للنص، و الإجماع، بل اعتبارها في الإمامة من ضروريات المذهب و عن أبي جعفر (عليه السلام):
«لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه و أمانته»۹ و عن عليّ (عليه السلام):
«الأغلف لا يؤم القوم و إن كان أقرأهم، لأنّه ضيّع من السنّة أعظمها»۱۰.
و عن سماعة: «سألته عن رجل كان يصلّي، فخرج الإمام و قد صلّى الرجل ركعة من صلاة فريضة قال (عليه السلام): إنّ كان إماما عدلا، فليصلّ ركعة أخرى و ينصرف و يجعلها تطوّعا و ليدخل مع الإمام في صلاته، و إن لم يكن إمام عدل، فليبن على صلاته كما هو- الحديث-»۱۱.
فيظهر منه المفروغية عن اعتبار العدالة في الإمامة.
و عن مولانا الرضا (عليه السلام): «لا صلاة خلف الفاجر»۱۲ و في صحيح ابن يعفور: «بم يعرف عدالة الرجل» فما عن المستند من: «إنّي لم أعثر إلى الآن على خبر مشتمل على لفظ العدالة أو عدم جواز الاقتداء بالفاسق» مخدوش بما مرّ من ذكرها بنفسها و بلوازمها العرفية و الشرعية.
ثمَّ إنّ البحث في العدالة يقع في أمور:
الأول- إنّها من أهم الكمالات الواقعية للنفوس الإنسانية و هي الجهاد الأكبر الذي تكون مجاهدة الأنبياء و خلفاؤهم للكفار و الطغاة مقدمة لحصولها في النفوس فيستكمل بها دينهم و دنياهم، و يكون كل علم و كمال نفسي مع عدمها ضائعا في الآخرة كما ثبت ذلك كله في محلّه.
الثاني: العدالة- كالشجاعة و السخاوة و نحوها- من الصفات النفسانية المعروفة لدى العقلاء كافة، لأنّ لكل قوم عادل و فاسق في جميع الملل و الأديان، و ليست من الأمور التعبّدية الشرعية حتّى نحتاج في فهم حقيقتها من المراجعة إلى الشارع. نعم، متعلق العدالة في شرعنا يكون الأحكام الشرعية كما أنّه في سائر الشرائع و الملل يكون من أحكامها. و يترتب على تحقق هذا الموضوع آثار و أحكام في شرعنا كترتّبها عليه في سائر الأديان بحسب ما عندهم من الأحكام و الآثار، و إذا راجعنا العقلاء يقولون: إنّ العدالة الاستقامة في التحفظ على ما هو القانون الديني و العمل به، فيكون معناها في شرعنا الاستقامة في الإتيان بالواجبات و ترك المحرّمات بأن يكون معتنا بدينه و مهتمّا به، فلا يكون مجرّد ترك المحرّمات و إتيان الواجبات أحيانا من العدالة في شيء، لأنّها أخصّ من ذلك عند العرف و المتشرعة بل في الواقع أيضا، لأنّ هذا من الحالات، و العدالة من الصفات الراسخة في النفس كالشجاعة و غيرها.
الثالث: إنّها أمر وجوديّ- كما أنّ الفسق أيضا كذلك- لشهادة العرف و الاعتبار بذلك كما هو معلوم، فتكون النسبة بينهما التضاد لا العدم و الملكة، أو السلب و الإيجاب. مع أنّه لا أثر عمليّا في هذا النزاع أصلا إلّا بناء على صحة الاقتداء بالمجهول. و ظاهر النص و الفتوى خلافه.
الرابع: هل العدالة شرط أو الفسق مانع؟ يمكن استفادة كل منهما من ظواهر الأدلّة- الواردة في خصوص المقام- فيدل على الأول قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه»۱۳، بناء على أنّه عبارة أخرى عن العدالة عرفا. و يدل على الثاني قوله (عليه السلام): «لا صلاة خلف الفاجر»۱4.
و لكن المنساق من الأدلّة- خصوصا صحيحة ابن أبي يعفور- الأول، فيحمل الثاني على التأكيد بالسنة مختلفة، كما هو عادة الأئمة (عليهم السلام) في مقام بيان الاهتمام بالشيء.
ففي صحيح ابن أبي يعفور قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): بم يعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار من شرب الخمر، و الزنا، و الربا، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف، و غير ذلك، و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساترا لجميع عيوبه، حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه و تفتيش ما وراء ذلك، و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته في الناس، و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ و حفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة المسلمين.
و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلاهم إلّا من علّة، فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عنه في قبيلته و محلّته قالوا: ما رأينا منه إلّا خيرا مواظبا على الصّلوات متعاهدا لأوقاتها في مصلاه، فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين، و ذلك أنّ الصّلاة ستر و كفارة للذنوب، و ليس يمكن الشهادة على الرجل بأنّه يصلّي إذا كان لا يحضر مصلّاه و يتعاهد المسلمين، و إنّما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصّلاة، لكي يعرف من يصلّي ممن لا يصلّي، و من يحفظ مواقيت الصّلاة ممن يضيع، و لو لا ذلك لم يمكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح، لأنّ من لا يصلّي لا صلاح له بين المسلمين فإنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) همّ بأنّ يحرق قوما في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين، و قد كان فيهم من يصلّي في بيته فلم يقبل منه ذلك، و كيف يقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من اللّه عزّ و جل و من رسوله (صلّى اللّه عليه و آله) فيه الحرق في جوف بيته بالنار، و قد كان يقول: «لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلّا من علّة»۱٥.
مع أنّ الظاهر أنّ العدالة في جميع موارد اعتبارها بمعنى واحد- كالقاضي و المفتي و الشاهد- و لا ريب في ظهور الأدلّة في كون العدالة شرطا فيها لا أن يكون الفسق مانعا. و الظاهر أنّ المقام أيضا مثل سائر موارد اعتبارها، مضافا إلى أنّ هذا
النزاع لغو بناء على أنّ المراد بالعدالة الصفة الراسخة في النفس دون مجرّد الحالة كما لا يخفى، مع أنّ هذا النزاع لا ثمرة عملية له أيضا إلّا بناء على صحة الائتمام بالمجهول و هو لا يجوز نصّا و إجماعا.
ففي خبر حماد المنجبر عن الصادق (عليه السلام) قال: «لا تصلّ خلف الغالي و إن كان يقول بقولك، و المجهول، و المجاهر بالفسق و إن كان مقتصدا»۱٦، و عنه (عليه السلام): «ثلاثة لا يصلّي خلفهم: المجهول، و الغالي- الحديث-»۱۷.
