لا ريب في وجوب أصل الجمعة في الجملة بالأدلة الثلاثة فمن الكتاب قوله تعالى إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ۱، و من السنة نصوص متواترة تأتي الإشارة إلى بعضها، و أما الإجماع، فليس بين المسلمين خلاف في ذلك إنّما الخلاف في جهات:
الجهة الأولى: هل هي واجب مطلق- كوجوب صلاة العصر مثلا- حتى يجب على كل مكلف تحصيل شرائطها، أو واجب مشروط ببسط يد المعصوم عليه السّلام حتى لا يجب على الناس بدون حصول شرطه؟.
الجهة الثانية: بناء على الاشتراط ببسط يد المعصوم عليه السّلام هل تكون مشروعة مع فقد هذا الشرط أو لا؟.
الجهة الثالثة: بناء على المشروعية هل تسقط بإتيانها صلاة الظهر أو لا؟.
أما الجهة الأولى: فالمشهور اشتراطها بإذنه عليه السّلام و عدم الوجوب العينيّ لها.
و استدلوا عليه أولا: بأنّ مقتضى الأصل عدم الوجوب مطلقا إلا فيما هو المتيقن من مورد الأدلة و هو صورة بسط اليد.
و ثانيا: بالإجماعات المدعاة على الاشتراط التي يقطع منها برأي المعصوم.
و ثالثا: بالسيرة المستمرّة من الفقهاء الأساطين على عدم الإتيان التي اعترف بها من ذهب إلى الوجوب العينيّ أيضا.
و رابعا: أنّه لم ينقل أحد مواظبة أحد من المعصومين عليهم السّلام في زمان عدم بسط يدهم و لا أحد من أصحابهم على هذه الفريضة و لا وجه لذلك مع كونها من الفرائض العينية كما هو واضح.
و خامسا: استقرار سيرة النبي صلى اللّه عليه و آله و الخلفاء من بعده على تعيين شخص لإمامة الجمعة، كما كانوا يعيّنون شخصا لمنصب القضاء، فلو كانت فريضة عينية على كل شخص لما استقرت السيرة على اختصاص إقامتها بشخص خاص، بل تستقر على إقامتها في كل محل و يسعون في تحصيل شرائطها كما يكون كذلك بالنسبة إلى سائر الفرائض.
و سادسا: ظاهر جملة من الأخبار عدم الوجوب العينيّ لها منها: صحيح محمد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجمعة فقال عليه السّلام: تجب على كل من كان منها على رأس فرسخين، فإن زاد على ذلك فليس عليه شيء»۲، و قوله عليه السّلام أيضا في صحيح الفضل بن عبد الملك قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا كان قوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم من يخطب لهم جمعوا إذا كانوا خمس نفر، و إنّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين»۳، عن عليّ عليه السّلام: «لا جمعة، إلا في مصر تقام فيه الحدود»4.
و في موثق ابن بكير قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوم في قرية ليس لهم من يجمع بهم، أ يصلون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟ قال: نعم، إذا لم يخافوا»٥ إلى غير ذلك من الأخبار الظاهرة في نفي الوجوب العيني، و أنّها من المناصب الخاصة، فإنّها لو كانت من الواجبات العينية لم يكن وقع لهذا السؤال و لا لجواب الإمام عليه السّلام بل وجب على الناس تحصيل شرائطها من الإمام و الخطبة كفاية، و احتمال حمل مثل هذه الأخبار على صورة عدم التمكن أو على التقية خلاف ظاهرها خصوصا مثل موثّق سماعة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة يوم الجمعة، فقال: أما مع الإمام فركعتان، و أما لمن صلّى وحده فهي أربع ركعات، و إن صلوا جماعة»٦، فإنّها كالنص في عدم الوجوب العيني.
و منها: ما تدل على أنّ للإمام عليه السّلام أن يرخص الناس في ترك الجمعة إن اجتمعت مع أحد العيدين، لقول أبي عبد اللّه عليه السّلام في خبر الحلبي: «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفطر و الأضحى، إذا اجتمعا في يوم الجمعة، فقال عليه السّلام: اجتمعا في زمان عليّ عليه السّلام فقال: من شاء أن يأتي إلى الجمعة فليأت، و من قعد فلا يضرّه، و ليصلّ الظهر- الحديث-»۷ و لا وجه لمثل هذه الأخبار مع الوجوب العينيّ أبدا.
و منها: الأخبار الدالة على أنّ الجمعة من مناصب الإمام عليه السّلام كقولهم: «لنا الخمس و لنا الأنفال و لنا الجمعة و لنا صفو المال»۸ و لو كانت مثل فريضة المغرب و العشاء بطلت هذه التعبيرات خصوصا مثل النبويّ «الجمعة، و الحكومة لإمام المسلمين»۹.
و خلاصة الكلام أنّه قد دلت الروايات۱0 على أنّ الخطبتين بدل عن الركعتين من الظهر، و مقتضى الأصل عدم سقوط المبدل إلا بدليل صريح و لا دليل كذلك يدل على التعيين.
