للأصل، و الروايات المستفيضة التي يستفاد منها جواز تغسيل كلّ منهما للآخر في الجملة. نعم، مقتضى العرف عدم تصدي كلّ منهما لذلك إلا عند الضرورة، و الاضطرار، فأصالة جائز عرفا، و شرعا إلا أنّه لا يقع في الخارج إلا نادرا.
إن قلت: لا وجه للأصل بعد الموت، لصيرورته جمادا حينئذ، فيتبدل الموضوع، فلا مجرى للاستصحاب من هذه الجهة، و لذا يجوز تزويج الأخت، و الخامسة إن كانت رابعة.
قلت:- مضافا إلى الإجماع على عدم انقطاع عصمة الزوجية بالموت بالمرة و بقائها في الجملة إلا ما دل الدليل على زوالها بالنسبة إليه- إنّ آثار الزوجية.
منها: ما هي متقوّمة بالحياة كتزويج الأخت، و الخامسة و نحوها. و منها: ما ترتب على الذات- كاللمس و النظر و نحو ذلك- و يصح جريان الأصل بالنسبة إلى الأخير، و إن لم يجز بالنسبة إلى الأول، لانتفاء الموضوع بالنسبة إليه-كما فيما إذا مات المجتهد الجامع للشرائط، فيصح استصحاب عدالته للبقاء على تقليده و إن لم يصح بالنسبة إلى الاقتداء به، لانتفاء الموضوع- فأصل جواز التغسيل و اللمس و النظر بحسب الأصل، و الإطلاقات لا إشكال فيه.
إنّما البحث في جهات:
الأولى-: أنّه هل يختص بصورة فقد المماثل- كما في تغسيل الأرحام بعضهم لبعض على ما يأتي- أو يصح و لو مع وجوده أيضا؟ نسب إلى المشهور الثاني، و عن جمع- بل نسبه في الذكرى إلى الأكثر- الأول، و يشكل نسبته إلى الأكثر، مع كون خلافه هو المشهور، و يظهر من الخلاف الإجماع عليه، و استدل للمشهور، بالأصل، و الإطلاق، و صحيح ابن سنان قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الرجل أ يصلح له أن ينظر إلى امرأته حين تموت، أو يغسلها إن لم يكن عندها من يغسلها، و عن المرأة هل تنظر إلى مثل ذلك من زوجها حين يموت؟ فقال عليه السلام: لا بأس بذلك. إنّما يفعل ذلك أهل المرأة كراهية أن ينظر زوجها إلى شيء يكرهونه منها»۸.
و قول السائل: «إن لم يكن عندها من يغسلها» ورد مورد الغالب من عدم تصدي الرجل لتغسيل المرأة مطلقا مع وجود الرجال، فلا يصلح للتقييد، مضافا إلى ما اشتهر من أنّ المناط بعموم الجواب لا بمورد السؤال، و صحيح ابن مسلم قال: «سألته عن الرجل يغسل امرأته؟ قال: نعم، إنّما يمنعها أهلها تعصبا»۹.
و مثل هذه الأخبار من المحكمات لا ترفع اليد عنها إلا بدليل معتبر غير معارض يدل على الخلاف، و مقتضاها الجواز و لو مجردا أو مع وجود المماثل.
و بإزائها طائفتان من الأخبار إحداهما: ما يستظهر منها أنّه لا بد و أن يكون من وراء الثوب، ثانيهما: ما يستظهر منه كونه مع الضرورة و الاضطرار، و فقد المماثل.
و لا بد قبل التعرض لها من بيان أمر: و هو أنّ ما يصح للتقييد لا بد و أن يحرز من كونه واردا في مقام الحكم الإلزامي الواقعي و مع الشك فيه أو إحراز كونه من الآداب العرفية أو الشرعية لا وجه لتقييد المطلقات و تخصيص العمومات به، لأنّ أصالة الإطلاق، و أصالة العموم حجة معتبرة محاورية و المشكوك القيدية لا
يضر بالحجة المعتبرة، و ما ورد للتقييد في المقام كلّه من هذا القبيل، لقرائن داخلية في الأخبار، أو خارجية تشهد بأنّها من العرفيات أو الآداب، فمن الطائفة الأولى صحيح ابن سرحان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «في رجل يموت في السفر أو في الأرض ليس معه فيها الا النساء قال: يدفن و لا يغسل، و قال: في المرأة تكون مع الرجال بتلك المنزلة إلا أن يكون معها زوجها، فليغسلها من فوق الدرع و يكسب عليها الماء سكبا، و لتغسله امرأته إذا مات، و المرأة ليست مثل الرجل و المرأة أسوأ منظرا حين تموت»۱۰.
و خبر الكناني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «في الرجل يموت في السفر في أرض ليس معه الا النساء قال: يدفن و لا يغسّل، و المرأة تكون مع الرجال بتلك المنزلة تدفن و لا تغسّل، إلا أن يكون زوجها معها، فإن كان زوجها معها غسّلها من فوق الدرع و يسكب الماء عليها سكبا، و لا ينظر إلى عورتها و تغسله امرأته إذا مات و المرأة إذا ماتت ليست بمنزلة الرجل، المرأة أسوأ منظرا إذا ماتت»۱۱.
و صحيح ابن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن امرأة توفيت، أ يصلح لزوجها أن ينظر إلى وجهها و رأسها؟ قال: نعم»۱۲.