و أما خبر عبد الرحيم القصير قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام): يقول:
إذا كان الرجل لا تعرفه يؤم الناس فيقرأ القرآن فلا تقرأ و اعتد بقراءته (بصلاته)»۱۸ فيجب حمله على ما إذا حصل الوثوق بعدالته من إئتمام الناس به.
إن قلت: بأصالة عدم صدور الفسق تثبت العدالة.
قلت: لا ريب في كونه من الأصول المثبتة. نعم، لو كان سابقا عادلا و شك في بقائها يجري استصحاب العدالة و يترتب عليها الأثر، و كذا لو رأينا منه معصية و شك في أنّه معذور في ارتكابها أم لا، فإنّ أصالة الصحة تثبت العدالة بناء على أنّها حجة في لوازمها أيضا، فتثبت في الموردين العدالة الشرعية و لا ربط لها بصحة الاقتداء بالمجهول لثبوت العدالة في موردهما شرعا و هو كالثبوت بسائر الأمارات المعتبرة.
الخامس: تقدم أنّها صفة واقعية نفسانية كسائر الصفات النفسانية و لا ريب في أنّ طريق معرفة الصفات النفسانية إنّما يكون بآثارها الخارجية إذ لا طريق إلى معرفة الواقعيات إلّا بعلم الغيب الذي هو منحصر باللّه تعالى، و بمن يفيضه إليه كما أنّها تعلم بآثارها التي هي من الطرق العرفية العادية للعلم بالواقعيات. بل عامة الناس لا يعرفون الواقعيات إلّا من الآثار الظاهرية. و قد اختلف الفقهاء (رحمهم اللّه) في طريق معرفة العدالة على أقوال:
الأول: ما نسب إلى الشيخ (قدّس سرّه) من كفاية ظهور الإسلام في إحراز العدالة ما لم يعلم الخلاف و هذا هو المشهور بين العامة، و استدلّ عليه تارة:
بالإجماع القولي و العملي. و يرد الأول: بأنّ خلافه مظنة الإجماع و الثاني: بأنّ سيرة الأئمة (عليهم السلام) و الخواص كانت على عدم ترتيب آثار العدالة بمجرّد ظهور الإسلام، بل كان النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) يتفحّص في الشاهد.
فعن الحسن بن عليّ العسكريّ (عليهما السلام) في تفسيره عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدّعي: أ لك حجة؟ فإن قدم بينة يرضاها و يعرفها أنفذ الحكم على المدّعى عليه، و إن لم يكن له بيّنة حلّف المدّعى عليه باللّه ما لهذا قبله ذلك الذي ادّعاه و لا شيء منه، و إذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير و لا شر قال للشهود: أين قبائلكما؟ فيصفان، أين سوقكما؟ فيصفان، أين منزلكما؟ فيصفان، ثمَّ يقيم الخصوم و الشهود بين يديه ثمَّ يأمر فيكتب أسامي المدّعي و المدّعي عليه و الشهود، و يصف ما شهدوا به، ثمَّ يدفع ذلك إلى رجل من أصحابه الخيار، ثمَّ مثل ذلك إلى رجل آخر من خيار أصحابه، ثمَّ يقول: ليذهب كل واحد منكما من حيث لا يشعر الآخر إلى قبائلهما و أسواقهما و محالّهما و الربض الذي ينزلانه، فيسأل عنهما.
فيذهبان و يسألان، فإن أتوا خيرا و ذكروا فضلا رجعوا إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، فأخبراه، أحضر القوم الذي أثنوا عليهما، و أحضر الشهود، فقال للقوم المثنين عليهما: هذا فلان بن فلان و هذا فلان بن فلان أ تعرفونهما؟ فيقولون: نعم، فيقول: إنّ فلانا و فلانا جاءني عنكم فيما بيننا بجميل و ذكر صالح أ فكما قالا؟ فإن قالوا: نعم، قضى حينئذ بشهادتهما على المدّعي عليه، فإن رجعا بخبر سيّئ و ثناء قبيح دعا بهم، فيقول: أ تعرفون فلانا و فلانا؟ فيقولون: نعم، فيقول: اقعدوا حتّى يحضرا، فيقعدون فيحضرهما فيقول للقوم: أ هما هما؟ فيقولون: نعم، فإذا ثبت عنده ذلك لم يهتك سترا بشاهدين و لا عابهما و لا وبخهما، و لكن يدعو الخصوم إلى الصلح، فلا يزال بهم حتّى يصطلحوا لئلّا يفتضح الشهود، و يستر عليهم.
و كان رؤوفا رحيما عطوفا على أمّته، فإن كان الشهود من أخلاط الناس غرباء لا يعرفون و لا قبيلة لهما و لا سوق و لا دار أقبل على المدّعى عليه فقال: ما تقول فبهما؟ فإن قال: ما عرفنا إلّا خيرا غير أنّهما قد غلطا فيما شهدا عليّ أنفذ شهادتهما، و إن جرحهما و طعن عليهما أصلح بين الخصم و خصمه و أحلف المدّعى عليه و قطع الخصومة بينهما»۱۹.
بل كان عند القضاة جمع خاص لتوثيق من يرد عليهم من الشهود في الخصومات كما لا يخفى على من راجع التواريخ.
و أخرى: بأصالة عدم صدور الفسق، و أصالة الصحة. و يرد: بأنّ العدالة- كما تقدم- صفة خاصة و إثباتها بأصالة عدم صدور الفسق، و أصالة الصحة، من الأصل المثبت، و مقتضى أصالة الصحة في فعل الغير هو عدم ترتب آثار الفساد لو احتمل الفعل الصادر منه للصحة و الفساد، و أما إثبات العدالة بها فهو ممنوع- كما هو معلوم.
و ثالثة: بلزوم الحرج لو لم يكتف به. و يرد بعدم لزومه كما هو واضح.
و رابعة: بإطلاق مثل قوله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ۲۰.
و يرد: بأنّه لا بد من تقييده بما دل على اعتبار العدالة في الشاهد.
و خامسة: بجملة من الأخبار- و هي العمدة- مثل قول أبي عبد اللّه (عليه السلام) في خبر علقمة: «كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته»۲۱، و قول عليّ (عليه السلام): «اعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض»۲۲ و ما ورد من الرضا (عليه السلام): في قبول شهادة الناصبي۲۳ إلى غير ذلك مما ذكر في المطوّلات.
و يرد أولا: بقصور سندها و عدم الجابر له.
و ثانيا: بلزوم تقييدها بصحيح ابن أبي يعفور۲4 الذي هو من محكمات
أخبار الباب سندا و متنا، و لا بد من إرجاع غيره إليه، أو تأويله أو طرحه.
