أما الحكم ببقاء النجاسة، فللاستصحاب. وأما اعتبار العلم الوجداني في الطهارة، فبضرورة الدّين، بل العقلاء. ويكفي الاطمئنان المعتبر بالطهارة وإن لم يصل إلى حدّ العلم، لحجية الاطمئنان، بل هو المراد بالعلم في الكتاب والسنة كما تقدم مكرّرا. وأما الأخير فللإجماع بل الضرورة الفقهية ولرواية مسعدة ابن صدقة(۱).
(فصل إذا علم بنجاسة شيء) يحكم ببقائها ما لم يثبت تطهيره. وطريق الثبوت أمور: «الأول»: العلم الوجداني. «الثاني»: شهادة العدلين (۱) بالتطهير أو بسبب الطهارة، وإن لم يكن مطهّرا عندهما أو عند أحدهما، كما إذا أخبرا بنزول المطر على الماء النجس بمقدار لا يكفي عندهما في التطهير، مع كونه كافيا عنده، أو أخبرا بغسل الشيء بماء يعتقدان أنّه مضاف وهو عالم بأنّه ماء مطلق، وهكذا (۲).«الثالث»: إخبار ذي اليد وإن لم يكن عادلا (۳). «الرابع»: غيبة المسلم على التفصيل الذي سبق. «الخامس»: إخبار الوكيل في التطهير بطهارته (٤). «السادس»: غسل مسلم له بعنوان التطهير وإن لم يعلم أنّه غسله على الوجه الشرعي أم لا حملا لفعله على الصحة.«السابع»: إخبار العدل الواحد عند بعضهم لكنّه مشكل (٥).
لأنّ المناط في حجية الحجج مطلقا كونها ذات أثر عند من قامت لديه، للسيرة، ولصدق قيام الحجة لديه، فتشمله إطلاقات أدلة اعتبارها وحجيتها.
لما تقدم من اعتبار اليد في [مسألة ٦] من فصل ماء البئر(۲).
أخبار الوكيل في التطهير معتبرة من جهة قاعدة اليد، فلا بد وأن يكون ما أخبر بطهارته تحت استيلائه، وإن لم يكن كذلك وكان عادلا، فهو من أخبار العدل الواحد، فيجري فيه ما تقدم. والا فلا اعتبار بقوله، إلا إذا حصل منه الاطمئنان العقلائي، والا فنفس الوكالة من حيث هي لا موضوعية فيها، وهذا هو مراد صاحب الجواهر حيث قال:
«للسيرة المستمرة القطعية في سائر الأعصار والأمصار المأخوذة يدا بيد في تطهير الجواري والنساء ونحوهنّ ثياب ساداتهنّ ورجالهنّ، بل لعلّ ذلك من الضروريات».
و من ذلك تحدث قاعدة، وهي: «كلّ ذي عمل مؤتمن على عمله» وإنّها من القواعد العامة المعمول بها في أبواب متفرقة، بل الظاهر كونها متعارفة بين الناس، فيكفي عدم ثبوت الردع، مع أنّه قد ورد التقرير من ظهور الإجماع، وحمل فعل المسلم على الصحة، وما ورد في القصارين(۳)، والجزارين(4)، والجارية المأمورة بغسل ثوب سيدها(٥)، وأنّ الحجام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة(٦).
و يمكن أن يستدل عليها بما دل على اعتبار اليد أيضا(۷)، إذ المراد بها الاستيلاء على الشيء بأيّ وجه كان، فكلّ من استولى على شيء قوله معتبر فيه وهو مؤتمن، فهذه أخصّ من قاعدة اليد. ولولاها لاختلّ النظام، وتعطلت الأحكام. وفيها فروع نتعرض لها في الموارد المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.
إن لم يحصل منه الاطمئنان المتعارف، والا فيعتمد عليه، لاعتبار الاطمئنان، وبذلك يجمع بين الكلمات، فمن اعتبره أراد به صورة حصول الاطمئنان. وما نسب إلى المشهور من عدم الاعتبار أرادوا به صورة عدم حصوله، وتقدم في [مسألة ٦] من فصل ماء البئر بعض الكلام.
