ينبغي الإشارة إلى أمور:
الأول: يقوم نظام بقاء الإنسان على حيازة المباحات و المعاوضات من أنحاء البيوع و الإجارات، و كذا الزراعة، و الحرف، و الصناعات، و يأتي في كتاب النكاح أنه أيضا كذلك، بل هو أهمها و ليس هذه كلها من الأمور التشريعية بل هي فطرية جبلية تنشأ من حب البقاء، و جلب المنفعة، و دفع المضرة إذا لا اختصاص لمثل الإجارة بملة دون أخرى و لا بقوم دون آخرين، بل هي معاملة نظامية بين الناس، لأن أصالة احترام العمل و المال من أهم أصولها و عليهما تدور جملة من الأحكام التي ضبطوها في الكتب الفقهية بالنسبة إلى المعاملات و ليس للشريعة اصطلاح خاص فيها و جعل مخصوص.
نعم، لها تحديدها بحدود و قيود ترجع تلك القيود الى المصالح النوعية أيضا، و على هذا فمعنى الإجارة من المعاني المرتكزة عند الناس في جميع الازمان و الأديان و لا يحتاج إلى إتعاب الفقيه نفسه في بيان هذا المعنى العام الابتلائي.
الثاني: قد أسلفنا مرارا أن شرح موضوعات الأحكام من أول الفقه الى آخره شروح لفظية اسمية، كشروح اللغويين لمعاني الألفاظ التي ضبطوها في كتبهم و قد اتفق الكل على أنه لا يعتبر في الشروح اللفظية أن تكون جامعة و مانعة فلا وجه لتزييفها و الإشكال عليها.
الثالث: لا ريب في ان عناوين المعاوضات و العقود لها اعتبارات.
الأول: لحاظها في حد نفسها أي: بمعنى اسم المصدر.
الثاني: لحاظها من حيث الصدور عن المسبب لها، أي: من حيث المصدر.
الثالث: لحاظها بآثارها الخاصة و لوازمها المخصوصة بها، و قد خلط القوم بين الجميع في تعريفاتهم فالإجارة بالاعتبار الأول: «اضافة مخصوصة و اعتبار خاص بين المستأجر و الأجير»، ملازم لآثار مخصوصة، و بالاعتبار الثاني:
«تمليك عمل أو منفعة بالعوض أو تسليط على العين للانتفاع بها».
و أشكل على الأول. تارة: بأن الإجارة تتعلق عرفا بالعين، فيقال: آجرتك الدار مثلا و لا تتعلق بالمنفعة، فلا يقال آجرتك منفعة الدار.
و أخرى: أن المنفعة معدومة و المعدوم لا يقبل التمليك و التملك مع انها قائمة بالأجير لا مالك الدار.
و ثالثا: بأن الإجارة قد لا تقتضي تمليك المنفعة كإجارة مخل لأن يحرز فيه الأعيان الزكوية، أو نماء الوقف فإن منفعة المحل حينئذ لا تصير مملوكة لشخص خاص، كما أشكل على الأخير بأنه لا بد من تخصيصه بالأعيان المملوكة و لا يعم عمل الحر، إذ الحر لا يسلط عليه بوجه.
و الكل مخدوش .. أما الأول: فلا ريب في أن الاستفادة من المنفعة و تمليكها و تملكها متوقفة على الاستيلاء على العين، فقول: «آجرتك الدار» يتضمن أمرين بالظهور المحاوري العرفي.
الأول: الاستيلاء على العين.
الثاني: تمليك المنفعة و الاستيلاء على العين مأخوذ بنحو الطريقية إلى تمليك المنفعة لا بنحو الموضوعية، كالبيع فإنه فيه أخذ بنحو الموضوعية عرفا و يتبعها الاستيلاء على المنفعة قهرا.
و بعبارة أخرى: المفاد المطابقي في الإجارة أولا و بالذات تمليك المنفعة و من لوازمه الاستيلاء على العين، و في البيع يكون بعكس ذلك.
