قوله تعالى: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ.
الجملة معطوفة على الجملة السابقة: «إذ قالت امرأة عمران»، و الجملتان في مقام الشرح لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ.
و (إذ) منصوب- كما عرفت- بفعل مقدر و هو اذكر، و المراد من الملائكة جنسها كما تقدّم سابقا، فلا ينافي أن يكون المتكلّم واحدا.
و قول الملائكة أعمّ من أن يكون بالإلهام في القلب، أو بظهور الشخص خارجا و التكلّم الشفهي معها، و إن كان الظاهر هو الثاني، و يدلّ عليه قوله تعالى في سورة مريم: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا، و لا محذور فيه من عقل أو نقل، كما أن ظاهر الآية المباركة في أن مريم كانت محدّثة تكلّمها الملائكة و هي تسمع كلامهم و قد ترى شخصهم.
و الاصطفاء الاختيار كما عرفت سابقا، و ذكرنا أن جهة الاصطفاء تعرف من القرائن الحافّة بالكلام، فقد تكون متّحدة، و قد تكون متعدّدة:
فتارة: تكون لأجل قداسة الذات.
و اخرى: تكون لأجل جهات خارجيّة اختياريّة أو تكوينيّة.
و ثالثة: تكون لأجل الخلوص في العبادة و التقوى.
و رابعة: لجميع ذلك.
و المراد به في المقام أن اللّه اختارك بقبوله تعالى لك و رضائه بك، و تقبّلها لعبادته عزّ و جلّ حينما نذرت أمها تحريرها للّه عزّ و جلّ، و قد تقدّم جميع ذلك في الآيات السابقة.
و ظاهر الآية الشريفة أن الطهارة في المقام أعمّ من الطهارة من الأدناس الظاهريّة و الأقذار المعنويّة، فهي معصومة بعصمة اللّه تعالى، و قد تحقّق فيها دعاء أمها من إعاذتها و ذرّيتها من الشيطان الرجيم.
و قيل: الطهارة مختصّة بالطهارة عن الأدناس التي تلحق بالنساء، مثل الحيض و النفاس، حتّى تكون صالحة لخدمة المسجد، و لكن الإطلاق يدفع ذلك.
قوله تعالى: وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ.
أي: و اختارك لتكوني اما للمسيح، فيكون الاصطفاء في المقام غير الاصطفاء في صدر الآية الشريفة، فإنه يختصّ ببعض الجهات، و هو تقديم مريم عليها السّلام على سائر النساء في الولادة من غير أب، و يشهد لذلك جملة من الآيات المباركة التي تدلّ على تكريمها بهذه المزيّة، قال تعالى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، و قال تعالى: وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 91]، و قال تعالى: وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [سورة التحريم، الآية: 12]. و المستفاد من جميع ذلك أنها تقدّمت على نساء العالمين في خصوص هذه المزيّة، و إن كانت لها صفات اخرى منها التطهير و التصديق بكلمات اللّه تعالى و كتبه، و القنوت، و تقبّلها ربّها، و أنبتها نباتا حسنا و نحو ذلك، و لكن هذه الأمور قد توجد في غيرها فلا تختصّ بها، و ربما تكون هذه الأمور هي من تلك الجهات التي اقتضت اصطفاءها في المرة الاولى.
و من ذلك يظهر سرّ تكرار الاصطفاء في الآية الشريفة، فلا دلالة فيها مع هذه القرائن الكثيرة على اصطفائها على جميع نساء العالمين من الأوّلين و الآخرين، مع أن لفظ العالمين قابل للتوسعة و التضييق، و القرائن المذكورة في المقام و السنّة دلّت على سيادتها و تقدّمها على نساء العالمين في جهة خاصة أو على نساء عالمها، فهي لا تدلّ على أفضليتها على فاطمة عليها السّلام، التي اجتمعت فيها امور كثيرة لا تكون في غيرها، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.
قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ.
تكرار النداء لبيان عظمة المنادي، و للإشارة إلى تتابع النداء على مريم و حثّها على الاستماع و الإصغاء، و التحبّب إليها، و الاهتمام بشأنها.
و القنوت: هو لزوم الطاعة و الخضوع، و تقدّم تفصيل معناه في قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [سورة البقرة، الآية: 238]. و السجود و الركوع معروفان، و الجميع كناية عن لزوم الطاعة و الخضوع و الخشوع في العبادة و عدم تركها في حال، و مراعاة وظيفة العبوديّة.
و يمكن أن يكون المراد من الركوع مع الراكعين هو لزوم الصلاة و المحافظة عليها، و لعلّ النكتة في التعبير بالركوع مع الراكعين هي الأمر باتباع شريعة موسى و متابعة زكريا قبل ظهور شريعة ابنها عيسى عليه السّلام، حيث إنها كانت في كفالته، مع أن الظاهر أن الصلاة كانت واحدة في الشريعتين، فإنها أوّل ما نطق به عيسى عليه السّلام حينما وضعته امه، قال تعالى حكاية عنه: وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 31].
و كيف كان، فهي تابعة في جهات عبادتها لشخص آخر، و هو إبراهيم أو موسى أو زكريا، و لا استقلال لها بوجه حتّى يتوهّم أنها أصل من الأصول، و لا ينافي ذلك نداءها من قبل الملائكة بلزوم الطاعة و العبادة و الخضوع، فإن كلّ نفس آمنت باللّه تعالى ايمانا حقيقيّا و اتّصفت بالتقوى و اليقين يمكن أن تحدثها الملائكة، و قد ورد في جملة من الاخبار: «ان المؤمن محدث»، و لا ريب أن حديث الملائكة كاشف عن كمال الإيمان، كما أن وحي الشيطان كاشف عن كمال الشقاء و الحرمان، قال تعالى: وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [سورة الأنعام، الآية: 121].
و ربما يكون الوجه في الأمر بالركوع مع الراكعين هو لزوم الصلاة، التي هي معروفة عند الخواص، التي تكون خالصة عن الشوائب و كلّ ما هو خارج عنها عندهم.
و لا دلالة لهذه الجملة على كون المعنى منها لزوم صلاة الجماعة، كما ذكره بعض المفسّرين، بل المراد منها هو لزوم الموافقة مع المصلّين و الدخول في زمرتهم.
و إنما ذكر سبحانه (الرب)، لأن ربوبيّته المطلقة تقتضي إيصال كلّ ممكن لغايته، و غاية العبوديّة الحقيقيّة هي الوصول إلى مقام الاصطفاء، فتكون الجملة في مقام التعليل للجملة الاولى، أي: أن علّة الاصطفاء هي الخضوع للحي القيوم و السجود و الركوع له، و الانخلاع عن الرذائل و الانقطاع إلى اللّه تعالى.