(مسألة ۱): إذا تعارض البينتان أو إخبار صاحبي اليد في التطهير وعدمه تساقطا (٦) ويحكم ببقاء النجاسة، وإذا تعارض البينة مع أحد الطرق المتقدمة ما عدا العلم الوجداني تقدم البينة (۷).
لأصالة التساقط في كلّ طريقين تعارضا من تمام الجهات ولم يكن مرجح في البين. هذا مع عدم استناد بينة العدم إلى الأصل، وعدم شهادته بالنفي المحض، والا فتقدم بينة التطهير. وكذا في أخبار صاحبي اليد.
ثمَّ إنّه مع تساوي البينتين من جميع الجهات لا يبعد ترجيح بينة التطهير بقاعدة الطهارة وسهولة الشريعة، وبنائها على التسهيل في الطهارة.
على تفصيل تقدم آنفا في تعارض البينتين. وإن تساوى بعض الطرق المتقدمة مع البينة من كلّ جهة وتعارضا، يشكل تقديم البينة، لفرض أنّ الطريق الآخر حجة معتبرة شرعا أيضا.
و دعوى: أنّ دليل حجيته مقيد بعدم وجود البينة في البين. بلا شاهد.
نعم، لو كانت حجية البينة أقوى من حجية سائر الحجج، يمكن القول بتقديمها، ويأتي التفصيل في كتاب القضاء.
(مسألة ۲): إذا علم بنجاسة شيئين، فقامت البينة على تطهير أحدهما غير المعيّن، أو المعيّن واشتبه عنده، أو طهّر هو أحدهما ثمَّ اشتبه عليه، حكم عليهما بالنجاسة عملا بالاستصحاب (۸)، بل يحكم بنجاسة ملاقي كلّ منهما، لكن إذا كانا ثوبين وكرّر الصلاة فيهما صحت.
يجب الاحتياط عملا بالعلم الإجمالي، وجريان الاستصحاب فيهما معا ثبوتا لا وجه له، لإحراز نقض الحالة السابقة في الجملة فكيف يبنى عليها فيهما معا، بلا فرق فيه بين كون الحالة السابقة فيهما النجاسة ثمَّ علم إجمالا بالطهارة، أو كونها الطهارة فعلم إجمالا بالنجاسة، فلا موضوع لجريان الأصل في جميع الأطراف ثبوتا على أيّ تقدير. وكذا إثباتا، لعدم تمامية أركان الاستصحاب بالنسبة إلى تمام الأطراف، للعلم بالخلاف، وبالنسبة إلى المردد من حيث الترديد لا وجه لجريانه، لعدم تحقق المردد لا خارجا ولا ذهنا، فكيف يتعلق به اليقين السابق والشك اللاحق. وكذا لا وجه لجريانه بالنسبة إلى طرف مخصوص، لأنّه من الترجيح بلا مرجح، والاستصحاب بالنسبة إلى كلّي النجاسة فيما إذا كانت الأطراف مسبوقة بها لا مانع منه، لوجود المقتضي وفقد المانع.
و لكن نفس العلم الإجمالي بوجود نجس في البين يغني عن جريانه، فيجب الاحتياط لأجله بلا حاجة إلى التمسك بالأصل.
و لو كانت الأطراف مسبوقة بالطهارة وعلم إجمالا بعروض النجاسة في الجملة في أحد الأطراف، لا يجري استصحاب الطهارة في المردد، ولا المعيّن، لما تقدم. بل ولا استصحاب الكلّي، لعدم أثر عمليّ له، لأنّ العلم الإجمالي بوجود النجس في البين يقتضي الاحتياط، وقد تعرضنا في الأصول إلى بعض ما يتعلق بالمقام، فراجع.
ثمَّ إنّ الجزم بوجوب الاجتناب عن ملاقي كلّ منهما مع العلم بفساد أحد الاستصحابين لا وجه له، فيكون المقام من ملاقي الشبهة المحصورة الذي حكم رحمه اللّه فيه بعدم وجوب الاجتناب في [مسألة ٦] من فصل الماء المشكوك. وتمامية أركان الاستصحاب في كلّ واحد من الأطراف ظاهرا- على فرض تسليمه- لا تنفع مع العلم بالخلاف في البين إجمالا، وقد تقدم في تلك المسألة ما ينفع المقام فراجع.
