1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 137 الى 147

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (۱٤۰) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (۱٤۱) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‏ يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (۱٤۲) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ وَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (۱٤۳) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (۱٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (۱٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (۱٤٦)ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (۱٤۷)


بعد أن بيّن سبحانه و تعالى أركان الإيمان و قواعده و فصّله تفصيلا دقيقا و حدّده تحديدا كاملا؛ ليعرف الإنسان حقيقة ما يريد الاعتقاد به، و يكون بصيرا بالإيمان المطلوب منه و هو على بيّنة من أمره، و لئلّا يتميّع الإيمان فيدخل فيه كلّ‏ مؤتفك يدّعي معرفة اللّه تعالى و يتعبّده بصورة من التعبّد.
و هذه الآيات الشريفة تفصل بين الفئات الزائغة عن الإيمان المفارقة لمجتمع المؤمنين المدّعية عليهم بالأباطيل و المستهزئة بهم استهزاءهم بالحقّ، و الموالية للكافرين، و بين الصادقين في الإيمان و أهله. و تشدّد الأمر عليهم تشديدا وثيقا، و تذكّر الكافرين المعاندين و تصنّفهم إلى أصناف متعدّدة، فيذكر عزّ و جلّ ابتداء الكافرين الّذين ضلّوا ضلالا بعيدا و الرادّين على اللّه عزّ و جلّ و الرسول، و يبيّن جلّ شأنه حالهم و جزاء أعمالهم و حرمانهم عن ما تقتضيه فطرتهم الصافية، فلم يهتدوا سبيلا.
ثم يذكر صنفا آخر، و هم المنافقون الّذين يوادّون الكافرين و يوالونهم دون المؤمنين، فيظهرون الإيمان و لكنّهم يبطنون الكفر، ثم يصفهم وصفا دقيقا ليتحرّز المؤمنون عنهم، فيجتنبوا عنهم فلا يتّصفوا بصفاتهم.
كما حذّرهم عن القعود مع الكافرين و المنافقين الّذين يكفرون بآيات اللّه تعالى و يستهزئون بها؛ لئلّا يفسد إيمانهم فيدخلوا فيهم و يشاركوهم في الجزاء، و قد حذّرهم عزّ و جلّ عن ذلك بأسلوب رفيع يجعلهم يحسّون بما يلاقونه من المكروه من أوّل الأمر، فإنّهم إن لم يحسموا أمرهم منذ الخطوة الاولى لوقعوا في الهاوية.
و قد ذكر جلّ شأنه المحكّ الحقيقي للإيمان و هو التوبة، و الرضا و التسليم، و الإخلاص للّه تعالى و الاعتصام به، و وعدهم الأجر العظيم، ثم نبّههم إلى حقيقة واقعيّة، و هي أنّ اللّه غني عن عذابهم، فلا يعذبهم إن هم آمنوا و شكروا ربّهم و عملوا الصالحات.
و هذه الآيات المباركة هي من الآيات المعدودة في القرآن الكريم الّتي تذكر صفات المؤمنين و الكافرين و المنافقين بأوصاف دقيقة، و تشرح الإيمان شرحا وافيا. و يمكن تسميتها بحقّ آيات الإيمان، و فيها وقفات دقيقة تسترعي الانتباه لا بدّ من التأمّل فيها حقّ التأمل إذا كان المرء يطلب الحقّ و يريد تصحيح إيمانه و عقيدته.

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً.
بيان للآية السابقة، و شرح لحال من ضلّ ضلالا بعيدا، و يبيّن تعالى حقيقة الردّة و أحوال أهلها، فإنّ الردّة هي الذبذبة في الإيمان و عدم الاستقرار فيه، و المرتد من يدعي الإيمان ثم يكفر ثم يؤمن ثم يكفر ثم يزداد في الكفر و الطغيان، فلم يستقر الإيمان في قلوب أهل الردّة، و لم يصدر منهم صدورا جديّا، بل يتلاعبون به و يستهزئون أمر اللّه تعالى فيه، و لأجل تكرار الردّة منهم و ذبذبتهم في الأمر كان الجزاء عليهم عظيما موافقا لطبيعة عملهم و نفسيتهم المتردّدة و تماديهم في الكفر، و هو حرمانهم من رحمة اللّه تعالى و عدم مغفرته لهم و عدم اهتدائهم سبيلا لاستكمال أنفسهم. هذا إذا لم يصدر منهم التوبة فيؤمنوا إيمانا جدّيا و إلّا فتشملهم المغفرة و الرحمة و يقبل اللّه تعالى توبتهم؛ لأنّ التوبة تشمل جميع الذنوب كما عرفت ذلك في بحث التوبة، و إن كان مثل هؤلاء المتمادين في الكفر لم يوفقوا إلى الإيمان و التوبة و لانقطاع سبل الهداية عنهم، كما أخبر عزّ و جلّ في قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ* خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [سورة آل عمران، الآية: ۸٦- 90].
و ظاهر الآية الشريفة قبول توبتهم إذا كانت عن صدق، و أصلح ما أفسده بالكفر و الردّة، و لكنّها تدلّ على عدم قبول التوبة ممّن ازداد كفرا بعد الإيمان.
و السبب في ذلك أنّ الردّة إن كان عن جحود و عناد و ازدياد في الكفر، لا يكون إلّا عتوا و استكبارا عن قبول الحقّ، فلا يتحقّق فيه الرجوع إليه تعالى، فمن كان هذا حاله كيف تقبل توبته؟! بل لا يوفّق إلى التوبة أصلا.
و قد ذكر المفسّرون في بيان معنى الآية المباركة وجوها لا تخلو بعضها عن المناقشة، و لكن يمكن إرجاع جميعها إلى شي‏ء واحد، و هو ما ذكرناه من عدم استقرار أهل الردّة على الإيمان و عدم الثبات فيه و التذبذب في الاعتقاد، و يتّبعون الأهواء الباطلة و يطلبون المنافع و المصالح، فطبع الغي و الطغيان على قلوبهم، و استقرّ الاستكبار و اللجاج في نفوسهم، فلم يهتدوا سبيلا؛ لأنّ بصائرهم عميت عن الحقّ، و انقطع المدد الربوبي عنهم، و انطفأ نور الفطرة فيهم، فلا يرجى لهم الاهتداء و قد خسروا خسرانا مبينا.
و ممّا ذكرنا ظهر وجه النقاش في ما ذكره بعضهم من أنّ المراد من الآية الكريمة هو أنّ الّذين آمنوا بموسى عليه السّلام ثمّ كفروا به، ثم آمنوا بعيسى عليه السّلام ثمّ كفروا به ثمّ ازدادوا كفرا لعدم إيمانهم بمحمّد صلى اللّه عليه و آله، فإنّه يرجع إلى ما ذكرناه، إلّا أنّه ذكر مصداقا لما قلناه.
و في قوله تعالى: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً كمال البعد عن الحقّ و تماديهم في الغي، و إصرارهم على الطغيان، و انسهم بالكفر و انهماكهم فيه، و من آثاره كفرهم بمحمّد صلى اللّه عليه و آله مع وضوح الحقّ فيه.
قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا.
لأنّ ذلك من الأثر الوضعي لما ازدادوا في غيهم و كفرهم، و من باب ترتّب المسبّب على السبب، نتيجة لأعمالهم الباطلة و عقائدهم الفاسدة، فإنّ انهماكهم في الكفر و انسهم به و استقرار العناد و العتو في قلوبهم، كلّ ذلك يستدعي حرمانهم عن الرحمة الإلهيّة، فلم يكن اللّه ليغفر لهم و لا ليهديهم سبيلا يفضي إلى التقرّب إليه عزّ و جلّ و الدخول في رحمته تعالى، و نفي المفغرة و الهداية إنّما ثبت لعدم وجود المقتضي لهما، و هو الإيمان الخالص المستقرّ في القلوب، و هذا و إن كان مطلقا إلّا أنّه لا يأبى الاستثناء لو تحقّقت الاستتابة و اتّفق الإيمان الواقعي و الاستقامة عليه، كما عرفت آنفا.
قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
بيان لحال طائفة اخرى زائفة، و هم المنافقون الّذين يتظاهرون بالإيمان و يبطنون الكفر و العناد و تهديد لهم. و تبيّن الآية الكريمة وجه النفاق فيهم و الوصف الّذي جعلهم من المنافقين.
و البشارة مأخوذة من البشرة، أي: انبساط بشرة الوجه و طلاقته إذا اخبر الإنسان بما يسرّه، كما أنّ السرور مأخوذ من انبساط أساريره، و غالب استعمالهما في الأخبار بما يسرّ، و قد يستعملان في غيره تهكّما كما في المقام، ففي الكلام استعارة تهكّمية استعملت فيها (بشّر) موضع (أنذر) تهكّما بهم.
و عن الفرّاء إذا ثقّل (بشّر) فمن البشرى، و إذا خفّف (بشر) فمن السرور. و في حديث عبد اللّه بن مسعود: «من أحبّ القرآن فليبشر»، أي: فليفرح و ليسرّ، و هو كناية عن خلوص الإيمان.
و قيل: إنّ البشارة تستعمل فيما يسرّ و يسوء استعمالا حقيقيّا، فلا استعارة حينئذ؛ لأنّ أصلها الإخبار بما يظهر أثره في بشرة الوجه، سواء كان انبساطا أو انقباضا.
و كيف كان، ففي الآية الكريمة تهديد للمنافقين بأنّ لهم عذابا شديد الألم.
قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
تعليل لاتّصافهم بصفة النفاق و استحقاقهم للعذاب الأليم، أي: أنّ المنافقين هم الّذين يتّخذون الكافرين المعاندين أولياء يحبّونهم و يقتدون بهم، تاركين ولاية المؤمنين الّذين أمر اللّه تعالى بموالاتهم و الدخول في جماعتهم و اتخاذ سبيلهم.
و النفاق له مراتب كثيرة قد بيّنها عزّ و جلّ في كتابه الكريم في مواضع متعدّدة، و بعضها أشدّ من الكفر، و لقد كان خطره على الإسلام كبيرا و شديدا.
و ابتلى المؤمنون بالمنافقين من صدر الإسلام، و في المقام يبيّن عزّ و جلّ مرتبة من تلك المراتب و هي موالاة الكافرين أعداء الدين و الانقطاع عن جماعة المؤمنين، و قد كانت مثل هذه الطائفة الّتي كانت تتصل بالكافرين باطنا موجودة من أوّل البعثة؛ لاعتقادهم أنّ الدولة ستكون للكافرين، و لمّا يستحكم الإيمان في قلوبهم، و يدلّ على أنّ هؤلاء المنافقين هم المراد من الآية الشريفة ذيلها، حيث وصف تعالى حالهم في النفاق وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا، فإنّه عزّ و جلّ أثبت لهم شيئا من ذكر اللّه تعالى، و هذا لا ينافي حال المنافقين الّذين لم يؤمنوا بقلوبهم أبدا، فإنّ له سبحانه و تعالى كلاما معهم في موضع آخر، و كانوا أشدّ خطرا على الإسلام من سائر الفرق كما ستعرف، كما لا ينافي شمول قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً لجميع أصناف المنافقين، فإنّ لهم عذابا أليما و إن اختلفوا في كيفيّته.
و من ذلك تعرف أنّه لا وجه لإنكار وجود مثل هؤلاء في وقت نزول هذه الآية الشريفة الّتي نزلت بمكّة المكرّمة، بدعوى أنّ الخطاب إنّما توجّه الى المؤمنين لا المنافقين و نهيهم عن مجالسة الكافرين و المستهزئين؛ لأنّ نجم النفاق إنّما ظهر بالمدينة، و أنّ النفاق الّذي ظهر في المدينة إنّما كان مرتبة اخرى غير الّتي كانت بمكّة، و النهي إنّما توجّه لهؤلاء المؤمنين الّذين وصفهم عزّ و جلّ بالنفاق لمجالستهم الكافرين و المستهزئين بالمؤمنين؛ لضعف إيمانهم و اعتقادهم بأنّ الدولة أو الحكومة ستظهر فيهم فتكون لهم يد عندهم، فكان هؤلاء المنافقون غيرهم الّذين ظهروا في المدينة.
و إنّما كانت موالاة الكافرين نفاقا؛ لأنّ الحضور في مجالسهم يستلزم التخلّق بأخلاقهم و تصديق بعض ما يعتقدونه و ما يتذاكرونه ممّا لا يرتضيه اللّه تعالى، فنسبته الى الدين ثم الرضا بأفعالهم و أعمالهم هو الكفر؛ لأنّ فيه انفصالا عن مجتمع المؤمنين و تجاوزا عن ولايتهم و إعراضا عن الدين، فلو حضر مجالس المؤمنين و اشترك معهم في شي‏ء من شعائر الدين و ذكر اللّه تعالى قليلا، لقرع سمعه آيات اللّه و أحكامه دون الوصول الى قلبه حتّى يعرض عن الكافرين، و هكذا إذا أعادوا الكرّة مع الكافرين فإنّه يوجب الازدياد في الكفر، فصار له وجهان، وجه مع‏ المؤمنين و وجه مع الكافرين أعداء الدين، فاتّصف بصفة النفاق الّتي حذّر اللّه تعالى المؤمنين منها و بيّن آثارها و نتائجها و أوعد عليها أشدّ الوعيد.
قوله تعالى: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ.
استفهام إنكاري يفيد التقريع و التوبيخ. و الجملة تقرّر قبلها و تتضمّن التعليل أيضا.
و العزّة في المقام يراد بها الشرف و رفعة القدر و المنفعة و الغلبة الّتي يتعزّزون بها، و منه قوله تعالى: وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ [سورة ص، الآية: 23] أي غلبني، و في حديث مدح الإسلام: «و أعزّ أركانه على من غالبه»، أي حماها ممّن قصد هدمها، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى اللّه عليه و آله قال لعائشة: «هل تدرين لم كان قومك رفعوا باب الكعبة؟ قالت: لا، قال: تعزّزا أن لا يدخلها إلّا من أرادوا»، أي تشديدا على الناس و تكبّرا عليهم فيمنعونهم من الدخول فيها إلّا من أرادوا.
قوله تعالى: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً.
جواب يتضمّن الإنكار لما زعموه، أي: أنّ العزّة مختصّة به عزّ و جلّ يعطيها لمن يشاء من عباده، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى اللّه عليه و آله: «كلّ عزّ ليس باللّه فهو ذل». و قد تقدّم في قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران، الآية: ۲٦] أنّ العزّة من فروع الملك و هو للّه عزّ و جلّ وحده، فهو المالك الحقيقي، و غيره يملك بالاعتبار، فمن أراد العزّة فلا بدّ أن يتعزّز باللّه العظيم، و قد كتب لأوليائه و المؤمنين العزّة كما قال عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون، الآية: 8]، و قال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [سورة فاطر، الآية: 10].
