لكونها من الحجة العقلائية، و لا بأس بالتعرض لحجية البينة هنا إجمالا:
(قاعدة اعتبار البينة)
و فيها جهات من البحث:
الأولى: لا ريب و لا إشكال في حجية شهادة العدلين- المصطلح عليها بالبينة- الا أنّ حجيتها هل تكون تعبدية محضة أو أنّها من الحجج العقلائية- حتّى يكفي في اعتبارها عدم ثبوت الردع عنها؟ الظاهر هو الأخير، لما تقدم من أنّه قد ارتكز في أذهان العقلاء من كلّ مذهب و ملة من الركون إلى شهادة شاهدين عدلين من مذهبهم. نعم، قد يكون العادل في مذهب غير عادل في مذهب آخر و لا ينافي ذلك التسالم على أصل الكبرى- في الجملة- فتكون شهادة العدلين من العلم العادي النوعي المتعارف لديهم، و إن لم يكن من العلم الوجداني فلا يشملها ما دل على النهي عن اتباع غير العلم، لأنّ العلم في الكتاب و السنة أعم من العلم العادي الاطمئناني، فهي متبعة لديهم مطلقا الا إذا حددها الشارع بحدود و قيود، كما سيأتي تفصيل ذلك في كتاب القضاء و الشهادات إن شاء اللّه تعالى.
و يشهد لما قلناه أنا لم نظفر بخبر يدل على السؤال عن حجية أصل البينة، بل و لم نظفر من المعصوم عليه السلام لحجيتها من غير سؤال، مع كونها ابتلائية من كلّ جهة.
نعم، جميع ما ورد فيها من الآيات و الروايات، وردت لبيان إقامتها، و الأخذ بها، فأرسل في الكتاب و السنة أصل اعتبارها إرسال المسلّمات. فراجع.
و يعضد ما قلناه أيضا السيرة العملية من الفقهاء في جميع أبواب الفقه، على العمل بها، و الاعتماد عليها مطلقا إلا ما خرج بالدليل. و عن صاحب الجواهر رحمه اللّه: «ينبغي القطع به بل لا أجد فيه خلافا إلا ما يحكى عن القاضي، و ظاهر عبارة الكاتب و الشيخ و لا ريب في ضعفه» فإنّ الظاهر أنّ السيرة و الإجماع، و دعوى القطع حصلت عما ارتكز في نفوسهم الشريفة من اعتبار العلم العادي مطلقا، لا لدليل تعبدي.
ثمَّ إنّه وردت في الكتاب الكريم جملة من الآيات الكريمة يستفاد منها اعتبار شهادة العدلين، و كونها من العلم العادي النوعي- الذي يعتبر عند العقلاء- كقوله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ۲۲.
و قوله تعالى وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ۲۳.
و قوله تعالى اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ۲٤.
إلى غير ذلك مما ورد من الآيات الكريمة حول شهادة العدلين- تحملا و أداء- الدالة على المفروغية عن أصل اعتبارها عرفا مطلقا، و في قوله تعالى في مدح النبي صلّى اللّه عليه و آله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ۲٥ أيضا نحو دلالة على اعتبارها.
كما يستفاد اعتبارها مطلقا من جملة من الأخبار أيضا، كقول الصادق عليه السلام في معتبرة مسعدة بن صدقة: «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه، فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته، و هو سرقة .. إلى أن قال عليه السلام: أو امرأة تحتك و هي أختك أو رضيعتك، و الأشياء كلّها على هذه حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة»۲٦.
و قد عمل به المشهور، و تلوح منه قرائن صحة الصدور، كما لا يخفى.
و يستفاد منه أنّه عليه السلام في مقام بيان إعطاء الضابطة في الموضوعات المشتبهة و أنّ البينة في عرض الاستبانة التي هي عبارة عن العلم، فكأنّه قال عليه السلام: حتى يحصل لك العلم الوجداني، أو العلم العادي النوعي الذي منه البينة.
المقيد بما دل على اعتبار التعدد في البينة.
و عنه عليه السلام أيضا لابنه إسماعيل في صحيح حريز: «إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم»۲۷.
المقيد بما دل على اعتبار التعدد في البينة.
و عنه عليه السلام أيضا: «كل شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة»۲۸.
و قد وردت في الشهادة على الهلال أخبار مستفيضة۲۹ ظاهرة فيما قلناه فإنّ سنخ هذه التعبيرات تدل على المفروغية عن اعتبار البينة مطلقا فتوهم اختصاص اعتبارها بالموارد الخاصة، مما لا وجه له، لأنّ جميع ما ذكر من الموارد الخاصة في الآيات و الروايات من باب المثال لا الاختصاص.
