لا بد من تأسيس الأصل عند الشك في ما يعتبر في الجماعة- إماما و مأموما و ايتماما- و إنّه هل هو البراءة أو الاحتياط؟ استدلّوا على الثاني بأمور:
منها: أصالة عدم ترتّب الأثر على الجماعة التي شك في اقترانها بفقد شرط أو وجود مانع.
و يرد عليه: إنّ الاجتماع في الصلاة و الجماعة ليست من الحقائق الشرعية و لا الموضوعات المستنبطة، بل من الأمور العرفية العقلائية التي حدّد الشارع فيها حدودا و قيّدها بقيود كسائر موضوعات الأحكام، كالسفر و الحضر و الكر و الإمساك و غير ذلك مما هو كثير جدّا في الفقه- كما تقدّم۱– فكلّما صدق الاجتماع للصلاة عرفا تشمله أحكام الجماعة إلا مع الدليل على الخلاف، مع أنّها لو كانت من الموضوعات الشرعية المحضة فهي موضوعة للأحكام المجعولة لها بما هي مبيّنة في الأدلّة بحدودها و قيودها لا بنحو الإهمال و الاجمال في مثل هذا الأمر الذي يعم به الابتلاء في كل يوم و ليلة فيرجع في القيود المشكوكة- شرطا كان أو مانعا- إلى
البراءة، كنفس الصلاة و غيرها من المجعولات الشرعية على ما جرت عليه سيرة فقهاء الفريقين في موارد الشك فيها.
و منها: أن تنزيل السبب الناقص منزلة التام لفقد شرط مشكوك الشرطية، أو وجود مانع كذلك مما لا تثبيته أدلّة البراءة، فلا تجرى من هذه الجهة، مع أن السببيّة و الشرطية و المانعية من الوضعيات فلا تكون من مجاري البراءة.
و يرد: بأنّا لا نحتاج إلى تنزيل السبب الناقص منزلة التام إذ هو أجنبي عن المقام رأسا، بل تجري البراءة أولا في نفس مشكوك الشرطية و المانعية فيسقط ما شك في شرطيته، و ما شك في مانعيته فلا تجب الإعادة أو القضاء بعد الاقتداء و الإتمام جماعة، و قد أثبتنا في الأصول عدم اختصاص البراءة بخصوص التكليفيات، بل تجري في الوضعيات أيضا فراجع فلا وقع لهذا الأمر أصلا.
و منها: أنّ البراءة لا تجري مع وجود الدليل، كما ثبت في محلّه، و الدليل هو قوله (عليه السلام): «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»۲ فلا تسقط الفاتحة فيما إذا شك في شرطية شيء في الجماعة أو مانعية شيء عنها، و مع وجوب الفاتحة لا وجه لانعقاد الجماعة للملازمة الشرعية بين الانعقاد و السقوط.
و يرد عليه- أولا: أنّه من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية، لدوران الأمر فيه بين الثبوت مع بطلان الجماعة و السقوط مع صحتها، فلا يجري الدليل حتّى يمنع عن جريان البراءة.
و ثانيا: أنّ دلالة قوله (عليه السلام): «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» على بطلان الجماعة تكون بالملازمة، و كون العام حجة في مثل هذه اللوازم مشكل، بل ممنوع. و ما اشتهر من أنّ الأمارات حجة في لوازمها بخلاف الأصول، لا كلية لهذه الشهرة، بل هو تابع المقدار دلالة القرينة المعتبرة عليه، فالمرجع أصالة عدم الحجية، و الاعتبار عند الشك فيهما مطلقا، سواء أ كان في المفاد المطابقي أم في اللازم العرفي.
و منها: إنّ المأموم مع وجود مشكوك المانعية عن الانعقاد، أو فقد مشكوك
الشرطية يعلم إجمالا إما بوجوب القراءة و ترتيب آثار صلاة المنفرد عليه، أو بوجوب المتابعة، و هو من موارد العلم الإجمالي بين المتباينين فيجب الاحتياط.
و يرد- أولا: أنّ بجريان البراءة: في المشكوك شرطيته أو مانعيته في الجماعة- يسقط العلم عن الأثر، فتصح الجماعة مع المتابعة.
و ثانيا، سيأتي أنّ المتابعة واجبة نفسا لا شرطا في صحة الجماعة، فتصح و لو مع المخالفة عمدا و إن أثم حينئذ، فتجري أصالة عدم تحمّل الإمام للقراءة و أصالة البراءة عن وجوب المتابعة على المأموم، و يقرأ، و تصح صلاته و جماعته مع بقاء الهيئة عرفا، بل و تصح الصّلاة و الجماعة مع عدم القراءة أيضا مع تحقق الاجتماع العرفي ما لم يكن دليل على الخلاف، و المفروض عدم تحققه، و هذا هو الذي تقتضيه سهولة الشريعة المقدسة في هذا الأمر العام البلوى في كلّ يوم و ليلة، بل لنا أن نتمسّك بالإطلاقات الواردة في الجماعة بالسنة شتّى على عدم اعتبار شيء فيها- شرطا أو مانعا- ما لم ينص عليه بالخصوص، كما هو الشأن في جميع الموضوعات العرفية التي تعلّقت بها الأحكام سيّما في الجماعة التي و رد فيها من التسهيلات ما لم ترد في غيرها، فبكلّ وجه أمكن للشارع أن يجر الأمة إلى الجماعة جرّهم إليها، و سيأتي مزيد بيان في رجوع المأموم إلى الإمام و بالعكس في الشكوك إن شاء اللّه تعالى:
فتلخّص أنّه لا مانع من الرجوع إلى البراءة في مشكوك الشرطية و المانعية في الجماعة إماما و مأموما و ائتماما، كما اختاره شيخنا الأنصاري (رحمه اللّه) فيكون حكم الجماعة حكم نفس الصّلاة من هذه الجهة، و قد تعرّضنا لجملة من الإطلاقات التي يمكن أن يستفاد ذلك منها، و هو الموافق لسهولة الشريعة مطلقا خصوصا في هذا الأمر العام البلوى بين جميع فرق المسلمين، و يؤيّده أنّه لم ينقل المداقة فيها عن أحد من المعصومين (عليهم السلام)، و لا من الرواة، كما لا يخفى على من تتبّع الروايات، هذا كلّه حكم الشك فيها حدوثا. و أما إذا كان بقاء فالمرجع هو الاستصحاب.