و فيه: أنّ الغسل من وراء الثوب إن كان لأجل عدم تحقق المس، فلا بد من حمل هذه الأخبار على الكراهة، لموثق سماعة قال: «سألته عن المرأة إذا ماتت قال عليه السلام: يدخل زوجها يده تحت قميصها إلى المرافق»۱۳.
و مثله صحيح الحلبي۱4 و كذا إن كان بالنسبة إلى النظر، للتعليل- بأنّها تصير أسوء منظرا حين تموت- الذي لا تصلح إلا للكراهة، مضافا إلى صحيح ابن مسلم المتقدم: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن امرأة توفيت أ يصلح لزوجها أن ينظر إلى وجهها و رأسها قال عليه السلام: نعم».
فلا وجه للاستدلال بهذه الأخبار لوجوب الغسل من وراء الثوب، للقرينة الظاهرة في أنّه للندب و الأفضلية.
و من الطائفة الثانية صحيح زرارة عن الصادق عليه السلام: «في الرجل يموت و ليس معه الا النساء قال عليه السلام: تغسله امرأته لأنّها منه في عدة و إذا ماتت لم يغسلها، لأنه ليس منها في عدة»۱٥.
و خبر أبي بصير قال الصادق عليه السلام: «يغسّل الزوج امرأته في السفر و المرأة زوجها في السفر إذا لم يكن معهم رجل»۱٦.
و كذا كلّ ما ذكر فيه السفر الذي يستفاد منه الضرورة و الاضطرار.
و فيه أولا، أنّ مثل هذه القيود محمول على الغالب، لما تقدم من أنّ المتعارف بين الناس عدم مباشرة تغسيل الزوج لزوجته و بالعكس، فالفرض من الفروض النادرة بحسب الوقوع الخارجي.
و ثانيا: أنّ صحيح زرارة المتقدم و موافق لأشهر مذاهب العامة، فلا وجه للأخذ بإطلاقه و من ذلك يظهر الوجه في الجهة الثانية من البحث: و هي صحة الغسل مجردا و إن استحب من وراء الثوب.
ثمَّ إنّ خبر مفضل بن عمر قال: «قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: من غسل فاطمة عليها السلام؟ قال ذاك أمير المؤمنين عليه السلام فكأنّما استضقت (استفظعت) ذلك من قوله، فقال لي: كأنّك ضقت مما أخبرتك به؟ فقلت:
قد كان ذلك جعلت فداك، فقال: لا تضيقنّ فإنّها صديقة لم يكن يغسلها الا صديق، أما علمت أنّ مريم لم يغسلها الا عيسى!!»۱۷.
و يستفاد من هذا الخبر أمور ثلاثة:
الأول: يشهد لما قدمناه من أنّ تغسيل الزوج لزوجته- و بالعكس- نادر و ربما يستنكر مع الاختيار، و لذا ضاق مفضل مما سمع عن الصادق عليه السلام.
الثاني: أنّ الصديقة لا يغسلها الا الصديق لا غيره، و يدل عليه روايات أخرى.
الثالث: أنّ مريم ماتت قبل عيسى رد العامة النصارى حيث إنّهم يعتقدون أنّ عيسى مات قبلها.
الجهة الثالثة: التعبيرات الواردة في ستر الزوجة حين الغسل مختلفة كقوله: «من وراء الثوب»۱۸، و «يدخل زوجها يده تحت قميصها»۱۹ و قوله:
«فليغسلها من فوق الدرع»۲۰، و قوله: «و لا ينظر إلى عورتها»۲۱.
و بناء على ما اخترناه من الاستحباب يحمل ذلك كلّه على مراتب الأفضلية، فالأفضل ستر جميع البدن، و دونه في الفضل التغسيل في القميص، و أدون منه ستر خصوص العورة. و أما بناء على الوجوب، فيمكن حمل ذلك كلّه على المثال و إرادة الجامع من الساتر و حمل خصوص ستر العورة على ما إذا لم يتمكن الا منه.
الجهة الرابعة: هل يحرم نظر كلّ من الزوجين إلى عورة الآخر بعد الموت أو لا؟ مقتضى الأصل الموضوعي و الحكمي، و ما يظهر منهم من عدم انقطاع عصمة الزوجية بالمرة، و ما تقدم من صحيح ابن سنان، و صحيح ابن مسلم الجواز، و لكن في صحيح الحلبي: «و لا ينظر إلى شعرها، و لا إلى شيء منها».
و في خبر الكناني: «و لا ينظر إلى عورتها».
و أحسن وجه للجمع حمل الأخيرين على الكراهة، مع أنّ التعليل- بأنّ المرأة أسوأ منظرا إذا ماتت- لا يصلح إلا للكراهة.
ثمَّ إنّ في ذيل صحيح الحلبي المتقدم: «و المرأة تغسل زوجها لأنّه إذا مات كانت في عدة منه و إذا ماتت هي فقد انقضت عدتها».
و صحيح زرارة: «لأنّها منه في عدة، و إذا ماتت لم يغسلها، لأنّه ليس منها في عدة».
و الظاهر أنّ هذا التعليل الاستحساني صدر تقية، و على فرض عدم التقية لا بد من رد علمه إلى أهله بعد جواز تغسيل كلّ منهما للآخر في الجملة كما مر.