ثمَّ إنّ صحة الصلاة مع تكرارها في الثوبين وعدم التمكن من تحصيل الثوب الطاهر لا إشكال فيها، لأنّ من يقول بتقدم الامتثال التفصيلي على الإجمالي يقول به مع التمكن منه، دون ما إذا لم يتمكن. وأما مع التمكن فالمسألة من موارد صحة الامتثال الإجمالي مع التمكن التفصيلي، وتقدم مرارا جوازه، وإن كان خلاف الاحتياط.
(مسألة ۳): إذا شك بعد التطهير وعلمه بالطهارة، في أنّه هل أزال العين أم لا؟ أو أنه طهّره على الوجه الشرعي أم لا؟ يبني على الطهارة (۹)، الا أن يرى فيه عين النجاسة ولو رأى فيه نجاسة، وشك في أنّها هي السابقة أو أخرى طارئة بنى على أنّها طارئة (۱۰).
لقاعدة الصحة، هذا إذا كان بانيا على إزالة العين والتطهير الشرعي.
و أما إذا كان غافلا بالمرّة، فيشكل الحكم بالتطهير، للشك في جريان القاعدة حينئذ، فيجري استصحاب النجاسة بلا مانع. وكذا الكلام فيما إذا شك في أنّها طارئة أو سابقة، فمع إحراز الالتفات ولو في الجملة تجري قاعدة الصحة في الغسل ويبنى على أنّها طارئة. ومع عدمه فالمرجع هو الاستصحاب بلا مانع، إلا إذا قلنا بجريان القاعدة حتّى في صورة الغفلة وعدم الالتفات، لأنّها من القواعد التسهيلية الامتنانية فتعتبر مع الغفلة أيضا.
لجريان قاعدة الصحة بالنسبة إلى النجاسة السابقة، فلا موضوع للبناء على كونها السابقة.
(مسألة ٤): إذا علم بنجاسة شيء، وشك في أنّ لها عينا أم لاله أن يبني على عدم العين (۱۱)، فلا يلزم الغسل بمقدار يعلم بزوال العين على تقدير وجودها، وإن كان أحوط.
لأنّها مسبوقة بالعدم فيجري استصحاب عدم حدوثها، فلا يجب الغسل بمقدار يعلم بزوالها على فرض حدوثها وليس هذا من الأصول المثبتة بدعوى: أنّ استصحاب عدم حدوث العين يثبت النجاسة الحكمية، فيكون مثبتا ولا اعتبار به، إذ لا نحتاج إلى إثبات النجاسة الحكمية، بل الأثر- وهو عدم وجوب الغسل بمقدار يعلم بزوال العين على فرض حدوثها- مترتب على نفس أصالة عدم حدوث العين من دون حاجة إلى إثبات شيء آخر، نعم، لو رجع الشك إلى عدم تحقق الغسل الشرعي جرى فيه التفصيل المتقدم.
(مسألة ٥): الوسواسي يرجع في التطهير إلى المتعارف، ولا يلزم أن يحصل له العلم بزوال النجاسة (۱۲).
لأنّ تحصيل علمه من إطاعة الشيطان، كما في صحيح ابن سنان(۸) وهي منهيّ عنها.
- الوسائل باب: 4 من أبواب ما يكتسب به، حديث: 4 ج ۱4.
- راجع ج: ۱ صفحة ۲۳۲.
- لوافي: كتاب الطهارة باب التطهير من مس الحيوانات حديث: ۲۱.
- الوسائل باب: ۲۹ من أبواب أحكام الذبائح حديث: ۱.
- الوسائل باب: ۱۸ من أبواب النجاسات حديث: ۱.
- الوسائل باب: ٥٦ من أبواب النجاسات حديث: ۱.
- ج ۱ صفحة: ۲۳۲.
- الوسائل باب: ۱۰ من أبواب مقدمة العبادات حديث: ۱.