و ثالثا: بأنّ جلّ هذه الأخبار لو لا كلّها في مقام الترغيب إلى الجماعة و الترهيب عن تركها، و في مقام دفع الوساوس النفسانية التي تحصل لكلّ أحد بتشكيك شياطين الإنس و الجنّ، فرفع الشارع عذر الجميع بمثل هذه الأخبار- التي صدرت لدفع الوسواس و رفعها- لا لبيان تحديد معنى العدالة شرعا، بل هي باقية على معناها العرفي و اللغوي كما لا يخفى.
و رابعا: بأنّ ما دلّ على الصّلاة خلف الناصبي۲٥ محمول على التقية قطعا.
ثمَّ إنّه يمكن حمل قول من ذهب: إلى كفاية الإسلام في العدالة على العمل بالوظائف الإسلامية التي جاء بها الشارع و لا ريب في تحقق العدالة حينئذ، بل قد يكون ذلك فوق مرتبة العدالة.
الثاني: كفاية حسن الظاهر مطلقا و نسب ذلك إلى المشهور.
الثالث: بشرط إفادة الظن.
الرابع: بشرط حصول الوثوق. و ربما يتوهّم أنّ هذه الأقوال في نفس العدالة من حيث هي، و لكن المتأمل فيها يرى أنّها في الكاشف عنها و المعرّف لها لا في نفسها. نعم، من حيث الملازمة الغالبية بين واقع العدالة و حسن الظاهر عبّروا بذلك لا أن يكون ذلك حدّا منطقيا أو تحديدا تعبّديا شرعيا، أو يكون ذلك من الموضوعات المستنبطة التي يرجع فيها إلى الفقهاء، بل العدالة مثل سائر الموضوعات العرفية التي يعرفها العرف بعد الاطلاع عليها و على آثارها كالمحبة و العلاقة و العداوة، بل تكون مثل الحرف و الصنائع كالتجارة و الزراعة و الحياكة و نحوها مما تعرف بآثارها و لوازمها العرفية و كذا العدالة صفة نفسانية واقعية التي آثارها ما فصل في صحيح ابن أبي يعفور على ما تقدم۲٦، و يشهد بذلك عرف المتشرّعة أيضا، و سياق جملة من فقراته يدل أنّه لا موضوعية لحسن الظاهر من حيث هو، بل هو من طرق استكشاف تلك الصفة الواقعية النفسانية، فراجع و تأمّل.
ثمَّ إنّه استدلّ للقول الثاني بما مرّ من خبر علقمة، و خبر الأمالي:
«من صلّى خمس صلوات في اليوم و الليلة في جماعة، فظنوا به خيرا»۲۷ و في مرسل يونس: «إذا كان ظاهر الرجل ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه»۲۸.
فيكون مجرد حسن الظاهر أمارة تعبّدية كسائر الأمارات التعبّدية الشرعية غير المقيّدة بالظن كسوق المسلمين و أرضهم و نحوهما.
و فيه أولا: قصور السند فلا تصلح للاعتماد.
و ثانيا: يمكن حملها على صورة حصول الظن العادي كما هو الغالب.
و ثالثا: يجب تقييده بما تقدم من صحيح ابن أبي يعفور بكونه من أهل الستر و العفاف، و كونه بحيث إذا سئل عنه في قبيلته و محلّته قالوا: «ما رأينا منه إلّا خيرا».
و بالجملة صحيح ابن أبي يعفور شارح لجميع ما ورد من الأخبار في العدالة فلا وجه للأخذ بها مع قطع النظر عنه، و لا ريب في كونه أخص من الجميع، و قد مرّ بعض ما يتعلّق به في الاجتهاد و التقليد، فراجع إذ لا يتم المقام بدون مراجعته.
و استدلّ للثالث بأنّ المنساق من مجموع الأدلّة بقرينة مرتكزات المتشرعة في خصوص الائتمام و الاقتداء إنّما هو صورة حصول الظنّ و هو حسن إن أريد به الظنّ العادي الذي هو عبارة عن الوثوق فيتّفق جميع الأخبار حينئذ على معنى واحد.
و استدل للرابع بقوله (عليه السلام): «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه و أمانته»۲۹، فإنّ ظهوره في دوران الائتمام مدار حصول الوثوق مما لا ينكر، و المنساق من صحيح ابن أبي يعفور بعد التأمّل في جميع فقراته أيضا ذلك، لأنّ من ملازمة الستر و العفاف و المواظبة على الصلاة و قول أهل القبيلة و المحلّة ما رأينا منه إلّا خيرا يحصل الوثوق قهرا.
و دعوى: أنّ سائر الأخبار حاكمة على الصحيح. مخدوشة إذ المقام مقام للتقييد لا الحكومة، و يمكن الجمع بين الأخيرين بدعوى أنّ للوثوق مراتب متفاوتة يكفي أدناها و هي مساوقة الظن العادي غالبا، بل و لحسن الظاهر أيضا مراتب و أدنى مراتب الوثوق المساوق لها كاف في المقام، لعموم الابتلاء و لو اعتبرت المراتب الأخرى لصعب حصولها، بل ربما أوجب إثارة الوسواس في أذهان العوام، و لعلّ المشهور اكتفوا بمجرّد حسن الظاهر من جهة ملازمته نوعا لحصول هذه المرتبة من الوثوق، و لم يصرّحوا بلفظ الوثوق دفعا لوساوس العوام و تشكيكاتهم، فاتبعوا إعمال هذه النكتة المستفادة من الروايات أيضا فجزاهم اللّه تعالى خيرا.
السادس: المعروف بين الإمامية أنّ العدالة صفة نفسانية باعثة على ترك الكبائر التي منها الإصرار على الصغائر و ترك منافيات المروّة.
أما اعتبار اجتناب الكبائر، فيدل عليه قوله (عليه السلام) فيما تقدم من صحيح ابن أبي يعفور: «و يعرف باجتناب الكبائر التي أو عد اللّه عليها النار»۳۰.
و أما كون الإصرار على الصغائر من الكبائر، فيدل عليه- مضافا إلى الإجماع- قول الرضا (عليه السلام) في صحيح ابن شاذان الوارد في تعداد جملة من الكبائر: «الاشتغال بالملاهي و الإصرار على الذنوب،۳۱، و قول الصادق (عليه السلام) في خبر ابن مسلم الوارد في تعداد جملة منها: «و ضرب الأوتار و الإصرار على صغائر الذنوب»۳۲.
و أما اعتبار ترك منافيات المروّة فيها، فاستدل عليه تارة: بالإجماع. و يرد بعدم تحققه.
و أخرى: بما مرّ في صحيح ابن أبي يعفور من قوله (عليه السلام): «أن تعرفوه بالستر و العفاف، و كفّ البطن و اليد و الفرج و اللسان و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساترا لجميع عيوبه» بدعوى: أنّ المراد بالعيوب كل ما كان عيبا و لو لم يكن محرّما شرعا.
