البحث في وجوبهما تارة من حيث الأصل العملي، و أخرى من حيث الدليل اللبي، و ثالثة من حيث الاعتبارات المأنوسة، و رابعة من حيث الأخبار التي هي العمدة.
أما الأول: فقد استقر المذهب على أنّ المرجع في الشك في الوجوب هو البراءة بلا فرق بين الوجوب النفسي و الغيري، إذ الأخير من موارد الأقلّ و الأكثر الذي حقق في محلّه أنّ المرجع فيها البراءة، و الأول من الشك في أصل التكليف الذي اتفق النص و الفتوى فيه إلى الرجوع إلى البراءة العقلية و النقلية.
و أما الثاني: فالظاهر أنّه لا وجه للإجماع في مثل هذه المسألة التي كثر الخلاف فيها، و المقطوع به أنّ الفتاوى إنّما حصلت من الأخبار التي بأيدينا لا أن يكون قد وصل إلى المتقدمين ما لم يصل إلينا فلا وجه للإجماع أصلا.
و أما الثالثة: فلا ريب في أنّه لو كانا أو أحدهما واجبا لاشتهر في هذا الأمر العام البلوى في كلّ يوم و ليلة مرات عديدة عند جميع المسلمين، كاشتهار الطهارة و القبلة و وجوب الفاتحة في الصلاة، إذ لا يتصوّر وجه لخفائه و إخفائه حتّى تصل النوبة إلى اجتهادات الفقهاء، و ليس ذلك مما تتوفر الدسائس في خفائها و إخفائها.
و أما الأخيرة و هي أقسام:
الأول: ما هو ظاهر في عدم وجوب الأذان و الإقامة مطلقا، و هي أخبار كثيرة، جملة منها مشتملة على هذا المضمون: «إذا أذنت و أقمت صلّى خلفك صفان من الملائكة، و إذا أقمت صلّى خلفك صف من الملائكة».
كصحاح الحلبي٥و محمد بن مسلم٦، و غيرهما. و في بعضها:
«من أذن و أقام صلّى خلفه صفّان من الملائكة، و إن أقام بغير أذان صلّى عن
يمينه واحد و عن شماله واحد، ثمَّ قال: اغتنم الصفين».
كما في خبر العباس بن هلال۷. و ظهور مثل هذه التعبيرات في الاستحباب مما لا ينكر، إذ لو كانا واجبين- نفسا أو شرطا- لأشار عليه السلام إلى العقاب على المخالفة أو بطلان الصلاة معها، مع انه عليه السلام لم يشر إلى شيء منها و قال: «اغتنم الصفين» إشارة إلى درك الفضيلة فقط.
و يمكن أن تكون هذه الأخبار حاكمة على جميع أخبار الباب لكونها مشتملة على الحكمة فقط في تشريعهما، ففي خبر زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل نسي الأذان و الإقامة حتّى دخل في الصلاة، قال عليه السلام: فليمض في صلاته، فإنّما الأذان سنة»۸.
و المتبادر منه السنة بمعنى الندب لا ما ثبت تشريعه بغير القرآن إلا مع القرينة و هي مفقودة.
الثاني: ما يظهر منها الوجوب مطلقا كموثق عمار قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لا بد للمريض أن يؤذن و يقيم إذا أراد الصلاة و لو في نفسه إن لم يقدر على أن يتكلم به. سئل فإن كان شديد الوجع؟ قال عليه السلام: لا بد من أن يؤذن و يقيم، لأنّه لا صلاة إلا بأذان و إقامة»۹.
و في موثقة الآخر عنه عليه السلام: «إذا قمت إلى صلاة فريضة فأذن و أقم، و افصل بين الأذان و الإقامة بقعود أو بكلام أو بتسبيح»۱۰.
و يظهر من بعض الأخبار الوجوب في الجملة أيضا، كقول أبي عبد اللّه عليه السلام في موثق سماعة: «لا تصلّ الغداة و المغرب إلا بأذان و إقامة، و رخص في سائر الصلوات بالإقامة و الأذان أفضل»۱۱.