و إنما قدّم سبحانه السجود قبل الركوع، لكمال أهمية السجود من الركوع و غيره من العبادات، ففي الحديث: «أقرب ما يكون العبد من ربّه و هو ساجد»، مع أنه يمكن أن يراد من الركوع مطلق الصلاة، و لم يعلم بوجه صحيح أن صلاتهم كانت مثل صلاة المسلمين بتقديم الركوع على السجود.
قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ.
(ذلك) إشارة إلى ما قصّه اللّه تعالى من شأن امرأة عمران و مريم و زكريا و يحيى، و ما تضمّنته من البلاغة و الغرابة.
و الأنباء: جمع نبأ، كالأخبار جمع خبر، و لكن النبأ أخصّ من مطلق الخبر، لأن النبأ يطلق على الخبر ذي الفائدة العظيمة، و الخبر أعمّ منه، و قد يطلق على مطلق الخبر مع القرينة، و يمكن أن يستفاد من موارد الاستعمالات القرآنيّة أن النبأ يستعمل غالبا في الموارد التي تستفاد فائدة الخبر من ناحية العلّة، و الخبر بالعكس.
و الغيب: كلّما غاب عن الحواس الظاهريّة و المعنويّة، سواء كان من موجودات هذا العالم في ما مضى و يأتي، أم عالم آخر. و مادة (غيب) كثيرة الاستعمال في القرآن مفردا و جمعا، و لعلّ من أعظم موارد استعمالها قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [سورة الجن، الآية: ۲٦- 27].
و الوحي هنا إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، سواء كان بإرسال الملك أم الإلهام، أو غير ذلك، و لا يختصّ بالنفوس الإنسانيّة، بل يعمّ غيرها، لأن جميع الممكنات مسخّرات تحت إرادته عزّ و جلّ و مستمدة من مدده، قال تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [سورة النحل، الآية: ٦۷].
و يستفاد من الآية الشريفة أن ما أوحى اللّه تبارك و تعالى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو الصحيح المكنون في علم الغيب، و لا يوجد عند أهل الكتاب، بل لا عبرة بما هو الموجود عندهم، لعدم سلامته من التحريف، و لا عند قوم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، لكونهم أميين لا يعرفون هذه القصص بوجه من الوجوه.
و نظير هذا التعبير ورد في قصة يوسف: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ [سورة يوسف، الآية: 102]، و القصتان متشابهتان من حيث أن يد التحريف نالتهما، و أنهما لم تذكرا بهذه الخصوصيات التي وردت في القرآن الكريم في كتب القوم.
قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ.
أقلام جمع قلم، و مادة (قلم) تأتي بمعنى القطع في أي هيئة استعملت، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم مفردة و جمعا، قال تعالى: ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ [سورة القلم، الآية: 1]، و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [سورة لقمان، الآية: 27]، و يسمّى القدح قلما لأنه مقطوع في الجملة أيضا، و قيل: لا يقال للقلم قلما إلا بعد البري؛ و يسمّى قبله قصبة و يراعة.
و ما روي أنه صلّى اللّه عليه و آله: «كان يأخذ الوحي عن جبرائيل، و جبرائيل عن ميكائيل و ميكائيل عن إسرائيل و إسرافيل عن اللوح المحفوظ و اللوح عن القلم»، فهي إشارة إلى معنى إلهي سيأتي تفسيره في موضعه إن شاء اللّه تعالى.
و إلقاء الأقلام نوع من القرعة التي قرّرتها الشريعة المقدّسة الإسلامية، فقد ورد فيها: «القرعة لكل أمر مشكل»، أو «كلّ أمر مشكل ففيه القرعة»، و هي تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار، فتشمل كلّما يسمّى قرعة كيف كانت، و يأتي في قوله تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [سورة الصافات، الآية: ۱٤۱] بعض الكلام.
و معنى يلقون أقلامهم، أي: أن سدنة الهيكل كانوا يتسابقون في كفالتها، فيلقون أقلامهم و يرمونها و يضربون بها لأخذ النتيجة. و الآية المباركة تدلّ على أن القرعة لها دخل في تمييز الحقوق و تعيينها في الواقع.
قوله تعالى: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ.
أي: أن النتيجة التي أرادوها من ضرب الأقلام هي تعيين من يكفل مريم، و الجملة تدلّ على أن التكفّل و الحنان للوليد كانا في مورد السباق من أوّل ولادة مريم.
قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ.
أي: و ما كنت شاهدا نزاعهم و تنافسهم على كفالة مريم حين تراضوا بالقرعة، و ضرب السهام فخرجت باسم زكريا و كانت من نصيبه. و الظاهر أن هذا الاختصام و النزاع كان لكفالة مريم من ابتداء الأمر و حين ولادتها.
و قيل: ان هذا الاختصام و النزاع كان بعد كبر مريم عليها السّلام و عجز زكريا عن كفالتها، لأن هذه الجملة ذكرت بعد تعيين الكفيل بالقرعة و تمام قصتها، فتكونان واقعتين مستقلتين.
و لكن ظاهر الآية الشريفة يدفع ذلك، و لا يضرّ إعادة بعض خصوصيات القصة بعد تمامها، لفائدة خاصة و هي التثبيت، و نظير ذلك ما ورد في قصة يوسف عليه السّلام، فإنه بعد سرد القصة قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ [سورة يوسف، الآية: 102].
و يستفاد من الآية الشريفة جواز الاختصام في المسارعة إلى الخير، و المتيقّن منه ما إذا كان ذلك بمجرّد القول و الاحتجاج من دون أن تطرأ عناوين جانبيّة اخرى، كالهتك و التوهين و الإيذاء مثلا.
و في تكرار: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ للدلالة على أن كلّ واحد من الموردين له الاستقلال في الدلالة على صدق قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و صحة نبوّته، مع أنه رجل امي لا يعلم هو و قومه من أخبارهم شيئا، و عدم ذكرهما في الكتب المتداولة في أهل الكتاب، و فيها الدلالة على أن ذلك وحي من اللّه تعالى.
و إطلاق النفي يشمل نفي الحضور الجسماني و الروحاني، و منه يظهر ضعف ما ذكره بعض من أن الأرواح خلقت قبل الأجساد، و أنها كانت عالمة بكلّ شيء قبل التعلّق بالأجساد، فلما تعلّقت بها سلبت عنها علومها و انحصرت معرفتها بما يستفيده الإنسان بالجهد، و يستندون في ذلك إلى بعض الأحاديث، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه، و نظير المقام قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ [سورة القصص، الآية: ٤٦]، و قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [سورة القصص، الآية: ٤٤]، و الجميع يدلّ على انحصار علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالأمور الغيبيّة بالوحي السماوي فقط.