و أما الثاني: فلأن المنفعة و إن كانت معدومة في الخارج و متدرجة الحصول، لكن يكفي في اعتبارها و تعلق الغرض العقلائي المعاملي بها تحقق منشأ اعتبارها عرفا، و لا ريب في تحققه و مقتضى العموم و الإطلاق و السيرة عدم اعتبار أزيد من ذلك، مع ان الاعتباريات خفيفة المؤنة جدا، مضافا إلى أن عدم المنفعة ليس من العدم المطلق حتى لا يصلح لكل شيء، بل من عدم الملكة الذي له نحو حظ من الوجود فيصلح لاعتبار شيء له كما ثبت في محله.
و أما الثالث: فلا ريب في أن الملكية أما شخصية، أو نوعية، أو جهتية، و الزكاة و ما يتعلق بها من الثاني، و الوقف و ما يتعلق به من الأخير، بل في نماء الوقف الخاص تتصور الملكية الخاصة أيضا، و أما أن المنفعة قائمة بالأجير فلا يضر بالمقصود لأن لمنفعة المال إضافات، الإضافة إلى المالك الأول لكونها منفعة ماله، و الإضافة إلى نفس المال إضافة العارض بالنسبة إلى معروضه، و الإضافة إلى الأجير إضافة الاستيفاء الصرف، و جميع هذه الإضافات صحيحة معتبرة لها آثار خاصة فهذا التعريف صحيح لا إشكال فيه من هذه الجهات.
و أما الأخير: فلا ريب في أن السلطة الملكية بحيث يصير مملوكا كالعبيد لا تكون لشخص على الحر عقلا، و شرعا، و عرفا و أما سلطة استيفاء الحق لمن له حق عليه، فلا ريب في ثبوتها عليه و السلطنة في المقام من هذا القبيل لا من السلطنة الملكية كما في العبيد، فهذا التعريف أيضا صحيح لا إشكال فيه.
و أما توهم أن السلطنة من الأحكام المترتبة على الأموال و الحقوق، فليست هي نفس حقيقة الإجارة (لا وجه له) إذ يكفي في التعاريف اللفظية كون المعرف (بالكسر) من اللوازم العرفية للمعرف (بالفتح)، و إن لم يكن ذاتيا له.
و لنكتف بهذا المقدار في المقام حتى لا يرد علينا ما أوردناه على الأعلام من ان الشروح الاسمية لا وجه للإشكال عليها.
و أما ما عن بعض مشايخنا۱ من: «انها جعل العين في الكرى» فهو صحيح، و لكن لو بدل: «جعل ما يصح أن ينتفع به في الكرى» لكان أولى ليشمل الاستيجار على الذمة مع عدم اعتبار المباشرة.
الرابع: عناوين العقود- كالإجارة و البيع و نحوهما- مفاهيم لها معان واقعية غير متقومة بالإنشاء، و لا الاخبار، و لا الوجود، و لا العدم كمفاهيم سائر الألفاظ.
نعم، تتصف عناوين العقود لكل ذلك بحسب اللحاظ الخارج عن مرتبة المفهومية، فقد يكون مفهوم البيع و الإجارة إنشائيا كما قد يتصف بالاخبارية و بالوجود و العدم و هكذا.
و منه يظهر أن العهد و جعل القرار الإجاري بين الطرفين شيء، و اللفظ و الفعل المنشأ بهما تلك المعاهدة شيء آخر، و لا ربط لأصلهما بذلك العهد و القرار فضلا عن خصوصية كون اللفظ حقيقة أو مجاز، أو ماضيا أو غيره.
نعم، للّفظ و الفعل جهة الإبراز عن ذلك العهد و القرار فقط، و يصح الإبراز و الإظهار بكلما تكون فيه هذه الحيثية و الجهة ما لم يدل دليل على الخلاف.