إجماعا و نصوصا، منها ما عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن الأحكام؟
قال عليه السّلام: يجوز على أهل كل دين ما يستحلون»79، و في رواية عبد اللّه بن
طاوس: «قلت له: امرأة طلقت على غير السنة؛ فقال: تتزوج هذه المرأة لا تترك بغير زوج»80، إلى غير ذلك من النصوص، و المقام من موارد قاعدة الإلزام، فلا بأس بالإشارة إليها؛ لأن موردها و إن كان في الطلاق و لكنها عامة تشمل غيره أيضا.
قاعدة الإلزام
و هي من القواعد المسلّمة بين الفقهاء و البحث فيها من جهات:
الأولى: في مدركها و استدل عليها.
تارة: بالإجماع.
و نوقش فيه: بأنه معلوم المدرك لأن مدركه الأخبار الواصلة إلينا من المعصومين عليهم السّلام، فلا اعتبار به كما ثبت في الأصول.
و فيه: أن غالب الإجماعات بل جميعها يكون في موردها حديث معتبر، بل أحاديث كذلك، و لو اعتمدنا على هذه المناقشة لسقط اعتبار الإجماع مطلقا، بل ظاهر الإجماع هو الاعتبار إلا إذا ثبت استناده إلى خبر معتبر بقرائن معلومة.
و أخرى: بأنها من القواعد التسهيلية النظامية في جميع الملل و الأديان، فتعتبر ما لم يردع عنها الشرع، فإذا دفع أهل ملة إلى أهل ملة أخرى مالا- مثلا- و قال الدافع: إن ديني و ملتي يقتضي أن أدفع إليك هذا المال، يقبل منه مع وجود المقتضي و فقد المانع عن القبول، و هذا في الجملة مسلّم في المرتكزات. و إنما البحث في تعميم حكمه لكل مورد أو تخصيصه، و يأتي البحث عنه.
و ثالثة: بالأخبار الواردة في المقام، و هي كثيرة فمنها: صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «يجوز على أهل كل دين ما يستحلون»81، و منها قول
أبي الحسن عليه السّلام في رواية عبد اللّه بن جبلة: «في المطلقة على غير السنّة، أ يتزوجها الرجل؟ فقال عليه السّلام: ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، و تزوجوهن فلا بأس بذلك»82، و منها قول الصادق عليه السّلام: «خذوا منهم كما يأخذون منكم في سنّتهم»83، و عنه عليه السّلام أيضا في حديث آخر: «خذهم بحقك في أحكامهم و سنّتهم، كما يأخذون منكم فيه»84، و منها ما ورد في تقرير نكاحهم، مثل قوله عليه السّلام: «لكل قوم نكاح»85، و طلاقهم كما مر، و معاملاتهم مثل رواية منصور قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام لي على رجل ذمي دراهم، فيبيع الخمر و الخنزير و أنا حاضر، فيحل لي أخذها؟ فقال: إنما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك»86، و كذلك في الدين و المواريث، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.
و الحاصل: «إنه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم»87.
و لو لا ذلك لما استقر للمسلمين سوق، و لا قام لهم عمود، خصوصا في هذه الأعصار التي صارت الدنيا بأسرها كبلد واحد اختلط أبناء غربها بشرقها و جنوبها بشمالها.
فهذه القاعدة من أحسن القواعد النظامية التي قررها الشارع تسهيلا على الأمة و تخفيفا عليهم.
و خلاصة ما في سياق تلك الأخبار تقرير المذاهب الفاسدة في ترتب آثار الصحة- الملتزمة عندهم- عليها تسهيلا و امتنانا من الشارع الأقدس على الأمة و تأليفا بينهم مهما أمكن السبيل إليه.
الثانية: في مفادها يعني أن القاعدة عامة تشمل جميع الموارد إلا ما خرج بالدليل المخصوص، أو أنها مختصة بكل مورد ورد فيه الدليل بالخصوص،
مقتضى كونها من القواعد التسهيلية الامتنانية هو الأول، فتتسع القاعدة و تعم ما لم يدلّ دليل على الخلاف، و ما ذكر في بعض الموارد المتقدمة، إنما هو من باب المثال و الغالب.
فتكون مفاد القاعدة من الأحكام المجاملية، و من سنخ الأحكام الثانوية الاضطرارية التي يكون الاضطرار النوعي حكمة الجعل لا علة المجعول، فتعم القاعدة جميع ما ألزموا به أنفسهم إلا ما خرج بالدليل.
