قوله تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ التمنّي: هو تعلّق النفس بأمر متعذّر أو كالمتعذّر، أو تشهي حصول الأمر المرغوب فيه، و الأغلب تحقّقه في قول الإنسان: ليت كذا كان كذا، أي: حديث النفس بما يكون و ما لا يكون، قال تعالى: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ [سورة القصص، الآية: 79]، و قال تعالى: وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [سورة النبأ، الآية: ٤۰].
و قال بعضهم: إنّ التمنّي نوع من الإرادة تتعلّق بالمستقبل ضد التلهّف الذي نوع منها تتعلّق بالماضي.
و هو مردود؛ لأنّ التمنّي أعمّ من ذلك.
و كيف كان، فالمعروف أنّه من الإنشائيات.
و التمنّي مذموم شرعا؛ لأنّ فيه تعلّق البال و انشغاله عن إصلاح الإنسان نفسه، و أنّه يوجب نسيان الأجل، و هو مبدأ الحسد الذي هو من أهمّ الصفات الذميمة، قال كعب:
فلا يغرّنك ما منّت و ما وعدت إن الأماني و الأحلام تضليل
بخلاف الغبطة، التي هي عبارة عن إرادة ما لصاحبه مع عدم التمنّي؛ لزواله عنه، و هي داعية إلى العمل و الاستكمال، بخلاف التمنّي، و تقدّم في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سورة البقرة، الآية: ۹٤]، بعض الكلام في أقسام التمنّي، فراجع.
و الآية الشريفة تبيّن قاعدة تكوينيّة لها ارتباط بالدنيا- قال تعالى: وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [سورة الشورى، الآية: 27]- و الآخرة لها دخل في نظام الأسباب و المسبّبات و ظهور الاستعدادات و بروزها، و لا يمكن التخلّف عنه.
و النهي عن التمنّي إنّما لأجل عدم إمكان تحقّق المسبّب بدون سببه، فيكون النهي إرشاديا تكوينيّا لا نهيا مولويّا، و هو يرشد الناس إلى حفظ القانون العامّ و النظام الشرعي و التكويني.
و الآية المباركة تدلّ على بطلان مذهب البخت و الاتّفاق، لعدم إمكان تحقّق المسبّب بدون السبب، فلا بد من العمل و السعي لنيل الفضل، كما تدلّ عليه الأدلّة الكثيرة، منها قوله تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [سورة النجم، الآية: 39].
و منها:
قول علي عليه السّلام: «و لا تكن ممّن ترجو الآخرة بلا عمل، و ترجو الحصاد بلا زرع»، و قال عليه السّلام أيضا: «الأماني بضائع النوكى» و غير ذلك، فالفضل و الأجر ليستا وقفا على طائفة معيّنة و نوع معيّن، و الأجر إنّما يكون على العمل و الوفاء بالتكاليف، فتكون الآية الشريفة نظير قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 7- 8]، و قوله تعالى: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ [سورة التوبة، الآية: ۱۰٥].
و لكن الآية الشريفة تدلّ على أنّ لكلّ جنس مهمّة معيّنة خلقه اللّه تعالى لها ليؤدّيها في الأرض، و هيّأه لها و وهب له ما يمكن أن يقوم بالمهمة، فكلّفه عزّ و جلّ بتكاليف توافقها، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أن الرجل خلقه اللّه تعالى لأجل وظائف معيّنة في المجتمع، كالجهاد و السعي للكسب و العيش، كما خلق النساء لأداء وظائف اخرى، كالحمل و رعاية البيت و تربية النشئ تربية صالحة شرعيّة، و قد أعطى عزّ و جلّ لكلّ واحد منهما أجرا معيّنا لا يمكن نيله إلا بالعمل و أداء الوظيفة و الوفاء بالتكاليف الإلهيّة، فلا بد من المحافظة على ذلك التنويع في الاختصاصات و عدم الإخلال بتلك المهمّات الأصليّة، و خلاف ذلك إفساد للفطرة و ابطال للنظام، و بدون ذلك لا يستقيم المجتمع البشري و يضطرب أشدّ الاضطراب، كما نراه في الجاهليّة المعاصرة عند ما خرج الناس عن الفطرة و طلبوا المساواة بين الجنسين، و لهذا نرى أنّ النهي عن التمنّي إنّما هو لأجل إبطال الفوضى الذي يكون عند تحقّق ذلك التمنّي في الخارج، فيكون النهي لقطع منابت الشرّ و الفساد، و ما يوجب هلاك الحرث و النسل، كلّ ذلك يظهر من قوله تعالى: ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ و هو على إيجازه البليغ و أسلوبه البديع تبيّن جهة الفضل و المزيّة التي اختصّ بها كلّ طائفة من الرجال و النساء، و يدلّ على أنّ تلك الخصوصية فضل و زيادة في كلّ واحد من الجنسين على الآخر، و لا معنى لتمنّي ذلك الفضل الذي يوافق خلقته.