و يرد: بأنّ المنساق منه الستر و العفاف و الكفّ بالنسبة إلى محرّمات الشريعة لا أن يكون في مقام بيان معنى آخر و مجرّد الاحتمال لا يصلح للاستدلال ما لم يكن ظهور عرفيّ في البين.
و ثالثة: بمثل قوله (عليه السلام): «لا دين لمن لا مروّة له»۳۳.
و يرد: بأنّ للمروءة مراتب متفاوتة، فيكون لعدمها أيضا كذلك، لأنّها مساوقة للإنسانية و الشخصية و لا ريب في كونها ذات مراتب أيضا فبعض المراتب مساو لعدم الديانة و ليس الكلام فيه، بل فيما إذا كان الشخص آتيا بالواجبات و تاركا للمحرّمات، و لكن ارتكب ما ينافي شخصيته- مثلا- مع عدم انطباق عنوان آخر عليه يوجب الحرمة أصلا، و لا يمكن إثبات اعتباره في العدالة بما مرّ من الأدلّة.
ثمَّ إنّه قد قيل في ضابطة منافيات المروّة وجوه: لعل أحسنها أنّها صيانة النفس عن الأدناس و عما يشينها عند الناس، و الظاهر اختلافها باختلاف الأماكن و الأزمان و الأشخاص، فقد يكون شيء في زمان، أو في مكان، أو بالنسبة إلى شخص منافيا لها، مع أنّه في غيره ليس كذاك. و يمكن جعل النزاع لفظيا، فمن اعتبر عدم منافيات المروّة أي فيما إذا كان ارتكابها كاشفا عن عدم الديانة، و من لم يتعرّض لها و تركها أي: فيما إذا لم تكن كاشفة عنه.
و بعبارة أخرى: لا موضوعية لاعتبار منافيات المروّة، بل هي طريقيّ محض.
ثمَّ إنّهم (قدست أسرارهم) مثّلوا لمنافيات المروّة بأمثلة كثيرة في بحث الجماعة، و كتاب القضاء، و كتاب الشهادة. و نحن نذكر جملة منها و هي:
۱-: لبس الفقيه لباس الجندي. ۲-: مد الرجلين في مجالس الناس.
۳-: الإكثار من الحكايات المضحكة. ٤-: الخروج من حسن العشرة في الأهل و الجيران و المعاملين. ٥-: المضايقة في الأشياء اليسيرة الذي لا يستقضي فيه.
٦-: ابتذال الشخص نفسه بلا رجحان ديني. ۷-: تقبيل الشخص حليلته بين الناس. ۸-: الأكل في الأسواق. ۹-: المشي في الشوارع مكشوف الرأس.
۱۰-: لبس الثياب المصبغة كالنساء- إلى غير ذلك مما لا تحصى المختلفة باختلاف الأزمنة و الأمكنة و الأشخاص و الأغراض.
ثمَّ إنّه إذا كان الغرض من ارتكاب بعض منافيات المروّة إلهيّا من دون قصد تدليس و لا التباس لا يعد ذلك من المنافي عند الناس، و قال في الجواهر- و نعم ما قال-: «إنّ أولياء اللّه يقع منهم كثير من الأشياء التي ينكرها الجهلة». و ورد عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه كان يركب الحمار العاري و يردف خلفه۳4، و يأكل ماشيا إلى الصّلاة بمجمع من الناس في المسجد۳٥، و كان (صلّى اللّه عليه و آله) يحلب الشاة بيده۳٦، و ورد عن علي (عليه السلام): في سياق ذلك ما ملأ كتب الفريقين، و ما ذلك إلّا لأجل غلبة الجهات الواقعية على الأغراض و الجهات الدنيوية الفاسدة الزائلة، فصار ترك اعتنائهم بالدنيا مثالا لكل من تعلّق قلبه بالملإ الأعلى.
ثمَّ إنّه قد ورد في أخبارنا لفظ المروءة، و لكنّها ليس بما تعرض له الفقهاء.
فعن عليّ (عليه السلام): «و أما المروّة فاصطلاح المعيشة»۳۷، و عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «ستة من المروّة، ثلاثة منها في الحضر، و ثلاثة منها في السفر، فأما التي في الحضر، فتلاوة القرآن، و عمارة المسجد، و اتخاذ الإخوان. و أما التي في السفر، فبذل الزاد، و حسن الخلق، و المزاح في غير معاصي اللّه»۳۸.
السابع: لا ريب في اختلاف المعاصي في الجملة كتابا و سنّة، و إجماعا و وجدانا قال تبارك و تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ۳۹ و نرى بالوجدان التفاوت بين النظر إلى الأجنبية و لمسها و تقبيلها،
و الزنا بها، و النصوص أيضا وافية بذلك- فراجع أبواب جهاد النفس من الوسائل- إنّما الكلام في أنّ الجميع كبيرة و التفاوت بأكبرية البعض عن بعض آخر كما عليه جمع و قد ورد: «أنّ كل ذنب عظيم»4۰ أو أنّ التفاوت بأنّ بعضها كبيرة و بعضها صغيرة- كما هو المعروف بين الفقهاء (رحمهم اللّه) و جمع من محققي علماء الأخلاق- فهل يكون هذا التفاوت من باب الوصف بحال المتعلق- كما عن بعض- فالنظر إلى الأجنبية إن صدر من العامي صغيرة، و إن صدر من الفقيه- أو ممن ربّي في بيت النبوّة و الإمامة أو الفقاهة- كبيرة، فيكون التوصيف بها باعتبار حال المرتكب لا نفس المعصية كما يشهد به ما ورد في نساء النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله)4۱ ، و ورد في تشديد الأمر على العالم و أنّه «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»4۲. أو أنّ التوصيف باعتبار الذات، فيكون ذات المعصية على قسمين كما عليه المشهور، و هو الحق المنساق من الأدلّة عرفا.
نعم، يتأكد ذلك بحسب الأشخاص، بل الأزمنة و الأمكنة كما يأتي في أحكام التعزير إن شاء اللّه تعالى، و يمكن جعل النزاع لفظيا فكل ذنب بل كل خاطرة يكرههما اللّه تعالى كبيرة بالنسبة إلى عظمة اللّه تعالى غير المتناهية و لكن من حيث إنّه تعالى منّ على عباده و سهّل عليهم بتفصيل نواهيه كبيرة و صغيرة و لمما، و جعل الأخيرين مكفرة مع اجتناب الأولى، فالقسمة إليهما تحصل من هذه الجهة كما سهل تعالى على العباد في امتثال التكاليف امتثالا ظاهريا و لو بحسب القواعد التسهيلية الامتنانية.