و الآية الشريفة تدلّ أيضا على كمال العناية بشأن مريم و الاهتمام بها و كرامتها على اللّه تعالى و عظم منزلتها عند سدنة بيت المقدس، و لعلّ السرّ في ذلك أنهم عرفوا بوجه من الوجوه أن لها شأنا من الشأن و تكون منشأ لحادثة عظيمة، و هي الولادة من غير أب.
و كيف كان، فالآية المباركة تدلّ على قداسة ام المسيح و تبطل الشبهات التي لم تتورّع اليهود أن يلصقوها بمريم، كما أنها تدلّ على إبطال مزاعم النصارى في مريم، ببيان كاف و شرح واف تقبله العقول السليمة و الأذهان المستقيمة، و إخراجها عن حدّ الإفراط و الغلو و منحها أرفع المقامات، و هو مقام التقوى و الخضوع لربّ العالمين و العبوديّة للّه تعالى.
و من عجيب الأمر أن امراة عمران نذرت ما في بطنها محرّرا بخلوص، و حزنت عند ما وضعت المولود أنثى، لاحتياجها إلى رعاية الام أكثر من غيرها، و لكن اللّه تعالى تقبّلها و جعل قلوب سدنة بيت المقدس تهوى إليها، فتشاجر القوم و تنازعوا في كفالتها و حضانتها و حفظها و حراستها، و لا بد من الاعتبار و التوكّل عليه تعالى، و جعل هذه القصة نصب الأعين، فكلّ من أخلص في عمله للّه تعالى يراعي اللّه عزّ و جلّ شأنه و يوكل قوما من عباده لحفظه و رعايته، أنه على كلّ شيء قدير.
قوله تعالى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ.
شروع في قصة عيسى عليه السّلام، و بشارة عظيمة من الرحمن لابنة عمران و تبجيل لها، و إعلان لجلالة مقام المسيح و رفعة مكانه، و (إذ) بدل من نظيرتها السابقة، أو عطف بيان، و ترك العطف لاتحاد المخاطب فيهما، و للإشارة إلى تقارب الزمانين، بحيث يمكن اعتبارهما حينا واحدا و في قصة واحدة، و الظاهر أن البشارة كانت في كبر مريم عليها السّلام.
و المراد بالملائكة جنسها، فلا ينافي أن يكون واحدا، و هو في المقام جبرائيل عليه السّلام الذي تمثّل لها بشرا، سويّا، كما قال تعالى في موضع آخر: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا* قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا* قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا [سورة مريم، الآية: 17- 19]، و يمكن أن تكون البشارة من جبرائيل و جنوده من الأملاك إجلالا و اهتماما بالموضوع، و الكلّ رسل من اللّه تعالى، و لذا ينسب تارة إلى نفسه و اخرى إلى الملائكة.
قوله تعالى: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ.
مادة (كلم) تأتي بمعنى الظهور و البروز، و هذا هو الجامع بين جميع استعمالاتها، و على هذا تكون جميع الموجودات كلمات اللّه تعالى، لأنها مظاهر قدرته و مبرزات مشيئته، كما أن أنبياء اللّه تعالى و أولياءه كلمات اللّه تعالى، لأنهم مظاهر أخلاقه، و تشريعاته، و كما أن بين الكلمات الهجائيّة فرقا واضحا بين أفرادها، كذلك يكون بين كلمات اللّه تعالى التشريعيّة و التكوينيّة.
و الكلمة و الكلم كالتمرة و التمر جنس و مفرد، و تطلق الكلمة في العلوم الأدبية على اللفظ الدال على المعنى و على الجملة، سواء كانت تامّة يصحّ السكوت عليها، أم ناقصة لا يصحّ.
و إنما أتى الضمير في (اسمه) مذكّرا باعتبار المعنى.
و المسيح معرب، و أصله (مشيح) بالعبرانيّة، كما في كتب العهدين، و هو لقب عيسى بن مريم، و قد وقع في ضمن البشارة كما هو ظاهر الآية الشريفة، فيكون مباركا، قال تعالى حكاية عنه: وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ، و يصحّ أن يقع اسما له توسعا، فيقال اسمه المسيح عيسى ابن مريم.
و كيف كان، فقد ذكر القوم في وجه تسمية عيسى بن مريم بهذا الاسم أو اللقب.
و منها: أنه مسح بالتطهير من الذنوب.
و منها: أنه مسح بدهن زيت بورك فيه، و كان الأنبياء يمسحون به.
و منها: أنه كان يمسح رؤوس اليتامى.
و منها: أنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، و ذا عاهة فيبرأ.
و منها: أن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان.
و منها: أن كتب العهدين كانت تبشّر بني إسرائيل بظهور ملك عليهم ينجيهم، فسمّي مشيحا بذلك، و قد تعلل اليهود عن قبول نبوّته بأنه لم ينل الملك أيام دعوته و لم تتحقق البشارة في حياته، و وجه بعض النصارى و المسلمين بأن المراد الملك المعنوي، دون الظاهري الصوري.
و لكن شيئا ممّا ذكروه لم يقم عليه دليل، بل هو تطويل بلا طائل تحته، و الذي يظهر من الآية الشريفة أن هذا اللقب أو التسمية إنما هي من اللّه تعالى من حين ولادته، و أنه يلازم البركة و الخير اللذين عرف بهما عيسى بن مريم، و لعلّ السرّ في ذلك كلّه هو نبذ العادة التي كانت متّبعة عند الإسرائيليين في الزعيم الروحاني عند ما يمنحه للزعامة الروحانيّة من هو قبله، حتى صار لقبا للزعيم الروحاني و أصبح و ساما للزعامة الروحانيّة، كالتويج للملك، فالآية المباركة ترشد إلى الإعراض عن هذه العادة، و أن المسيح الذي يكون مباركا هو عيسى ابن مريم الذي سماّه اللّه تعالى به لا غيره.
و قد وقع الخلاف بين المفسّرين في المراد من الكلمة، فقيل: إنّ المراد منها هو المسيح باعتبار أنه تكون في رحم امه من غير فحل، بل بكلمة (كن)، أي بتوجّه الإرادة الخلّاقة إلى إيجاده بدون أسباب و معدّات ظاهريّة، و إلا فإن جميع أفراد الإنسان يوجدون بكلمة اللّه تعالى و إرادته التكوينيّة، و لكنهم يوجدون بالأسباب العاديّة، بخلاف عيسى فإنه وجد من دون تلك الأسباب العادية، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء، الآية: 171]، و قوله تعالى في آخر هذه الآيات: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. و هذا الوجه هو الصحيح و تؤيّده ظواهر الآيات الشريفة و بعض الأحاديث.