و في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: «أدنى ما يجزي من الأذان أن تفتح الليل بأذان و إقامة، و تفتتح النهار بأذان و إقامة، و يجزيك في سائر الصلوات بغير أذان»۱۲.
و في صحيح صفوان بن مهران عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «و لا بد في الفجر و المغرب من أذان و إقامة في الحضر و السفر- الحديث-»۱۳.
(و فيه): أنّها معارضة بما دل على الترخيص في ترك الأذان مطلقا أو في الجملة، كصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرجل هل يجزيه في السفر و الحضر إقامة ليس معها أذان؟ قال عليه السلام: نعم، لا بأس به»۱4.
و صحيح ابن سنان عنه عليه السلام أيضا: «يجزيك إذا خلوت في بيتك إقامة واحدة بغير أذان»۱٥.
و صحيح الحلبي عنه عليه السلام أيضا عن أبيه عليه السلام: «أنّه كان إذا صلّى وحده في البيت أقام إقامة و لم يؤذن»۱٦.
و يظهر منه استمراره عليه السلام على ذلك، و ظاهر الصحيح الأول عدم الفرق بين المنفرد و الجامع إلى غير ذلك من الأخبار الظاهرة في عدم وجوب الأذان و الترخيص في تركه، و الجمع بين هذه الأخبار و بين ما يظهر منها الوجوب مطلقا أو في بعض الصلوات كالمغرب و الصبح و الجماعة هو الحمل على الفضيلة و لها مراتب متفاوتة، فيكون الفضل بالنسبة إلى المغرب و الغداة و الجماعة أشد بالنسبة إلى غيرها من الصلوات، مع أنّ اشتمال موثق عمار على المندوب من الفصل بين الأذان و الإقامة يوهن استفادة الوجوب عنه، و بعد هذا الجمع العرفي المقبول بالنسبة إلى الأذان لا وجه لاستفادة وجوب الإقامة أيضا، لأنّ قوله عليه السلام في موثق سماعه: «لا صلاة إلا بأذان و إقامة»۱۷، و قوله عليه السلام: «لا تصلّ
الغداة و المغرب إلا بأذان و إقامة»۱۸.
لا يبقى ظهور في وجوب الأذان و الإقامة أو حرمة تركهما في المغرب و الغداة بعد ملاحظة غيرهما من الأخبار، لأنّ الأمر في مثل هذه التعبيرات يدور بين حملها على نفي الكمال بالنسبة إليهما، أو نفي الكمال بالنسبة إلى الأذان و نفي الحقيقة بالنسبة إلى الإقامة، أو نفي الحقيقة بالنسبة إليهما فلا وجه لاستفادة الوجوب مطلقا، لتعدد الاحتمالات، بل المتعيّن هو الاحتمال الأول، لما تقدم من الأخبار في القسم الأول.
فظهر من ذلك بطلان القول بوجوبهما حتّى للمغرب و الغداة، مع أنّه قد عبّر فيهما بلفظ «لا ينبغي» كما يأتي في خبر أبي بصير.
القسم الثالث من الأخبار: المستفيضة الدالة على أنّ الإقامة أقلّ المجزي، كقوله عليه السلام: «و يجزيك في سائر الصلوات إقامة بغير أذان»۱۹ و قريب منها غيرها من الروايات إليه.
فتدل على وجوب الإقامة في جميع الفرائض.
(و فيه): أنّ المراد بها الاجتزاء في الخروج عن عهدة التكليف الشرعي واجبا كان أو مندوبا، و يستعمل هذا التعبير في المندوبات كثيرا، ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: «أقلّ ما يجزيك من الدعاء بعد الفريضة أن تقول- الحديث-»۲۰.
و عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «يجزيك من الاضطجاع بعد ركعتي الفجر القيام- الحديث-»۲۱.
و في خبر ابن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «يا إسحاق إنّ القليل من
الغالبة يجزي»۲۲.
إلى غير ذلك من الأخبار، فليس لأحد أن يتمسك بهذه الأخبار على عدم إجزاء الصلاة بترك الإقامة. نعم، لا تجزي بالنسبة إلى مرتبة من الفضيلة لا بالنسبة إلى سقوط الأمر و التكليف.