الثامن: كليات الكبائر لا تخلو عن أقسام:
الأول: ما ورد النص بكونها كبيرة و قد أنهاها بعض إلى خمسين تقريبا، و عن المحقق الأردبيلي الزيادة على ذلك فراجع كتاب الجهاد من الوسائل، و صلاة الجماعة و الشهادة من الجواهر.
الثاني: ما ورد التوعيد عليه بالنار في الكتاب و السنّة
لقولهم (عليهم السلام): «إنّ الكبيرة كلّ ما توعد اللّه عليها النار»4۳، بلا فرق بين كون ذلك بالصراحة أو الظهور العرفي مطلقا.
الثالث: ثبوت كونه أعظم من الكبائر المنصوصة أو عما أو عد عليه بالنار كقوله تعالى وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ44، و قوله (عليه السلام): «الغيبة أشدّ من الزنا»4٥، و ما ورد في الرياء4٦ و غير ذلك مما لا يحصى، فيستفاد كونه كبيرة حينئذ بالملازمة العرفية.
الرابع: كونه عظيما عند أهل الشرع بحسب المرتكزات الشرعية المنتهية إلى أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، و ذلك يختلف باختلاف الأشخاص و الأزمان كما لا يخفي.
الخامس: ورود النص بعدم الائتمام به، أو عدم قبول شهادته مع ارتكابه له، أو اعتقاده به كعدم الائتمام بمن يقول بالتجسم4۷ و نحو ذلك. و هذه جملة من صغريات هذه الأقسام.
۱-: الإشراك باللّه العظيم ۲-: إنكار ما أنزله تعالى ۳-: اليأس من روح اللّه ٤-: الأمن من مكر اللّه ٥-: الكذب على اللّه تعالى و على الرسول و أوصيائه ٦-: محاربة أوليائه تعالى ۷-: قتل النفس ۸-: عقوق الوالدين ۹-: أكل مال اليتيم ظلما ۱۰-: قذف المحصنة ۱۱-: الفرار من الزحف ۱۲-: قطع الرّحم ۱۳-: الزنا ۱٤-: اللواط ۱٥-: شرب الخمر ۱٦-: السّرقة ۱۷-: اليمين الغموس ۱۸-: كتمان الشهادة ۱۹-: شهادة الزور ۲۰-: نقض العهد ۲۱-:
السحر ۲۲- الحيف في الوصيّة ۲۳- أكل الرّبا ۲٤-: أكل السحت ۲٥-: القمار ۲٦-: أكل الميتة ۲۷-: أكل الدم ۲۸-: أكل لحم الخنزير ۲۹-: أكل ما أهلّ لغير اللّه ۳۰-: البخس في المكيال و الميزان ۳۱-: التعرب بعد الهجرة ۳۲-:
معونة الظالمين ۳۳-: الركون إلى الظالمين ۳٤-: حبس الحقوق من غير عذر
۳٥-: التكبّر ۳٦-: الإسراف ۳۷-: التبذير ۳۸-: الخيانة ۳۹-: الغيبة 4۰-: النميمة 4۱-: الاشتغال بالملاهي 4۲-: الاستخفاف بالحج 4۳-: ترك الصلاة 4٤-: منع الزكوات 4٥-: الإصرار على الصغائر 4٦-:
الفتنة 4۷-: الغناء عملا و استماعا 4۸-: قطيعة الرّحم 4۹-: المكر و الغدر و الخديعة ٥۰-: الرياء ٥۱-: إيذاء المؤمنين و احتقارهم و الاستهزاء و السخرية بهم ٥۲-: كون الشخص ذا وجهين و ذا لسانين ٥۳-: الشماتة بالمؤمن ٥٤-: عدم إعانة من استعان به من إخوانه و منعه الحاجة التي أرادها مع التمكن ٥٥-:
مجالسة أهل المعاصي ٥٦-: الاستمناء إلى غير ذلك مما لم يستقصي في الفقه و إنّما تعرّضوا للأحاديث الدالّة عليها في كتب الحديث4۸ و تعرّض لها الخاصة و العامة في كتب الأخلاق.
التاسع: تقدّم أنّ الإصرار على الصغيرة من الكبائر و هو عرفا المداومة و الإقامة على الشيء خارجا، فلا يتحقق بمجرد العزم على الإتيان- كما نسب إلى القاموس- و لا بمجرّد ترك الاستغفار- كما يظهر من بعض الأخبار:
فعن أبي جعفر (عليه السلام): «الإصرار أن يذنب الذنب، فلا يستغفر اللّه و لا يحدّث نفسه بالتوبة»4۹.
و في النبوي: ما أصرّ من استغفر و إن عاد في اليوم سبعين مرّة»٥۰، و ذلك لعدم اعتبار قول القاموس مع مخالفته للأصل و العرف و لسائر اللغويين، و قصور الخبر سندا و دلالة لأنّه بناء على توقف عدم الإصرار على الاستغفار لا يكون فرق حينئذ بين الصغيرة و الكبيرة لمحو الكبيرة بالاستغفار أيضا، لقولهم (عليهم السلام): «لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار»٥۱، مع أنّ في احتياج الصغيرة إلى الاستغفار نظر، بل منع لمحوها باجتناب الكبائر كما يأتي.
و يمكن أن يقال: إنّ الإصرار مراتب متفاوتة يتحقق بعض مراتبها بالعزم و بعضها بالمداومة و الإقامة على المعصية، و ما هو من الكبائر خصوص الأخير فقط دون الأول، و مع الشك فمقتضى الأصل عدم تحقق الإصرار و عدم عروض عنوان الكبيرة إلّا بالنسبة إلى المتيقن و هو الأخير أيضا.
ثمَّ إنّ الفرق بين الاستغفار للصغيرة و الاستغفار للكبيرة أنّ الأوّل لدفع أن تصير الصغيرة كبيرة، و الثاني لرفع الكبيرة. و بعبارة أخرى: إنّ الأول لسقوط اقتضاء المقتضي، و الثاني لرفع الأثر الفعلي.
العاشر: الكبائر متفاوتة فيما بينها قال تعالى وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ٥۲، و قال الصادق (عليه السلام): «أكبر الكبائر سبع: الشرك باللّه العظيم، و قتل النفس التي حرّم اللّه إلّا بالحق، و أكل أموال اليتامى، و عقوق الوالدين، و قذف المحصنات، و الفرار من الزحف، و إنكار ما أنزل اللّه عزّ و جل- الحديث-»٥۳.