ثمّ إنّ التمنّي تنقسم إلى أقسام أربعة ذكرناها في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [سورة البقرة، الآية: ۹٤- ۹٥]، و أنّ أصولها تكون في الغاية التي تكون فيها التنافس، سواء أ كان في امور الدنيا أم الآخرة، و تقدّم أنّ نفس التمنّي مذموم؛ لأنّه مخالف للحكمة المقدّرة و المصالح التي لم يطلع على سرّها إلا ربّ العالمين، إلا إذا كان التمنّي متعلّقا بعالم الآخرة و نعيمها مع تهيئة الأسباب و تقديم الأعمال له، فهو غاية دعوة الأنبياء و من أهمّ مقاصد الكتب السماويّة، فهو ممدوح عقلا و شرعا.
و أما الفضل الذي ميّز اللّه تعالى به كلّ فريق عن الآخر، إما أن لا يتعلّق به الكسب و العمل و لا يمدح الفاضل فيه بالجدّ و التشمير، كما لا يذمّ المفضول بالتقصير، و في مثل ذلك يذمّ التمنّي فيه كما عرفت آنفا.
و إما أن يكون ممّا ينال بالسعي و الجهد و التشمير، و في مثل ذلك يمكن أن يتحقّق التمنّي فيه.
و هو تارة يكون من مجرّد أمنية شاغلة لباله موهنة لقواه، و لا إشكال في حرمة هذا التمنّي؛ لمنافاته للتوحيد و التوكّل على اللّه تعالى، و اشتماله على ذمائم الأخلاق، كالحسد و البغضاء و نحوهما.
و اخرى: يكون اغتباطا بالفضل الذي منحه اللّه تعالى لصاحبه، و السؤال منه عزّ و جلّ، و هذا ممدوح و موجب للإقدام على العمل أيضا.
و ثالثة: يكون من مجرّد التصوّر الخيالي، كأن يتوهّم بأنّه لو كان في مقام صاحب الفضل الكذائي مثلا كان له كذا و كذا، لتسكين هيجان الهمّ و الغمّ، و لا إشكال فيه أيضا أن لم يستلزم البطالة و الكسل، و إلى ذلك يشير قول الشاعر:
أماني إن تحصل تكن غاية المنى و إلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ.
النصيب، الحظ ممّا أعطاه اللّه تعالى من الخير و النعمة و الفضل. و من في مِمَّا بيانيّة للنصيب.
و مادة (كسب) تدلّ على العمل أو السعي الذي يجلب به النفع أو يدفع به الضرر، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يقرب من سبعين موردا، و يستعمل في الخير و الشرّ، قال تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [سورة البقرة، الآية: ۲۸٦]، و قال تعالى: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة، الآية: ۲۲٥]، و قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [سورة الروم، الآية: ٤۱]، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أطيب ما يأكل الرجل من كسبه و ولده من كسبه»، و جعل الولد من كسبه لأنّ الأب سعى و طلب في تحصيله، و أراد بالطيب هنا الحلال.
و الاكتساب هو الكسب مع المبالغة و التكلّف، و قيل: إنّ الاكتساب هو ما يستفيده الإنسان لنفسه، و الكسب أعمّ من أن يكون لنفسه أو لغيره.
فكلّ اكتساب كسب، و لا عكس. و أكثر استعمال الاكتساب في القرآن الكريم في الإثم و ما يكون ضررا على الإنسان، قال تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [سورة النور، الآية: 11]، و قال تعالى: وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً [سورة الأحزاب، الآية: ٥۸]. و لعلّ وجه تخصيص الاكتساب في الشّر و الكسب في الخير؛ لأنّ الاكتساب فيه أعمال و مشقّة حاصلة من تحمّل الجزاء العظيم الشديد، أو لأنّ النفس تعمل بجميع قواها في تحصيل الشرّ.
و كيف كان، فقد استعمل الاكتساب في الخير أيضا، كما في الآية الشريفة، إذ التمنّي فيها لا يكون إلا في الخير و الفضل.
و ذكر بعض المفسّرين تبعا لبعض أهل اللغة أنّ الكسب و الاكتساب يختصّان بما يحصل للإنسان بعمل اختياري، كالطلب و نحوه، و هو صحيح بحسب الغالب، و إلا فقد يطلق الكسب على ما ليس كذلك، كما يقال في كسب الأخلاق بالمعاشرة و الصفات، و ذكر الفقهاء أنّ الكسب ما يحصل للإنسان بالملك و الجدّة و الاختصاص و لو بالإرث الذي هو غير اختياري، فلا يختصّان بالعمل الاختياري فقط، بل يشمل ما إذا لم يكن كذلك، كما إذا كان صاحب الفضل ذا مزية تكوينيّة كالجمال، و حسن الصوت و الذكوريّة و الانوثيّة التي تخصّص لأصحابها سهما معينا و نصيبا مفروضا.
فالآية الشريفة بمنزلة التعليل للنهي عن التمنّي في صدرها، أي: لا تتمنّوا ذلك، فإنّ الفضل قد اكتسبه صاحبه إما تكوينا أو اختيارا، فالنصيب الذي أعطاهم اللّه تعالى هو ممّا اكتسبوه، و قد خصّه اللّه تعالى لكلّ واحد من الجنسين و فضّل به بعضهم على بعض؛ لأنّه ممّا أحرزه خلقا و تكوينا أو بتجارة و عمل، و إنّما ينال ذلك بالاكتساب فقط لا بالتمنّي الذي يدعو إلى الشرّ و اختلال النظام، كما عرفت.
قوله تعالى: وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ.
تعليم إلهي و تربية ربانيّة لأفراد الإنسان بالاعتناء و الاهتمام بما ينفعهم، و إرشاد إلى ما هو الإصلاح لهم في ترك ما يكون سببا في شقائهم و ضررهم، فإنّه لما نهاهم عزّ و جلّ عن تمنّي ما لا يمكن تحقّقه، بل يأبى اللّه سبحانه و تعالى أن يحقّقه، لاستلزامه الفوضى و اختلال النظام، أرشدهم الى ما ينبغي توجيه داعية الفطرة إلى ما هو الصحيح، فأمرهم بصرف التمنّي الذي هو فطري للإنسان إلى وجهه الكريم، و وجّههم إلى السؤال عن فضله العظيم، فإنّ الفضل بيد اللّه تعالى، و يقضي حوائجهم حين يسألونه من الوجه الصحيح، و يفيض عليهم بحسب ما يشاء.
و مورد الفضل إما أن يكون مورد رحمته الواسعة التي وسعت كلّ شيء، و بهذا المعنى جميع ما سواه فضل منه جلّ جلاله، و لا استحقاق في البين، فإنّ الممكن محتاج بذاته إلى فضله العظيم، و إما أن يكون بالإنعام زائدا على أصل الخلقة، و هو يختلف بحسب العوالم، فإنّ منها ما يكفي في إحداثه صرف الأمر فقط، كعالم المجرّدات بمراتبها و أنواعها، و يعبّر عنه بعالم أشعة الجمال و الجلال، و لا وجه للتعبير بالفضل بالنسبة إلى هذا العالم. و إما أن يكون من عوالم المادّة التي لا بد من تخللها في جميع نشئاتها، و يصحّ التعبير عنها بالفضل حينئذ.
و الدنيا بأهلها المسجونين فيها دار فضل اللّه تعالى، فاسالوه من فضله، فإنّه يستجيب دعائكم حسب الاستعدادات و المقتضيات.
و قد أبهم عزّ و جلّ الفضل في الآية الشريفة لتعليم الإنسان أن يسأل ربّه من فضله الكريم بحسب الواقع، لا بحسب ما يتخيّله، فإنّه جاهل بحقائق الأمور، فقد يسأل ما يضرّه في الواقع و ما يكون سببا في هلاكه، و هو لا يعلم بذلك، أو يسأل ما يكون خلاف الحكمة الإلهيّة- كما في تمنّيهم- و هو يلحّ في الدعاء و المسألة.
كما يرشدهم إلى أن لا يسأل أحد ما في أيدي الناس و لا يكون همّه مجرّد الحيازة على ما تشتهيه النفس، بل لا بد من إيكال الأمر إليه عزّ و جلّ ليرفع حاجته بما يعلمه خيرا عنده، فيرجع الأمر إليه و إلى فضله العظيم، بحسب حكمته المتعالية، و ايكاله الى علمه بحقائق الأمور.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً.
تعليل للنهي عن التمنّي بما لا يستقيم الحياة به، و بيان لصدر الآية الكريمة أيضا، فاللّه تعالى يعلم حقائق الأمور، و هو يعلم أيضا حال الاجتماع و استقامته- عند ما يقوم كلّ جنس بوظيفته التكوينيّة- و اضطرابه حين ما يختلّ و يأخذ كلّ جنس بوظيفة الجنس الآخر، فلا تتمنّوا ما خصّ اللّه تعالى به كلّ فرد، فإنّ اللّه تعالى يعلم مصلحة الكلّ، و يعلم حال المجتمع و حقيقة الأمر، و لا يخطأ في حكمه، فاطلبوا ما يوجب سعادتكم.
قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ.
بيان لفرد من أفراد الحكمة الإلهيّة التي لها اتصال وثيق بالمجتمع الإنساني، و هو رعاية الأطراف في الميراث، إذ من المعلوم أنّ لكلّ فرد من أفراد الإنسان من الأقارب و الأرحام و ما يحيطون به كإحاطة الأكليل بالرأس، كالآباء و الأجداد، و الأولاد و الإخوة و الأخوات و الأعمام و الأخوال، و أولادهم.
و الآية الشريفة ترشد الناس إلى إعطاء كلّ ذي نصيب نصيبه، فقد جعل اللّه تعالى لكلّ موالي الإنسان حقّا و نصيا ممّا تركه القريب، فهذه الآية المباركة إجمال بعد تفصيل أحكام الميراث، و وصية لتنفيذ تلك الشرائع التي شرّعها في الآيات السابقة حسب ما شرّعه و أبداه.
و الموالي جمع مولى على وزن (مفعل)، و هو إما أن يكون صفة فيكون مصدرا ميميا، أو اسم مكان أريد به الشخص المتلبّس بالصفة، لتمكّنها و قرارها في موصوفها، و مثل ذلك شائع، و يراد به الولي من ولي بالشيء يليه ولاية. و هو الاتصال بالشيء من غير فاصل، و بهذه العناية تستعمل في مصاديق متعدّدة- فلا يكون- من المشترك كما ادعاه جمع- كالسيد و المعتق، و المعتق لقرب أحدهما من الآخر و اتصاله به و ولايته عليه، و الناصر لولايته على المنصور و اتصاله به، و ابن العمّ لقربه و اتصاله ببنت العمّ و غير ذلك، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في أكثر من مائة و خمسين موضعا.
و المراد به في المقام: الأولى بالميراث، و هم الذين وردت أسماؤهم في ما بعد؛ لأنّهم اولوا الأرحام الذين بعضهم أولى ببعض.
و التنوين في (الكلّ) عوض عن المضاف إليه، و المعروف أنّ (كلّ) هي بمعنى الإحاطة و العموم، و لا تأتي مفردة، فإذا كانت كذلك فلا بد من التقدير، و هو في المقام الصنفان المذكوران في صدر الآية المباركة، و هما صنف الرجال و صنف النساء.
و المعنى: و لكلّ صنفي الرجال و النساء أولياء يرثونهم بمقتضى قانون الأقربيّة، و أنّ أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، أو الولاء إن لم يكن هناك رحم، فهم يرثونه ممّا تركه من الأموال.
و (من) في مِمَّا تَرَكَ للابتداء- أي من أجل ما ترك- متعلّق بالموالي؛ لأنّه الوارث، أو متعلّق بمحذوف، أي: يرثون ممّا ترك، و هم الوالدان و الأقربون و الذين عقدت أيمانكم.
فالآية الشريفة إجمال بعد تفصيل ذكره عزّ و جلّ في الآيات الكريمة السابقة، و هم الآباء و الأولاد و الإخوة و الأخوات و الأزواج و غيرهم، فيكون المراد بالموالي جميع من ذكره عزّ و جلّ في آيات الإرث السابقة.
قوله تعالى: وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ.
المشهور: «عقدت» مخففة القاف بغير الف، و قرئ: (عاقدت) بالألف، و قرأ بعضهم: (عقدت) بتشديد القاف على التكثير. و المفعول في جميع القراءات محذوف، و تقديره: عهودهم أو مولويتهم و نحو ذلك، و العقد مقابل الحل، و الأيمان جمع اليمين، و هي مقابل اليسار، و تطلق على الحلف و القسم؛ لأنّها هي التي تعطى عادة عند العهد، فأطلق المحلّ على الحال.
و الفاء في: فَآتُوهُمْ للتفريع أو لتضمّن المبتدأ معنى الشرط، و النصيب هو الإرث من التركة.
و قد اختلفت المفسّرون و العلماء في المراد بهم، فقيل: إنّهم الحلفاء، فقد كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية، ليس بينهما نسب، فيقول: «دمك دمي، و هدمي هدمك، و سلمك سلمي، و ترثني و أرثك، و تطلب بي و اطلب بك»، فيكون للحليف السدس من مال الحليف، فيكون معنى الآية الشريفة: و الحلفاء آتوهم سدسهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [سورة الأحزاب، الآية: ٦]، فتكون الجملة حينئذ مقطوعة عمّا قبلها.
و قيل: إنّ المراد بهم الذين آخى بينهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة، فكانوا يتوارثون بينهم من دون رحميّة، ثمّ نسختها آية المواريث، ثم أمرهم بإيتاء نصيبهم من النصرة و النصيحة و الرفادة و الوصية.
و قيل: إنّ المراد بهم الأدعياء الذين كانوا يتبنّونهم في الجاهلية، فأمروا بإيتاء نصيبهم في الإسلام من الوصية.
و قيل غير ذلك.
و قد استدلّوا بجملة من الروايات التي دلّت عليها، و لكنّها متعارضة فيما بينها.
فالصحيح أن يقال: إنّ الحكم في الجملة مطلق يشمل إرث الزوجين و ضمان الجريرة، و الإمام عليه السّلام الذي يبتني إرثهم على المعاقدة و المعاهدة، و إن كان توريث كلّ واحد منهم يحتاج إلى شروط و مخصّصات، لكنّها يعلم من موضع آخر في الكتاب أو السنّة أو إجماع الأصحاب.
و على ذلك لا تكون الآية الكريمة منسوخة، إلا أنّ الأمر الذي يستفاد من هذه الجملة أنّ ميراث الذين عقدت أيمانهم و ولاؤهم متأخّر رتبة عن ولاء اولي الأرحام و الأقربين.
و أما إرث الإمام عليه السّلام، فهو متأخّر عن الجميع بمقتضى الآية الكريمة و الروايات الواردة في السنّة.
و يدلّ على ما ذكرنا من شمول الآية الشريفة للزوج و الزوجة و ضمان الجريرة، و ولاء الإمام، فإن الثلاثة مسبّبة عن المعاقدة و المعاهدة التي تقع بين الأطراف، و قد أمر اللّه تعالى بالوفاء بها، قال عزّ و جلّ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [سورة المائدة، الآية: 1]، لا سيما بعد تفسيره بالعهود و أطلق عقدة النكاح على الزواج الذي هو مسبّب عن عقد النكاح، قال تعالى: وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ [سورة البقرة، الآية: ۲۳٥]،
و ما ورد في تفسير الآية الشريفة عن الرضا عليه السّلام: «إنّما عنى بذلك الأئمة عليهم السّلام بهم عقد اللّه عزّ و جلّ أيمانكم».
فإنّ يمين الولاء بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام قد أخذها اللّه تعالى على عباده، و أمر عزّ و جلّ بالوفاء بعهدها الذي من مصاديقه إعطاء الإرث لمستحقّه، و سيأتي نقل بعض الروايات في ذلك إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً.
الشهيد: الرقيب الذي يعلم خفايا الأمور، و المطّلع على جميع الخصوصيات، أي: أنّ اللّه تعالى عالم بجميع الأشياء، حاضر لا يغيب عنه شيء، فهو مطّلع على الإيتاء و الخيانة، فاحذروا منه عزّ و جلّ، فلا تخونوهم نصيبهم الذي كتبه اللّه عزّ و جلّ لهم.
و الآية المباركة تأكيد لحكمه السابق، و فيها وعد و وعيد.
قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بيان لأهمّ حكم نظامي، و قد صار مثلا قرآنيّا يتضمّن حكما تربويّا إرشاديا إلى النظام الأحسن- و منه نظام العائلة و الاسرة- الذي نظّم في الإسلام تنظيما دقيقا، و هذّبت علاقاتها حتّى تؤدّي وظيفتها بأكمل وجه في المجتمع الإنساني، و قد ذكر عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة قوامة الاسرة و العائلة، التي هي عمودها المقوّم لها، و بدونها تنهدم و ينفرط عقدها و تسيء أحوالها و تتخلّى عن وظيفتها التي قرّرت لها، و ذكر عزّ و جلّ أنّ هذه القوامة تتضمّن من الأحكام و التبعات التي لا بد من أن يكلف بها الأصلح من أفراد المجتمع، و ليست هي قضية منافسة بين الرجل و المرأة و جدال و صراع بينهما، كما تراه الجاهلية المعاصرة، فإنّ الإسلام إنّما بنى العلاقات الاجتماعيّة على المودّة و الرحمة لا على الشقاق و الجدال.
و الآية الشريفة الكريمة تبيّن أنّ الأصلح لهذه المهمّة هو الرجل، لمّا فضّله اللّه تعالى بأمور تجعله صالحا لهذه المهمّة، و هي على ما يستفاد من الآيات الشريفة المتقدّمة و من هذه الآية المباركة، القوّة و شدّة البأس، و زيادة التعقّل، بخلاف المرأة التي لم يهمل الإسلام شأنها في المجتمع، فإنّ حياتها تبتني على حياة إحساسيّة عاطفيّة، و هذه الجهة تستدعي حياة الدعة و الرفق، و لا يمكنها النهوض لتحصيل الرزق الذي يستدعي القوة و رباطة الجأش، و هذا هو مقتضى قانون الفطرة، و الإسلام لم يخرج عنه، فإنّه دين الفطرة، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآية: 30].
و القوامة- هذه التي جعلها اللّه تعالى للرجل أو يتطلبها ناموس الفطرة- لم تختصّ بجهة معينة، فإنّها مطلقة بما فضّل اللّه تعالى الرجل على المرأة، فالرجال قوامون على النساء في الحياة المعيشيّة، كطلب الرزق و حفظ شؤون المجتمع، كالقضاء و الحرب و نحو ذلك، و ليس معنى ذلك أنّ المرأة تحرم من الملك و الشؤون الاجتماعيّة لكي تخضع للرجل، كما كانت عليه في غابر العصور، فليس الإسلام دين سلب- للحقوق- و ابتزاز، و هو لم يحرم أحدا ممّا خلقه اللّه تعالى، لأجله بل الإسلام لم يكلّفها بأمور هي من شأن الرجل بمقتضى خلقته. و لذا نرى أنّ المرأة حينما تحرّرت- على ما تدّعيه الجاهلية المعاصرة- و صارت تنفق و تشارك الرجل في جميع ما خصّه اللّه تعالى به و رفضت قوامة الرجل عليها، حلّ بالمجتمع أنحاء الشقاء و جلب التعب للإنسان و حرمه من السعادة المرجوة.
و لقد حفظ الإسلام حقوق المرأة بما تتطلبها خلقتها الأصليّة، فذكرها عزّ و جلّ بأبلغ وجه و أحسن مدح، قال تعالى: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ، الذي يتضمّن الجانب الآخر من الحياة الاسريّة، و هو حفظ العهود و القيام بشؤون الاسرة و تربية الأولاد بأمانة و صلاح.
ثم إنّ (قوامون) جمع قوّام فعّال مبالغة من القيام على الشيء، أي: تدبيره و النظر فيه و إصلاح شؤونه و حفظه بالاجتهاد، و منه القيّم على الأيتام، و المراد من المبالغة في المقام، دوام قيام الرجال على النساء في إصلاح شؤونهن و تثقيفهن و تأديبهن، و ذكرنا أنّ هذه القواميّة من شؤون الفطرة، و قرّرتها الشريعة، فيثبت لهم ذلك بالاستحقاق بما اقتضته الحكمة الإلهيّة في الخلق و حسن النظام. و إطلاق الآية المباركة يشمل جميع أنحاء القيام الشرعي، كما عرفت آنفا.
قوله تعالى: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.
الباء للسببيّة متعلّقة ب: (قوامون)، و عموم العلّة يقتضي عدم اختصاص الحكم بالأزواج و إن كانت الاسرة و الزوجية من أظهر أفراد ظهور الحكم فيها، و يدلّ عليه أخذ كلمتي (الرجال و النساء) في الحكم دون الأزواج، فهو مجعول لجنس الرجال الذين فضّلهم اللّه تعالى في خلقتهم على النساء اللواتي خلقهن اللّه عزّ و جلّ لأمور اخرى، و كلّ ذلك حسب ما اقتضته الحكمة الإلهيّة من خلق الصنفين من الإنسان بما زوّده من الفضل؛ ليستقيم أمر الاجتماع و تستحكم الروابط و يشتدّ الارتباط و تنتظم الاسرة و يحسن النسل، و قد كان فضل ذي فضل نعمة على المفضول.
قوله تعالى: وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ.
بيان لأحد مصاديق الحكم السابق، و قد كلّف اللّه تعالى الرجال بالإنفاق على النساء، لما خلقهم اللّه تعالى من القدرة فيهم على طلب الرزق، و أعفى المرأة عن البحث عن الرزق، و لم يضع عليها شيئا من التكاليف الماليّة على الرجال؛ لأنّ اللّه تعالى خلقهنّ لأمر يخصّهن، و هو تربية الأولاد و القيام بشؤون الاسرة، و لم يسلب الإسلام الملكية عنهن كما يدّعيه بعض المعاندين، فلم يحرمهن من التملّك و لا التصرّف في ما تملك، بل لم يكلّفهن بالإنفاق من أموالهن إلا في موارد خاصّة.
و إنّما خصّ الإنفاق بالذكر؛ لأنّه من أهمّ مصاديق القواميّة، و تمهيدا لذكر أحكام الاسرة و الزوجيّة.
قوله تعالى: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ.
بيان لحالة الاسرة الصالحة و العائلة السعيدة ضمن المجتمع الإنساني الكبير، تطبيقا لذلك الحكم الكلّي المبتني على الفطرة المستقيمة.
و قد صوّر عزّ و جلّ لنا الحياة داخل الاسرة التي تكون المرأة تحت رئاسة الرجل و قيمومته، فذكر أمورا ثلاثة لسعادة هذه الحياة، و هي: الصلاح و القنوت و حفظ الغيب.
و يراد من الأوّل الاستقامة و لياقة النفس و رضاها بما تمليه الفطرة السويّة.
و القنوت: هو دوام الطاعة و الخضوع للّه تعالى و امتثال أحكامه المقدّسة، و في الحديث «تفكّر ساعة خير من قنوت ليلة».
و الغيب- و الغياب و الغيبة مصدر غاب- خلاف الشهود، و لما كان للغيب حرمه، فلا بد من حفظه، و ما في بِما حَفِظَ اللَّهُ مصدريّة و الباء للآلة، أي: بحفظ اللّه لهنّ، أو تكون الباء للمقابلة، اي: يحفظن الحقوق مقابل حفظ اللّه تعالى لحقوقهن و حرمتهن. و يصحّ أن يكون (ما) موصولة، و العائد في (حفظ) ضمير نصب محذوف. و الحفظ هذا يشمل حفظ العرض و المال و أسرار الزوجيّة، و حفظ العهود التي عاهدت الزوجة مع الزوج بأن لا تخونه في غيبته.
و الآية المباركة تبرز الصفات الحسنة التي ينبغي للنساء أن يتّخذنها لأنفسهن و تتحلّى بها الزوجة الصالحة، فإنّ عليها تقوم الاسرة المؤمنة التي أراد الإسلام لها السعادة في الدارين، فبالصلاح تطمئن النفس و تقبل ما فرض اللّه تعالى عليها و تستريح إلى وضع الفطرة، و ترفض العصيان و الفجور.
و القنوت هو الباب الذي تدخل فيه السكينة و الرحمة، و النفس القانتة هي المستقيمة المسألة التي تحبّ الهدوء و الدعة، و تكره المشاكل و المتاعب، و إنّ المرأة القانتة تعمل و تجدّ و هي مطيعة للّه تعالى خاضعة له عزّ و جلّ.
و الحفظ للغيب هو الجزء المكمّل للإيمان، و به يدخل السلام و الاطمئنان في البيت، و به يتمّ الهدوء في الحياة الزوجيّة، و هذه الأوصاف تصوّر لنا الاسرة السعيدة الهنيئة، التي هي بنية المجتمع كلّه، الذي يتكوّن من أسر مترابطة متكافلة.
و المستفاد من الآية الكريمة أنّ صلاح المرأة إنّما يكون في القنوت و حفظ الغيب، فيكون القيدان تفسيرا للصلاح في المقام، و لا صلاح لها في غيرهما، فالآية الشريفة ردّ لمزاعم من يقول بأنّ الصلاح في المرأة غير ذلك، كما عليه الجاهلية المعاصرة.
قوله تعالى: وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ.
بيان لصورة اخرى من الحياة الزوجيّة، التي قد تخلّف فيها بعض تلك القيود الموجبة لصلاحها، فتكون للزوجة حالتان، حالة الصلاح التي بيّنها عزّ و جلّ في صدر الآية المباركة، و حالة النشوز التي تخرج المرأة عن الصلاح، فتصير غير مستقيمة في أخلاقها و معاشرتها مع زوجها، فلها وضع آخر غير ما كانت عليه عند الطاعة و القنوت، فالآية الكريمة تبيّن حكمين مختلفين لحالتي المرأة، و لا ثالث لهما.
و مادة نشز تدلّ على الارتفاع، و منه قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا [سورة المجادلة، الآية 11]، أي: ارتفعوا و انهضوا إلى الجهاد و الحرب، أو أمر من أمور الدين، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في أربعة موارد، و في وصف خاتم النبوّة: «بضعة ناشزة»، أي: قطعة لحم مرتفعة عن الجسم، و في حديث نشر الحرمة بالرضاع: «لا رضاع إلا ما نشز العظم»، أي: رفعه و أعلاه.