الثانية: هل يشترط في اعتبارها حصول الاطمئنان الشخصي بمفادها أو يكفي النوعي. أو لا يعتبر شيء؟ مقتضى المرتكزات، و أنّها من العلم العادي، هو الوسط، و الإطلاقات منزلة عليه أيضا. هذا إذا لم يكن اطمينان معتبر على الخلاف. و الا فيشكل اعتبارها، و إن كان هو مقتضى الإطلاق لو لا دعوى الانصراف. و قال في الجواهر: «لا فرق في ثبوت النجاسة بالبينة بين حصول الظن منها، و عدمه، كما في كل مقام تقبل فيه» و ظاهره الشخصي، دون النوعي.
الثالثة: قد اشتهر أنّ مثبتات الأمارات معتبرة، و منها البينة، لكونها طريقا إلى ثبوت الواقع، و كلّما ثبت الشيء بواقعة يترتب عليه جميع لوازمه و آثاره مطلقا.
و لكن الكلام في تعميم الاعتبار بالنسبة إلى جميع اللوازم و الملزومات مطلقا، أو أنّه تابع لمقدار دلالتها عليها بالدلالة العرفية المعتبرة. و الحق هو الأخير لما فصلناه في الأصول۳۰. فإطلاق القول بأنّ مثبتات الأمارات معتبرة بقول مطلق يكون بلا دليل.
الرابعة: الضابط في الشهادة العلم بالمشهود به، كتابا لقوله تعالى وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ۳۱.
و كذا قوله تعالى إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ۳۲.
و سنة لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع»۳۳.
و قوله الصادق عليه السلام: «لا تشهدن بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفك»۳٤.
بل و يدل عليه مفهوم الشهادة أيضا لأنّه من المشهود و هو يساوق العلم و الظاهر أنّ العلم معتبر في الشهادة من حيث الطريقية إلى الواقع لا أن تكون له موضوعية خاصة فيها لأنّ جميع الحجج إنّما تعتبر من حيث الطريقية و الاعتبار من جهة الموضوعية يحتاج إلى دليل و هو مفقود.
ثمَّ إنّ العلم المعتبر فيها يحتمل أن يكون بمعنى العلم المنطقي الذي لا يحتمل فيه الخلاف و يكون مقابلا للاطمئنان و الظن و يحتمل أن يراد به العلم المصطلح عليه في الكتاب و السنة- أي الاطمئنان الذي يعتمد عليه الناس في أمور معاشهم و معادهم- و مقتضى الجمود على ما تقدم من النظر إلى الشمس و الكف- و إن كان هو الأول و هو المشهور و ادعي عليه الإجماع و تقتضيه مادة الشهادة- الا أنّ ظاهر صحيح ابن وهب جواز الشهادة معتمدا على الاستصحاب و هو: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يكون في داره، ثمَّ يغيب عنها ثلاثين سنة و يدع فيها عياله، ثمَّ يأتينا هلاكه و نحن لا ندري ما أحدث في داره و لا ندري ما أحدث له من الولد إلا أنا لا نعلم أنّه أحدث في داره شيئا و لا حدث له ولد، و لا تقسم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتّى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان مات و تركها ميراثا بين فلان و فلان أو نشهد على هذا؟ قال: نعم»۳٥.
و خبر حفص بن غياث- الدال على جواز الشهادة مستندا إلى اليد- قال له رجل: «إذا رأيت شيئا في يد رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له قال عليه السلام:
نعم، قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له فلعله لغيره، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام أ فيحل الشراء منه؟!! قال: نعم، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: فلعله لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكا لك، ثمَّ تقول بعد الملك هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك، ثمَّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»۳٦.
و لكن لا بد من رفع اليد عن ظاهرهما للمعارضة و الهجر و إمكان الحمل على صورة حصول العلم. مع أنّ صحيح وهب ينافي ذيله: «كلّ ما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد به».
و بصحيحه الآخر: «اشهد بما هو علمك»۳۷و يأتي التفصيل في القضاء و الشهادات إن شاء اللّه تعالى.
الخامسة: قد تقدم اعتبارها في تمام الموضوعات مطلقا إلا ما دل الدليل على الخلاف، و هي مقدمة على جميع الأصول و القواعد الجارية في الموضوعات مطلقا، كالاستصحاب، و أصالة الطهارة، و التذكية و الصحة و الحقيقة و عدم الحجية و غير ذلك من الأصول، و كقاعدة الفراغ و التجاوز و الحلية و الحيلولة، و يد المسلم و سوقه و غير ذلك من القواعد الموضوعية.
و الوجه في ذلك كلّه تسالم الأصحاب،- بل العقلاء- على أنّ اعتبار القواعد و الأصول الموضوعية من قبيل اللااقتضاء بالنسبة إلى الحجج المعتبرة في الموضوعات، و لا معنى لمعارضة اللااقتضاء مع ما فيه الاقتضاء، و يأتي في كتاب القضاء تتمة الكلام، و الفروع المتعلقة۳۸ بالمقام إن شاء اللّه تعالى.