كما أنّ ملكة العدالة متفاوتة شدة و ضعفا و هي ما تحصل بالتدريج كما تزول بالتدريج أيضا، فكلّ مرتبة تكون راسخة في النفس في الجملة تسمّى ملكة و إن أمكن اشتدادها إلى مرتبة أشدّ منها و يكفي في العدالة صرف وجودها، لعدم الدليل على اعتبار أزيد منه، إذ ليس لهذا اللفظ في الأخبار و كلمات القدماء عين و لا أثر.
الحادي عشر: محو الذنوب و تكفيرها يتحقق بأمور:
منها: الآلام و المحن، و المصائب، و فقد الأولاد، و حتّى الخدشة التي تصيب الإنسان، و الرؤيا التي توجب تأثير الشخص، فضلا عن سكرات الموت و غير ذلك مما لا يحصى و لا يستقصي، و قد دلّت عليها النصوص الكثيرة بل المتواترة٥4 و هي من أقوى موجبات التكفير كما لا يخفى على من راجع الأخبار.
و منها: الاستغفار من الملائكة، لقوله تعالى وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ٥٥، و استغفار النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله)
و الإمام حين عرض الأعمال عليهما في كلّ صباح أو في كلّ يوم خميس، و يوم اثنين كما تدل عليه روايات كثيرة، بل مستفيضة٥٦، و استغفار المؤمنين الذي يكون أقرب إلى الاستجابة من استغفار العاصي لنفسه، ففي الخبر. «لا تحقّروا دعوة أحد فإنّه يستجاب لليهودي و النصراني فيكم و لا يستجاب لهم في أنفسهم»٥۷.
و منها: غفران اللّه جلّ جلاله تفضلا في الأيام و الليالي المتبركة- كشهر رمضان و أيام عرفة و نحوها كما في أخبار كثيرة٥۸.
و منها: الحسنات فإنّها يذهبن السيّئات كتابا و سنّة٥۹.
و منها: اجتناب الكبائر، فإنّه يوجب محو الصغائر، لقوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ٦۰.
و منها: الشفاعة بمراتبها الكثيرة الوسيعة من شفاعة النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) و أوصيائه و المؤمنين كتابا و سنّة متواترة٦۱، بل بالضرورة في الجملة و هناك أمور أخرى- غير ما ذكرناه- كما لا يخفى.
إن قلت: مع هذه الأمور التي توجب المحور لا يبقى موضوع لندم العاصي و توبته، مع أنّه لا ريب في وجوبها و قد ورد في الترغيب إليه ما لا يحصي٦۲.
قلت: للمغفرة مراتب كثيرة يمكن عدم حصول بعض مراتبها إلّا بتوبة نفس العاصي مع قدرته عليها، مع أنّ غفران الكبائر متعلّق على مشيته تبارك و تعالى و من الأمور البدائية لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ*٦۳.
فيمكن أن يجب الاستغفار من المعاصي و كان استغفار غيره له موجبات لثبوت الغفران و عدم حدوث البداء بالنسبة إليه، و يشهد له قوله تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا٦4.
و هذه المباحث غير منقحة في الكلمات و لعل الاجمال فيها لمصلحة أولى من مرض جملة من الجهات الكثيرة التي تتعلق بها.
الثاني عشر: لا ريب في وجوب التوبة عقلا، لقاعدة دفع الضرر المحتمل، و ما يظهر منه وجوبه شرعا أيضا كقوله تعالى تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً٦٥ و كقوله تعالى وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ*٦٦ حيث إنّه إرشاد إلى وجوب الإطاعة عقلا و هل هو فوري أو لا؟: المعروف هو الأول لقاعدة دفع الضرر المحتمل، خصوصا في حقوق الناس التي ادّعى صاحب الجواهر فيها أصالة الفورية إلّا ما خرج بالدليل، و لكن ظاهرهم في الكفارات التي هي كالتوبة عدم الفورية، بل في الأخبار ما هو ظاهر في عدمها، و إنّ باب التوبة مفتوحة إلى أن يبلغ النّفس إلى الحلقوم٦۷، إلّا أن يقال: إنّها لا تدل على التوسعة، بل على عدم السقوط، فتجب فورا ففورا.
ثمَّ إنّ وجوبها طريقيّ إلى تدارك أصل الذنب، فلو تركها لا يعاقب و يكفي فيها مجرد الندم كما في جملة من الأخبار منها:
قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «كفى بالندم توبة»٦۸.
و الظاهر اعتبار آن يكون الندم من جهة الديانة و الخوف من الله تعالى، فلا يكفي إن كان من جهة أخرى- كالفضيحة عند الناس، أو ضرر المعصية بجسمه مثلا- أو غير ذلك مما يوجب الندامة، كما أنّ الظاهر جواز التبعيض فيها، فلا
تتوقف التوبة عن معصية على التوبة عن معصية أخرى، و الظاهر عدم اعتبار العلم تفصيلا بما عصى به، فلو ندم إجمالا عما عصى و لو لم يعلم به تفصيلا صح و كفى، هذا في حق اللّه تعالى غير المتوقف على القضاء، و أما فيما يتوقف عليه أو في حقوق الناس، ففيه تفصيل، و لا ريب في تحققها بالندم مع العزم على عدم العود، و هل تتحقق بمجرد الندم مع العزم على العود لو فرض ثبوت مثل هذا الندم حقيقة؟ وجهان: من الإطلاقات خصوصا مثل قوله (عليه السلام): «ما أصرّ من استغفر و إن عاد في اليوم سبعين مرّة»٦۹، و من احتمال الانصراف خصوصا ما ورد من أنّه كالمستهزئ۷۰. ثمَّ إنّ للندامة و الاستغفار مراتب متفاوتة جدّا، مقتضى الإطلاقات كفاية أدناها.
الثالث عشر: تقدم أنّ تكفير الذنوب من أوسع أبواب رحمة اللّه تعالى و له طرق كثيرة ذكرنا بعضها، و يظهر من بعض الآيات الكريمة۷۱ و بعض الأخبار۷۲ ثبوت الإحباط- في الجملة أيضا- و هو أن يوجب بعض الذنوب محو أثر الطاعة، و لكن الحق بعد التأمل في مجموع ما ورد- خصوصا مثل قوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ۷۳– أنّ الحسنات و الأفعال الخيرية و الملكات الفاضلة لا تضمحل آثارها بالكلية، بل تحصل آثارها إما في الدنيا، أو في البرزخ، أو في المحشر، أو في النار تخفيفا من شدّتها أو بنحو آخر.
و مثل قوله تعالى وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً۷4 يختص إما بمن مات كافرا، فيصير العمل هباء منثورا بالنسبة إلى دخول الجنة لا بالنسبة إلى سائر الآثار، أو بما إذا كان العمل باطلا شرعا و قصر العامل فيه مع زعمه صحته. نعم، يشترط دخول الجنة بالموت على الإيمان، فمن مات كافرا لا
يدخلها و إن كان قد عمل من الخيرات ما عمل، و لكن لأعماله الحسنة آثار من تخفيف العذاب أو نحو ذلك.