قوله تعالى: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.
خطاب عامّ لجميع الامة يتضمّن التوبيخ الشديد لما صدر من المنافقين، و تحذير للمؤمنين أن لا يقعدوا مع الكافرين و المنافقين و هم يكفرون بآيات اللّه و يستهزئون بها، و في هذا التحذير من الحكمة ما لا يخفى، فإنّه إذا لم ينته في أوّل الطريق فإنّ آخر مطافه الكفر الّذي لا ريب فيه.
و الآية المباركة تشير الى ما ورد في قوله تعالى الّذي نزل بمكّة: وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الانعام، الآية: ٦۸]، و الخطاب فيه و إن كان متوجّها إلى الرسول الكريم صلى اللّه عليه و آله إلّا أنّه يراد منه العموم.
كما أنّ الآية الشريفة الأخيرة لم تكن متضمّنة من التوبيخ الشديد ما تضمّنته الآية الكريمة الّتي في هذه السورة؛ لعظم قبح أفعال المنافقين من موالاة أعداء اللّه تعالى مع تحقّق ما يمنعهم عن ذلك، فكأنّ الآية المباركة تقرع أسماعهم بقبح أفعالهم و تقول: «أ تتّخذونهم أولياء» و الحال أنّه تعالى نزّل عليكم من قبل في هذا الكتاب العظيم أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ، و هذا كاف في الانزجار عن مجالستهم فضلا عن تحقّق الموالاة و الاعتزاز بالكافرين.
و إضافة الآيات الى اسم الجلالة لبيان خطرها و عظيم شأنها و تهويل أمر الكفر بها.
و هي تشمل الأحكام المقدّسة و المعارف الربوبيّة و مظاهر تجلّياته عزّ و جلّ، كالرسول صلى اللّه عليه و آله و الأئمة الهداة عليهم السّلام، كما ورد في الحديث. بل تشمل كلّ حقّ، و في الحديث عن الصادق و الرضا عليهما السّلام: «إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ و يكذب به و يقع في أهله، فقم من عنده و لا تقاعده»، و سيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات إن شاء اللّه تعالى.
و عموم الآية المباركة لا بدّ و أن يقيد بما إذا لم يمكن ردّهم و الإنكار عليهم و بيان الواقع لهم، و إلّا فهو جائز بل واجب إذا احتمل التأثير، فإنّ الامتناع عن‏ مجالستهم هو أوّل خطوات النهي عن المنكر الّذي يجب على المؤمنين، فإن لم يفعله رهبة أو مجاملة فقد خالف أمر اللّه تعالى و وضع قدمه على المنزلق الّذي يؤدّي به إلى الكفر ثمّ الهلاك و سوء العاقبة.
قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ.
تعليل للمنهي عنه و فيه تقريع شديد و تحذير كبير ينزعج منه الحسّ، و بيان لعاقبة أمرهم إن لم ينتهوا عن مجالسة أعداء اللّه تعالى، فإنّ المؤمن لو لم يحسم أمره معهم منذ الخطوة الاولى لانزلق معهم و وقع في الهاوية، و قد حذّر اللّه تعالى المؤمنين من الاستهانة بأحكام اللّه تعالى. و قد سجّل عزّ و جلّ على الأمم السابقة- لا سيما اليهود- هذا الأمر و وبّخهم أشدّ توبيخ و لعنهم، فإنّ قبح الاستهانة بالمولى- لا سيما اللّه تعالى و أحكامه- ضروري عقلي، فيعمّ جميع الأمم، قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [سورة المائدة، الآية: 78- 79].
و المثليّة تارة: تتحقّق في الكفر إن كان القعود مع الكافرين و يستلزم الموالاة و الرضا بمعتقداتهم و أعمالهم. و اخرى: تتحقّق في الإثم إن لم يكن القعود كذلك. هذا إن لم تكن ضرورة في الاجتماع، و إلّا فالضرورات تبيح المحظورات.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً.
و عيد للفريقين المنافقين الموالين للكافرين المستهزئين بآيات اللّه تعالى، و تعليل لكونهم مثلهم؛ لأنّ ذلك يستلزم اشتراكهم في العذاب.
و أقيم المظهر مقام المضمر تسجيلا لنفاقهم، و بيانا لعلّة استحقاقهم للعذاب، و بيانا لصفة من صفات المنافقين و هي مراقبة إخوان المؤمنين لينتفعوا بها على حسابهم، كما هو شأن كلّ مخادع لم تكن مصاحبته عن صدق و إخلاص، و هذه من أظهر صفات المنافقين و أجلاها.
قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ.
التربّص: الانتظار، و عدم ذكر متعلّق التربّص ليشمل كلّ أمر مكروها كان أو محمودا و محبوبا. أي: ينتظرون وقوع أمر بالمؤمنين.
قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ.
تفصيل لما أجمله آنفا. و المعنى: و إن كان للمؤمنين فتح من اللّه تعالى برعايته لكم و إفاضته عليكم ما أوجب الظفر على أعدائكم قال المنافقون: ألم نكن معكم نظاهركم و نجاهد عدوكم فاسهموا لنا فيما غنمتم.
و تقييد الفتح بكونه من اللّه لبيان أنّه وعد منه عزّ و جلّ، كما قال تعالى: وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الروم، الآية: ٤۷].
قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
مادة [حوذ] تدلّ على الحوط، يقال: حاذه حوذا إذا حاطه، و منه الحاذيان و هما جانبا الفخذين من الوراء، و سمّي السائق للبعير و غيره من الدواب حوذيا؛ لأنّه يضرب حاذين البعير، و منه استحوذ على الشي‏ء، أي: غلب عليه و تمكّن من تسخيره و التصرّف فيه، و منه المحاذي للشي‏ء، فإنّ معنى الإحاطة مأخوذ في جميعها، و في الحديث: «ليأتين على الناس زمان يغبط فيه الرجل بخفّة الحاذ كما يغبط اليوم أبو العشرة»، أي الاستيلاء على المال أو العيال، و ذلك كناية عن القلّة و الخفّة فيهما. و الفعل استحوذ و نستحوذ جاء على الأصل من غير إعلال- كما جاء استروح و استصوب- خارجة عن أخواتها نحو: استقال و استقام و أشباههما، فلو أعلّ لكان: ألم نستحذ، و الفعل على الإعلال استحاذ فيستحيذ.
و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في موضعين، أحدهما المقام، و الثاني في قوله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [سورة المجادلة، الآية: 19].
و المعنى: أنّهم يقولون للكافرين إذا أصابهم حظّ من الحرب و الظفر منّا عليهم: ألم نستول عليكم و نتمكّن من قتلكم فلم نفعل بكم و نمنعكم من وصول‏ المؤمنين إليكم بأن خذلناهم و ألقينا عليهم ما أوجب ضعف قلوبهم و الحدّ من صولتهم.
و يمكن أن يكون المراد: أ لم نكن سببا في غلبتكم على المؤمنين و نمنعهم منكم بتخذيلهم. و المعنيان متقاربان.
و كيف كان، فقد عبّر عزّ و جلّ عن ظفر المؤمنين بالفتح، و في الكافرين بالنصيب؛ اهتماما بشأن المؤمنين و تعظيما لما أصابوه من الفتح و إهانة للكافرين و تحقيرا لحظّهم، و بشارة للمؤمنين بأنّه سيكون لهم الفتح على الكافرين، و أنّه وعد منه عزّ و جلّ لهم، و إن كان في البين ظفر للكافرين عليهم فإنّه لم يكن فتحا بل مجرّد استيلاء لم يكن دائميا سيزول و ينطفئ ضياؤهم، فإنّه لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا، فيهدم كيانهم و يبطل معالمهم، و لعلّ قوله تعالى في المقام إشارة الى ما سيأتي من قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، و المراد من الآية الشريفة نفي الجعل الإلهي كما في قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: 32]، فلا تنافي ثبوت الولاية موقتا؛ لأنّها حاصلة من بعض أعمال المؤمنين و بعدهم عن الحقائق و الواقعيات.
قوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
الخطاب يشمل كلتا الطائفتين تغليبا أو على الحذف، أي: بينكم و بينهم.
و المعنى: أنّ اللّه تعالى يفصل بين المؤمنين و المنافقين و الكافرين يوم القيامة الّذي هو يوم الفصل بين المحبّين الموالين للّه تعالى، و بين المنافقين المعادين له عزّ و جلّ؛ فيثيب أحباءه و يعاقب أعداءه، و إنّما خصّ التفصيل و الحكم بينهم بالآخرة؛ لأنّ المنافقين في الدنيا قد حقنت دماؤهم بالإسلام ظاهرا، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «فإذا قالوا- أي كلمة لا إله إلّا اللّه- فقد عصموني دماءهم و أموالهم».
قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.
بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة الّتي لا تقبل التغيير و التبديل، و هي أنّ السبيل للمؤمنين و لن ينعكس أبدا، و تتضمّن الوعد منه عزّ و جلّ لهم الغلبة و النصر على الكافرين، و تأييس للمنافقين بأنّ الغلبة للمؤمنين فلا ينفعهم موالاة الكافرين. و من القرائن الحافّة بهذه الآية الشريفة يستفاد أنّ السبيل المنفي يشمل جميع أنحائه من الظاهري- و هو الغلبة و النصر، و الاستيلاء- و المعنوي و هو الحجّة و البرهان، فإنّ قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ إشارة الى القسم الأوّل، و قوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إشارة الى القسم الثاني، فإن كان للكافرين غلبة و قوّة في الحال و لكن للمؤمنين الغلبة و النصر في المآل كما وعد عزّ و جلّ قال تعالى: وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 139].
و أمّا الغلبة في الحجّة و البرهان فلا ريب فيها من أحد، و تخصيص الآية الشريفة بأحد القسمين: الظاهري- بأن لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانا تامّا بالاستئصال كما حكى عن السدي- أو المعنوي، كما قلنا.
كما أنّ الإشكال بأنّ الغلبة الظاهريّة للكافرين قد تحقّقت في كثير من الأعصار، فلا تشمل الآية الكريمة السبيل الظاهري.
غير صحيح؛ لأنّ ذلك مؤقت، و ذلك لا يضرّ بعد وعد اللّه تعالى بالنصر للمؤمنين و ما حصل للكافرين من الغلبة، لا لأجل كونهم على الحقّ، بل لإصرارهم على الباطل و الاعتماد على تلك الأسباب الماديّة و عملهم بها بدقّة و إحكام، بخلاف المسلمين الّذين أهملوا هذا الجانب، كما أنّهم أعرضوا عن كثير من تعاليم الإسلام، و قد وعد اللّه لهم بالنصر إن كانوا مؤمنين و عاملين بالأحكام الإلهيّة. و تدلّ عليه آيات كثيرة و نصوص مستفيضة، منها ما تقدّم من قوله تعالى: وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [سورة آل عمران، الآية: 139]، أي مؤمنين إيمانا صحيحا يدعو الى العمل بما اعتقدتموه.
و قد استدلّ الفقهاء بهذه الآية الشريفة في عدّة مواضع من الفقه لنفي السبيل عن المؤمنين، و جعلوها قاعدة فقهيّة، و هي: «نفي السبيل للكافرين على المؤمنين»، و استدلّوا عليها بقول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه»، فتختصّ الآية المباركة بالشرعيات عموما، و قد ذكرنا ما يتعلّق بالقاعدة في مواضع من كتابنا «مهذب الأحكام»، و سيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام عنها.
قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ.
صفة أخرى من صفات المنافقين، و هي خداع الرسول و المؤمنين بإخفاء الحقيقة.
و المخادعة: هي شدّة الخديعة و الإكثار منها، و هي تمويه الحقيقة و إبهامها و إظهار خلاف ما يخفيه. و تقدّم اشتقاق الكلمة في سورة البقرة الآية- 9.
و مخادعة اللّه هي مخادعة الرسول و المؤمنين تعظيما لشأنهم، تنبيها على فظاعة فعل المنافقين و شناعته لكونه مبغوضا عنده جلّ شأنه، و أنّ المعاملة مع الرسول معاملة مع اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [سورة الفتح، الآية: 10].
و مخادعة اللّه تعالى إنّما تتحقّق بالاستهزاء بدينه و الغشّ في تعاليمه المقدّسة، فإنّهم يظهرون الإيمان بذلك كلّه و يبطنون الإعراض عنها و مخالفتها و تكذيبها و يتقرّبون الى الرسول و المؤمنين كيدا بهم، و لأجل تكرار ذلك منهم أو حصول الخداع منهم في كلّ واحد من تلك الأحكام الإلهيّة و التعاليم الربوبيّة، و الاستهانة بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين صارت مخادعة منهم.
قوله تعالى: وَ هُوَ خادِعُهُمْ.
أي: و الحال أنّ اللّه تعالى هو خادعهم، أي يجازيهم على خداعهم، و إنّما عبّر سبحانه و تعالى عن فعله بالخداع مشاكلة، و هي نوع من أنواع البديع كما في قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: ٥٤]، و السبب في ذلك أنّ الخديعة و المكر إنّما يستعملان في الشرور و المعاني المذمومة غالبا، و قد عبّر عنها في فعله عزّ و جلّ و سنّته في خلقه فيهم مخادعة؛ لأنّهم أوقعوا أنفسهم في ما يضلّون به أنفسهم و ينتهي بهم الى العقاب و النكال.
أو المراد أنّ اللّه تعالى هو مخادعهم في تركهم معصومي الدماء و لم يمنعهم و لم يعجّل على أعمالهم الشنيعة، فكان ذلك خدعة منه عزّ و جلّ لهم كما أرادوا خديعته تعالى، و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في سورة البقرة فراجع.
و (خادع) اسم فاعل من الثلاثي، و مثل هذا الوزن يدلّ على الغلبة و المغالبة، أي أنّ اللّه تعالى يغلبهم في آخر المطاف مهما توغّلوا في الخديعة، فيجعل وبال خداعهم عليهم لا لهم.
قوله تعالى: وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‏.
كسالى [بضم الكاف‏] جمع كسلان، و قرئ [بفتحها] بمعنى المتثاقل عمّا ينبغي النشاط فيه، أو الفتور في مورد القوّة، و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ليس في الإكسال إلّا الطهور»، أي: جماع الرجل زوجته ثمّ يدركه فتور فلم ينزل، و في كتاب العين: «كسل الفحل إذا فتر عن الضّراب».
و الآية المباركة تشير إلى صفة اخرى من صفات المنافقين، و هي تدلّ على أنّ قيامهم ببعض الشعائر تثاقلا كالمكره على الفعل ليراءوا الناس أنّهم من أهل الإيمان، فإنّ مجرّد دعواهم أنّهم منهم لا تكفي في مجتمع المؤمنين الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، فلا بدّ من قيامهم ببعض الشعائر لا عن عقيدة بها، بل لأجل إراءة أنفسهم الى الناس أنّهم من المؤمنين خديعة و تغريرا بالمؤمنين، و لو لا ذلك لما أمكنهم الوقيعة بهم و إعمال كيدهم فيهم.
قوله تعالى: يُراؤُنَ النَّاسَ.
أي: أنّ قيامهم بالصلاة إنّما هو لأجل أن يراهم الناس المؤمنين حتّى يعدوهم منهم فيتمكّنوا من إعمال كيدهم فيهم.
و المراءاة مشاركة في الرؤية، أي يكون المرء في مشهد من الناس بحيث يراه الناس و هو يراهم قصدا منه رؤية الناس لأعماله فيحسبونه من المؤمنين.
و الرياء: من الصفات الذميمة المهلكة- إلّا إذا أذن الشارع فيها كما في بعض التوصليات- و يكفي في قبحها أنّها من صفات المنافقين، و هي إظهار الجميل ليراه الناس لا عقيدة به و لا لاتباع أمر اللّه تعالى فيه، و هي من الشرك الخفي كما نطقت به جملة من الأخبار.
و الآية الشريفة تنبّه المؤمنين الى أمر مهم، و هو أنّ مجرّد القيام ببعض شعائر التعبّد خاليا عن كلّ إخلاص و غرض نبيل إلّا مراءاة الناس، لا يعطي للقائم بها صفة الإيمان، بل المحكّ الحقيقي في الإيمان- ما ذكرناه مرارا- هو التسليم للّه و طاعته عزّ و جلّ و الرضا بشريعته، قال تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [سورة النساء، الآية: ٦٥]، فإذا تحقّق المحكّ فيهم فهم مؤمنون، و إن تحقّق خلافه فهم منافقون حتّى لو تظاهروا بالإسلام و قاموا ببعض الشعائر التعبديّة، بل أدوا جميعها، فإنّها إنّما تدلّ على الإيمان إذا كانت دالّة على الرضا و التسليم، و هذا لا ينافي ما ورد في جملة من الأخبار من الاكتفاء بظاهر الإسلام و الشهادة له بالإيمان إذا غشى المساجد و أدّى الفرائض، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان»، فإنّ الاعتياد على دخول المساجد يكشف عن صدق إيمانه و كون ما يصدر عنه عن رضا و تسليم و تحاكم الى شريعة اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا.
وصف آخر من أوصاف المنافقين، و هو عدم ذكر اللّه تعالى إلّا قليلا في مجالس المؤمنين و مجتمعهم؛ لتعمية أحوالهم عليهم كما عرفت آنفا.
و إنّما اعتبر عزّ و جلّ ذكرهم له قليلا، لعدم التقوى فيهم باشتغال قلوبهم بالنفاق و مراءاة الناس و الخديعة بالمؤمنين و المكر بهم، و كلّ عمل بلا تقوى يكون‏ قليلا مهما عظم، فعن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يقلّ عمل مع تقوى، كيف يقلّ ما يتقبّل؟!»، فلم يكن لهم توجّه إليه عزّ و جلّ أبدا، فإنّ من أحبّ شيئا خلب مشاعره، فإذا كان عملهم للّه تعالى حبّا و طاعة له، فإنّه يستولي على قلبهم و جميع جوانحهم و جوارحهم، فيكونون ذاكرين للّه تعالى حاضرين لديه مراقبين لنفسه.
و ممّا ذكرنا تعرف أنّ المراد بالذكر هو الأعمّ من الباطني القلبي و الذكر اللساني، فالمنافقون اقتصروا على القليل منه و لم يقبل منهم ذكرهم هذا؛ لعدم التقوى فيهم كما عرفت آنفا.
قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ.
صفة اخرى من صفات المنافقين، و هي التردّد في الإيمان و الكفر، فلم يستقرّوا على أحدهما فلا هم مؤمنون حقيقة و لا كافرون محضا، و إنّما كانوا كذلك لتردّدهم بين مجتمع المؤمنين و الصلاة معهم رياء، و بين موالاة الكافرين و مجالستهم، و يدلّ على ذلك كلمة «بين» كما حكى عنهم عزّ و جلّ في الآيات المباركة السابقة، فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا. هذا بالنسبة الى حالتهم النفسيّة المتردّدة المشكّكة.
و أمّا عند اللّه فهم كافرون كما يدلّ عليه الطبع على الكفر في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [سورة المنافقون، الآية: 3] و غيره من الآيات الشريفة.
و مادّة (ذبذب) تدلّ على الحركة و الاضطراب، قال النابغة:
ألم تر أنّ اللّه أعطاك سورة ترى كلّ ملك دونها يتذبذب‏

و منه حكاية صوت الحركه للشي‏ء المعلّق، و منه أيضا المهتز المعلّق الّذي لا يثبت و لا يتمهّل، و الذال الثانية أصيلة عند الجمهور خلافا لبعض الكوفيين، حيث جعلوها مبدّلة من «باء». و قرأ ابن عباس: (مذبذبين) بكسر الذال الثانية، و هذا الوصف يدلّ على عدم حصول اليقين عندهم و فقدان الثقة في نفوسهم. و هذه الحالات تحصل للإنسان إذا اقتصر على الماديات بجحود الحقّ، و ترك ما وراءها، و جعل همّه في الدنيا هو الاقتناء على وسائل العيش المادي و السعي وراء متاع‏ الدنيا و الإعراض عن تكميل النفس بالكمالات و التخلّق بمكارم الأخلاق، و السبب في ذلك هو حبّ الدنيا الّذي يعدّ رأس كلّ خطيئة، كما في الحديث.
قوله تعالى: لا إِلى‏ هؤُلاءِ وَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ.
بيان للآية السابقة، أي: لا ينتسبون الى المؤمنين ليعدّوا منهم حقيقة، و لا الى الكفّار ليعدّوا منهم بالكليّة، و إنّما يميلون مع كلّ ريح و يطلبون النفع في انحيازهم الى الطائفتين.
قوله تعالى: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا.
تعليل لما سبق، أي من لم يوفقه اللّه تعالى فهو ضال لم يهتد الى سبيل؛ لأنّهم اتّصفوا بتلك الصفات المهلكة الموبقة، فلم يهيئوا أنفسهم لنيل الفيوضات الربوبيّة و الوصول الى المقامات الكريمة، و لم يستعدّوا للتوفيق و لم يصلحوا للهداية، فأضلّهم اللّه عن السبيل، فلا سبيل لهم ليوصلهم الى الحقّ و الكمال.
و الخطاب في الآية الشريفة عامّ يشمل الجميع؛ ليكون رادعا لهم عن سلوك السبل حتّى تؤدّي بهم الى الهلاك و إعراض اللّه تعالى عنهم و سلب التوفيق عنهم.
و قيل: إنّ المراد من السبيل هو المذهب و الدين الحقّ، و هو يرجع الى الأوّل أيضا، فإنّ المتديّن بالحقّ قد اكتسب و اقتنى أهمّ الكمالات الواقعيّة و العواقب الحميدة.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
خطاب للمؤمنين بعد بيان صفات المنافقين و ما أوجب إضلال أنفسهم و عدم اهتدائهم سبيلا يفضي بهم الى الحقّ.
و الآية الشريفة تحذّر المؤمنين عن أهمّ ما يوجب ضعف إيمانهم و الدخول في زمرة المنافقين، و تعظهم بعدم التقرّب الى ما يوجب سخط اللّه تعالى، و إشارة الى أهمّ تلك الموبقات، ألا و هي ولاية الكافرين الّتي هي صنيع المنافقين، و إلّا كانوا مثلهم، و تؤكّد الآية الكريمة النهي السابق عن موالاة الكافرين الّتي هي حبّهم‏ و الاعتماد عليهم و طلب المعونة منهم، فتكون الولاية المنهي عنها هي نفس الولاية المأمور بها للمؤمنين من دون فرق، فإنّ اللّه تعالى يأمرنا بولاية المؤمنين، و هي حبّهم و الدخول في زمرتهم و الاعتماد عليهم و طلب المعونة منهم و نصرتهم، و هذه هي الّتي نهى المؤمنين أن يتّخذوها مع الكافرين.
و لعلّ السرّ في التأكيد على هذا الأمر أنّ ولاية الكافرين تستلزم كلّ تلك الصفات الذميمة الّتي اتّصف بها المنافقون، فأوجبت إضلال أنفسهم و تحيّرهم و عدم اهتدائهم السبيل الّذي تنجيهم من الشقاء و الهلاك، و أنّ فيها محو أثر الإسلام و اطفاء نور الإيمان في القلوب، و تضعيف الروح المعنويّة في النفوس المؤمنة بالآخرة و المنقطعة إليه عزّ و جلّ، و هدم كيان المجتمع النبيل عن شريعة اللّه تعالى و تعاليمه المقدّسة و الدخول في سخطه عزّ و جلّ.
قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً.
تأكيد للنهي السابق و تهويل أمر ولاية الكافرين و بيان عظيم أثرها في نفوس المؤمنين كما عرفت. و السلطان هو الحجّة و البرهان، و هو ممّا يجوز فيه التذكير- باعتبار البرهان- و التأنيث باعتبار الحجّة. و المبين: الواضح.
و المعنى: أ تريدون أن يكون للّه تعالى عليكم حجّة ظاهرة واضحة في استحقاقكم للعذاب إذا اتّخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين؛ لأنّ ولاية الكافرين دليل النفاق و الاستهزاء بأحكام اللّه تعالى و دين الحقّ، و هذه حجّة.
و الآية المباركة تشير الى أمرين:
أحدهما: أنّ اللّه تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين، و هذه حجّة.
الثاني: أنّ موالاة الكافرين أوضح دليل على النفاق، و هذه حجّة ثانية، و كلتا الحجّتين قد ذكرهما عزّ و جلّ في الآيات السابقة، و إحديهما تكفي في استحقاق العذاب.
قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
الدرك- بسكون الراء و فتحها- هي الطبقة، و سمّي بها لأنّها طبقات متتابعة متداركة بعضها فوق بعض كالدرج، إلّا أنّ الأخير يقال باعتبار الصعود و الدرك باعتبار الهبوط؛ و لذا كانت للجنّة درجات و للنّار دركات، و في حديث الدعاء: «أعوذ بك من درك الشّقاء»، و الجمع أدراك- و هي منازل في النار- و قيل أدرك كفلس و أفلس.
و تدلّ الآية المباركة على وجود طبقات و منازل للنار، و هي سبع: تسمّى الاولى جهنم، و الثانية لظى، و الثالثة الحطمة، و الرابعة السعير، و الخامسة سقر، و السادسة الجحيم، و السابعة الهاوية، و قد تسمّى جميعها باسم الطبقة الاولى كما يسمّى بعض الطبقات باسم الطبقة الاخرى، و لفظ النار يجمعها أعاذنا اللّه تعالى بلطفه و رأفته و جميع المؤمنين برحمته و كرمه منها بحقّ محمّد و آله الأطهار و إنّما استحقّ المنافقون الدرك الأسفل؛ لأنّهم شرّ أهلها، و قد جمعوا بين الكفر و النفاق و اتّصفوا بصفات موبقة و مهلكة أفسدت عليهم فطرتهم، و جعلت أنفسهم أخسّ الأنفس و أرداها فاستحقّوا بها هذه الطبقة من النار كما حكي عنهم عزّ و جلّ في الآيات السابقة، فإنّ واحدة منها تكفي في استحقاق النار، و تدلّ الآية الشريفة على تناسب الجزاء مع العمل.
قوله تعالى: وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً.
إرشاد الى استيلاء النفاق على جميع مشاعرهم و تنبيه الى أنّ النفاق يوجب انقطاع العصمة بينهم و بين كلّ شفيع و نصير يخرجهم من النّار أو يخفف من عذابها.
و يمكن أن تكون الآية الشريفة بيانا لقوله عزّ و جلّ: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا في الدنيا و الآخرة فالنصير من السبيل الّذي نفاه عزّ و جلّ عنهم، فإنّ اللّه تعالى لم يوفقهم في الدنيا للهداية و كسب المكارم و لم يجعل لهم نصيرا ينصرهم من عذاب اللّه عزّ و جلّ.
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا.
استثناء عمّا سبق ذكره في النفاق و المنافقين و الوعيد الّذي ذكره عزّ و جلّ فيهم. و قد اشترط تعالى للرجوع عن النفاق شروطا ثقيلة لم تذكر في غيره من‏ المعاصي و الآثام، فإنّ في بعضها تكفي التوبة الجامعة للشرائط و الإنابة الى اللّه تعالى، و في بعضها التوبة و الإصلاح، و في بعضها الاعتصام باللّه تعالى و الإخلاص في الدين. و لا يكفي واحدا منهما للرجوع عن النفاق و الدخول في جماعة المؤمنين و نيل جزاءهم، و هذا يدلّ على أنّ النفاق أسوء بكثير من المعاصي و سائر الصفات الرذيلة و الملكات السيئة، بل الكفر الصريح الّذي اكتفى فيه عزّ و جلّ بالإيمان و العمل الصالح، قال عزّ و جلّ: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ [سورة التوبة، الآية: 11]، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ الكافر مستقيم الفطرة لكنّه على قاعدة منحرفة، فإذا أزال المانع و رجع الى الدين الحقّ اكتفي منه بالإيمان و الالتزام بلوازمه، بخلاف النفاق الّذي له منبت عميق في القلب و جذور متشعّبة في النفس، ممّا يوجب اختلال الفطرة المستقيمة، فيتكون للمنافق تركيبة سيئة مضطربة لم تقم على قاعدة و هي في غاية السوء، بخلاف بقية المعاصي؛ لأنّ في جميعها لم تضطرب الفطرة، و لأجل ذلك النفاق احتاج الى إصلاح كثير و جهاد مرير مع النفس يرجع المنافق الى رشده و يصلح نفسه حتّى يستقيم طبعه، فلم تكن هذه الشروط لتهويل الأمر و بيان فظاعة النفاق و شدّة أثره في النفس و الفطرة فحسب؛ لأنّ لكلّ شرط أثرا مختصّا به في الإصلاح و التربية، فأوّل تلك الشروط هو التوبة بالرجوع الى اللّه تعالى و العزم على ترك النفاق، و الندم على ما صدر منه.
و هذا الشرط هو القاعدة العريضة الّتي تبتني عليها التوبة عن جميع الذنوب و الآثام، و تقدّم في بحث التوبة ما يتعلّق بها، و ذكرنا أنّ التوبة بالمعنى المعروف الّذي سبق ذكره ممّا له الأثر النفسي و التربوي في المذنبين النادمين و العازمين على ترك المعاودة مع التدارك بما أمكنه من الأعمال الحسنة كما مرّ.
قوله تعالى: وَ أَصْلَحُوا.
و هو الشرط الثاني، أي الإصلاح الّذي يقترن بالتربية و ترويض النفس و قهرها على العمل بأحكام اللّه تعالى، فإنّ النفاق أفسد النيات و الأحوال‏ و الأعمال، و هذا الشرط له الأثر في تأسيس قاعدة قويمة محكمة يمكن أن يعتمد عليها المنافق فيخرج عن التذبذب و الاضطراب.
قوله تعالى: وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ.
هذا هو الشرط الثالث، و هو التمسّك بحبله المتين و اتباع تعاليم الرسول الكريم، فإنّه السبيل الّذي عيّنه سبحانه و تعالى لمن يريد أن يدخل في جماعة المؤمنين و يسلك مسلكهم، و غيره هو سبل الشيطان الّتي يتفرّق بكم عن سبيله عزّ و جلّ. و هذا يفضي الى الدخول في جماعه المؤمنين و هدايته، قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [سورة النساء، الآية: ۱۷٥]، و قد عرفت آنفا أنّ اللّه تعالى قطع عن المنافق فيضه فجعله ضالا لا يهتدي سبيلا.
و الاعتصام باللّه عزّ و جلّ يجعل له استعدادا للفيض بعد ما أفسده النفاق، و بهذا الشرط و سابقه تستقيم العقيدة و يحصل الجزم في النيّة و يزول الشكّ و التردّد.
قوله تعالى: وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ.
هذا هو الشرط الرابع، و هو الإخلاص للّه تعالى و نبذ الشرك و الرياء و التواني في طاعته، و بهذا الشرط تستقيم الفطرة بعد ما أفسدها النفاق، و يجعل نفسية المنافق نفسية صادقة مطمئنة مستقيمه ليس لها منبت سوء، فإذا تحقّقت جميع تلك الشروط و استقامت الفطرة و تحقّقت القاعدة الحكيمة المبنية على تعاليم اللّه عزّ و جلّ و دينه الحقّ و ثبت الإخلاص خرج عن النفاق و دخل في جماعة المؤمنين و نال الثواب الجزيل الّذي وعده سبحانه و تعالى لهم.
و هذه الصفات هي صفات المؤمنين المخلصين الّذين تمحّضوا في الإيمان، و قد وردت في الآيات الكريمة الّتي ذكر فيها صفات المؤمنين المخلصين، و قد تقدّم بعضها.
قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: أولئك التائبون الّذين رجعوا عن النفاق و أصلحوا أنفسهم بعد ما أفسدوها مع المؤمنين في الدارين و يعدون من عدادهم؛ لأنّ المنافقين قد أفسدوا فطرتهم فلم يمكنهم الرجوع بمجرّد التوبة بالشروط المذكورة، بل يحتاج الى جهاد و تحمّل مشقّة في ترويض النفس على الإيمان حتّى تستقرّ في قلوبهم تلك الأوصاف؛ و لذا كانوا في ابتداء الأمر مع المؤمنين الى أن يوفّقهم اللّه تعالى بالدخول فيهم فيكونوا منهم حقيقة.
قوله تعالى: وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً.
أي: و سوف يعطي اللّه المؤمنين جميعا- من تقدّم منه النفاق ثمّ تاب، و من لم يتقدّم منه النفاق- أجرا عظيما لا يعلم كنهه و قدره إلّا اللّه تعالى، فيساهم التائبون المؤمنين في ذلك الأجر.
قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ.
تأكيد للوعد السابق للمنافقين بأنّهم إن تابوا فإنّ اللّه تعالى لن يعذبهم؛ لأنّه ما يفعل بعذابهم إن شكروا و آمنوا، و تطمين لقلوب المؤمنين جميعا بأنّ اللّه تبارك و تعالى لا يحبّ عذاب أحد، و إعلام لجميع الناس بأنّ اللّه غني لا يعذب أحدا من دون استحقاق له، و أنّ عذابه لم يكن انتقاما و لا تشفيا من الغيظ ليخمد ثورة الغضب الكامن في قلبه كما هو شأن الإنسان حين ما يغضب، كما لا يكون عذابه لدفع ضرر و لا لجلب منفعة، فهو الغني المتعال عن جميع ذلك.
و في التعبير ايحاء عجيب، و كمال العطف بخلقه، و يستفاد من هذا الأسلوب البديع الّذي اشتمل الاستفهام فيه (ما) على النفي على الموجب عن العذاب بنفي الفعل، و هو أسلوب بلاغي فصيح، فما يفعل اللّه تعالى بعذاب أحد لأنّه لم يكن فيه موجب لعقابه تعالى، فلم يحبّ أن يعذب أحدا من غير استحقاق منه، بل يعاقب المسي‏ء المصرّ على الإساءة؛ لأنّه يكشف عن فساد نيّته و سوء سريرته، فإذا زال ذلك بالشكر و الإيمان و نقّى نفسه و طهّرها بالتوبة، تخلّص من تبعات الكفر و الآثام، فكان في مأمن من العذاب كما وعد عزّ و جلّ.
قوله تعالى: إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ.
بيان بأنّ العذاب وجودا و عدما إنّما هو يرجع الى كفرهم، أو شكرهم و إيمانهم، فلا موجب لعذابكم إن شكرتم اللّه تعالى على ما أنعم عليكم من الفواضل و الفضائل و آمنتم به و عملتم بشرائعه و تعاليمه المقدّسة.
و قد ذكر المفسّرون في وجه تقديم الشكر على الإيمان وجوها:
منها: أنّ الشكر يستدعي معرفة النعمة، و هي تقتضي معرفة المنعم ثم الإيمان به.
و منها: أنّ الشكر طريق موصل الى الإيمان، بل هو أولى درجاته.
و منها: أنّ الكلام مبني على تقديم المؤخّر، أي: آمنتم و شكرتم. و قيل غير ذلك، و لا يخفى ما في بعضها من المناقشة و الخروج عن الذوق البلاغي.
و الحقّ أن يقال: إنّ الآية المباركة تشير الى معنى أدق مما ذكروه، و هو أنّ الشكر من شؤون العبوديّة الّتي خلق اللّه تعالى الجن و الإنس لأجلها، قال عزّ و جلّ: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: ٥]، و العبوديّة جوهرة تتضمّن جميع الحقوق على المخلوق اتّجاه خالقه، و الشكر للّه عنوان العبوديّة و من أهمّ أماراتها؛ لأنّه يوجب صرف جميع ما أنعم اللّه تعالى على العبد في ما خلق لأجله، و به يستعد الإنسان لنيل الفيض من خالقه المنعم عليه، فهو من أوثق الروابط بين المنعم و المنعم عليه؛ و لذا ورد التأكيد على الشكر في عدّة مواضع من القرآن الكريم حتى عدّوه من الحقوق الّتي تدعو الفطرة بمراعاتها و أدائها؛ لأنّه يستدعي معرفة النعمة و المنعم.
و الكفر يعني الخروج عن ناموس الفطرة و قطع تلك الرابطة و تحدّي ناموس الكون، و هو يعني الخروج عن شريعة اللّه تعالى و اتّخاذ المذاهب و الشرائع الّتي هي من صنع البشر، و هذا يعني حدوث الفساد في الأرض.
و دفعا لذلك لا بدّ من الشكر و مراعاة النعمة و أداء حقّ الخالق المنعم بها علينا، ثم يستتبع الإيمان عن قاعدة رصينة و اعتقاد جازم، و لعلّ الإتيان به في‏ المقام مع الإيمان باللّه تعالى لدفع العذاب، و لأجل إزالة الشكوك في النفس و التذبذب في الاعتقاد الّذي كان عليه المنافقون، و فيه التأكيد على مراعاة المنهج الّذي وضعه عزّ و جلّ لمن يريد الرجوع عن النفاق و التوبة منه لشدّة أثره في النفس و القلب و العقيدة.
قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً.
أي: أنّ اللّه تعالى يرضى عن الشاكرين و يثيبهم على شكرهم، عليم بجميع الأمور الجزئيّة و الكليّة، فهو يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور، و يعلم الصادق في إيمانه و الراجع عن نفاقه فيثيبه، و يعلم الكاذب فيجزيه على كفره.
و (الشكور) من أسمائه المقدّسة، و يراد منه الجزاء الكثير و العطاء المتواصل على القليل من الطاعات، و في الدعاء: «يا من يقبل اليسير و يعفو عن الكثير».

اختلف النحويون في مثل قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا فذهب الجمهور الى أنّ الخبر في أمثال هذا الموضع محذوف و به تتعلّق اللام، و التقدير: ما كان اللّه تعالى مريدا للغفران لهم، و نفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه.
و ذهب غيرهم الى أنّ اللام زائدة و الخبر هو الفعل.
و قد أشكل عليه بأنّ انتصاب ما بعدها إن كان باللام فليست زائدة، و إن كان ب (ان) فإنّه يستلزم الإخبار بالمصدر عن الذات و هو فاسد.
و أجيب عن الأوّل بأنّه لا مانع من العمل مع الزيادة، كما في حروف الجر الزائدة.
كما أجيب عن الثاني بأنّه لا مانع من الإخبار بالمصدر عن الذات.
و أشكل عليه بما هو مذكور في المطولات، فراجعها.
و (أن) في قوله تعالى: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها مخفّفة من الثقيلة و اسمها ضمير الشأن مقدّر، و ذكر بعضهم أنّ المقدّر ضمير المخاطبين، أي (انكم).
و أشكل عليه بأنّ (ان) المخفّفة لا تعمل في غير ضمير الشأن.
و أجيب عنه بأنّه يجوز و لو لم تكن ضرورة و التفصيل مذكور في محلّه.
و (إذا) في قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ملغاة؛ لأنّ شرط عملها الّذي هو النصب في الفعل أن تكون مصدرة و (مثل) خبر عن ضمير الجمع، و يستوي فيه الواحد المذكر و غيره؛ لأنّه كالمصدر الّذي يقع على القليل و الكثير، و في المقام قد أضيف الى ضمير الجمع فيدلّ على العموم، و قد يطابق ما قبله في الجمع و الإفراد كقوله تعالى ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ، و يكتسب البناء إذا أضيف الى المبني، سواء كان (ما) كقوله تعالى: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [سورة الذاريات، الآية: 23] أم غيرها. و اشترط بعض النحويين في اكتساب البناء أن لا يقبل المضاف التثنية و الجمع- كدون، و غير، و بين. و لم يصحّ ذلك في (مثل) فراجع المطولات.
و جامع في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ بالتنوين حذف تخفيفا لأنّه بمعنى: (نجمع).
و ذكر بعضهم أنّ المراد بالقلّة في قوله تعالى: وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا العدم.
و استشكل عليه توجيه الاستثناء، و أجيب بأنّ المعنى يرجع الى وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ملحقا بالعدم، و لكن جعل القلّة بمعنى العدم مجاز يحتاج الى عناية، إلّا على طريقة قولهم:
و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب‏

قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ إمّا حال من فاعل يُراؤُنَ، أو من فاعل يَذْكُرُونَ، أو يكون منصوبا على الذمّ بفعل مقدّر.
و (يؤت) في قوله تعالى: وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ حذفت الياء منه في اللفظ كما حذفت في الخط لسكونها و سكون اللام الّتي بعدها، و مثله حذف الياء في قوله تعالى: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ، و قوله تعالى: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ، و قوله تعالى:
يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ، فإنّها حذفت لالتقاء الساكنين.

تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً على كمال الاختيار في الإنسان و الحرية في الاعتقاد؛ لأنّ التقلّب في‏ الإيمان و الكفر ينافي الجبر عليها و الالتزام بأحدهما، و يدلّ عليه أيضا امور يستفاد من الآيات الشريفة الّتي تقدّم تفسيرها.
منها: أنّه لو كان مجبورا لما اختلف في الإيمان و الكفر، و لم يكن متردّدا بينهما، ثم الازدياد في الكفر، و التوغّل في الطغيان، فإنّ ذلك ينافي الجبر كما هو واضح.
إن قلت: إنّ الجبر قد يتعلّق بذات التردّد أيضا، كما يتعلّق بالإيمان أو الكفر.
قلت: على فرض كون الجبر يتعلّق بالتردّد أيضا و كان له وجه معقول، و لكن الازدياد و الطغيان الحاصلان من العبد في كلّ من الإيمان و الكفر ينافي الجبر و لا يتعلّق بهما، فإنّ كلا منهما من فعل العبد و اختياره.
و منها: أنّ الجزاء الّذي ترتّب على الكفر و الارتداد عظيم جدا؛ لعظمة الذنب الّذي اقترفوه، و هو عدم الغفران و عدم اهتدائهم السبيل و العذاب الأليم، و هو يدلّ على اختيارهم، إذ لا وجه للجزاء على فعل يكون الإنسان مجبورا على إتيانه.
كما يدلّ على نفي التفويض أيضا، فإنّه غير معقول أن يفوض اللّه تعالى الأفعال الى العباد، و لم يهدهم سبيلا للرشاد، و لم يوفقهم الى خيرهم و سعادتهم و يبعدهم عن رحمته.
و منها: قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ فإنّ الاتّخاذ نصّ على الاختيار مادّة و هيئة كما هو واضح، إذا لا جبر في البين؛ لأنّ الاتّخاذ فعل العبد، فيدلّ على الاختيار، كما في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ [سورة المائدة، الآية: ٥۷]، و قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً [سورة التوبة، الآية: 31]، و قوله تعالى: اتَّخَذُوا الْعِجْلَ* [سورة النساء، الآية: ۱٥۳]، بخلاف (أخذ) فإنّه أعمّ كما في قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ* [سورة الذاريات، الآية: ٤٤]، و قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ* [سورة المؤمنون، الآية: ٤۱].
و قد استعمل القرآن هذه الهيئة (اتخذ) في التردّد و العصيان غالبا، بخلاف الأخذ كما عرفت.
و منها: قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فإنّ إثبات المثليّة بين طائفتين في الإيمان و الكفر لا تحصل إلّا في ظرف الاختيار، و لا يمكن أن تتحقّق بين طائفتين مجبورتين على الإيمان و الكفر؛ لأنّه لا يمكن أن يخرج المجبور عن ما اجبر عليه.
إن قلت: إنّ الذمّ قد يتعلّق لصفة غير اختياريّة، كما يقال مثلا: الحنظل مرّ.
قلت: إطلاق الذمّ على أمر غير اختياري شي‏ء و العقاب عليه شي‏ء آخر، و انّه يتعلّق بأمر مختار، فبالاختيار يأكل الحنظل و يترتّب عليه آثاره الوضعيّة، و كذا في الكفر و هكذا، و للكلام تفصيل موكول الى محلّه.
و منها: قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً فإنّه يدلّ على أن من أراد الكفر فقد اختار إلزام نفسه بالحجّة، و أراد لنفسه العقاب، و لا وجه لثبوت الحجّة على أمر هو مجبور على فعله أو مفوض إليه، كما هو واضح.
و منها: قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ فإنّه يدلّ بوضوح على نفي الجبر و التفويض، إذ العذاب وجودا و عدما معلّق على اختيار الإيمان و الكفر.
و مجموع الآيات الشريفة تدلّ على النظرية الّتي أسّسها الأئمة الهداة عليهم السّلام في أفعال الإنسان، و هي نظرية الأمر بين الأمرين، فإنّ قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا يدلّ على أنّ الهداية و التوفيق من اللّه تعالى، فلا بدّ منهما في كلّ فعل من الأفعال، فمن يختار الإيمان و الطاعة إنّما يكون بتوفيق منه عزّ و جلّ، و من كفر و أعرض عن الطاعة فقد سلب منه التوفيق، و من المعلوم أنّ التوفيق لم يكن العلّة التامّة في تحقّق أحدهما، و إلّا كان مناقضا للأدلّة المتقدّمة الدالّة على نفي الجبر و ثبوت الاختيار.
إن قلت: إنّ التوفيق و الهداية من اللّه تعالى و إن لم تكونا العلّة التامّة، و لكنهما جزء العلّة، و المعلول ينتفي بانتفاء أحد أجزاء العلّة.
قلت: نعم إنّ التوفيق جزء العلّة، و لكن الجزء الآخر هو اختيار الإنسان، فالتوفيق له أثر كما أنّ لبقية الأمور من الزمان و المكان لها الأثر في تحقّق المعلول.
و قد تقدّم في أحد مباحثنا ما يتعلّق بالمقام فراجع.الثاني: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا على أنّ التقلّب في الكفر يوجب الطغيان على اللّه تعالى و التمرّد على تعاليمه. فإنّ من أنس بالكفر و طبع قلبه عليه و تمرّن على الردّة و كان الإيمان و الطاعة عنده أهون شي‏ء، كيف يمكن أن يكون مؤهّلا للمغفرة و مهيئا للهداية؟! و هو يوجب فساد الفطرة و انتشار الفساد و تغلّب الشرّ، و في ذلك ضياع للإنسانيّة.
و لا تختصّ تلك بالتقلّب في الإيمان و الكفر و الارتداد، بل الإصرار على ارتكاب المعاصي و الآثام و التطبّع عليها و التقلّب فيها توجيها أيضا. ألا ترى أنّ ما أصاب الإنسانيّة الحاضرة من الجاهليّة البغيضة ليست إلّا نتيجة ارتكاب المعاصي و الخروج عن طاعة اللّه تعالى، و هو ممّا حذّرنا اللّه تعالى عنه بأحسن بيان و أبلغ أسلوب، و يكفي لوصول الإنسان الى المرتبة الدانية الّتي يعبّر عنها عزّ و جلّ ب أَسْفَلَ سافِلِينَ [سورة التين، الآية: ٥] عدم تأثير تلك المواعظ البليغة في تلك القلوب الّتي طبعت على التمرّد و الأقسى من الحجارة، و قد أثّرت في القلوب الّتي كانت في عصر النزول مع ما عليها من الانحطاط و التخلّف و البعد عن الحقّ و الواقع، فما أبعد ما بين الجاهليتين، و ما أشدّ الثانية و أقساها، فقد أنست الإنسان نفسه، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ* وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [سورة الحشر، الآية: 18- 19]، و لا يمكن أن يتصوّر أمر أشدّ خطرا على أحد أن ينسى نفسه و لا يدري أنّه إنسان شرّفه اللّه تعالى على سائر خلقه، و هو من المهلكات، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.
الثالث: يدلّ قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أنّ‏ التوفيق و الهداية لا بدّ منهما في حياة الإنسان المادّية و المعنويّة، و لا يمكن بدونها أن يصل الى الكمال، بل و لا يستعدّ للاستكمال. و في الدعاء المأثور: «ربّنا لا تكلنا الى أنفسنا، فإنّك إن وكّلتنا الى أنفسنا تباعدنا من الخير و تقرّبنا الى الشرّ».
الرابع: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً جواز إطلاق الإيمان على الإيمان غير المستقرّ، كما يدلّ أيضا على أنّ للايمان مراتب، و كذا الكفر.
الخامس: يستفاد من الآيات المباركة العلل الّتي توجب النفاق، و هي عديدة، و منها راجعة الى نفسيّة المنافق، كالتذبذب في الاعتقاد، و عدم اليقين بآثاره الحسنة الّتي تقع في النفس، و من هذا القسم الرياء أيضا. فإنّه يرجع الى عدم الاعتماد على اللّه تبارك و تعالى لانتفاء الثقة به عزّ و جلّ.
و منها: راجعة الى العمل، كالكسل في العبادة و ابتغاء المنفعة في جميع الأفعال.
و منها: راجعة الى فساد النيّة، و هي الخديعة، و عمدتها الاستهزاء باللّه و آياته و تعاليمه المقدّسة، و اتّخاذ الكافرين أولياء بالقعود معهم و إلقاء المودّة إليهم، و ابتغاء العزّة عندهم بالإعراض عن المؤمنين و طريقهم إلّا في ما يثبتون نفاقهم به.
و الآيات الشريفة من الآيات المعدودة الّتي تبيّن الجوانب المتعدّدة في صفة النفاق، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها.
السادس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ أنّ القعود مع أهل الكبائر و الجلوس مع أرباب المعاصي، يستلزم الانخراط فيهم و الاشتراك معهم في المعصية، و انطباع آثارها عليهم، و لو لم يكن من آثارها إلّا سلب التوفيق لكفى في الابتعاد عنهم، ففي دعاء أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما) عند تعداد ما يوجب سلب التوفيق قال عليه السّلام: «أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني و بينهم خليتني، أو لعلّك لم تحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني».
السابع: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً أنّ المنافق بحكم الكافر، و أنّهما يشتركان في العذاب و إن اختلفا في شدّته، فإنّ المنافق في الدرك الأسفل من النار.
الثامن: يستفاد من قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أنّ اللّه تعالى وعد المؤمنين بإحباط جميع محاولات الكافرين للتسلّط عليهم و الاستيلاء على منافعهم، فإنّهم أقوى حجّة و أسدّ رأيا و أثبت عزيمة و أشدّ ثباتا، فلا يضرّهم استيلاؤهم برهة من الزمن على المؤمنين.
التاسع: يستفاد من قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أنّ العذاب الإلهي إنّما يكون عن حجّة ملزمة للمعذّبين، فكل ضلال و سخط إلهي- سواء أ كانا في الدنيا أم في الآخرة- إنّما يكون عن حجّة واضحة يجعلها العباد على أنفسهم بسبب أعمالهم، فتكون من قبيل المقابلة و المجازاة، فلن يبدأ اللّه تبارك و تعالى بعذابهم أبدا، فالعذاب أو ما يستوجبه من الضلال و المعاصي إنّما يكون من قبلهم.
فما يظهر من بعض الآيات المباركة من إسناد العذاب إليه عزّ و جلّ، إنما يكون من قبيل إسناد الأثر الى موجده، و أما السبب في الاستحقاق و الأهلية فمن ناحية العبد.
العاشر: تدلّ الآية الشريفة إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ أنّ أمر التوبة من النفاق شديد- و ليست كسائر المعاصي- فلن تتحقّق إلّا مع الشروط المذكورة، كما عرفت من أنّ النفاق مرض عضال يفسد النيّة و العقيدة و يؤثّر في النفس و العمل، و قد تكفّلت هذه الشروط جميع تلك الجوانب كما عرفت في التفسير.
الحادي عشر: يستفاد من قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أنّ المنافق إذا طهّر قلبه عن النفاق و أخلص عقيدته بالتوجّه إليه تعالى، يكون مع المؤمنين لا امتياز بينهم و بينه، و أنّ أوزاره ذهبت بالتوبة الّتي استجمعت تلك الشروط، و لعلّ‏ قاعدة الجب المستندة الى قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يجبّ ما قبله، و التوبة تجبّ ما قبلها»- أي يمحوان ما كان قبلهما من الكفر و النفاق و المعاصي و الذنوب- مأخوذة من هذه الآيات المباركة و أمثالها.
الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً أنّه في مقام الامتنان على المؤمنين- سواء من تقدّم منه النفاق أو من لم يتقدّم منه- و لا يضرّهم النفاق السابق بعد التوبة الخالصة، و أنّ كلمة الإطماع أو الترجئة (و سوف) من اللّه تعالى إيجاب؛ لأنّه أكرم الأكرمين، و وعد الكريم إنجاز.
و اتّصاف الأجر بالعظمة إما لأنّه من الكريم، و ما يفيض منه لا يقدر بقدر فيكون عظيما، كما في القدسيات: «من تقرّب إليّ شبرا، تقرّبت إليه ذراعا، و من تقرّب إليّ ذراعا تقرّبت إليه باعا، و من أتانى يمشي أتيته هرولة»، فمن توجّه الى عالم الغيب بالإيمان الكامل يهب له من نفحاته إلى أن يصل قرب ساحة كبرياء أنسه.
و إمّا لأهليّة الطرف، فإنّ الإيمان باللّه و صيرورة العبد مؤمنا باليقظة عن نومة الغفلة، بالرجوع الى الحقّ، يقتضي أن يكون أجره عظيما؛ لقانون النسبة و التناسب.
الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أنّه سبحانه و تعالى منزّه عن الصفات غير الحميدة، و هي الصفات السيئة الّتي تخصّ الملوك غالبا، كالتشفّي من الغيظ و أخذ الثأر و استجلاب النفع و غيرها؛ لأنّه جلّت عظمته غني لذاته و بذاته، و في الحديث: انّ اللّه تعالى قال لموسى عليه السّلام: «ما خلقت النار بخلا مني، و لكن أكره أن أجمع أعدائي و أوليائي في دار واحد»، و قد أدخل سبحانه تعالى بعض عصاة المؤمنين النار ليعرفوا قدر الجنّة و مقدار ما دفع اللّه عنهم من عظيم النقمة، و لتعظيم النعمة الّذي هو واجب عقلي.
الرابع عشر: يستفاد من تقديم الشكر على الإيمان في قوله تعالى: إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ أنّ المؤمن لا بدّ أوّلا أن يعترف بنعمة العبوديّة للّه تعالى، ثمّ‏ يتدرّج للوصول الى الكمالات بالإيمان و الطاعات؛ لأنّ الشكر من العبد اعتراف منه بعبوديته و من اللّه تعالى رضى باليسير من طاعة عباده.
الخامس عشر: يستفاد من قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً كمال العناية و اللطف بالمؤمنين، فإنّهم مع كونهم مخلوقين مربوبين لا يمكنهم الحياة إلّا بألطافه المقدّسة، فإنّ اللّه تعالى يمنحهم عطية اخرى و يلطف بهم أن يشكرهم على يسير أعمالهم، و أنّه عليم بشكركم و إيمانكم، فيستحيل أن لا يوفيكم أجوركم.

ذكر الكليني في الكافي، و العياشي في تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا روايات تدلّ على أنّ الآية الشريفة نزلت في شأن جماعة معينة لم يكن إيمانهم ناشئا من الواقع و الحقيقة، و إنّما كان إيمانهم باللّه العزيز و برسوله الكريم لأجل منافعهم الشخصيّة و مصالحهم الخاصّة الّتي كانت في نيّاتهم؛ و لذلك كانوا يكفرون باللّه العظيم و برسوله الأمين إن تعارض الإيمان مع تلك الأماني المزعومة أو تمسّ بمكانتهم الاجتماعيّة، فيؤمنون باللّه تعالى إن وافق الإيمان معها ثم يكفرون إن عاد التعارض و التباعد بينهما، فإذا يئسوا من التوافق بقوا على كفرهم و نموا عليه، كما هو شأن كلّ منافق.
و لكن هذه الروايات كلّها من باب التطبيق و الجري لا من باب التخصيص، لأنّ الآية المباركة عامّة لا تختصّ بزمن معين- كعصر نزول القرآن أو ما حصل من الحوادث- كالغزوات و غيرها- في عصر الرسول الأمين أو بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله الى الملأ الأعلى.
كما لا تختصّ بأفراد معيّنة خاصّة، بل إنّ مضمونها يشمل كلّ عصر و زمان و كلّ فرد انطبقت الآية المباركة عليه و اتّصف بالتذبذب؛ لأنّها في مقام بيان قاعدة كلّية سارية في جميع الأزمنة و المجتمعات. و لا حاجة بعد ذلك الى سرد تلك الروايات و المناقشة فيها بعد ما عرفت.
و في تفسير العياشي بإسناده عن أبي بصير قال: «سمعت الصادق عليه السّلام يقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً من زعم أنّ الخمر حرام ثمّ شربها، و من زعم أنّ الزنا حرام ثمّ زنا، و من زعم أنّ الزكاة حقّ و لم يؤدّها.
أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:
الأوّل: أنّ المعصية- سواء كانت فعل محرّم أو ترك واجب- مرتبة من الكفر و لو كانت أدناها، فلا تنافي بين هذه الرواية و ما تسالموا عليه من أنّ ترك الواجب أو فعل الحرام لا يوجب الكفر، أي بالمرتبة العالية.
أو يجمع بينهما بأنّ الرواية في مقام بيان إنكار أصل الحكم و جحوده، فيرجع الى إنكار الضروري الّذي يؤدّي الى الكفر بالاتّفاق، كما ذكرناه في كتابنا (مهذب الأحكام).
الثاني: سياق الآية المباركة و إن كان في الكفر في اصول الدين بأعلى مراتبه- كما يدلّ ذيلها- إلّا أنّ تمسّك الإمام عليه السّلام بها في الكفر في الفروع تكون قرينة على أنّ الكفر الوارد فيها عامّ بجميع مراتبه، فيشمل الكفر في الفروع أيضا.
الثالث: لا بدّ في الإيمان من الحجّة الظاهريّة؛ لأنّ الاعتقاد أو الزعم لا يتحقّق إلّا بها و أنّ المدار عليها، لا الواقع المستور عنا، كما ذكرنا ذلك مفصّلا في كتابنا (تهذيب الأصول).
الرابع: أنّ للاختيار دخلا في كلّ منهما، فلا عبرة بما لا يكون كذلك، كما هو المنساق من الآية المباركة و ظاهر الرواية.
و في الدّر المنثور في قوله تعالى: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً عن أنس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يقول كلّ يوم أنا ربّكم العزيز، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز».
أقول: على فرض صحّة الحديث إنّ المراد من قوله تبارك و تعالى نوع من الإلهام الفطري لخلقه حتّى لا يستلزم أي محذور، و إنّ العزّة فيه جلّ شأنه هي بمعناها الحقيقي الواقعي، أي الغالب الّذي لا يغلب أصلا، و إنّه يهب العزّ لمن يشاء من عباده؛ لكرمه وجوده، و من أسمائه تعالى (المعزّ).
و أما أن إطاعته تستلزم عزّ الدارين، فإنّه من باب الترتّب المسبّب على السبب، فإنّ الانقياد الى العزيز الفياض يوجب ذلك.
و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً قال: نزلت في بني امية حيث حالفوهم على أن لا يردّوا الأمر في بني هاشم. ثم قال: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ يعني: (القوة).
أقول: الرواية من باب التطبيق و الجري لا الحصر و التخصيص.
و في تفسير علي بن إبراهيم أيضا في قوله تعالى: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها قال: «آيات اللّه هم الأئمة عليهم السّلام».
أقول: إنّ ذلك من باب ذكر أكمل المصاديق و أجلّها، و إلّا فإنّ آيات اللّه تشمل كلّ خلق يدلّ على وحدانيته و قيّوميته الجامعة لجميع صفات الكمال، بل إنّ نظام الكون يدلّ على ذلك.
و في الكافي بإسناده عن شعيب العقرقوفي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله عزّ و جلّ: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها الى آخر الآية فقال: إنّما عنى بهذا الرجل يجحد الحقّ و يكذب به و يقع في الأئمة، فقم من عنده و لا تقاعده كائنا من كان».
أقول: و مثله ما عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام إلّا أنّ فيه: «و يقع في أهله»، و الرواية من باب التطبيق، و النهي عن المجالسة من باب النهي عن المنكر و من مراتبه، فإنّ العنصر الفاسد الّذي يعلم بالحقّ و يجحده لا بدّ من مقاطعته- إن لم تؤثّر فيه المراتب المذكورة في كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- حتّى لا يفسد المجتمع.
و في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق عليه السّلام قال: «فرض اللّه على السمع أن يتنزّه عن الاستماع الى ما حرّم اللّه، و أن يعرض عمّا لا يحلّ له ممّا نهى اللّه عزّ و جلّ عنه و الإصغاء الى ما أسخط اللّه عزّ و جلّ، فقال في ذلك: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ قال: ثم استثنى اللّه تعالى عزّ و جلّ موضع النسيان فقال: وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».
أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:
الأوّل: أنّ التعبير الوارد في هذه الرواية و أمثالها من تعلّق التكليف بالجارحة، كقوله عليه السّلام: «فرض اللّه على السمع»، إنّما هو باعتبار أن الجارحة الخاصّة هي المباشرة للعمل أو الصادرة منها، و إلّا فإنّ التكليف يتعلّق بالنفس الكاملة- لا بالجوارح الّتي هي تحت إرادة النفس- فإنّها المسؤولة عن التكاليف، كالغيبة مثلا تصدر عن اللسان أو الكذب أو غيرهما، فإذا كان شخص لم يكن له لسان كالأخرس فأشار بما يسوء أخاه المؤمن المعيّن أو كتب ذلك، فهل لا تشمله أدلّة حرمة الغيبة بدعوى أنّ الوارد فيها فرض اللّه على اللسان مثلا؟! مع أنّ العقاب على النفس و تمام الجسم كما ثبت في علم الكلام، و في المقام: «فرض اللّه على السمع» باعتبار أنّ السمع هو المباشر، و إلّا فالتكليف متوجّه الى النفس.
إن قلت: مقتضى الآية الشريفة أنّ الأعضاء هي المسؤولة، قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [سورة الإسراء، الآية: ۳٦].
قلت: أولا: إنّ الآية المباركة في مقام بيان طلب الإقرار في يوم القيامة، نظير قوله عزّ و جلّ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النور، الآية: ۲٤]، و قوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة يس، الآية: ٦٥]، و قال سبحانه و تعالى: وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ* حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ [سورة فصلت، الآية: 19- 21].
و ثانيا: على فرض العموم في الآية الشريفة أنّ المسؤولية فيها باعتبار الروح أو النفس الّتي تعلّق بها، فالمدار على الإرادة مع العمل، و إلّا فنفس العضو لم يكن مسئولا لو صدر منه العمل بلا إرادة أو لا اختيار، و يدلّ على ما ذكره قوله تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [سورة الشمس، الآية: 7- 9] و غيره من الآيات الشريفة.
الثاني: ورد فيها الاستماع، و هو قصد السماع الى ما حرّمه اللّه تعالى أو ما أسخطه. أما لو سمع- أي بلا قصد منه- فلا يشمله الحكم، لفرض عدم الإرادة و فقدان القصد.
الثالث: إحراز عنوان ما حرّمه اللّه تعالى أو ما أسخطه، فلو شكّ في تحقّق العنوان فلا يشمله الحكم المذكور في الآية المباركة.
الرابع: أنّ التكاليف- و منها النواهي- متقوّمة بالعلم و الاختيار، ففي حالة الجهل أو النسيان و الاضطرار لا يتنجّز التكليف، كما يستفاد ذلك من قوله تعالى: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الانعام، الآية: ٦۸] و غيره من الآيات الشريفة.
الخامس: أنّ ارتكاب المناهي و المحرّمات ظلم على النفس؛ لإخراجها باختياره عن الفطرة المستقيمة و كسب استحقاق العقاب لها كما ذكرنا ذلك مكرّرا.
الكشي في رجاله بإسناده عن محمّد بن عاصم قال: «سمعت الرضا عليه السّلام يقول: يا محمّد بن عاصم، بلغني أنّك تجالس الواقفيّة، قلت: نعم جعلت فداك، أجالسهم و أنا مخالف لهم، قال عليه السّلام: «لا تجالسهم، قال اللّه عزّ و جلّ: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ‏ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني بالآيات الأوصياء و الّذين كفروا يعني الواقفية».
أقول: الرواية من باب التطبيق، و النهي عن المجالسة معهم إمّا من باب حرمة إعانة الظالم في ظلمه، أو من باب وجوب النهي عن المنكر عملا. و الواقفية طائفة من الشيعة وقفوا على موسى بن جعفر عليهما السّلام، و قد ورد عن أبي الحسن الرضا (سلام اللّه عليه) التشنيع في حقّهم و ذمّهم كثيرا، و له مراتب كما مرّ.
و في تفسير العياشي بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم و قسّمه عليها، فليس من جوارحه جارحة إلّا و قد وكّلت من الإيمان بغير ما وكّلت أختها، فمنها: أذناه اللتان يسمع بهما، ففرض على السمع أن يتنزّه عن الاستماع الى ما حرّم اللّه و أن يعرض عمّا لا يحلّ له فيما نهى اللّه عنه، و الإصغاء الى ما أسخط اللّه تعالى فقال في ذلك: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ، ثمّ استثنى موضع النسيان. فقال: وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، و قال تعالى: فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ، و قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، و قال تعالى: وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، و قال تعالى: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً، فهذا ما فرض اللّه على السمع من الإيمان و لا يصغي الى ما لا يحلّ و هو عمله و هو من الايمان».
أقول: تقدّم في الرواية السابقة ما يتعلّق بفرض الإيمان على الجوارح و بسطه عليها، و الآيات الكريمة المذكورة فيها كلّها من باب ذكر أحد المصاديق، و الرواية من باب التطبيق.
و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنّها: «نزلت في عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه الّذين قعدوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في يوم احد، فكان إذا ظفر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالكفّار قالوا له: ألم نكن معكم، و إذا ظفر الكفّار قالوا: أ لم نستحوذ عليكم، ألم نعينكم و لم نعن عليكم، قال اللّه تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا».
أقول: الرواية تبيّن حقيقة النفاق، و أنّها من باب ذكر أحد المصاديق.
و في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في قول اللّه جلّ جلاله: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا قال: فإنّه يقول: «و لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين حجّة، و لقد أخبر اللّه تعالى عن كفّار قتلوا أنبياءهم بغير الحقّ، و مع قتلهم إيّاهم لم يجعل اللّه لهم على أنبيائه سبيلا».
أقول: إنّ تفسيره عليه السّلام السبيل بالحجّة أعمّ من أن تكون في هذه الدنيا أو في الآخرة، فلا تنافي بينه و بين ما يأتي عن علي عليه السّلام، و المراد من ذيل الرواية أكثر أنبياء بني إسرائيل الّذين لم يتحقّق لهم الظفر الظاهري في هذه الدنيا مع أنّ الحجّة كانت معهم.
و في الدرّ المنثور عن ابن جرير عن علي عليه السّلام في قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا قال: «في الآخرة».
أقول: و كذا عن ابن عباس أيضا، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ ذلك اليوم هو يوم تجلّى الحقّ و ظهوره، كما في الآية المبارك: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ مَآباً، و أنّ الحجّة هي الحقّ و المؤمن مع الحقّ في جميع عوالمه، و الكافر مع الباطل كذلك، و لكن في يوم القيامة يتجلّى ذلك.
و ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا تنافي بينها و بين الرواية السابقة، و لنفي السبيل في الدنيا أو الآخرة مراتب كثيرة و جهات متعدّدة أشرنا إليها في التفسير.
و في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ قال: «الخديعة من اللّه العذاب و إذا قاموا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله‏ الى الصلاة قاموا كسالى، يراؤن الناس أنّهم مؤمنون: وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا* مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ وَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ أي: لم يكونوا من المؤمنين و لم يكونوا من اليهود».
أقول: المراد من عذاب اللّه تعالى للعاصين و الخادعين هو جزاء أفعالهم الشنيعة، أو ما يترتّب على أعمالهم السيئة، سواء كان ذلك وضعيّا أم غيره، ففي الأثر: «يلقى على كلّ مؤمن و منافق نور يمشون به يوم القيامة حتّى إذا انتهوا الى الصراط طفئ نور المنافقين، فيقومون في ظلمهم، و مضى المؤمنون بنورهم»، فكلّ من الطائفتين نال جزاء عمله، أو من باب أثره الوضعي، فخديعة اللّه تعالى في الحقيقة ليس إلّا الجزاء، ففي المؤمن حسنة، و في المنافق كعمله خديعة، و أمّا ذيل الرواية فمن باب ذكر أجلى صفات المنافقين في أفعالهم الخارجية و هي الرياء لعدم رسوخ الإيمان و استقراره في قلوبهم. و قريب منها ما عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام.
و في الكافي بإسناده عن أبي المعزى قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من ذكر اللّه عزّ و جلّ في السرّ، فقد ذكر اللّه كثيرا، أنّ المنافقين كانوا يذكرون اللّه علانية و لا يذكرونه في السرّ فقال اللّه عزّ و جلّ: يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا».
أقول: المراد من ذكر اللّه تعالى في السرّ هو الفرائض الواجبة على المؤمن، و سمّي بذلك لأنّها بين العبد و المولى فقط لا يطّلع عليها أحد، و في حديث معاذ بن جبل في قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [سورة الطارق، الآية: 9] قال: «سألت النبي صلّى اللّه عليه و آله ما هذه السرائر الّتي تبلى بها العباد يوم القيامة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: سرائركم من الصلاة و الصيام و الغسل من الجنابة و كلّ مفروض، فالأعمال كلّها سرائر خفيّة، فإن شاء قال: صليت، و لم يصل»، فالمؤمن مع اللّه تعالى دائما في السرّ بأداء الفرائض.
و في صفات المؤمن: أنّ سرّه و علانيته واحد بخلاف المنافق، فيختلف كلّ منهما حسب مصلحته الشخصيّة.
و الذكر أعمّ من الذكر اللفظي و القلبي أي التوجّه، أو العملي كالصلاة و الحجّ و غيرهما كما مرّ ذلك. و المنافق إنّما يذكر اللّه علانية لأجل إغواء المؤمنين، و لجلب منفعته و مصلحته، و ليست الرواية في مقام بيان قلّة الذكر و تحديده.
و في الكافي بإسناده عن زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: لا تقم الى الصلاة متكاسلا و لا متناعسا و لا متثاقلا، فإنّهما من خلال النفاق، فإنّ اللّه تعالى نهى المؤمنين أن يقوموا الى الصلاة و هم سكارى، يعني سكر النوم، و قال للمنافقين:
وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‏ يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا.
أقول: الكسل هو ثقل انبعاث النفس للخير مع استطاعتها على ذلك، بخلاف العجز، و الوجه في تكاسل المنافقين في خصوص الصلاة لأنّها من الشعيرة الّتي بها يتميّز المسلم عن غيره، و هي الرابطة الكاملة بين العبد و مولاه؛ و لذلك كانت الصلاة عليهم ثقيلة، بخلاف المؤمن فيجد فيها الراحة و العروج له.
و الخلال: جمع خلّة كالخصلة و الخصال لفظا و معنى، أي: أنّ التكاسل و التثاقل من خصلة النفاق و علائمه.
و في العيون بإسناده عن الحسن بن فضال قال: «سألت علي بن موسى الرضا عليه السّلام عن قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ؟ فقال: اللّه تبارك و تعالى لا يخادع، و لكنه يجازيهم جزاء الخديعة».
أقول: هذه الرواية تدلّ على ما ذكرناه آنفا بالوضوح.
و في العيون أيضا بإسناده عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام: «انّ رسول اللّه سئل: فيم النجاة غدا؟ فقال: إنّما النجاة غدا في أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم، فإنّه من يخادع اللّه يخدعه و يخلع منه الإيمان و نفسه يخدع لو يشعر، فقيل: له كيف يخادع اللّه؟ قال: يعمل بما أمره اللّه عزّ و جلّ ثم يريد به غيره، فاتّقوا الرياء فإنّه شرك باللّه عزّ و جلّ، إنّ المرائي يوم القيامة ينادى بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر، حبط عملك و بطل أجرك و لا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له».
