قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ.
خطاب (قل) موجّه إلى سيد الأنبياء باعتبار وجوده الجمعي و واسطة الفيض و غاية الإفاضة، ليشمل جميع ذوي العقول و الروحانيين، بل يصحّ الشمول للجمادات أيضا، لأن خطابات اللّه المقدّسة بالنسبة إلى الحقائق التكوينيّة شاملة للجميع، كما في قوله تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت، الآية: 11]، مع أن الخطاب عدم لجميع الممكنات، يصحّ أن يكون لفظه أيضا كذلك.
اللهم: أصله «يا اللّه»، و الميم المشدّدة عوض عن حرف النداء (يا)، و لا يجتمعان إلّا شاذا كما في قول الراجز:
إني إذا ما حدث ألما أقول يا اللهم يا اللهما
و قال آخر:
و ما عليك أن تقولي كلّما صلّيت أو سبّحت يا اللهم ما
و مادة (ملك) تأتي بمعنى الاستيلاء و السلطنة، و هما قد يكونان حقيقيتان، و هي عبارة: عن الاستيلاء على الشيء من كلّ جهة إيجادا و إبقاء و افناء و ربوبيّة، و تصويره بكلّ صورة شاء و أراد. و هذا القسم مختصّ باللّه سبحانه و تعالى، فإنه مالك لجميع خلقه ملكيّة حقيقيّة من كلّ جهة يفرض فيها.
و اخرى: اعتباريّة تدور مدار اعتبار العقلاء، نحو ملكية الإنسان للأشياء التي تقع تحت استيلائه، و في الحديث: «أملك عليك لسانك»، أي لا تجرّه إلّا بما يكون ذلك لا عليك، و هذه الملكيّة الاعتباريّة تدور مدار اعتبار المعتبر، و قابلة للتغيير و التبديل و الزوال.
و هذا القسم يلازم القسم الأوّل دون العكس. فيصحّ اعتبار هذه الملكيّة بالنسبة إلى اللّه عزّ و جلّ بالأولى، لأن كلّ وصف ممكن لا يستلزم من إطلاقه النقص بالنسبة إليه عزّ و جلّ، فيصحّ وصفه به، قال تعالى: وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [سورة النور، الآية: 33]، و قال تعالى: لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ [سورة التغابن، الآية: 1]، و يصحّ انتزاع هذه الملكيّة الاعتباريّة عن الملكية الحقيقيّة. و بها تنظيم الأغراض العقلائيّة الفرديّة و الاجتماعيّة.
ثم إنّ الملكيّة الاعتباريّة:
تارة: تكون بوضع من اللّه تعالى، كملكيّة الإنسان لنفسه و أجزائه و تصرفاته السائغة في بدنه، بحسب التكوين و التشريع.
و اخرى: تكون بوضع و اعتبار من العقلاء كما ذكرنا، و أما بالنسبة إلى ملكيّة المولى للعبد، فإنه لا ريب في كونها من الملك (بالكسر) الاعتباري، لصحّة هذا الاعتبار عند الجميع، و أما كونها من الملك (بالضم) ففيه منع، إذ لا يعتبر العقلاء بين المولى و العبد الملوكيّة و الرعيّة.
و الملك (بالضم) اسم لما يملك و يتصرّف، و إنه على قسمين أيضا، ملك حقيقي و هو التصرّف في شؤون الرعية تصرفّا حقيقيّا بكلّ ما يريد من غير مزاحمة و لا معارضة، و هو مختصّ باللّه تعالى أو ما يمنحه اللّه عزّ و جلّ لبعض أنبيائه و أوليائه، فهو جلّت عظمته خالق كلّ شيء و مالكه، و له الربوبيّة العظمى العامّة و القيوميّة المطلقة، قال تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [سورة فاطر، الآية: 13]، فيرجع إلى الملك (بالكسر) الحقيقي و ملازم له، و يصحّ أن يعبّر عنه بأنه ملك في ملك.
و اخرى: ملك (بالضم) اعتباري اعتبره الاجتماع، مثل ملوك أهل الأرض الّذين يتسلّطون على جماعة من الناس و يتصرّفون فيهم تصرّفا يصلح بها شؤونهم. و بعد فرض أنه تعالى خالق لجميع الممكنات و موجدها من العدم و مبقيها و مفنيها، و بيده تدبيرها و تربيتها، و هو الربّ على الإطلاق و القيوم كذلك، فهو مالك و ملك و مليك، و جميع هذه الإطلاقات من لوازم الفرض الذي فرضناه.
و قد ورد جميع ذلك في القرآن الكريم أيضا قال تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ [سورة البقرة، الآية: ۲٥٥]، فقد أثبت الملكية لنفسه، و قال تعالى: مَلِكِ النَّاسِ [سورة الناس، الآية: 2]، الذي أثبت الملوكية لنفسه، و قال تعالى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [سورة القمر، الآية: ٥٥]، حيث أثبت المالكيّة و الملوكيّة لنفسه الأقدس، فثبت قول جمع من الفلاسفة المتألّهين من أن بسيط الحقيقة من كلّ جهة يتّصف بكلّ شيء لا يستلزم النقص فيه، و تقدّم بعض الكلام في سورة الحمد [سورة الحمد، الآية: ٤]، فراجع.
و من ذلك يظهر أن الملك في الآية الشريفة هو الأعم من الحقيقي و الاعتباري في الملك (بالكسر) و الملك (بالضم)، و يبيّن ذلك بقية الآية الشريفة، أي قوله تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، لأنّ مالكيّته تعالى للملك تستلزم مالكيّته لما يتسلّط عليه كلّ مالك و ملك.
كما أنه يمكن أن يكون المراد بالملك طبيعته و ذاته، أي ما يصحّ أن يقع تحت الاستيلاء، فيشمل جميع ما سواه عزّ و جلّ وجودا أو عدما، فإن قسما من الأعدام أيضا داخلة تحت ملكه و سلطنته، فهو مسلّط على إيجاد المعدوم و إعدام الموجود، و يبيّنه ما بعده أيضا، فتكون هذه الآية الشريفة شارحة لقوله تعالى: لَهُ الْمُلْكُ [سورة التغابن، الآية: 1]، و قوله تعالى: بِيَدِهِ الْمُلْكُ [سورة الملك، الآية: 1]، و نحو ذلك.
و إنما عبّر سبحانه و تعالى بلفظ الملك دون غيره لإظهار معنى التسخير، فكما أن المملوك مسخّر تحت إرادة المولى، كذلك تكون جميع الممكنات بالنسبة إليه عزّ و جلّ، و هذا المعنى ظاهر من سائر الآيات الشريفة.
قوله تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ.
مادة (نزع) تأتي بمعنى إخراج الشيء و قلعه عن محلّه و مقره، كنزع الثوب عن البدن، قال تعالى: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما [سورة الأعراف، الآية: 27]، و قال تعالى: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [سورة الحجر، الآية: ٤۷]، و قال تعالى: وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ [سورة الأعراف، الآية: 108]، و قال تعالى: وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً [سورة النازعات، الآية: 1]، و الملك في المقام هو مطلق السلطنة و الاستيلاء، و قد ذكرنا أن المراد به طبيعته و ذاته، و هو ما يصحّ أن يقع تحت الاستيلاء و السلطنة، ليشمل جميع الممكنات القابلة للوجود و الإيجاد، فيشمل الملك (بالضم) و الملك (بالكسر)، و النبوّة، إذ هي ملك ايضا، قال تعالى: وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [سورة النساء، الآية: ٥٤]، فإن جميع ذلك واقع تحت سلطان اللّه تعالى و إرادته المقدّسة، و هي من مواهبه و عطاياه التي يمّن بها على من يشاء من خلقه و يمنعها عمّن يشاء منهم، و قد بنى اللّه تعالى النظام التكويني و التشريعي و الاجتماعي على الملك، و هو محبوب لدى المجتمع الإنساني تستقيم به حياتهم في النشأتين.
و أما ما يترتب عليه من الآثار السيئة، فهي ترجع إلى كيفية إعماله و الاستفادة منه، دون أصله الذي هو محبوب كما ذكرنا، و به يقع الامتحان و الابتلاء، قال تعالى حكاية عن سليمان: فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [سورة النمل، الآية: ٤۰].
و إنما علّق سبحانه و تعالى الإيتاء و النزع على المشيئة، لبيان أن العباد غير مجبورين على ذلك على نحو الحتم و القضاء المبرم، بل لإرادة العباد و أعمالهم المدخلية فيهما، فجميع أعمال العباد الصادرة منهم منسوبة إليهم، كما أنها منسوبة إلى اللّه تعالى، كلّ منهما على نحو الاقتضاء لا العلّيّة التامّة.
نعم، له عزّ و جلّ ألطاف و توفيقات خاصة بالنسبة إلى المستفيض إن كان من أهل الصلاح و التقوى و إقامة العدل، فيعطيه اللّه الملك لإقامة العدل و الإصلاح بين العباد، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [سورة الحج، الآية: ٤۱]، و ليس لغير أهل التقوى هذا التوفيق و اللطف الخاص، و لكنّه تعالى يقدّر الملك لمثل هؤلاء تنظيما للنظام و الامتحان و الاختبار و إتماما للحجّة، قال تعالى: أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [سورة الأنعام، الآية: ٦]، و قال تعالى: وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ* قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [سورة يونس، الآية: 88 و 89]، كما أن في التعليق على المشيئة إشارة إلى أنه تعالى غير مجبور في أفعاله، و إن كانت تجري وفق المصلحة و الحكمة التامّة.
قوله تعالى: وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ.
مادة (عزز) تأتي بمعنى المنيع الذي لا ينال و لا يغالب و لا يعجزه شيء، فيكون صعب المنال. و بهذه العناية يطلق على الشيء النادر الوجود أنه عزيز، و في المأثور: «إذ أعزّ أخوك فهن»، أي إذا غلبك و لم تقاومه، فلن له.
و من أسمائه تعالى (العزيز)، أي الغالب القوي الذي لا يغلب و لا يعجزه شيء، كما أن من أسمائه تعالى (المعزّ)، أي واهب العزّة لمن يشاء من عباده، و قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 128]، أي صعب و شديد عليه، و قال تعالى: وَ عَزَّنِي [سورة ص، الآية: 23]، أي غلبني.
و العزّة و الذلّة متقابلان، فالذليل هو الذي يغلب عليه و يعجزه كلّ شيء، سواء كان بالقهر و بلا اختيار، كقوله تعالى: وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ [سورة البقرة، الآية: ٦۱]، و قال تعالى: وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا [سورة الإنسان، الآية: 14]، و في الحديث: «اللهم اسقنا ذلل السحاب»، أي ما لا رعد فيه و لا برق. أم بالاختيار، قال تعالى: وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ [سورة الإسراء، الآية: ۲٤]، و قال تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [سورة المائدة، الآية: ٥٤]، و قال تعالى: وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً [سورة النمل، الآية: ۳٤].
و من أسمائه تعالى: «المذل»، أي هو الذي يلحق الذلّ بمن يشاء من عباده و ينفي عنه أنواع العزّة.
و هما من الأمور التشكيكيّة التي لها مراتب كثيرة، و هما اما دنيوية أو اخروية أو هما معا، و العزّة أعمّ من الملك، و هي قد تكون حقيقيّة، و هي التي يمنحها اللّه تعالى لعباده المخلصين و أوليائه المقرّبين، قال تعالى: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون، الآية: 8]، و قد تكون وهميّة خياليّة تابعة للملك و السلطنة، و هي إن كانت عزّة ظاهرا و لكنّها ذلّة في الحقيقة و الواقع، قال تعالى: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 139].
و يستفاد من الآية المباركة تلازم العزّة و الذلّة خارجا، لأن عزّة كلّ فرد تلازم ذلّة آخر، كالعكس أيضا كما نراه بالعيان.
ثم إن العزّة و الذلّة لا تختصّان بمورد واحد، فقد تكون العزّة في أشياء كثيرة و الذلّة كذلك، فربّ عزيز من جهة ذليل من جهة اخرى، و ربّ ذليل من ناحية هو عزيز من ناحية اخرى، و إعطاء العزّة و الذلّة لعباده من شؤون ربوبيّته العظمى، و كذا بالنسبة إلى جهاتها غير المحدودة بحدّ.
و يصحّ أن يقال: إنّ الممكن في حدّ ذاته الإمكانية ذليل، أي ليس فيه أي حظ من الخير إلّا ما يمنحه اللّه تعالى. و الكلام في تعليق العزّة و الذلّة على المشيئة ما تقدّم في صدر الآية.
قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ.
اليد تأتي بمعنى الاستيلاء. و المراد بها في المقام القدرة الكاملة و التدبير الكامل الموافق للحكمة البالغة المتعالية، و بها تقوم جميع الممكنات في النظام الأحسن و ينتظم شؤونها، و هي القوّة القاهرة التي لا بد من انبعاث جميع قوى الموجودات عنها.
و الخير ضد الشرّ، و معناه كلفظه مرغوب و مطلوب، و المراد به في المقام حقائق الممكنات بجميع شؤونها و أطوارها، حدوثا و بقاء، و هو من الحقائق الواقعيّة التي لها مراتب كثيرة، متفاوتة جوهرا و عرضا، اشتدادا و تضعّفا، هذا بالنسبة إليه تعالى.
و أما بالنسبة إلى الإنسان، فهو خير اعتقادي بحسب ما يختاره و يقيسه بالنسبة إلى شيء آخر، أو ما يتحقّق فيه رغبته و مطلوبه، فقد يكون مطابقا للواقع، كما في الحديث: «رأيت الجنّة و النار فلم أر مثل الخير و الشرّ»، أي لم أر مثلهما لا يميّز بينهما، فيبالغ في طلب الجنّة (الخير) و الهرب من الشرّ (النار)، و قد يكون مخالفا قال تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: ۲۱٦].
و تدلّ الآية الشريفة على انحصار الخير فيه تعالى، فيستفاد منها و من أمثالها أمران:
الأوّل: أن ذاته تبارك و تعالى خير محض، لقاعدة: «ان معطي الشيء لا يمكن أن يكون فاقدا له»، فهو تعالى خير على الإطلاق، و لكن لم يرد في الكتاب و السنّة إطلاق الخير بنحو الاسمية، و إنما ورد في القرآن الكريم على نحو التوصيف، قال تعالى: وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى [سورة طه، الآية: 73]، و قوله تعالى: أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [سورة يوسف، الآية: 39]، و لعلّ عدم إطلاق لفظ الخير عليه تعالى لتنزيهه عمّا يتبادر في أذهان الناس من نسبته إلى غيره.
نعم اطلق عليه بنحو الإضافة في موارد متعدّدة، مثل قوله تعالى: وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سورة الحج، الآية: ٥۸]، و قوله تعالى: وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 29]، و قوله تعالى: وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [سورة يونس، الآية: 109]، و نحو ذلك و إطلاقه في جميع الآيات الشريفة من باب إضافة الصفة إلى الاسم الذي ورد التوقيف فيه، و هو لا محذور فيه.
الأمر الثاني: أنها تدلّ على أصالة الماهيّة في الجعل، كما عليها أغلب المتكلّمين و جمع كثير من الفلاسفة، لأن الخير المطلق و ملكوت الأشياء ليس إلا حقائقها، فإذا لا حظنا الحقائق باعتبار إضافتها الإيجادية الإشراقية إليه تعالى تشمل الحقائق بوجوداتها و ماهياتها، و ليس ذلك تعدّدا في الجعل حتّى يلزم عليه مناقشات و محذورات، لأنّه بعد فرض كون أحدهما تبعا محضا للآخر، كالماهيّة إن قلنا بأصالة الوجود، فالوجود إن قلنا بأصالة الماهيّة، فأين التعدّد الخارجي حتى يلزم المحذور، و لا ينافي ذلك ما اشتهر بين الفلاسفة من أن الوجود خير محض، لاتفاق الكلّ على أن الخيريّة المحضة إنما تكون بعد جعل الحقائق.
بل يمكن أن يستفاد من مثل هذه الآية الشريفة الجعل المركب بالنسبة إلى الحقائق، فهو الذي جعل النار نارا و الماء ماء، كما عليه بعض محقّقي مشايخنا قدس سرّهم، و في الحديث: «ان اللّه مجسّم الجسم و خالقه»، و في الحديث الآخر: «و هو الذي أيّن الأين و كيّف الكيف».
و هذه الآية في موضع التعليل لما تقدّمها و ذكر العام بعد الخاص، أي: أن اللّه تعالى يؤتي الملك و العزّة لمن يشاء و يمنعهما عمّن يشاء، لأن بيده الخير الذي هو أعمّ منهما.
إن قيل: انتزاع الملك و الذلّة ليسا من الخير، فكيف يشملهما قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ؟
يقال: بعد أن كانت الذلّة و انتزاع الملك مطابقين للحكمة الواقعيّة التامّة يكونان خيرا محضا، و إن كانتا بحسب اعتقاد الناس من عدم الخير.
و إنما قال تعالى: بِيَدِكَ، لبيان أن جميع ما يفعله تعالى من إيتاء الملك و نزعه و نحو ذلك، كلّه خير محض بحسب الواقع، فهو عبارة اخرى عن الرحمة الرحمانيّة و الرحمة الرحيميّة التي تعمّ الجميع.
و أما ما فرق به بعض أعلام المفسّرين بين الخير التكويني و الخير التشريعي، فهو في نفسه حقّ، لأنّ الخير التشريعي منوط بإرادة الناس للطاعة، بخلاف الخير التكويني، فإنه منوط بإرادة اللّه تعالى فقط.
لكن، لا وجه له في المقام، لأنّ الخير التشريعي يرجع إلى الخير التكويني، كما قرّره بعض مشايخنا في الأصول، و خلاصة كلامه أن إثارة دقائق العقول و ما في الفطرة من أهم و جهات نظام التكوين، و لا يمكن ذلك إلّا بالتشريع، فكما أن التكوين بلا تشريع باطل في النظام الأحسن، كذلك التشريع بلا تكوين باطل أيضا و لا وجه له.
هذا موجز الكلام و سيأتي التفصيل في الموضع المناسب إن شاء اللّه، هذا كله في الخير.
و أما الشرّ، سواء كان تكوينيّا، كنزع الملك و الذلّة، أم تشريعيّا و هو أقسام المعاصي و الذنوب، فإن رجع إلى عدم الخير و عدم التوفيق، فيمكن انتسابه إلى اللّه تعالى، و إن رجع إلى فعل المعاصي و الذنوب و القبائح و أمثال ذلك فلا يمكن انتسابه إلّا إلى اختيار الإنسان، و أما نسبته إلى اللّه تعالى المنزّه عن النواقص و القبائح فلا تصحّ.
قوله تعالى: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الجملة في مقام التعليل لجميع ما تقدّم، أي: أن جميع ما سواه تحت قدرته و إرادته، فكلّ ما يطلق عليه الشيئيّة جوهرا أو عرضا خارجا أو ذهنا أو في أي عالم من العوالم، يكون تحت قدرته.
أي: أن اللّه تعالى قادر على إيتاء الملك و نزعه و إيتاء العزّة و الذلّة، بل كلّ ما هو خير مفروض يكون تحت إرادته و سلطانه، و قدرة العبد على شيء من ذلك إنما هي مستندة إلى إيجاد القدرة فيه و مستندة إلى قدرته عزّ و جلّ، قال تعالى: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [سورة النساء، الآية: 78].
قوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ.
الولوج هو دخول شيء في شيء بحيث يستره، و سمّي السباع و الحيات الوالجة لأنها تلج في كهف أو شعب أو حجر أو غيرها، و في المأثور: «إياك و المناخ على ظهر الطريق، فإنه منزل للولجة»، يعني السباع و الحيات، و سمّيت بالولجة لاستتارها في النهار بالاولاج.
و إيلاج الليل في النهار و بالعكس معلوم لكلّ من يقع في طي الزمان و توارد الحدثان، و هو المشاهد من اختلاف الليل و النهار في طول السنة و دخول أحدهما في الآخر، بحيث يطول طرف و يقصر الطرف الآخر حسب سير دقيق و منظم، و هذا يختلف باختلاف الفصول و البعد عن خط الاستواء، فيتساوى الليل و النهار على خط الاستواء في جميع بقاع الأرض بحسب الحسّ، و إن كان التغيير فيهما واقعا أيضا حقيقة و يختلفان باختلاف ميل الشمس عنه و سيرها في منطقة البروج، فيتفاوتان بالزيادة و النقصان بحسب مواقع الأرض و الزمان، فنشاهد من أوّل الشتاء إلى أوّل الصيف يأخذ الليل بالزيادة و النهار بالنقيصة على حساب منظم، و هذا هو ولوج النهار في الليل، ثم تأخذ الليالي بالنقيصة و النهار بالزيادة من أوّل الصيف إلى أوّل الشتاء، و هذا هو ولوج الليل في النهار، و يختلف ذلك على سبيل التعاكس في المدارات الشماليّة و المدارات الجنوبيّة، كلّ ذلك على تفصيل مذكور في علم الفلك ليس ها هنا محل ذكره.
و عموم الآية الشريفة يشمل كلّ ليل و نهار يفرض، سواء كانا على وجه هذه البسيطة أم في كرات سماويّة اخرى، كما قرّر في علوم الفلك.
و في اختلاف الليل و النهار من الحكمة الباهرة و عموم الرحمة و النظام الدقيق و الحكمة العظيمة ما تبهر منه العقول، و تظهر فيه آثار القدرة الكاملة و الحكمة العالية، و هذا من أعظم مجالي قدرته تعالى و سلطته على الزمان، التي تحيّر فيها عقول الحكماء، حتى ذهب جمع إلى وجوب وجوده و قدمه، و جمع آخر إلى خلاف ذلك، حتّى حدى بعضهم على إنكار الزمان و القول بأنه مجرّد امتداد وهمي.
و في هذه الآية و أمثالها يبين سبحانه و تعالى أن الزمان ممكن و واقع تحت قدرته و مجعول له تعالى، و يقع التغيير و التبديل فيه فلا يمكن قدمه الذاتي، كما ذهب إليه بعض، و لا يصحّ القول بوهميّته، لأنه خلاف ما هو المنساق من هذه الآيات و الوجدان، و بيّن سبحانه و تعالى في آيات اخرى المنافع و الحكم العظيمة في ذلك، و قد تقدّم في أحد مباحثنا الكلام في ذلك.
قوله تعالى: وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ.
الموت و الحياة متقابلان و معلومان لكلّ ذي حياة، و لا يختصّان بخصوص الحيوان فقط، بل لكلّ شيء حياة و موت حسب استعداده و قابليته، كما أثبته العلم الحديث، و لكن لكل شيء حياة خاصة به، و كذلك الموت، لا يمكن إدراكهما لغيره تعالى، قال جلّ شأنه: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [سورة الإسراء، الآية: ٤٤].
و خروج الحي من الميت و بالعكس لهما مظاهر مختلفة، لا يمكن إدراكها إلّا للّه تعالى:
منها: خروج النباتات التي لها حياة نباتيّة من الأرض الميتة.
و منها: خروج الإنسان من النطفة ثم موته بعد مدة.
و منها: خروج المؤمن من صلب الكافر، و خروج الكافر من صلب المؤمن، فإن الإيمان أعظم أقسام الحياة المعنويّة، قال تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام، الآية: 122].
و عموم هذه الآية الشريفة يشمل جميع ما سواه تعالى ممّن له استعداد الحياة و الموت بأي وجه يتصوّر، و ما ذكره المفسّرون في تفسير الآية المباركة من باب ذكر المصاديق.
قوله تعالى: وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
الجملة في مقام التعليل أيضا، أي: أن إعطاءه الملك و العزّة و الخير من صغريات رزقه الذي يرزق به من يشاء بغير حساب في الكميّة أو الكيفيّة و عدم المداقة، بل من كلّ جهة.
و الرزق هو العطاء المستمر، و من أسمائه تعالى: «الرازق»، و هو الذي خلق الأرزاق و أعطاها الخلائق و أوصلها إليهم.
و الرزق نوعان ظاهري للأبدان كالأقوات، و باطني للقلوب و النفوس كالمعارف و العلوم، فكما أنه يشمل المال و الجمال و الكمال، و كلّ ما هو دائر في الاجتماع من الخير، فهو رزق منه جلّ شأنه.
و لا يختصّ الرزق بالإنسان، بل يشمل الحيوان و النبات و الجماد، فإن الرزق يعمّ جميع ذلك بما لها من الأفراد و الأنواع غير المتناهيّة، فلا يكون الرزق متناهيا لا من حيث الإضافة إلى اللّه تعالى، و لا من حيث الإضافة إلى المرزوق، بل يستحيل ذلك لعدم التناهي بقاء و إن كان متناهيّا حدوثا، و إذا لوحظ بالإضافة إلى كونه في غير حساب يصير من غير المتناهي في غير المتناهي.
و يستفاد من الآية الشريفة أن الرزق إنما هو فضل منه عزّ و جلّ يعطيه بلا مقابل و عوض، و أن عمومه يشمل المؤمن و غيره، و إن كان في نسبة الرزق إليه تعالى بالنسبة إلى الأخير كلام نتعرّض له مفصّلا إن شاء اللّه تعالى.