و قوله تعالى فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ۷٥ إنّما هو بالنسبة إلى كمال النفس في الدنيا بالطّاعات و الحسنات، و دخول الجنة في الآخرة الذي هو الكمال المحض لا بالنسبة إلى بعض الآثار التي لا تعد شيئا أبدا في مقابل كمال النفس و دخول الجنة، فمن مات كافرا لا يدخل الجنة و من مات مؤمنا و لم يلبس إيمانه بظلم فهو من أهل الجنة بلا ريب و إن خلط عملا صالحا و آخر سيّئات و تاب فكذلك، و إن لم يتب، فإما أن يستحق ثواب إيمانه أم لا، و الثاني باطل كتابا و سنّة كقوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ۷٦.
و في صحيح ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «من كان مؤمنا فعمل خيرا في إيمانه ثمَّ أصابته فتنة فكفر ثمَّ تاب بعد كفره كتب له و حسب له كلّ شيء كان عمله في إيمانه، و لا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره»۷۷ فإذا لم يتحقق الحبط بالنسبة إلى الكفر، فبالنسبة إلى غيره من المعاصي يكون الأولى و قد تواترت النصوص: أنّ ثواب الإيمان الجنة۷۸ لا شيء آخر من تخفيف عذاب أو نحوه، و حينئذ إما أن يدخل الجنة لثواب إيمانه، ثمَّ يخرج منها، و يدخل النار بسيّئاته، و هو باطل إجماعا لأنّ من يدخل الجنة لا يخرج منها، أو يدخل النار لسيّئاته ثمَّ يخرج منها و يدخل الجنة بإيمانه، و هو صحيح لا إشكال فيه، و يدل عليه بعض الأخبار.
هذا مع قطع النظر عن الشفاعة و ما مرّ من موجبات التكفير و أما معها فلا يدخل النار أصلا هذا بالنسبة إلى الحبط الإيماني.
و أما الحبط بالنسبة إلى بعض مراتب القبول في الأعمال، فهو حق في الجملة، لأنّ لإعمال أهل الورع و التقوى مرتبة من القبول ليست تلك المرتبة
لغيرهم، و للقبول مراتب كثيرة جدّا و لتفصيل هذه المباحث محلّ آخر، و لكنّهم أهملوها أو فصّلوها بنقل الأقوال النادرة و الاحتمالات الباردة، فراجع.
ثمَّ إنّ قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ۷۹ يحتمل وجوها:
منها- أن يكون ترك الكبيرة في تمام العمر شرطا لكفران السيّئة، فينحصر كفرانها حينئذ بأشخاص نادرين و هو بعيد عن فضله تعالى و سعة رحمته.
و منها: أن يكون بحسب الغالب، فمن كان مهتمّا بترك الكبائر يكفّر سيّئاته و إن صدرت منه كبيرة أحيانا لغلبة الهوى.
و منها: أن تكون الكبائر المكفرة بالاستغفار أو غيره موجبة لتكفير سائر السيّئات.
و منها: أن يكون ترك كل كبيرة موجبة لتكفير سيّئة، فمن كشف عورة امرأة و مسّها للزنا بها و ترك الزنا يسقط عصيان المسّ و النظر إلى العورة بالنسبة إليه، و الثاني خلاف ظاهر الآية و الأخير أنسب بفضل اللّه و سعة رحمته.
الرابع عشر: لو شك في معصية أنّها كبيرة أم لا؟ فمع وجود الأصل الموضوعي يرجع إليه، و مع عدمه فمقتضى الأصل عدم ترتب آثار الكبيرة عليها، لأنّها خصوصية زائدة على أصل الذنب، فيكون كما إذا علم بالجنس و شك في نوع خاص.
و عن جمع منهم صاحب الجواهر (رحمه اللّه) أنّ الأصل في كل معصية أن تكون كبيرة إلّا ما خرج بالدليل «لأنّ الأصل عدم تكفيرها، و لعموم الأمر بالتوبة من كل معصية إلّا ما علم أنّها صغيرة، و لا يعارض ذلك باستصحاب العدالة، لأنّا نقول إنّها عندنا اجتناب الكبائر في نفس الأمر و لا يتم ذلك إلّا باجتناب المشكوك فيه أنّه منها».
و الكلّ: مخدوش أما الأصل، فلا أصل له في مقابل العمومات و الإطلاقات الامتنانية الكثيرة الدالة على التكفير مثل إطلاق قوله تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ
۸۰، و ما ورد في الفرائض اليوميّة أنّها مثل، «الحكمة تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم و الليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن»۸۱.
إلى غير ذلك مما لا يحصى و لا يستقصي۸۲، فيستفاد منها و من سعة فضل اللّه و رحمته أنّ الأصل في كل ذنب التكفير إلّا ما خرج بالدليل، و يشهد له سياق قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ۸۳ إذ يستفاد منه أنّ كل ما لم يثبت كونه كبيرة يكون مكفرا، فالكبيرة عنوان خاص وجوديّ لا بد من إحرازه في ترتيب أثره، و الصغيرة تكون كل سيّئة لم تعنون بعنوان الكبيرة، و يصح إحراز عدم التعنون بهذا العنوان و لو بالأصل نعتيا كان أو أزليا.
و أما أنّ العدالة اجتناب الكبائر في نفس الأمر و لا يتم ذلك إلّا باجتناب المشكوك، فمخالف لظواهر الأدلّة- المتقدمة الواصلة إلينا في هذا الموضوع العام البلوى، لأنّ سياق جميعها أنّه يجب الاجتناب عما ثبت في الشرع كونه كبيرة، و في غيره يرجع إلى القواعد و الأصول المعتبرة الشرعية كما في سائر الموارد.
و يأتي بعض الكلام في القضاء و الشهادات إن شاء اللّه تعالى.
ثمَّ إنّه لو صدر من عادل كبيرة و شك في توبته، فمقتضى ظهور إيمانه تحقق الندم منها خصوصا بناء على جريان أصالة الصحة في أفعال الجوانح كجريانها في أفعال الجوارح، و سيأتي في [مسألة ٤] من الفصل اللاحق ما يرتبط بالمقام.
الخامس عشر: لا ريب في أنّ للثواب، و العقاب، و الغفران، مراتب متفاوتة جدّا و يمكن أن يؤثّر موجباتها في بعض المراتب دون بعض، لسعة فضل اللّه تعالى، و لقوله جلّ شأنه إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا۸4 هذا و لا ريب في
إنّ للعدالة أيضا مراتب متفاوتة جدّا كسائر الصّفات النفسانية، و مقتضى الإطلاقات و العمومات كفاية مسمّاها و إلّا لاختلّ النظام.