و المراد به في المقام ارتفاع الزوجة بخروجها عن طاعة زوجها طغيانا، و عصيانها عليه و تباعدها عنه تمرّدا. و لا إشكال في أنّ ذلك لا يتحقّق دفعة واحدة، بل بالتدرج ابتداء من القول و الفعل و الأخلاق حتّى تصل إلى مرتبة شديدة منذرة بالنشوز الوخيم و الطغيان في الخروج عن الاستقامة و الموافقة، فيكون ابتداء ذلك هو مقام الخوف الذي هو ظهور علامات النشوز، و قد شرّع اللّه تعالى في الاستصلاح أحكاما خاصّة تتناسب مع تلك الدرجات، فابتدأ بالموعظة، و هي اولى درجات الإصلاح، و هي واضحة لا تحتاج إلى بيان، فتشمل كلّ ما يرجى تأثيره فيها، و لذا أطلق عزّ و جلّ كلّ ما له قابلية التأثير من أنحاء المواعظ، كالترغيب في الثواب و الترهيب عمّا يترتّب على المخالفة، و بيان و بال النشوز و سوء عاقبة المخالفة، و لا يختصّ الوعظ بلفظ معين، و ما ورد في بعض الروايات إنّما هو من باب ذكر أحد المصاديق.
قوله تعالى: وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ ضرب آخر من ضروب التأديب، بعد تحقّق مرتبة اخرى، من مراتب النشوز غير المرتبة الاولى التي لم تؤثّر فيها الموعظة، فلا بد من إجراء فعل آخر أبلغ في التأثير من الأول، و هو الهجران في المضاجع مع حفظ المضاجعة بما يؤثّر في دلالها و تعلم بأنّ الأمر جدّ، فلا فاعليّة لما تفعله من أسباب النشوز، و للهجران في المضاجع مراتب أيضا، و لا يتحقّق الهجران كذلك في ترك الكلام مع إقباله عليها بمقاديم بدنه، فإنّ ترك الكلام قد يتحقّق لأجل الكسل و الفكر و النعاس و نحو ذلك، مع أن الهجران كذلك لا يكون عملية تربويّة إصلاحية، فإنّ نظر الإسلام في هذا الحكم هو الإصلاح و التربية، و ليس مجرّد إظهار الرجل سلطنته و استعلاءه على المرأة.
ثمّ إنّ الهجر من الهجران، و هو البعد ضدّ الوصل، يقال: هجره، أي: تباعد و نأى عنه، و في الحديث: «و من الناس من لا يذكر اللّه إلا مهاجرا»،
أي: بعيدا عن الإخلاص، كأنّ قلبه مهاجر للسانه، و بينهما بعد و غير مواصل له.
و المضاجع جمع المضجع، و هو محلّ المبيت و السكن و الراحة، و الاضطجاع أي: النوم، و في الحديث: «كانت ضجعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أدما حشوها ليف»، أي: كانت مخدته التي ينام عليها من جلد حشوها من ليف.
و إنّما جعل المضاجع محل الهجران ليعلم أنّه لا بد من حفظ المضاجعة، فلا يتحقّق بهجر المضجع، فإنّ الاجتماع فيه يثير الشعور، و الهجران فيه له الأثر البليغ.
و إتيان الجمع إما لأجل ملاحظة مجموع المضاجع التي يتّخذها الرجل للمبيت مع المرأة، أو لأجل بيان حفظ المضاجعة في الهجران دون تركها، كما ذكره جمع من المفسّرين و اعتمدوا على ما ورد من ابن عباس، قال: «لا تضاجعها في فراشك»، فإنّه موهون بمعارضته مع غيره، مع كونه خلاف ظاهر الآية الشريفة الدالّة على كون المضاجع ظرفا للهجران، إلا أن يتكلّف في تأويل الآية المباركة.
قوله تعالى: وَ اضْرِبُوهُنَّ.
عقاب بدني لمن لم تصلحها الموعظة و لا الهجر في المضاجع، و إنّما تصل النوبة إليه عند بلوغ النشوز مرتبة لا يؤثّر فيها إلا تأديب يناسبها، فإنّ من الناس من لا يفيده إلا هذا النوع من التأديب، فلا بد فيه من إظهار أنّ الرجل له سلطة التأديب، و لكن لم يطلق الإسلام العنان له، فقيّده بأن لا يكون مبرّحا كما ورد في السنّة الشريفة.
و المبرّح هو ما يوجب المشقّة و الشدّة، و السرّ واضح، فإنّ الضرب و الهجران في المضاجع و الموعظة وسائل للزجر و التأديب، و إنّما جعلها سبحانه و تعالى لأجل التوصّل إلى إصلاح المرأة و إرجاعها إلى الطاعة، فلا بد من أن لا يؤتى منها خلاف المقصود، فهي ليست وسيلة لإرضاء غرور الرجل و لا سببا لإذلال المرأة و مهانتها، بل هي عملية إصلاحيّة تربويّة لا بد من ملاحظة التقوى فيها، و قد اهتمّ سبحانه و تعالى بذلك؛ لأنّ الاسرة بنية صغيرة من بنيان المجتمع الكبير، الذي يتركّب منها و من غيرها و يصلح بصلاحها و يسعد بسعادتها.
قوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا بيان لغاية تلك الأحكام الإلهيّة المتقدّمة، أي: أنّ الوسائل التي شرّعها عزّ و جلّ لإصلاح الزوجة بعد نشوزها، إنّما هي لأجل رجوعها إلى الطاعة بترك النشوز، فإذا تحقّق فلا يجوز التعدّي عليهن باتخاذ العلل في إيذائهن.
و من ذلك يظهر أنّه إذا اكتفى بالأدنى من تلك المراتب الثلاثة في إرجاع المرأة إلى الطاعة و الصلاح، لا يجوز التعدّي إلى المرتبة العليا، فإنّه من البغي عليهن، فليس المقام مقام إظهار قوة الرجل و غروره و استكباره عليهن، كما عرفت آنفا، بل إنّما شرّعها عزّ و جلّ لأجل الإصلاح و الإرجاع إلى الطاعة، فالتعدّي عمّا شرّعه اللّه تعالى يكون بغيا و عدوانا و خروجا عن طاعة اللّه تعالى.
و إنّما ذكر عزّ و جلّ البغي دون غيره، لبيان أنّ الخروج عمّا شرّعه سبحانه و تعالى، هو بغي و تجاوز عن الحدّ و ظلم عليهن.
و المستفاد من الآية الشريفة الاكتفاء بالظاهر من الإطاعة و لم يكلّف الرجل بما وراء ذلك، فلا يجوز البحث عن السرائر، فإنّ علمها عند اللّه تعالى.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً تهديد لمن يريد الخروج عن طاعة اللّه بالبغي على النساء و التعدّي عمّا شرّعه اللّه تعالى فيهن، فإنّ اللّه جلّ شأنه عليّ في أحكامه و قدرته، و سلطانه فوق كلّ سلطان، حكيم في أفعاله لم يشرّع من الأحكام إلا بما يرشد الناس إلى سعادتهم، و هو كبير في جلاله و كبريائه، فإذا دعتكم قدرتكم على ظلمهن فتذكروا قدرة اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما الخطاب لمن تعنيه شؤون الزوجيّة بحكم الروابط العائليّة، أو لأجل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الإصلاح بين الناس، فإنّهم المكلّفون بتنفيذ الأحكام الإلهيّة عند ظهور المنافرة بين الزوجين و إخافتهم عاقبة ذلك.
و الشقاق الخلاف و البينونة مأخوذ من الشقّ الذي هو نصف الشيء، و في الحديث «اتقوا النار و لو بشقّ تمرة» أي: نصف تمرة. و المراد منه لا تستقلوا من الصدقة شيئا و لو يسيرا مثل نصف التمرة، و قال تعالى: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [سورة النحل، الآية: 7]، كأنه ذهب نصف أنفسكم حتّى بلغتموه، فالمراد منه كمال المشقّة، فكأن استمرار الخلاف بين الزوجين أوجب انشقاق الائتلاف بينهما إلى شقّين متباينين في العداوة و البغضاء، و تقدّم في قوله تعالى: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ [سورة البقرة، الآية: 137] اشتقاق الكلمة فراجع.
و إضافة الشقاق إلى (بين) إما لإجراء الظرف مجرى المفعول أو الفاعل.
و قيل: إن (بين) اجري مجرى الأسماء و ازيل عنه الظرفيّة.
قوله تعالى: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها الحكم- بالتحريك- هو من ينصّب للتحكيم، و المراد بالبعث في المقام هو توجيه الحكمين إلى الزوجين لإصلاح ذات البين. و إنّما أمر عزّ و جلّ بنصب الحكمين- حكم من أهل الزوجة و حكم من أهل الزوج- ليكونا أبعد من الجور و التعسّف.
و إنّما ذكر الأهل لأنّهم أقرب إلى الاطلاع على الخفايا و مناهج الصلاح، و لا بد أن يكون الحكم صالحا للتحكيم و قادرا على حلّ النزاع و رفع الخلاف بحسن التدبير في حلّ جميع المنازعات، و يعتبر الاطمئنان بأمانتهما، فإن بها تتمّ الفائدة المرجوة من بعثهما.
و إطلاق الآية الشريفة ينفي كلّ قيد في المقام، كما أنّ مقتضاه هو ثبوت حقّ التفريق لهما، إلا أنّه استفاضت الروايات أنّ حكمها بالفراق موقوف على إذن الزوجين، أو الشرط الضمني، و بها يقيّد إطلاق الآية الشريفة، و سيأتي نقل بعضها.
قوله تعالى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما ظاهر السياق أنّ الضمير يرجع إلى الحكمين، أي: إن أراد الحكمان إصلاح شأن الزوجين، و كان من نيتهما الصلاح و الإصلاح فقط، دون ترجيح أحد الجانبين على الآخر عنادا و لجاجا أو رغبة لأحدهما دون الآخر، فإن اللّه تعالى يوفّقهما للحقّ و يجمع رأيهما على الصواب، لرجوع الأمور كلّها إليه عزّ و جلّ.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً أي: أنّ اللّه عليم بحقائق الأمور و أحوال العباد و مصالحهم، خبير بنيّاتهم و ما تطويه ضمائرهم.