و قيل: إنّ المراد منها المسيح عليه السّلام باعتبار أن الأنبياء السابقين بشّروا به بعنوان أنه هو الذي ينجي بني إسرائيل، فيكون نظير قوله تعالى في ظهور موسى عليه السّلام: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [سورة الأعراف، الآية: 137]، و أيّد ذلك بما ورد في كتب العهدين في شأن المسيح عيسى بن مريم.
و يردّ عليه: أن ظاهر القرآن الكريم أن المسيح اسم للكلمة التي أوجدها تعالى، لا أن يكون اسما للكلمة التي تقدّمت البشارة بها، مضافا إلى أن ظاهر قوله تعالى في المقام بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أن عيسى ابن مريم هو بنفسه وقع مورد البشارة، لا أن يكون مبشّرا به.
و قيل: إنّ المراد بالكلمة نفس البشارة، و الأخبار بحمل مريم بعيسى عليه السّلام و ولادته منها، أي: و يبشّرك ببشارة هي ولادة عيسى من غير أب.
و فيه: أنه خلاف ظاهر الآية الشريفة.
و قيل: أن المراد بها عيسى باعتبار كونه موضحا لمراد اللّه تعالى في التوراة، و مبيّنا لتحريفات اليهود و ما اختلفوا فيه، كما حكى عنه عزّ و جلّ: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [سورة الزخرف، الآية: ٦۳].
و فيه: أنه لا يلائم ظاهر الآية الشريفة.
قوله تعالى: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.
عيسى معرّب يسوع بالعبرانيّة، و في كتب العهدين: «ايشوع»، و معناه السيد.
و ذكر بعض المفسّرين أن تفسيره بيعيش هو الأنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى، لما بين هذين النبيين من المشابهة التامّة، و هو وجه حسن، لكن إثبات المشابهة التامّة حتى من هذه الجهة مشكل، لأنه إذا ورد في القرآن الكريم وصف لنبيّ من الأنبياء، فإن استفيد من القرائن الداخليّة أو الخارجيّة اختصاص ذلك النبيّ بذلك الوصف فهو، و إلا فيجري في جميع الأنبياء، فما اختصّ به عيسى بن مريم هو لقب المسيح و بعض الخصوصيات، لا تجري في غيره، و إن كان يحيى الذي بينه و بين عيسى المشابهة الكبيرة، و الأنبياء يتشابهون في أغلب الصفات و العلامات، و لكن لا يلزم من ذلك التشابه التام.
و إنما نسب سبحانه و تعالى عيسى إلى امه مريم، للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب، و ردّا على من يسميه ابن اللّه، و للإعلام بأنه و امه شريكان في كونهما آية اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 91].
قوله تعالى: وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ.
الوجيه ذو الجاه و الكرامة و الشرف، و الوجاهة: هي المقبوليّة، أما وجاهته في الدنيا فلما له من المكانة الرفيعة و الشرف العظيم و الرفعة المعنويّة الروحانيّة، التي طالما جعلت الملوك نير المذلة في أعناقهم أمام عظمته و سؤدده، و أما وجاهته في الآخرة، فلها شأن لا يعلمه إلا اللّه تعالى، و قد أطلق سبحانه و تعالى له هذا الوصف في الدنيا و الآخرة و لم يقيّده بجهة خاصة، ليشمل الجميع و يذهب ذهن السامع كلّ مذهب أمكن.
و الظاهر أن الوجاهة في الدنيا و الآخرة لا تختصّ بعيسى عليه السّلام، فإن جميع الأنبياء لهم هذه الوجاهة.
نعم، تختلف باختلاف الجهات الخارجيّة، و الآية الكريمة ليست في مقام بيان ذلك.
قوله تعالى: وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ.
المقرّبون هم الّذين استقاموا على الطريقة و أصابوا الحقّ و الحقيقة، و مشوا على بساط القرب بإقدام حافية عن جميع الأوهام، و تخلّوا عن تمام الجهات الإمكانية، و طرحوا جميع إضافاتهم النفسانيّة، و لا يشاءون إلا ما شاء اللّه تعالى، فأدركوا لذّة البقاء باللّه تعالى في الفناء في مرضاة اللّه، طينتهم حبّ الواحد الأحد، و صورتهم الشوارق النازلة من اللّه الصمد، فقد وردوا الساحة الربوبيّة بهممهم العالية، و تصرّفوا في نظام التكوين بإذن من الحي القيوم الحكيم، و قد وصف اللّه تعالى الأنبياء بهذا الوصف لأنهم سبقوا سائر أفراد الإنسان إلى هذه الحقيقة، كما يظهر من قوله تعالى في شأن المتقرّب إليه: وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [سورة الواقعة، الآية: 11].
و المراد القرب إلى اللّه تعالى الذي هو غاية سعي الإنسان و التقرّب إلى المعبود، و لذا يكون قرين المعبوديّة للّه تعالى؛ و القرب إما أن يحصل من فعل الفاعل المختار، كتقرّب الأنبياء و الأولياء، و إما أن يكون من مجرّد العطية المحضة و المنحة الإلهيّة، لمن يشاء، كقرب بعض الملائكة، و قد جمعهما اللّه تعالى في قوله عزّ و جلّ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [سورة النساء، الآية: 172].
ثم إنّ كلّ وجيه في الدنيا و الآخرة هو مقرّب عند اللّه تعالى، و كذا بالعكس إن لوحظ ذلك من حيث الوصف بحال الذات، و أما إذا لوحظ من حيث الوصف بحال المتعلّق، أي اعتقاد الناس، فالأمر ليس كذلك، فكم من مقرّب عند اللّه تعالى لا يعرفه أحد. و لكن المستفاد من سياق الآية الشريفة هو المعنى الأوّل، فيكون العطف تفسيريّا.
قوله تعالى: وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا.
مادة (مهد) تأتي بمعنى البساط و الفراش و الراحة، و يسمّى مضجع الطفل أو الموضع الذي يهيأ له مهدا لكونه محل ذلك كلّه للطفل، كما تسمّى الأرض مهادا لذلك أيضا بالنسبة إلى الإنسان و الحيوان، و مهّدت الأمر هيأته و وطئته، قال تعالى: فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [سورة الروم، الآية: ٤٤].
و الكهولة: اسم لما بين الشباب و الشيخوخة، و الشاب من تجاوز البلوغ إلى ثلاثين سنة، و الشيخ من جاوز الأربعين، و فيه يكون الإنسان رجلا كاملا سويّا، و قد سمّى العلماء كلّ سني العمر باسم خاص، كما يأتي في البحث الأدبي.
و المعنى: يكلّم الناس و يدعوهم إلى التوحيد من حين ولادته إلى حين كهولته و رفعه إلى السماء، و قد حكى اللّه تعالى في موضع آخر تكلّمه حين ولادته، و قال عزّ و جلّ: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا* وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا* وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا* وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 30- 33].
و في الآية المباركة بشارة إلى مريم بأنه يعيش إلى زمان الكهولة، فيكون رجلا كاملا قويّا سويّا، و فيها إشارة إلى أنه لا يبلغ سن الشيخوخة.
و قد ذكر سبحانه و تعالى طرفي عمره لما وقع فيهما الآيتان، التكلّم ساعة ولادته- في المهد و هو صبي لم يبلغ سن الكلام- كلاما يعتني به العقلاء كما يعتنون بكلام الرجال، و آية رفعه إلى السماء حين بلوغه سن الكهولة كما يأتي بعد ذلك.
و المعروف أنه عليه السّلام أرسل إلى الناس و هو ابن ثلاثين سنة، و رفع إلى السماء بعد ثلاث سنين، و هذا ما تدلّ عليه الأناجيل المعروفة، و لكن ذكر جمهور المفسّرين أن تكليمه الناس إنما هو بعد نزوله من السماء، فإنه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سن الكهولة.
و الصحيح ما ذكرناه من أن الآية الشريفة في مقام بيان أن الزمانين مورد حدوث الآية فيهما، و النصارى تزعم مزاعم في حياة هذا الرجل العظيم، و الآية الشريفة تنفي تلك بأسلوب جذاب.
قوله تعالى: وَ مِنَ الصَّالِحِينَ.
أي: معدود منهم الّذين تعرفهم مريم و تعلم سيرتهم. و مادة (صلح) تستعمل في المطابقة مع الواقع المطلوب من الشيء، فصلاح الإنسان مطابقة أعماله الجوانحيّة و الجوارحيّة مع مرضاة اللّه تعالى.
و قد وقع هذا التوصيف لجمع من أنبياء اللّه تعالى، منهم إبراهيم عليه السّلام، قال تعالى: وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة النحل، الآية: 122]، و إسحاق و يعقوب، قال تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 72]، و يحيى عليه السّلام، قال تعالى: وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة آل عمران، الآية: 39]، و قال تعالى في شأن جمع من الأنبياء وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة الأنعام، الآية: ۸٥]، و لوط، قال تعالى: وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة الأنبياء، الآية: ۷٥]، و إسماعيل و إدريس و ذو الكفل، قال تعالى في شأنهم: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ* وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة الأنبياء، الآية:۸٦]، و في طلب سليمان الذي استجابه اللّه تعالى قال جلّ شأنه حكاية عنه: وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [سورة النمل، الآية: 19]، و يونس صاحب الحوت، قال تعالى في شأنه: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة القلم، الآية: ٥۰].
و الآيات الشريفة ليست في مقام الحصر.
أوّلا: لما ثبت في محلّه من أنه لا مفهوم للوصف.
و ثانيا: أن كلمة (من) في بعضها تدلّ على عموميّة الصفة من الموصوف.
و ثالثا: الأدلّة العقليّة و النقليّة الدالّة على أن أهل التقوى مطلقا و لو لم يكونوا من الأنبياء هم من الصالحين.
و الصلاح و التقوى مع تحقّق الشرائط من أهم أسباب القرب إلى اللّه جلّ جلاله، و بهما يكون العبد من المقرّبين و يفوز بسعادة الدارين، و الصلاح آخر مقامات الأولياء، و هو الارتباط الكامل بين العبد و المعبود و يتحقّق بامتثال الأوامر و اجتناب المناهي سرّا و علنا، بحيث ترتفع الاثنينيّة بين الباطن و الظاهر، و هو الإنسانيّة الكاملة التي دعا إليها القرآن الكريم و رغّب إليها غاية الترغيب، و فيه تجتمع سعادة الدارين و للصالحين درجات نورانيّة و مقامات روحانيّة لا حدّ لها، و لا يمكن درك هذه المنزلة العظيمة و لا تحديدها بكلام. و لمثل ذلك فليعمل العاملون و في ذلك فليتنافس المتنافسون.
قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ.
سؤال عن كيفيّة وقوع البشارة على خلاف مجاري الطبيعة، و قد جرت عادة اللّه سبحانه و تعالى و سنّته على أن يجري الأمور عليها ما دامت في دار الأسباب و المسبّبات، و لكن إرادة اللّه تعالى فوق الطبيعة، و هي مسخّرة تحت القدرة التامّة الكاملة، إذا قال لشيء: كن، فيكون. و هذا هو السبب الأصيل و الأوّل للإيجاد مطلقا، و أما جريان الأمور على وفق الطبيعة من إحدى الطرق للإيجاد ربما يصل إلى المطلوب، و ربما يتخلّف عنه، لفرض أن التأثير تحت إرادة القادر الحكيم، و لا يمكن التخلّف فيها.
و السؤال منها إنما هو في أن الولادة هل تكون وفق مجاري الطبيعة، و هو التزويج و الولادة من أب، و حينئذ من هو الزوج؟ أم بغير ذلك الذي هو أمر غريب عجيب لا يصدر إلا من إرادة قاهرة له القدرة الكاملة، و هي لا تنكر ذلك و تعلم أن اللّه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، فيكون السؤال استفسارا عن الواقع و الحقيقة.
و المس و المسيس كناية ظاهرة عن الوطي. و البشر يطلق على الواحد و الجمع، و التنكير للعموم، و الجملة تفيد عموم النفي لا نفي العموم.
و الخطاب مع الربّ لإظهار غاية التذلّل و الخضوع من أن المتكلّم معها هي الملائكة، كما عرفت سابقا، و هي تعلم أنها تخاطبها عن اللّه تعالى و كلامهم كلامه عزّ و جلّ.
قوله تعالى: قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ.
أي: أن اللّه تعالى قضى أن يفعل كذلك و يرزقك المولود خلاف العادة المقدّرة، و هو أمر محتوم لا يقبل التغيير و التبديل، لا يعجزه شيء. و بهذا الكلام تحقّق المقصود و رفع التردد و التعجّب الحاصلين لمريم عليها السّلام.
و إنما عبّر سبحانه و تعالى في المقام بالخلق، و في قصة زكريا بالفعل، لأن المقام على خلاف العادة و لا ينطبق على الأسباب المعروفة، لذا عبّر عزّ و جلّ بالخلق، و هو الإبداع و الإيجاد، فهو يشبه الأمور المبتدأة، و مثل هذا التعبير شائع في خلق الأمور بغير الأسباب العادية، قال تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما [سورة السجدة، الآية: ٤]، بخلاف قصة زكريا، فإن إيجاد يحيى كان من الزوجين، كما في سائر الناس، و لكن فيه الآية لهما بخلاف غيره كما عرفت، و لذا عبّر عنه بالفعل.
قوله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
أي: إذا أراد شيئا لا مرد له، فإنما يقول له: (كن فيكون) من دون تخلّف بين الإرادة و المراد، و قد تقدّم الكلام في قوله تعالى: وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة البقرة، الآية: 117]، و قلنا إنّ الجملة تدلّ على كمال قدرته و نفوذ مشيئته، كما أنها تدلّ على سرعة نفوذ إرادته، و عدم وجود أي صعوبة و عسر في تنفيذها.
ثم إنّ هذه الجملة المباركة: وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ مذكورة في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، و في بعضها: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، الآية: 82]، و هي كناية عن كمال الإحاطة و القدرة التامّة من دون احتياج إلى سبب آخر غير قضائه تعالى و إرادته، و أنه لا يعجزه شيء، و لا ينافي ذلك توقّف نظام التكوين على قانون الأسباب و المسبّبات ثم انتهاؤها إلى القدرة الأزليّة، لأن مقتضياتها إما أن تكون جارية على الأسباب و المسبّبات و هو الغالب، و إما أن تكون جارية بمجرّد القضاء الحتمي و على خلاف العادة و قانون الأسباب، نظير الأفعال الصادرة عن النفس الإنسانيّة، فإنها تارة تتوقّف على تهيئة أسباب خاصة، و اخرى لا تكون كذلك، كتصور الصور الذهنيّة.
و اختلاف التعبير في الآيات الشريفة يرجع إلى شيء واحد، و الجميع من أسباب الفعل و بيان القدرة الكاملة.
و في المقام إنما نفى سبحانه و تعالى السبب الظاهري دون السبب الواقعي كما أنه لم ينف السبب رأسا، فتكون مجاري قضائه و أسباب الطبيعة مسخّرة تحت إرادته و إن لم تكونا متّحدتين من كلّ جهة، و لم تفارق إحداهما الاخرى.
و الآية تدلّ على أن خلق عيسى عليه السّلام كان إبداعيا من غير توسّط سبب ظاهري، و لذا كان على خلاف العادة، و لكن كلّ حادث محتاج إلى علّة توجده، بلا فرق بين أن يكون من العلويّات أو السفليّات أو المعجزات و خوارق العادات، لأن الموجود إما واجب بالذات، أو واجب بالغير، و لا ثالث في البين، و الثاني ممكن محتاج إلى العلّة لا محالة و إلا لزم الخلف المحال. فجميع المعجزات و خوارق العادات لها أسباب لكنها خفيّة عن عقولنا و إدراكاتنا، و ليس لأحد أن يحكم بأن كلّما لا يدرك فهو غير واقع، و هذا ممّا يختل به النظام و يبطل به الانتظام، فيكون حمل مريم العذراء بكلمة اللّه عيسى بن مريم لا يعقل أن يكون بغير سبب واقعي، بل عن بعض أكابر الفلاسفة إثبات أن له سبّبا ظاهريّا أيضا، و هو أن المرأة قد تصل من كمالها إلى حدّ تتحقّق فيها صفة العاقديّة، مضافا إلى صفة الانعقاديّة، فإذا حصلت مواجهة بين هذه المرأة و شاب جميل تنعقد النطفة من دون وقوع أي اتصال جسمي و تماس خارجي بينهما، فإن الذي يقدر على أن يرسل الرياح لواقح لقادر على أن يجعل الهواء المجاور في بعض الموارد لقاحا أيضا، إظهارا لتسخير الأشياء تحت إرادته و قدرته، و ما ذكره صحيح في الجملة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.
و كيف كان، فإن حمل مريم لعيسى لم يكن من دون سبب واقعي، و هذا هو ظاهر قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [سورة مريم، الآية: 17]، و يشبه خلق عيسى خلق آدم عليه السّلام، فإنه وجد من نفخ اللّه تعالى فيه، و سيأتي تفصيل الكلام في سورة مريم إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ.
عطف على (وجيها) كبقية الأحوال التي وردت لبيان المقامات المعنويّة و الكمالات الحقيقيّة لعيسى بن مريم عليه السّلام. و الكتاب يمكن أن يكون من قبيل ذكر العام قبل الخاص، و المجمل قبل المفصّل، إعلاما بشأن الكتاب و تثبيتا لدرجته، و بيان أهمية الخاص. و يمكن أن يكون المراد به كلّيات أسرار القضاء و القدر الثابتة في العلم الأزلي مع إحاطته عزّ و جلّ بتمام الجزئيات إحاطة واقعيّة حقيقيّة.
و تقدّم معنى الحكمة، و ذكرنا أن المراد بها الحقائق التي تكون نافعة للإنسان اعتقادا و عملا و لها دخل في سعادته في الدارين.
و التوراة هي الكتاب الذي نزل على موسى بن عمران عليه السّلام في الميقات، و هي تتضمّن التشريعات التي شرّعها اللّه تعالى لموسى عليه السّلام.
و الإنجيل هو الكتاب المنزل على عيسى بن مريم، و معناه في اليونانيّة القديمة التعليم، و قيل معناه البشارة. و إنما ذكر عزّ و جلّ الإنجيل لأنه كان موعودا به عند الأنبياء و معلوما لديهم.
و أما الأناجيل الأربعة المعروفة عند النصارى، فقد كتبت بعد المسيح بعدّة قرون، و أما التوراة فقد تناولتها يد التحريف، كما تدلّ عليه آيات كثيرة من القرآن الكريم، و إن كان يصدقها في بعض الأحكام.
و يختلف التوراة عن الإنجيل في أن الاولى تشتمل على الأحكام الإلهيّة و الإنجيل يتضمّن على النواسخ و بعض الأحكام الإثباتية، قال تعالى: وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ [سورة الزخرف، الآية: ٦۳]، و قال تعالى: وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ* وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [سورة المائدة، الآية: ٤٦- ٤۷]، و قد تقدّم في أوّل هذه السورة بعض الكلام فيهما.
قوله تعالى: وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ.
مفعول مطلق لفعل مقدّر، أي: أرسله اللّه، أو منصوب بفعل مضمر تقديره و نجعله رسولا، أو معطوف على الأحوال السابقة.
و الرسول صفة و هي هنا بمعنى مفعل، و الرسالة هي السفارة الإلهيّة إلى البشر لإيصالهم إلى الكمال المنشود و الحكم بينهم بالحقّ و القضاء بالقسط. و يمكن أن يكون اختصاص بني إسرائيل بالذكر باعتبار كون ابتداء الرسالة و الدعوة فيهم، أو باعتبار أنهم أقرب الناس إليه، فيكون نظير قوله تعالى: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [سورة الشعراء، الآية: ۲۱٤]، و إلا فإن عيسى من أولي العزم، كما هو صريح بعض الآيات الشريفة، و تقدّم الكلام في قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [سورة البقرة، الآية: 213]، هذا بناء على اتحاد معنى النبوّة و الرسالة و الفرق بينهما بالاعتبار.
و أما إذا قلنا إن الرسول مطلقا أخصّ من النبيّ، فالأمر أوضح، فهو من أنبياء اولي العزم مع هذه الصفة الخاصة له، أي الرسالة الإلهيّة.
و اختلف في زمان رسالته، و المشهور أنه ثلاث و ثلاثين سنة.
قوله تعالى: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.
تثبيت لرسالته بالحجّة و البرهان، و الجملة معمولة قوله تعالى: وَ رَسُولًا لما فيها معنى النطق، أي حال كونه ناطقا حجّتي عليكم أني قد جئتكم بآية من ربّكم.
و المعنى: يرسله رسولا حال كونه ناطقا، أني قد أتيتكم بعلامات واضحات تدلّ على صدق دعواي، و قد فسّرت هذه العلامات بما يأتي.
و التنوين في الآية المباركة للتفخيم، و المراد بها نوع الآية، فلا يضرّ تعداد ذكر الآيات بعد ذلك.
و ذكر الربّ و إضافته إلى المخاطبين لإيجاب الامتثال و تأكيده عليهم، أي لأنه ربّكم يراعي مصالحكم و يسوقكم إلى الكمال بإرسال الرسل و بعث الأنبياء.
قوله تعالى: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ.
الجملة بدل من الآية، أو خبر عن مبتدأ محذوف تقديره: هو أني أخلق لكم.
و الخلق، هو الإيجاد، سواء كان بلا سبق مادة أصلا، كخلق الأرواح، أم مع سبق المادة، كخلق عيسى عليه السّلام الطير، و يختصّ الأوّل باللّه تعالى، و ليس في غيره عزّ و جلّ خلق بلا مادة إلا في الصور الذهنيّة غير المسبوقة بشبه أو نظير، و نظام هذا العالم يدور على تبدّل الصور من المواد المختلفة التي لا يمكن استقصاء جهاتها و خصوصياتها و الإحاطة بها إلا للّه تعالى.
و في المقام المراد من الخلق هو التصوير و جمع الأجزاء، أي: أصور لكم من الطين ما يكون مثل الطير و هيئته.
و الهيئة: الشكل و الصورة، قيل: هي مصدر بمعنى المهيّأ، كالخلق بمعنى المخلوق.
و قيل: إنها اسم الحال، و الهيئة و الوصف عرضان.
إلا أن الأوّل يقال باعتبار حصولها، و العرض يقال باعتبار عروضه، و الوصف باعتبار لحاظ الذهن، بخلاف الهيئة فإنها تستعمل باعتبار الخارج.
و لم يبيّن سبحانه عزّ و جلّ اسم هذا المخلوق، و قد ذكر المفسّرون أسماء له، و نحن في غنى عن تلك، لصراحة الآية الشريفة في صدور هذه المعجزة عن عيسى عليه السّلام و وقوعها في الخارج و دلالتها على صدق دعواه، و أنه حاجّهم بذلك، فلا فرق بين تسميته بأي اسم.
قوله تعالى: فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ.
الضمير يرجع إلى الطين المهيّأ الذي يكون شبيه الطير.
و الآية تبيّن سرّ الإعجاز، لأن تصوير الطين طيرا مقدور لكلّ أحد، و ليس في ذلك آية، و لكن جعله طيرا حقيقيّا ليس مقدورا لأحد إلا للّه تعالى أو بإذن منه، و قد صدرت هذه الآية من عيسى عليه السّلام لتثبيت رسالته، لكنّها مستندة إلى اللّه تعالى فلا استقلال له في ذلك، كما هو شأن كلّ معجزة.
و في صدور هذه الآية من عيسى عليه السّلام مناسبة لأصل خلقه عليه السّلام، فإنه خلق من نفخ جبرائيل، و الطير خلق من نفخه، و هو بمنزلة الروح، و كلّ منهما كان بإذن اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ.
الأكمه من الكمه و هو العمى مطلقا، سواء ولد كذلك أم عرض عليه بعد ذلك، و قيل: إن الأكمه هو الذي يولد مطموس العين.
و الأبرص هو الذي به داء البرص، و هو مرض جلدي معروف تظهر فيه لمع بياض، و لذا يقال للقمر أبرص لبياضه، و منه: «بت لا يؤنسني إلا الأبرص»، أي القمر.
و إنما خصّهما تعالى بالذكر لأنهما داءان معضلان، أعيى الأطباء علاجهما و لم يتوصّلوا لحدّ الآن في إبرائهما و زوالهما مع تقدّم الطب و حذاقة الأطباء و كثرة جهودهم الكبيرة المتواصلة على علاجهما، أو لأن هذين المرضين معروفان يشاهدهما كلّ أحد، فإذا برئ المريض بدعاء المسيح و بركته، لا يسع لأحد إنكاره، فيكون أتمّ في الاحتجاج.
و قد نسب الإبراء إلى عيسى عليه السّلام، لأنه المباشر في ذلك بدعائه و بركته.
و السبب في ظهور المعجزة على يديه، و إن كان الجميع يستند إلى اللّه تعالى، كما يدلّ قوله جلّ شأنه بِإِذْنِ اللَّهِ، المذكور في الآية الشريفة، و إنما لم يذكره سبحانه بعد هذه المعجزة لأن الاعتقاد بهما سهل المؤنة يحصل بمجرّد إخباره بأنه معجزة و أنه آية من اللّه تعالى، لا سيما إذا كان الخطاب مع قوم يدّعون الإيمان باللّه تعالى، مع أن ما ذكره في ما بعد: وَ أُحْيِ الْمَوْتى، صالح لأن يرجع إلى الثلاثة كلّها.
قوله تعالى: وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ.
إحياء الموتى من المعجزات الباهرات و خارق عظيم، و قد أكّد سبحانه في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم أن اللّه تعالى هو الذي يقدر على إحياء الموتى، و أن غيره عاجز عنه، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى [سورة يس، الآية: 12]، و قال تعالى: وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ [سورة آل عمران، الآية: ۱٥٦]، و غيرهما من الآيات الشريفة، و لذا خص سبحانه هذه الآية بكونها بإذن اللّه تعالى و فعله عزّ و جلّ، دفعا لتوهّم الالوهية في فاعلها.
و يستفاد من جمع (الموتى)، تعدّد صدور هذه المعجزة و كثرتها. و إنما كرّر سبحانه بِإِذْنِ اللَّهِ، لبيان أن هذه المعجزات التي صدرت عن عيسى عليه السّلام مستندة إلى اللّه تعالى، و دفعا لتوهّم الغلو فيه، باعتبار أن فاعلها ليس من جنس البشر.
و يستفاد من هذا التعبير عدم استقلال عيسى عليه السّلام في شيء من ذلك، و أكّد سبحانه و تعالى ذلك بحكايته عزّ و جلّ عن قوله في آخر هذه الآيات: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، فلا مجال لإضلال الناس فيه.
قوله تعالى: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ.
آية اخرى فيها الأخبار بالمغيبات التي يختصّ علمها باللّه تعالى، أو من علّمه عزّ و جلّ، و ظهور الآية فيه واضح، لأن الإنسان قد يهيء لنفسه أمورا لا يطلع عليها غيره، فإذا اخبر بها أحد غيره من دون وساطة و سبب ظاهري لا يشك في أنه إخبار بغيب مكنون، و إنّ المخبر بها على اتصال بعالم الغيب.
و إنما خصّ ما يأكله الإنسان و ما يدّخره باعتبار كونهما مألوفين عنده، و أنهما يأخذان نصيبا وافرا من حياته، و في الإخبار بهما و إظهار هما للعيان لا يسع لأحد إنكاره.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: أن تلك الخوارق و المعجزات كافية في الهداية و الرشاد، كما أنها داعية بدلالتها الواضحة القاطعة إلى الإيمان برسالتي و صدقي فيها إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان باللّه تعالى، فإنه عليه السّلام بعث إلى قوم يدّعون أنهم مؤمنون.
و الإيمان باللّه تعالى يدعو إلى الإذعان بأنه عزّ و جلّ يرسل الرسل لتكميل النفوس و هداية العباد و إرشادهم إلى الصلاح، و لا يعقل أن تظهر المعجزة على يد الكاذب، فهو يدعو إلى الاعتقاد بأن هذه المعجزات صدرت على يد نبيّ صادق في نبوّته، فلا تكونوا ممّن استحوذ عليهم الشيطان، و علم بالحقّ و أنكره، كما قال تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [سورة النمل، الآية: ۱٤].
قوله تعالى: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ.
الجملة حالية، و هي معطوفة على قوله تعالى: بِآيَةٍ، أي: جئتكم حال كوني مصدّقا.
و المراد بقوله: لِما بَيْنَ يَدَيَّ، أي ما تقدّمني من التوراة، و اللام فيها للعهد، أي التوراة المعهودة بين الأنبياء، لا التوراة الموجودة في زمانه.
و تصديقه للتوراة هو الإيمان بأن التوراة كتاب إلهي، و إنّ ما فيها حكمة و صواب، و هي التي نزلت على موسى بن عمران، و نظير ذلك ما ورد بالنسبة إلى نبيّنا محمد صلّى اللّه عليه و آله، فلا دلالة لتصديقهما لما بين يديهما من التوراة على أنها غير محرّفة.
و الآية الشريفة تدلّ على أنه لم يأت ناسخا لها، بل مصدّقا و عاملا بالتوراة إلا في بعض الأحكام.
قوله تعالى: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ.
أي: و جئتكم لأحل بعض ما حرّمته شريعة موسى بن عمران على بني إسرائيل، فإنها حرّمت عليهم بعض الطيبات بظلمهم و كثرة سؤالهم، قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً* وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً [سورة النساء، الآية: ۱٦۰- ۱٦۱]، كما أنه نسخ بعض الأحكام التي تغيّرت حسب تغيّر المقتضيات و تبدّلها.
و الآية الشريفة تدلّ على أن الإنجيل يشتمل على بعض الأحكام الإثباتيّة، و لكن لا دلالة فيها على أنه يشتمل على شريعة، و إن وقع الخلاف بين العلماء في أن الإنجيل يشتمل على شريعة و أحكام تغيّر ما في التوراة، و قد نسخ الإنجيل بعض ما في التوراة، و لكن لا يقدح ذلك في كونه مصدّقا للتوراة، و قال بعضهم: إن الإنجيل لم يشتمل على أحكام و لم يمح حلالا و لا حراما، بل هو رموز و أمثال، و مواعظ، و زواجر. و أما الشريعة و الأحكام فهي مأخوذة من التوراة.
و الحقّ ما ذكرناه من أن المستفاد من الآيات الشريفة الواردة في شأن الإنجيل هو أنه يشتمل على إثبات بعض الأحكام، التي هي أوفق بالحكمة و المصلحة الفعليّة، و بعض المواعظ و الأمثال و الأحكام الأخلاقيّة الأدبيّة، و هي بمجموعها مصدّقة لشريعة موسى، و لذا كانت شريعة عيسى موافقة في الجملة و الإجمال لشريعة موسى عليه السّلام، و إن كانت الاولى أكمل من الثانية، و قد نسب إلى عيسى عليه السّلام في الإنجيل: «ما جئت لأبطل التوراة، بل جئت لاكملها».
قوله تعالى: وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.
تأكيد لما سبق و تثبيت للحجّة، و تمهيد لما سيأتي في قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ. و في الآية الشريفة الدلالة على أن كلّ ما أتى به عيسى عليه السّلام إنما هو من عند اللّه دفعا لتوهّم التضليل و الغلو فيه.
و إنما خصّ الربّ بالذكر، لأنه القائم بشؤون خلقه و المراعي مصالحهم، و هو الذي يسوقهم إلى الكمال.
قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ.
أي: احذروا مخالفته و غضبه في الإعراض عن الإيمان بي و الإيمان بآيات اللّه و شهادتها برسالتي، و اتقوه في الطاعة لي.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.
تصريح منه عليه السّلام بأنه عبد اللّه و أنه مبعوث من قبله جلّ جلاله، و ليس له شأن مستقل، و بذلك ينتفي موضوع الغلو و الحلول و الوحدة و التثليث و نحوها فيه، قوله تعالى: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
شرح لقول عيسى بن مريم: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ، و بمنزلة العلّة لذلك.
يعني: لا بد للإنسان أن يرد الصراط المستقيم، و إني أبيّن لكم ذلك الصراط المستقيم، فالتعليل تعليل عقلي، و قضية حقيقيّة لجميع ما ادّعاه عيسى بن مريم، بل و كذا بالنسبة إلى سائر الأنبياء عليهم السّلام.