فما ورد في تفسيرها في الاحتجاج، و تفسير العسكري (عليه السلام): قال:
و هديه، و تماوت في منطقه، و تخاضع في حركاته فرويدا لا يغرّنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا و ركوب المحارم منها لضعف قيمته (بنيته) و مهانته و جبن قلبه، فنصب الدّين فخا لها فهو لا يزال يخيل (يحيل) الناس بظاهره، فإن تمكّن من حرام اقتحمه، و إذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويدا لا يغرنّكم، فإنّ شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبو عن الحرام و إن كثر، و يحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرّما، فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغرّنكم حتّى تنظروا ما عقد عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع، ثمَّ لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله، و إذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغرنّكم حتّى تنظروا مع هواه يكون على عقله، أو يكون مع عقله على هواه، و كيف محبته للرئاسات الباطلة و زهده فيها، فإنّ في الناس من خسر الدنيا و الآخرة بترك الدنيا للدنيا، و يرى أنّ لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال و النعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة- إلى أن قال- و لكن الرجل كل الرجل نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لأمر اللّه، و قواه مبذولة في رضاء اللّه، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عزّ الأبد من العز في الباطل- إلى أن قال- فذلكم الرجل نعم الرجل فبه فتمسكوا، و بسنّته فاقتدوا، إلى ربّكم به فتوسّلوا، فإنّه لا ترد له دعوة، و لا تخيب له طلبة»۸٥ يحمل على أنّه لبيان المرتبة الأخيرة على فرض اعتبار سند الرواية.
السادس عشر: لا فرق في الإصرار بين أن يكون على نوع واحد من الصغيرة أو على الأنواع المختلفة لتعليق الحكم على الصغيرة، و هي شاملة للجميع.
السابع عشر: الفرق بين العصمة و العدالة بعد اعتبار الاختيار في كل منهما
بالأدلة القطعية- كما ثبت في محلّه- أنّ الأولى منصب إلهيّ يعطيه اللّه تبارك و تعالى لمن يعلم أنّه يحفظ ذلك المنصب باختياره، بخلاف الثانية فإنّها اكتسابية كما هو معلوم و إن كان لتوفيقاته تعالى و عناياته دخل فيها أيضا.
الثامن عشر: أرسل في الجواهر- في كتاب الشهادات- إرسال المسلّمات أنّ التوبة من العبادات و يعتبر فيها قصد القربة، و على هذا لو تاب رياء أو بلا قصد القربة فلا توبة له، و مقتضى الأصل بقاء فسقه. و هو مخدوش، لأنّ التوبة و الاستغفار بذاته قربي كقراءة القرآن و الدعاء و الأذكار، فيكون الرياء مانعا لا أن تكون القربة شرطا.
ثمَّ إنّه (رحمه اللّه) قال في كتاب الشهادات أيضا: «التوبة لقبول الشهادة ليست توبة حقيقة، بل يمكن أن تكون فسقا آخر».
أقول: و كذلك التوبة لإقامة الجماعة أو غيرها مما تعتبر فيه التوبة لما تقدم من قصد القربة في التوبة بناء على اعتبار قصد القربة فيها، و كذا على ما قلناه، لأنّ هذا القسم من التوبة رياء و شرك و تدليس كما لا يخفى على أهله.
التاسع عشر: لا ريب في كون ما يستتبع الذنوب من قضاء الفوائت و أداء الحقوق واجبا، و هل هو شرط في صحة أصل التوبة بحيث لا تتحقق بدون الندم أم لا؟ وجهان مقتضى الأصل و الإطلاق هو الأخير، فتكون التوبة صحيحة بدونها و بها تصير أكمل و أتم، و عليه يحمل ما ورد في بعض الأخبار۸٦ في تفسير قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً۸۷.
و عن عليّ (عليه السلام) «إنّ التوبة تجمعها ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة، و للفرائض الإعادة، ورد المظالم، و استحلال الخصوم، و أن تعزم على أن لا تعود، و أن تذيب نفسك في طاعة اللّه كما ربيتها في المعصية، و أن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي»۸۸ و قد صرّح بما قلناه الشيخ البهائي في أربعينيته، و صاحب الجواهر في كتاب الشهادات.
العشرون: استحقاق الثواب بالطاعات و العقاب بالسيئات إنّما يتحقق بمجرّد صدور الفعل- كما هو واضح- و لكنّه قابل للتغيير بعد الموت، و من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات و من الطاعات ما يكفّر بعض السيئات و من المعاصي ما ينقل حسنات صاحبها إلى غيره، بل من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير إلى الإنسان، و من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الإنسان. ثمَّ إنّ من المعاصي ما يوجب تضاعف العقاب كمعاصي العلماء- و العياذ باللّه- و من الطاعات ما يوجب تضاعف الثواب كطاعتهم مع قطع النظر عن أنّ كل حسنة مضاعفة، لقوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها۸۹، و من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إلى غيره و يجذب حسنات الغير إليه، و من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير و يجذب سيئاته إليه، و يمكن الاستدلال لكل ذلك بالكتاب و السنة كما فصّلنا كل ذلك في تفسيرنا و من اللّه نستمد العون و التوفيق.
و لنشر إلى بعض ما قلناه في العدالة:
أعلى صفات نفسك العدالة |
|
لقربها من ساحة الجلالة |
خصّيصة اللّه العليّ الأعلى |
|
و نوره الّذي به تجلّى |
فكلّ مخلوق رأيت فعله |
|
فيه علامات تحاكي عدله |
فليكتسب هذا المقام العالي |
|
تقرّبا من مصدر الجلال |
جهادك النّفس جهاد أكبر |
|
و القتال بالسّيف جهاد الأصغر |
فهو الكمال المحض للإنسان |
|
دلّ عليه واضح البرهان |
فوازنوا أعمالكم بالعدل |
|
من قبل أن يأتي يوم الفصل |
و راقبوا حالاتكم في الدّنيا |
|
لكي تنالوا الدّرجات العليا |
و نبذ ما عدّ من الكبائر |
|
و هجر الإصرار على الصّغائر |
تزيّن الإنسان بالفضائل |
|
تحفظه عن دنس الرّذائل |
فليجتهد فيها جميع النّاس |
|
فإنّها المنجي بلا التباس |
عن حادثات نشأة الغرور |
|
و مهلكات عالم النّشور |
و الجدّ في مخالفات النّفس |
|
يرفعها إلى محلّ القدس |