و استدل على الوجوب العينيّ تارة: بقوله تعالى إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ۱۱. و فيه: أنّه مع قرب احتمال أن يكون المنادي منصوبا من قبل المعصوم عليه السّلام لا وجه للاستدلال بإطلاقه، لأنّه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
و أخرى: بالمستفيضة الدالة على وجوب الجمعة، منها: قول أبي جعفر عليه السّلام في الصحيح: «الجمعة واجبة على من إن صلّى الغداة في أهله أدرك الجمعة»۱۲.
و فيه: أنّها لا تدل على أزيد من أصل الوجوب، و أما كيفية الوجوب و أنّه تخييريّ أو تعيينيّ و أنّ الإذن هل يكون شرطا للوجوب أو للصحة؟ فلا يستفاد شيء من ذلك من مثل هذه الإطلاقات خصوصا مع ملاحظة سائر الروايات، حيث إنّ في بعضها قرائن على الاستحباب كصحيح زرارة قال: «حثنا أبو عبد اللّه عليه السّلام على صلاة الجمعة حتى ظننت أنّه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: لا، إنّما عنيت عندكم»۱۳ لأنّ الحث و الترغيب لا يكون إلا في المندوبات غالبا، مع ظهوره في أنّ زرارة لم يكن يواظب عليها، و إشعار «ظننت أنّه يريد ..» أنّها من وظائف الإمام، و مثله قول أبي جعفر عليه السّلام في موثق عبد الملك: «مثلك يهلك و لم يصل فريضة فرضها اللّه قال: قلت كيف أصنع؟
قال: صلوا جماعة يعني صلاة الجمعة»۱4، فإنّ ظهوره في أنّه كان لم يواظب على إتيانها مما لا ينكر و كان تلهف الإمام عليه السّلام على أنّ أصحابه لا يوفقون لهذه الفريضة لعدم بسط يده عليه السّلام.
إن قلت: قد ثبت الإذن لنواب الغيبة بمثل قوله عليه السّلام: «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواه حديثنا، فإنّهم حجتي عليكم- الحديث-۱٥ فتجب حينئذ.
قلت: الإذن في إقامتها و إقامة الحدود ملازم لبسط اليد عرفا، و مع عدمه في الإذن فكيف بالمأذون لا وجه له أصلا كما هو معلوم لدى الخبير.
ثمَّ إنّ لبسط اليد مراتب متفاوتة جدا و ليس صرف وجوده موجبا لثبوت الوجوب العينيّ، و المنساق منه ما كان للنبيّ صلى اللّه عليه و آله في زمان حياته و لم يتفق ذلك لعليّ عليه السّلام في زمان خلافته الظاهرية، لعدم تمكنه عليه السّلام من إزالة جملة من البدع، فما حال أولاده المعصومين عليهم السّلام فضلا عن فقهاء عصر الغيبة؟!!.
ثمَّ إنّه لو تمكن فقيه من تحصيل بسط اليد بالتوسل إلى حاكم الجور هل يجب عليه ذلك، و هل تجب الجمعة بعد ذلك؟ مقتضى الأصل العدم بعد انصراف الأدلة عنه فتأمل، فإنّ المسألة غير منقحة، بل غير مذكورة في كلامهم.
أما الجهة الثانية: فالمشهور جوازها، بل استحباب الإتيان بها لمثل ما تقدم من صحيح زرارة، و موثق عبد الملك، و عن جمع من القدماء و المتأخرين الحرمة لأنّها عبادة توقيفية تقصر الأدلة الواردة عن إثبات شرعيتها بلا إذن منهم عليهم السّلام.
و فيه: أنّ مثل ما تقدم من صحيح زرارة و موثق عبد الملك يكفي في الجواز، فالحرمة بلا دليل و ما استدل به لها عليل، و نعم ما قال في الجواهر:
«إنّ القول بالوجوب و الحرمة إفراط و تفريط» فراجع كلامه.
أما الجهة الثالثة: فمقتضى قاعدة الاحتياط، و ما هو المشهور- من أصالة الاحتياط في دوران الأمر بين التعيين و التخيير- عدم جواز الاكتفاء بصلاة الجمعة مع عدم بسط اليد مطلقا سواء كان في عصر الحضور أم الغيبة إلا مع تصريح خاص من المعصوم بالاكتفاء.
إلا أن يقال: إنّ وجوب هذا الاحتياط إنّما هو مع قطع النظر عن العلم بعدم تشريع صلاتين في ظهر يوم الجمعة، و أما مع ملاحظة هذا العلم القطعي و جواز صلاة الجمعة شرعا فلا يبقى موضوع لوجوب هذا الاحتياط و لذا ذهب جمع من الفقهاء إلى أولوية الاحتياط و رجحانه. مع أنّ أصل التعيين في دوران الأمر بين التعيين و التخيير محل البحث و إن نسب ذلك إلى المشهور.
هذا كله خلاصة ما فصله الفقهاء في هذه المسألة و من أراد التفصيل فليرجع إلى كتبهم التي ألفت في هذه المسألة خصوصا الجواهر، و مصباح الفقيه رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين.