قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها.
مادة (شفع) تدلّ على ضمّ شيء إلى شيء، و منه الشفع، أي: ضمّ واحد إلى واحد، و هو الزوج في العدد. و الشفعة، لأنّها ضمّ الشريك نصيبه إلى نصيب شريكه.
و أمّا الشفاعة، فهي الانضمام إلى آخر ليكون ناصرا له أو دافعا عنه، فهو نوع توسّط لترميم نقص أو حيازة مزيّة، و تقدّم في مبحث الشفاعة أنّ لها السببيّة في الجملة لإصلاح شأن من شؤون المشفوع له، و هذا هو مقصد الشفيع، فتكون الغاية من الشفاعة إيصال المنفعة إلى المشفوع له، فلا بدّ و أن يكون للشفيع منزلة عند المشفوع، و يكون له نصيب من الخير أو الشرّ المترتّبين على الشفاعة.
و الشفاعة إمّا تكوينيّة كما في قانون العلل و المعلولات، أو تشريعيّة، و هي الّتي تكون بإذن اللّه تعالى، كما في قوله عزّ و جلّ: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [سورة الأنبياء، الآية: 28]، فراجع بحث الشفاعة عند قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة البقرة، الآية: ۲٥٤].
و النصيب و الكفل بمعنى واحد، و هو الحظ. و قيل: إنّ النصيب هو الحظّ المنصوب، أي: المعيّن فيشمل الزيادة، و الكفل هو المثل المساوي أو الحظ الّذي فيه الكفاية.
و إنّما ذكر النصيب في الحسنة لأنّ جزاء الحسنة يضاعف، و ذكر الكفل في السيئة لأنّ من جاء بالسيئة لا يجزى إلّا مثلها، فتكون الآية المباركة إشارة إلى لطفه عزّ و جلّ بعباده.
و عموم الحسنة يشمل كلّ ما يطلق عليه الحسنة، و منها الدعاء للمؤمنين.
و المعنى: من يجعل نفسه شفيعا لآخر في حسنة، يكون له حظ وافر ممّا يترتّب على شفاعته من الخير في الدنيا و الثواب الجزيل في الآخرة؛ لأنّ الشفيع ذو نصيب من الخير و الشرّ المترتبتين على شفاعته لما كان فيها نوع من السببيّة، كما عرفت.
و اختلف العلماء في المراد من هذه الآية الكريمة، و المستفاد منها أنّها تدلّ على تحريض المؤمنين على مراعاة الحقوق إمّا بدفع الشرّ، أو جلب المنفعة ابتغاء وجه اللّه تعالى، و تنبههم لأن يكونوا على يقظة من شفاعتهم، فلا يشفعوا حتّى يعرفوا الأثر المترتّب عليها، فإذا كانت في خير و حسنة فلا بأس بالشفاعة فيها، و إن كانت في شرّ و فساد فلا بدّ من الاجتناب عنها، فإنّ فيها إشاعة للشرّ و ترويجا للباطل و تأييدا لأهل الظلم و الطغيان و النفاق، و في ذلك الفساد العظيم.
و بمناسبة ذكر هذه الآية الشريفة بعد الآيات السابقة الّتي أمر فيها نبيّه الأعظم بالقتال منفردا لأجل حفظ كيان هذه الامة، تأتي هذه الآية الكريمة و تأمر المؤمنين بنصرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الانضمام إليه في هذا الخير العظيم، فإنّ فيه نصرة الحقّ و إقامة شريعة اللّه تعالى، فيكون لهم الشرف و النجاة في الدنيا و الثواب الجزيل في الآخرة، ففي الآية الشريفة تحريض للمؤمنين على قتال أعداء اللّه تعالى، و أنّه يكون لهم الجزاء الحسن عنده تعالى.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها.
بيان للشفاعة المخالفة للشفاعة الحسنة، و تشمل كلّ ما كان سيّئة، كالانضمام إلى العدو و تخذيل المؤمنين، و الإعانة على السيئات، و الدعاء على المؤمن، و منها الشفاعة في إسقاط حدّ من حدود اللّه تعالى، ففي الحديث: «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود اللّه تعالى، فقد ضادّ اللّه تعالى في ملكه، و من أعان على خصومة بغير حقّ، كان في سخط اللّه تعالى حتّى ينزع»، فمن يشفع الشفاعة السيئة يكن له مثل الوزر المترتّب على تلك السيئة، فإنّ الكفل و النصيب و المثل واحد.
و في اختلاف التعبير في المقامين لبيان أنّ من يجري الشرّ في أفعاله، فله من فعله كفيل يسأله و يحاسبه، فلا يمكن التخلّص من عقوبته.
و كيف كان، فالآية المباركة بعمومها تشمل جميع أنواع الشفاعات الدائرة بين الناس، و هي قسمان الحسنة و السيئة، فيدخل فيها الدعاء للأخ أو عليه، و لعلّ أبرزها التبطئة عن القتال و إظهار الأعذار عن الدخول في الجهاد، فإنّها من الشفاعة السيئة. و لم يبيّن سبحانه و تعالى الحسنة و السيئة في المقام؛ اعتمادا على معروفيّتهما عند الناس.
كما أنّ الآية المباركة تحرّض المؤمنين على الشفاعة الحسنة، و تنهى عن الشفاعة السيئة، الّتي هي شفاعة أهل الظلم و الطغيان و المفسدين في الأرض.
قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً.
تقرير لما سبق، و تأكيد له، و المقيت: المقتدر الحافظ، و من أسمائه جلّت عظمته (المقيت)، أي: الحفيظ، و في الحديث: «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقيت»، أي: من تلزمه نفقته من أهله و عياله و عبيده، ممّن هو تحت قدرته، و قال الزبير بن عبد المطلب:
و ذي ضغن كففت النفس عنه و كنت على مساءته مقيتا
أي قديرا. و قيل: إنّ مقيتا من أقته أقاته، فأنا قائت و مقيت.
و كيف كان، فإنّ فيه معنى الحساب، أي: قادر على كلّ شيء على حساب دقيق يعطى على قدر الحاجة، قال الشاعر:
إليّ الفضل أم عليّ إذا حوسبت أبي على الحساب مقيت
و الآية الكريمة تقرّر مضمون ما قبلها و تؤكّده كما ذكرنا، أي: أنّ اللّه تعالى قادر و شهيد على الشفعاء، يعلم محسنهم عن مسيئهم و يجازيهم على فعلهم.
و الآية الشريفة بمجموعها تقرّر حكما اجتماعيّا و سنّة طبيعيّة، و فيها تلخيص موقف المؤمنين المحسنين المقاتلين في سبيل اللّه تعالى، و موقف المنافقين المسيئين المتخاذلين عن القتال، الّذين حكى عنهم عزّ و جلّ في الآيات السابقة و بيّن نهاية كلّ واحد من الفريقين.
قوله تعالى: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ.
حكم اجتماعي به تشتدّ أواصر الثقة بين الأفراد، و يظهر حسن الأدب بينهم، و في هذا الحكم تظهر نعمة السلام بعد انتهاء القتال، كما أنّ منه يستفاد القاعدة الأساسيّة في الإسلام، الّذي يسعى إلى السلام الّذي يرضاه اللّه تعالى، و فيه تشيد أركان الدين القويم، و يزال منه كلّ شرك و فتنة. و من ذلك يعرف الوجه في تذييل آيات القتال بهذه الآية الآمرة بردّ التحيّة بمثلها أو بأحسن منها، و هي من سنخ الشفاعة الحسنة أيضا الّتي أرشد اللّه تعالى المؤمنين باتّخاذها وسيلة لتثبيت النظام و تشييد الأركان و ترويض النفس على التخلّق بأخلاق الكرام.
و التحيّة: تفعلة مصدر حيى يحيى تحية، كتزكية و تسمية، فادغموا الياء في الياء، و هي في الأصل الدعاء بالحياة و طولها، و صارت اسما لكلّ دعاء و ثناء، و لها مظاهر مختلفة، و فيها عادات متفاوتة، فلكلّ قوم تحيّة معيّنة، و لكن تحيّة المسلمين السلام، قال تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة النور، الآية: ٦۱] و قال تعالى: وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [سورة يونس، الآية: 10]. و قيل: إنّ فيه مزيد على كلّ تحيّة؛ لأنّه اسم من أسمائه المقدّسة و دعاء بالسلامة عن الآفات و العاهات و يستلزم طول الحياة، و لأنّه ينبئ عن أنّ دين الإسلام دين الأمان و السلام، و أنّ المؤمنين به هم أصول السلم و محبّوا السلامة.
و ظاهر الآية الشريفة أنّها تشمل كلّ أنواع التحيّة من السلام المعهود و تسميت العاطس، و أنواع البرّ و الصلات القوليّة منها و الفعليّة، و منها تحيّة السلم و الصلح الّتي تلقى إلى المسلمين، فإنّ جميع ذلك من التحيّة، و قد وردت في ذلك عدّة روايات، كما سيأتي نقلها في البحث الروائي.
قوله تعالى: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها.
يستفاد منه أنّ للجواب مرتبتين، أدناهما ردّها بعينها، و أعلاهما الجواب بأحسن منها. و لم يعيّن سبحانه و تعالى الجواب؛ لأنّه يتبع العادات و التقاليد المعروفة، و إن ورد في بعض الآثار أنّ الأحسن هو أن يقول: «السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته»، و الردّ بالمثل هو أن يقول: «عليك السلام».
و ظاهر الآية المباركة أنّ الجواب فرض و إن كان أصل التحيّة تطوعا و نفلا، و قد ورد في آداب التحيّة و كيفيتها و أحكامها الشيء الكثير، و سنذكر جملة منها في البحوث المناسبة الآتية.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً.
تأكيد لمضمون الآية المباركة. و الحسيب بمعنى الحفيظ المراقب، و هو من أسمائه تعالى، و قيل: هو فعيل من الحساب. و قيل: إنّه بمعنى الكافي، فعيل بمعنى مفعل، من قولهم: أحسبني كذا، أي كفاني.
و قيل: إنّه بمعنى الكافئ، و الظاهر التلازم بين تلك المعاني، فإنّ المحاسب المراقب لأفعال العباد يكون كافيا في إيصال ما يكافئه.
و كيف كان، فالمعنى: أنّ اللّه تعالى على كلّ شيء رقيب و حافظ، يرقب أفعالكم- و منها الصلة بالتحيّة- فيحاسبكم عليها و على غيرها، فيدلّ على شدّة الاعتناء بهذا الحكم الاجتماعي الّذي يحفظ الترابط و يرفع التنافر بين الأفراد.
قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
توجيه عقائدي يهدي الإيمان في قلوب المؤمنين و يثبته، و هو يشتمل على ركنين من أهمّ أركان الإيمان. و هما التوحيد، و الإيمان بالبعث و الجزاء في الدار الآخرة، و هما الركنان اللّذان أمر اللّه تعالى أنبياءه العظام بتبليغهما الناس و إقامتهما، و هما من أهمّ الروابط بين آيات الكتاب المبين، و يكونان وقفة بين الآيات الشريفة، يتوقّف فيها المؤمن بعد السير الطويل في جملة من الأحكام الإلهيّة؛ لبيان أنّها هي الّتي تدعم هذين الركنين.
و الآية الشريفة بمنزلة التعليل لجميع تلك الأحكام الّتي شرّعها عزّ و جلّ و الإرشادات الربوبيّة و التوجيهات الإلهيّة، فتكون الباعث القوي على العمل بتلك الأحكام، لا سيما أحكام القتال مع أعداء اللّه تعالى، و تكون تثبيتا للمشاعر الإيمانيّة، و تقوية للنفس على احتمال تبعات تلك التكاليف و ثقلها مادامت تؤدّي إلى عبادة اللّه الواحد الأحد، و مادام الجزاء محفوظا عنده عزّ و جلّ، يجازي العباد على ما عملوا في يوم القيامة الّذي سيجمع الناس فيه.
و الآية المباركة بمنزلة القاعدة العريضة الّتي تبتني عليها جميع التكاليف الإلهيّة، و إنّ كلّ قتال و جهاد لا بدّ و أن يكون على هذا الأساس، فمضمونها قانون عامّ تظهر فيه جميع الأحكام.
و المعنى واضح، فهو اللّه لا إله إلّا هو، لا يعبد غيره، و لا يجوز التقصير في عبادته و يجب الخضوع لأمره، فإنّه شرّع لكم من الأحكام ما يوجب سعادتكم في الدارين.
قوله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
تهديد لمن أعرض عن الأحكام الإلهيّة و عبادة اللّه الواحد الأحد، و توكيد لما ورد في الآيات السابقة، فإنّ من يطع اللّه و يعمل و يجاهد في سبيله يؤمن من فزع يوم الحشر.
الجمع: في المقام بمعنى الحشر؛ و لذا عدّي ب: (إلى)، كما عدّي الحشر بها، قال تعالى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [سورة آل عمران، الآية: ۱٥۸]، و قيل: إنّ (الى) بمعنى (في)، أي: ليجمعنكم في يوم القيامة.
و قيل: إنّ (الى) صلة في الكلام، و المعنى ليجمعنكم يوم القيامة.
و اللام في (ليجمعنكم) لام القسم، و كلّ لام بعدها نون مشدّدة فهي لام القسم.
و القيامة من القيام و التاء فيه مصدرية كزيادة، و كرامة. و سمّيت القيامة قيامة لأنّ الناس يقومون فيه لربّ العالمين، قال تعالى: أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [سورة المطففين، الآية: ٤- ٦]، و قيل: سمّي يوم القيامة لأنّ الناس يقومون من قبورهم، و على هذا يصحّ أن يقال بأنّ الجمع إنّما عدّي بإلى لتضمينه معنى الإفضاء المتعدّى بها، أي: ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة، أو مفضى إليه.
قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ.
تأكيد آخر بعد تأكيده بالقسم الّذي هو من أقوى المؤكّدات؛ لدفع كلّ شكّ و ارتياب في وقوع ذلك الحشر و الحساب و الجزاء على الأعمال، فلا ريب في ذلك كلّه.
و إنّما أتى عزّ و جلّ بالوقت- و هو يوم القيامة- للتحريض على العمل، و الجدّ فيه، و يرغبوا إليه و يرهبوا عن تركه.
قوله تعالى: وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً.
استفهام إنكاري، و المقصود تثبيت كونه صادقا، و بيان أنّه يجب أن يكون تعالى صادقا، و أنّ الكذب قبيح بالنسبة إليه، فهو محال عليه.
و التفضيل لبيان شدّة تنزّهه عن الكذب و عدم الخلف لوعده، فليس المقصود منه الكميّة و لا الكيفيّة. و الصدق معلوم، و الحديث أعمّ من القول و الخبر و الوعد، فهو عالم بجميع الحقائق، غني عن العالمين، يستحيل على مثله الكذب و الخيانة، و المعنى: لا أحد أصدق من اللّه تعالى.