الثالثة: هل القاعدة تختص بخصوص المخالفين من المسلمين على اختلاف فرقهم، أو تعم غيرهم أيضا من جميع الملل غير المسلمة؟ مقتضى الإطلاقات و العمومات، بل صريح بعض الروايات كما مر، هو الأخير. و ما يظهر منه الأول- كما تقدم- يكون من الغالب في تلك الأعصار، فلا وجه للتقييد حينئذ.
الرابعة: لا يعتبر أن يكون مفاد القاعدة يعني «ما ألزموا به أنفسهم» متفقا عليه بين جميع المذاهب الأربعة المشهورة أو غيرهم، بل يصح جريانها و لو كان الإلزام عند مذهب واحد دون غيره من المذاهب، للعموم و الإطلاق الشامل لكل من القسمين، ما لم يكن المذهب من الأقل الذي يصح دعوى انصراف الأدلة المتقدمة عنه.
الخامسة: اختلفوا في هذه القاعدة أنها من الأمارات أو من الأصول، و ذكروا أن الثمرة تظهر في حجية اللوازم، فتعتبر بناء على أنها من الأمارة، و لا تكون كذلك لو كانت من الأصول.
و لكن ذكرنا في كتاب [تهذيب الأصول] أن هذه الثمرة ساقطة مطلقا؛ لأن اعتبار اللوازم مطلقا يدور مدار القرائن المعتبرة و لو كانت من الدلالات السياقية، فمع وجودها تعتبر مطلقا و لو كان المورد أصلا، و مع عدمها لا تعتبر و لو كانت أمارة.
السادسة: لا فرق في إلزامهم بما ألزموا به على أنفسهم بين ما إذا كان
المورد مستندا إلى حديث من طرقهم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو فتوى فقيههم، أو حكم حاكمهم، لشمول إطلاق الأدلة للجميع.
نعم، إن كان ذلك من جور الجائر أو صار عادة لهم من غير انتساب إلى التزام ديني، فلا يشمله الدليل.
السابعة: لو شك في مورد أنه فيما التزموا به على أنفسهم أو لا؟ فمقتضى الأصل عدم ترتب الأثر على الإلزام بعد عدم صحة التمسك بالإطلاقات و العمومات لأجل الشبهة الموضوعية، فلا مجرى للقاعدة أصلا.
الثامنة: هل يختص مورد جريان القاعدة بما إذا انطبق عليه عنوان التقية أو يعمها و غيرها؟ الظاهر هو الثاني، للإطلاقات و العمومات الواردة في مقام البيان، و لو كان شيء معتبرا لظهور و بان.
التاسعة: لا يشترط في مورد جريانها عدم المندوحة، فتجري و لو مع وجودها، لما تقدم من الإطلاق و العموم الواردين مورد التسهيل و الامتنان، و أن سياق تلك الروايات المتقدمة سياق التأليف و التآلف المنافيين لاعتبارها.
العاشرة: لا ملازمة بين الزامنا لهم بما ألزموا على أنفسهم في مقابل إلزامهم بما ألزمنا على أنفسنا، بحيث لو لم يكن مورد للثاني لا يكون موردا للأول، لما مر من إطلاق الدليل من غير ما يصلح للتقييد و التعليل.
نعم، قد يكون كذلك في بعض الموارد، و ذلك من باب التقريب للحكم لا من باب الارتباط.
الحادية عشرة: مورد جريان هذه القاعدة فيما إذا كان المورد معلوم البطلان عندنا و مفروغ الصحة عندهم، و أما لو شك في البطلان عندنا فهل تجري القاعدة حينئذ؟ الظاهر ترتب آثار الصحة في مثل المورد، إما لقاعدة الإلزام إن كان في الواقع باطلا عندنا مع فرض الصحة عندهم، أو لقاعدة الصحة لو بقي الموضوع على الشك و لم يتبين البطلان، فحينئذ لا مورد لجريان قاعدة الإلزام، و قد تقدم أيضا عدم جريانها لو لم تحرز الصحة عندهم.
ثمَّ إنه تتفرع على هذه القاعدة فروع كثيرة في أبواب الفقه، تقدم بعضها في الموضع المناسب له، و سيأتي ما يناسب المقام منها في الإرث و غيره إن شاء اللّه تعالى.