أقول: إنّ ما يستفاد من هذه الروايات و الآيات المباركة أنّ اللّه تبارك و تعالى يحبّ الحقيقة و الواقع في كلّ شي‏ء و يبغض العمل المزدوج و المكر و الخديعة في كلّ أمر، و من خادع معه جلّ شأنه يجازيه حسب عمله و يخلع منه الإيمان الفطري، فلا يستقيم في مناهجه و لا يثبت في عقيدته، فيكون في التذبذب دائما؛ لأنّه يضمر شيئا و يظهر شيئا آخر، فتكون نفوسهم في الشقاء الدائم و العذاب المستمر حتّى في الدنيا فكيف بالآخرة؟! و لا يتنعّمون في الدارين، و الاختلاف في الأسماء لعلّه من باب الاختلاف في الجزاء و البعد عنه عزّ و جلّ.
و في الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر عن علي عليه السّلام قال: «لا يقل عمل مع تقوى، و كيف يقل ما يتقبّل؟!».
أقول: التقوى و الإخلاص في العمل بمنزلة الروح في الجسد، فالعمل إن لم يكن فيه إخلاص و تقوى، لم يكن له وزن أصلا و إن كان في غاية الكثرة، و لو كان فيه إخلاص فهو كثير و يدوم و يبقى و لو كان العمل قليلا، و لو وقع العمل مورد قبوله تعالى فهو يزكي و ينمو، كما يدلّ عليه كثير من الآيات الشريفة و الروايات المعصوميّة.
و في سنن البيهقي عن أنس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تلك صلاة المنافق، يجلس و يرقب الشمس حتّى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا، لا يذكر اللّه إلّا قليلا».
أقول: ما ذكره صلّى اللّه عليه و آله كناية عن الاستخفاف بالصلاة و عدم توقيرها. و إتيان مجرّد هيئة عجفاء، لأنّها لم تنبعث عن نفس مطمئنة بالإيمان.
و لعلّ المراد من ذيل الحديث: «قرني الشيطان» التشبيه، فكما أنّ الإنسان ينادي و يخاف من القرن الّذي في جانبي رأس الحيوان، فكذلك من الشيطان لأنّه يبثّ جميع قوّاده و أعوانه عند طلوع الشمس و يجمعهم عند غروبها، ففي الوقتين يحتاج الى القوّة فيكون كالحيوان الّذي يجمع قواه في رأسه للدفاع عن نفسه أو لفريسته.
أو أنّ المراد حين تطلع الشمس يتحرّك الشيطان برأسه لإغراء الناس في يوم جديد.
أو التمثيل لمن يسجد للشمس، فكأنّ الشيطان سوّل له ذلك، فإذا سجد لها كان الشيطان مقترنا بها.
أو أنّ المراد أنّ الشيطان مكبول بقرنيه و مغلوب تحت آية من آيات اللّه تعالى، فلو أراد التجاوز أهلكته بعذابها و نارها.
أو كناية عن تحديد قوى الشيطان، لها طلوع و افول، و لم يكن عنده الاستيلاء التامّ، فيكون المراد من القرن القوّة.
و كيف كان، فهو من جوامع كلماته الشريفة الّتي تفتخر أمته بإعطائها له صلّى اللّه عليه و آله.
و في الدرّ المنثور عن ابن عباس: «كلّ سلطان في القرآن فهو حجّة».
أقول: سمّي الحجّة سلطانا؛ لأنّها تستقرّ في القلوب و تتأثّر بها، أو أنّ أكثر تسلّطه على أهل العلم و الحكمة من المؤمنين، و لكنّها تختلف حسب الإشراق و كسب الكمال، قال تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ* [سورة هود، الآية: ۹٦]، و قال تعالى: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ* [سورة غافر، الآية: ۳٥].
و في سنن النسائي بإسناده عن مصعب بن سعد عن أبيه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّما ينصر هذه الامة بضعيفها، بدعوتهم و صلاتهم و إخلاصهم».
أقول: المراد من الضعيف من لا حول له و لا قوّة في هذه الدنيا، و أنّ انقطاعه الى اللّه تعالى أكثر من غيره، كما هو الغالب.
و المراد من الإخلاص: من كان عمله للّه تعالى و لا يحبّ أن يحمده الناس عليه، كما في بعض الروايات.
و يستفاد منها أنّ ما ورد فيها من أهمّ أسباب النصرة، فلا تنافي غيرها من الروايات.
و فيه أيضا عن الترمذي في نوادر الأصول عن زيد بن أرقم قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و ما أخلص عبد للّه أربعين صباحا، إلّا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».
أقول: للإخلاص آثار وضعيّة كثيرة، منها ما تقدّم في الرواية، و كان بعض مشايخنا في العرفان (رحمة اللّه تعالى عليه) يدّعي التجربة في ذلك.
و منها: البعد عن المشقّة بكثرة العمل، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله لمعاذ بن جبل:
«أخلص دينك يكفيك القليل من العمل».
و منها: النيل الى مقام تربية الخلق و نجاتهم من عذاب الجهل و هلاك النفس، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «طوبى للمخلصين، أولئك مصابيح الهدي تنجلي بهم كلّ فتنة ظلماء».
و منها: امتيازهم عن سائر الناس بعدم سؤالهم من غيره تعالى و إقرارهم بالعبوديّة، و التوكّل عليه و خوفهم منه تعالى، كلّ ذلك دلّت عليه الروايات.
و منها: حصول الثقة في جميع أعماله، و البعد عن القنوط و اليأس، الى غير ذلك من الآثار الوضعيّة المذكورة في كتب الأخلاق.
و أمّا تقييد الرواية بالصباح، فقد تقدّم في البحث الفلسفي في قوله تعالى: وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى‏ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة البقرة، الآية: ٥۱] ما يتعلّق بذلك.
و التقييد بأربعين فلعلّه أنّ لهذا العدد خصوصية في تهذيب النفس، أو به يحصل الانقطاع الكامل إليه جلّت عظمته، و اللّه العالم.
و في الدرّ المنثور عن زيد بن أرقم قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قال: لا إله إلّا اللّه مخلصا دخل الجنّة، قيل: يا رسول اللّه و ما إخلاصها؟ قال: أن تحجزها عن المحارم».
أقول: الروايات في ذلك مستفيضة مذكورة في جوامع الشيعة و السنّة، و لا شكّ أنّ التوحيد لو كان عن عقيدة كاملة و إخلاص يوجب الفوز بنعيم الجنّة؛ لأنّ للإخلاص أثره، و منه الحجز عن المحارم.
و عن البيهقي في سننه بإسناده عن أبي ذرّ: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، و جعل قلبه سليما، و لسانه صادقا، و نفسه مطمئنة، و خليقته مستقيمة، و اذنه مستمعة، و عينه ناظرة، فأمّا الاذن فقمع، و العين مقرة لما يوعي القلب، و قد أفلح من جعل قلبه واعيا».
أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة جدا في جوامع الشيعة و السنّة، و إنّ ما ذكره صلّى اللّه عليه و آله من صفات المخلصين و لا شكّ أنّ لكلّ منها مراتب و درجات.
و القمع- بفتح القاف و كسر الميم- هو الإناء الّذي يترك في رءوس الظروف لتملأ بالمايعات من الأشربة و الأدهان، فيسقى به أو يفرغ منه في ظرف آخر. و إنّما شبه صلّى اللّه عليه و آله السمع الّذي يسمع القول و لا يحفظه و لا يعنيه به، لأنّ القول يمرّ على السمع بلا درك و إصغاء، كما يمرّ الشراب في القمع اجتيازا.
و العين مقرة لما يوعى القلب، أي: تكشف بالعين و تظهر ما وعاه القلب، و هو كناية عن أنّ السرائر لا محالة تنكشف.
و هناك روايات اخرى وردت في شأن نزول الآيات المباركة لا حاجة الى نقلها بعد ما عرفت مكرّرا أنّها من باب الجري و التطبيق، و اللّه العالم.

تستفاد من الآيات المباركة بضميمة السنّة الشريفة الشارحة لها القواعد الفقهيّة التالية:
الاولى: قاعدة «حرمة الإعانة على الإثم»؛ للنهي الوارد في قوله تعالى: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ، فإنّ الكفر و الاستهزاء بآياته عزّ و جلّ من مصاديق الإثم و الظلم، فيشمل غيرهما ممّا هو منهي عنه و يكون إثما.
و النهي عن القعود معهم يشمل عدم إعانتهم بالأولوية، أو المراد ذلك بالمنطوق، كما عن بعض المفسّرين، و يدلّ على ذلك أيضا قوله تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى‏ وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ [سورة المائدة، الآية: 2] كما دلّت عليها روايات كثيرة ذكرناها في المكاسب المحرمة من كتاب (مهذب الأحكام).
و قد خصّصت القاعدة بموارد كالاضطرار، و التقيّة لحفظ النفس الّتي هي من باب تقديم الأهمّ على غيره، و هدايتهم الى الحقّ و غير ذلك ممّا هو مذكور في محلّه.
و في قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ دلالة واضحة على وجوب النهي عن المنكر إن توفّرت شروطه من القدرة و زوال العذر و التأثير، و إلّا فإنّ من رضي بمنكر رآه و خالط أهله كان شريكهم في الإثم و إن لم يفعل، و أنّ ترك المنكر مع القدرة على رفعه و توفّر سائر شروطه، ذنب عظيم و خطيئة كبيرة.
و قيل: يستفاد من الآية المباركة أنّه يجوز مجالستهم في غير ما ذكر في الآية الشريفة من الاستهزاء و الخوض في آيات اللّه تعالى، كما لو خاضوا في حديث غيره، لأنّ (حتّى) غاية للتحريم.
لكن الأخبار الواردة في المقام تدلّ على وجوب الإعراض عن الكفّار المستهزئين، و تحريم الميل إليهم، ففي معتبرة عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تصحبوا أهل البدع و لا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم»، و مثلها غيرها.
و إنّما اقتصر عزّ و جلّ في قوله تعالى: وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام، الآية: ٦۸] على النهي عن القعود، و ذكر في هذه الآية الكريمة في هذه السورة إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ؛ لأنّ سورة الأنعام مكيّة، و إنّما كان المسلمون في مكّة عاجزين عن الإنكار، فكان تركهم له لعجزهم، و أمّا الآية الّتي في سورة النساء، فقد نزلت و المسلمون يقدرون على الإنكار، فإذا لم‏ ينكروا مع قدرتهم عليه يكون ذلك كاشفا عن رضى منهم، فيصيرون مثلهم في الإثم أو الكفر؛ لأنّ الرضا بالكفر كفر.
الثانية: قاعدة «نفي السبيل على المؤمنين» المستندة لقوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، و للأخبار الكثيرة المذكورة في أبواب متفرّقة من الفقه.
و يمكن أن يقال: إنّ هذه القاعدة فطريّة، و إنّ الآية المباركة و السنّة الشريفة من باب الإرشاد؛ لأنّ إكمال الدين- بقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة، الآية: 3] و رضاؤه تعالى به، و ختم النبوّة به، يقتضي أن يكون متفوقا، أو ممتازا في جميع جهاته على غيره، ممّا يوجب البعد عنه تعالى، و إلّا يستلزم الخلف و تعلّق رضائه بالناقص؛ لأنّ الإيمان الّذي يكون للكافر عليه سبيل لم يكن على حدّ الكمال فكيف يتعلّق رضاؤه به؟! مع أنّ الأديان السابقة كلّها تكون مقدّمة لهذا الدين، فيستلزم عقلا أن يكون لهذا الدين تفوقا كاملا عليهم، و أنّ العمدة في التفوق الحجّة بل هي الأصل، و غيرها لا يكون تفوقا كما مرّ في التفسير.
و من هنا كانت القاعدة غير قابلة للتخصيص لما عرفت أنّها عقليّة، هذا إن فسّرنا السبيل بالحجّة، كما تقدّم في البحث الروائي.
و أمّا إن فسّرناه بمطلق السلطة و الاستيلاء كما عن بعض الفقهاء، حيث تمسّكوا بها في كتاب العتق في مسألة ما لو أسلم العبد و كان مولاه كافرا، و كذا لو أسلمت الزوجة دون الزوج، و في الخيار عند ردّ المشتري العبد المسلم بالخيار الى البائع الكافر فيرجع الى البدل، فحينئذ تخرج عن كونها عقليّة و تختصّ بموارد خاصّة.
و لكن سياق الآية المباركة يأبى عن ذلك، و انّ المراد من نفي السبيل نفي الحجّة.
و يمكن أن يكون المراد الأعمّ إن صحّ الجامع بينهما، و بقية الكلام موكولة الى الفقه.
الثالثة: قاعدة «كلّ رياء حرام و يوجب بطلان العبادة»، و الدليل عليها الآية الشريفة: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‏ يُراؤُنَ النَّاسَ، أي مع أنّهم كسالى في إقامة الصلاة يراءون الناس، فلا تكون العبادة له عزّ و جلّ، و قد أوعد على المرائي الويل في سورة الماعون أيضا، و تدلّ على ذلك الروايات المستفيضة الصادرة عن المعصومين عليهم السّلام الدالّة على الحرمة؛ لأنّه نحو خديعة مع اللّه تعالى، و لذا عدّه سبحانه و تعالى من صفات المنافقين، كما تقدّم.
و أمّا كونه يوجب بطلان العمل لانتفاء الشرط المهمّ الّذي هو قصد القربة في العبادات، فتشمله قاعدة: «انتفاء المشروط بانتفاء شرطه» المقرّره لذي جميع العقلاء، هذا كلّه في العبادات.
و أمّا في غيرها ممّا لا يتوقّف على قصد القربة، فهو لا يوجب البطلان و إن وجب نفي الثواب، و المؤمن يبتعد عنه دائما لئلّا يقع في شرك الشيطان.
و الرياء مبغوض عنده تعالى، و لم يترتّب عليه أي ثواب إلّا في الخمر، ففي الحديث: «من ترك الخمر لا للّه أثابه اللّه»، و لعلّ ذلك من أجل مبغوضيّة الخمر و شدّة كراهته تعالى لها، أو بطرو عناوين اخرى يوجب الثواب. و اللّه العالم.
الرابعة: قاعدة: «عدم جواز اتّخاذ المؤمنين الكافرين أولياء»، و المراد منها عدم متابعة المؤمنين الكافرين و نصرتهم في عقائدهم أو في أعمالهم، الّتي تستلزم ترويج عقائدهم الفاسدة، من بثّها في المجتمع أو تقويتها أو الدفاع عنها. و أمّا الميل القلبي الى أعمالهم أو تعلّم كمالاتهم الدنيويّة دون عقائدهم إن لم تترتّب عليه مفسدة، فلا محذور فيه.
و كيف كان، فقد استدلّوا على القاعدة المتقدّمة بالأدلة الأربعة:
فمن الكتاب قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ و غيره من الآيات المباركة.