القسم الرابع: الأخبار الدالة على نفي الأذان و الإقامة للنساء۲۳، و تدل بالمفهوم على ثبوتهما للرجال.
(و فيه): أنّ النفي أعم من عدم الوجوب و عدم تأكد الرجحان بعد العلم بعدم إرادة نفي المشروعية و المتيقن هو الثاني، مع أنّه من مفهوم اللقب، فلا تدل هذه الأخبار إلا على تأكيد الرجحان للرجال، كما ورد في نفي الجماعة و التشييع و نحوهما للنساء.
الخامس: ما تدل على مراعاة شرائط الصلاة في الإقامة- من الطهارة و القبلة و غيرهما۲4 مما يأتي.
(و فيه): أنّه لا ينافي أصل الاستحباب، كما في الصلوات المندوبة و التعقيب و نحوهما.
السادس: ما تدل على قطع الصلاة لتدارك الإقامة۲٥.
(و فيه): أنّ كشفها عن الأهمية مسلّمة، و أما الوجوب فلا، و يأتي إن شاء اللّه تعالى في فصل عدم جواز قطع الفريضة، جواز قطعها لبعض الأمور الجائزة فراجع، فليكن المقام منها أيضا.
السابع: ما دل على أنّ الإقامة من الصلاة، كخبر أبي هارون المكفوف قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «يا أبا هارون الإقامة من الصلاة فإذا أقمت فلا
تتكلّم و لا تومئ بيدك»۲٦.
و في خبر يونس عليه السلام أيضا: «إذا أقمت الصلاة فأقم مترسلا فإنّك في الصلاة»۲۷. و نحوهما غيرهما.
(و فيه): أنّه لا إشكال في أنّ مثل هذه الأخبار يكشف عن كمال الاهتمام بالإقامة، و لكن بعد ملاحظتها مع ما مر من الأخبار لا ظهور لها في الوجوب، و ليس طريق الاستنباط أن يقصر النظر على خبر واحد و يغمض عن سائر ما ورد من أنّ الصلاة أولها التكبيرة و آخرها التسليمة، و ظهوره بل نصوصيته في خروج الإقامة عن الصلاة مما لا ينكر.
و خلاصة القول: إنّ استفادة الأهمية خصوصا للإقامة، و خصوصا للمغرب و الصبح و الجماعة مما لا ينكر. و أما الوجوب فلا يستفاد من الأدلة بالنسبة إلى شيء منها، فهو بلا دليل، بل و كذا الاحتياط الوجوبي، فالمقام نظير ما ورد في قراءة القرآن و الدعاء و التعقيب و نحوها من الترغيبات الأكيدة، فراجع و تأمل.
و استدل لوجوبهما للجماعة بخبر أبي بصير عن أحدهما عليه السلام:
«سألته أ يجزي أذان واحد؟ قال عليه السلام: إن صلّيت جماعة لم يجز إلا أذان و إقامة و إن كنت وحدك تبادر أمرا تخاف أن يفوتك يجزئك إقامة إلا الفجر و المغرب، فإنّه ينبغي أن تؤذن فيهما و تقيم، من أجل أنّه لا يقصر فيهما كما يقصر في سائر الصلوات»۲۸.
(و فيه) أولا: إنّ الإجزاء إنّما هو بالنسبة إلى التكليف الشرعي، سواء كان واجبا أم مندوبا، كما تقدم.
و ثانيا: أنّه معارض بصحيح ابن رئاب قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام قلت: تحضر الصلاة و نحن مجتمعون في مكان واحد أ تجزينا إقامة
بغير أذان؟ قال عليه السلام: نعم»۲۹.
و عنه عليه السلام في خبر الحسن بن زياد: «إذا كان القوم لا ينتظرون أحدا اكتفوا بإقامة واحدة»۳۰.
و تشهد لعدم الوجوب مطلقا صحيحة حماد۳۱و حريز۳۲ الواردتان لبيان أجزاء الصلاة و شرائطها و كيفياتها، و لم يذكرا فيهما مع اشتمالهما على جملة من المندوبات. فالأقوى استحبابهما مطلقا و عدم وجوبهما كذلك، و إن كان الاحتياط في الإقامة ينبغي مراعاته.