيها النصّ فهو مخالف لسيرة الأصحاب بالعمل بها في كل باب، مع أنّها من القواعد النظامية العقلائية لا التعبدية حتى تختص بخصوص مورد النص، فالنص ورد على طبق القاعدة لا مخالفا لها.