و من السنّة روايات كثيرة، منها الحديث المشهور المعروف عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه»، و غيره ممّا ورد في الأبواب المتفرّقة في كتب الفقه.
و ضرورة الدين أيضا تقتضي ذلك، فضلا عن الإجماع.
و أمّا العقل، فحكمه البتي بالفساد في متابعة عقائدهم و نصرتها و أنّ ذلك يوجب خسران الدنيا و الآخرة.
و لا فرق في الفساد الّذي يكون موجبا لشمول القاعدة بين أن يكون في الحال أو في المستقبل من الزمان، فلو حصل للمؤمن الاطمئنان بأنّ متابعة الكافر تستلزم انقلاب عقيدته و فساد أخلاقه بتزلزل إيمانه في المستقبل، يحرم عليه المتابعة.
و هذه القاعدة عقليّة كشف عنها الشارع امتنانا، إذ العقل يحكم بالبعد عن ما يضرّ بالعقيدة و يوجب فسادها كما هو واضح، و تطبيق القاعدة على مواردها موكول الى الفقه.
الخامسة: قاعدة: «الإسلام يجب ما قبله»، و كيفيّة استظهارها من الآية الشريفة تقدّمت في البحث الدلالي فلا وجه للاعادة.
و عن بعض المفسّرين أنّه استشهد بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً؛ للقاعدة المعروفة في القضاء من: «انّ أصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة أو الرابعة».
و لكن الاستشهاد بها في غير محلّه؛ لعدم انطباقها على القاعدة، و أنّ سياقها في اصول الدين و العقيدة و القاعدة أعمّ، و لا بدّ في مورد القاعدة التخلّل بالحدّ في مرتكب الكبيرة كما هو مصبها، و الآية الكريمة لا تدلّ على ذلك أصلا، فإنّ محو الكفر يتحقّق بالتوبة أيضا، و أنّ القتل في القاعدة يوجب محو الذنب و الغفران، و الآية المباركة تدلّ على عدم الغفران، فالعمدة في القاعدة المذكورة الروايات الدالّة على القتل في الرابعة كما هو المشهور، و انّ ما ذكره لا يقع مورد القبول و اللّه العالم.
و عن ابن عباس قال: يكره للمؤمن أن يقول: «إنّي كسلان»؛ للآية الشريفة الّتي هي في مقام الذمّ. و لا بأس بقوله: لقاعدة التسامح في أدلّة السنن.

الإنسان بلحاظ عقيدته لا يخلو عن أقسام ثلاثة بالحصر العقلي، لأنّه إمّا مؤمن باللّه العظيم و نهجه القويم، أو كافر به، أو منافق.
و بتعبير آخر: إمّا في الصراط المستقيم، أو منحرف عنه و في طريق الغواية، و إمّا مزدوج بين الطريقين، و كلّ طائفة تنال جزاءها المختصّ حسب عمله الناشئ عن عقيدته.
و الإيمان باللّه تعالى يحصل باختيار الإنسان، إلّا أنّ السعادة الكائنة في الفطرة كجزء المقتضي للاختيار، و أنّ السبب التامّ هو الاختيار، فيختار إمّا السعادة- حسب فطرته- و إمّا الشقاء للانحراف عنها، فينتفي الجبر و شبهه كما ينتفي التفويض، على ما تقدّم في هذه الآيات المباركة و غيرها.
و أمّا الجزاء على الأعمال الصالحة المنبعثة عن العقيدة، فلا شكّ أنّ المؤمن باللّه تعالى ينال جزاء عمله بالمقامات العالية و الدرجات الرفيعة، إما في هذه الدنيا- كما تقدّم في أحد مباحثنا السابقة و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [سورة آل عمران، الآية: ۱٤٥]- أو في الآخرة من الجنّات و النعم و غيرها ممّا تشتهي الأنفس و تلذ الأعين، كما أنّ الجزاء على أعماله السيئة يكون كذلك، عقابا دنيويّا أو اخرويّا.
و أمّا بالنسبة الى أعمال الكافر، فإن كان العمل سيئا بمقتضى عقيدته، فينال جزاءه السي‏ء إمّا في هذه الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا. و إن كان العمل حسنا و صالحا ينبئ عن أنّ بعض عقائده يرضى الشارع به، فيجازيه عزّ و جلّ إمّا في هذه الدنيا، أو في عالم البرزخ، أو في عالم الخلود، كما في الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم السّلام؛ و لقاعدة: «العدل و الإنصاف».
و بتعبير آخر: العمل إن كان مصدره عن عقيدة و ثبات في الرأي ينال جزاءه المناسب له، مؤمنا كان العامل أو كافرا، و أنّ الانحراف في العقيدة لا يوجب التأثير في أصل الجزاء و إن اختلفت كيفيّته.
و أمّا جزاء أعمال المنافق، فالمستفاد من الآيات الشريفة و السنن المطهّرة أنّ أعماله الحسنة لا تفيده أصلا- لا في هذه الدنيا و لا في الآخرة- لأنّها لم تصدر عن عقيدة راسخة و نهج معترف به، قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ وَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ، أي: المنافق لا ينال جزاء المؤمن و لا ينال جزاء الكافر في أعماله الصالحة، فيكون المنافق أسوء حالا من الكافر، قال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً، و لم يرد هذا التعبير أو ما ينزل تلك المنزلة بالنسبة الى الكفّار و إن كان الكافر يرد جهنّم أيضا، قال تعالى: وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً [سورة الإسراء، الآية: 8].
و أمّا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الّذي يستفاد منه التسوية في العذاب، فباعتبار أصله لا باعتبار مراتبه و درجاته، فعذاب المنافقين أسوء و أشدّ كما تقدّم في الآية الكريمة السابقة.
إن قلت: مقتضى الآيات المباركة أنّ الجزاء تابع للعمل سواء كان العامل مؤمنا أو كافرا أو منافقا، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 7- 8]، خصوصا على القول بأنّ الجزاء و الثواب من الآثار الوضعيّة للعمل، و إن كانت تختلف باختلاف العقيدة.
قلت: المراد من العمل في الآية الشريفة العمل الصادر عن عقيدة و إرادة- لا كلّ عمل- و المفروض أنّ المنافق لم يكن له عقيدة؛ لأنّه مذبذب و مزدوج، فله صورة العمل و هيكله.
و على فرض الإطلاق، لا أثر لعمل المنافق؛ لأنّ الجزاء بيده تعالى، قال عزّ و جلّ: وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [سورة الفرقان، الآية: 23]، و على فرض أنّ الجزاء أو الثواب من الآثار الوضعيّة- و أنّ الرياء مانع- لكن الآثار الوضعيّة من شؤون الإمكان، و تقدّم في أحد مباحثنا أنّ يد القدرة تنالها أيضا، هذا.
و يمكن أن يقال: إنّ صفة النفاق لها مراتب و درجات، و إنّ الجزاء في أعماله الصالحة تابع لها حسب الشدّة و الضعف أو المراتب و الدرجات. و فيه تأمل أيضا و اللّه العالم بالحقائق.

ذكرنا في أحد مباحثنا الأخلاقيّة أنّ الإنسان يختلف عن غيره من المخلوقات، إنّه كائن أخلاقي له استعداد فطري بالاتّصاف بمكارم الأخلاق أو بمساويها، فهو يسعد أو يشقى بمكوّناته الأخلاقيّة، و ذكرنا أنّ نظرية القرآن تختلف عن سائر المذاهب الأخلاقيّة، فإنّ المهمّ في نظر القرآن الكريم أن يتّصف الإنسان بالتقوى و السعي في تحصيل هذه الملكة الّتي تجتمع فيها جميع الفضائل.
و لا تعير أهميّة لما يقال في هذا المضمار من المذاهب و النظريات، الّتي تبعد الإنسان عن الواقع و الحقيقة أكثر ممّا تلتمس حلا لهذه المشكلة الّتي طالما كتب عنها الفلاسفة و العلماء، و قد ذكرنا نبذة منها في قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى‏ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ‏ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177]، فراجع هذا بالنسبة الى كسب الكمال و اكتساب المكارم و التحلّي بالفضائل.
و أمّا ما يتعلّق بما يضاد تلك من مساوئ الأخلاق و رذائلها، فإنّ القرآن الكريم قد عدّ جملة منها و بيّن آثارها السيئة الّتي تؤثّر في النفس و الفرد و المجتمع.
إلّا أنّ المستفاد من الآيات الّتي تقدّم تفسيرها أنّ النفاق يجمع كثيرا من الخصال السيئة و الأخلاق الرذيلة.
و يمكن القول بأنّ الآيات الشريفة تدلّ على أنّ النفاق و التقوى على طرفي النقيض في مساوئ الأخلاق و مكارمها، فقد ذكر عزّ و جلّ جملة من الصفات السيئة الّتي اتّصف بها المنافقون، الّتي تعدّ من أمهات الأخلاق السيئة و إليها ترجع سائرها، و هي:
الاولى: التذبذب في الإيمان، و الترامي في الكفر و انهماكهم فيه لطول انسهم به، و يعتبر الكفر و الشرك من أعظم الرذائل و أخسّها، قال تعالى حاكيا عن لقمان: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان، الآية: 13]؛ لأنّ الكفر و الشرك خروج عن ناموس الفطرة، و هدم للقاعدة الّتي يمكن أن يعتمد عليها الإنسان في حياته الأخلاقيّة.
الثانية: موالاة الكافرين الّذين هم أعداء الحقّ؛ لأنّ فيها الإعراض عن تهذيب النفس بالاعتماد على إنسان تغلّب عليه الشرّ و التماس النفع المادي و المعنوي منه، و هي مع كونها في نفسها سيئة كبيرة و رذيلة أخلاقية، تستلزم سلب الثقة عن اللّه تعالى، و الاستهتار بالقيم الأخلاقيّة، و تذليل للنفس الّتي جعلها اللّه أبية ذات عزيمة و إرادة.
الثالثة: الاستهزاء بآيات اللّه تعالى و تعاليمه المقدّسة، فإنّه يبعد الإنسان عن منبع الكمال و مصدر الاتقاء. و كيف يمكن لأحد أن يلتمس خيرا من شي‏ء هو يستهزأ به. و في هذا هدم للإنسانيّة الّتي تبتني على قواعد حكمية و اصول قويمة.
الرابعة: المخادعة مع اللّه تعالى في إظهار الإيمان في مجالس المؤمنين، و هو يبطن الكفر، و الاستهزاء بآيات اللّه تعالى و بالمؤمنين. و المخادعة تؤثّر في النفس و تجعلها مشكّكة و تسلب الثقة عنها بالكليّة.
الخامسة: الرياء و الكسل في العبادة، فإنّ من لا يؤمن باللّه العظيم و لا يعتقد بآياته الكريمة و توجيهاته القيمة، و يطلب المنفعة في جميع أفعاله، و قد سلب الثقة عن جميع ما حوله، لا تصدر عنه العبادة، و لا رغبة له فيها، بل يأتي بها لأجل تحقق أغراضه و إرضاء نزواته الماديّة.
و الكسل في العبادة من آثار سلب التوفيق، و لم يكن شي‏ء أعظم أثرا على الإنسان من سلب التوفيق، و لا يمكن أن يشعر به إلّا من تخلّى عن تلك الرذائل.
هذه هي الصفات الّتي عدّها عزّ و جلّ من النفاق، و هي بحقّ أمهات الرذائل، و تتشعّب كلّ واحدة منها الى صفات اخرى مهلكة، فيكون النفاق مجمع الرذائل؛ و لذا كان الجزاء عليه عظيما، و إن كان يشترك مع الكفر في نار جهنّم إلّا أنّ النفاق في الدرك الأسفل منها، و يدلّ عليه الشروط الّتي اشترطها عزّ و جلّ في التوبة منه؛ لأنّ النفاق يؤثّر في جميع جوانب الإنسان النفسيّة، و التربويّة، و الأخلاقيّة، و العقائديّة، و الفرديّة، و الاجتماعيّة، فهو الداء العضال الّذي لا يمكن أن يزول بأدنى استغفار كما في سائر المعاصي؛ لما له من الجذور الّتي يصعب قلعها من النفس، و يأتي التفصيل في موضع آخر إن شاء اللّه تعالى.
ثمّ إنّ للنفاق وجوها مختلفة، فقد يكون في الاعتقاد، سواء كان بالنسبة الى الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأن يظهر الإيمان بعلمه مثلا و هو يعتقد جهله و العياذ باللّه تعالى و نحو ذلك.
أو بالنسبة إلى المؤمنين، كأن يظهر حسن النيّة و التصرّف معهم، و هو يعتقد فسقهم و فسادهم و نحو ذلك.
أو يكون في الأعمال، كأن يصلّي مع المؤمنين و هو يريد الخديعة بهم أو يحضر مجالسهم و هو يريد الإيقاع بهم، أو يصلّي رياء، أو ينفق و هو يطلب المنفعة أو الخديعة بالمنفق عليهم. و من هذا القسم إظهار الطاعة العلانية و عصيان اللّه‏ تعالى في الخفاء، و قد حذرنا عزّ و جلّ من هذا القسم في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة، الآية: ۹٤]، و قوله تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [سورة الأنبياء، الآية: ٤۹].
أو يكون في الصفات و الملكات، كأن يظهر الحلم و هو على خلاف ذلك، أو يظهر السخاء و هو بخيل، و نحو ذلك.
أو يكون في الأخلاق، كما إذا أحسن القول صدقا و عفوا و هو على خلاف ذلك، و أعظم النفاق ما إذا استولى على جميع مشاعر الإنسان و جوارحه و جوانحه، و الآيات الشريفة المتقدّمة بيّنت هذا القسم و عظيم أثره و تومي الى بقية الوجوه، كما لا يخفى.
و كيف كان، فإنّ النفاق في أي وجه كان ربما يكون على دقّة لا يمكن التمييز بين الاعتقاد السليم عن غيره، و قد ورد في الحديث: «أنّه لا يغرّنكم كثرة صلاة أحدكم و صيامه، و لكن انظروا الى حسن عقيدته».
و لكن لا يخفى أنّ ذلك لا ينافي ما ورد من الحكم بإسلام المرء إذا صلّى و صام و عاشر المسلمين، فإنّ ما ورد في النفاق إنّما هو بينه و بين اللّه تعالى، و أنّ اللّه عزّ و جلّ يخدعه لو أراد خديعته تعالى.
و في الآيات المباركة إيماء بأنّ نفاق الإنسان يظهر على أفعاله و أقواله و اعتقاداته، بعيدا أم قريبا، مهما اجتهد على اخفائه، و سيظهر أثر السي‏ء على نفسيته ما لم يتب منه توبة نصوحا، كما فضّله عزّ و جلّ.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"