إجماعا، بل بضرورة الفقه في هذه الأعصار و ما قاربها، و عن الجواهر: «يمكن للمتأمل المتروي في كلمات الأصحاب تحصيل الإجماع على عدم اشتراط الكرّيّة، و خالف في ذلك العلامة في بعض كتبه و في بعضها وافق المشهور، كما قيل. و لم أعثر على موافق له في هذه الدعوى ممن تأخر عنه سوى الشهيد الثاني رحمه اللّه، و ما لعله يظهر من المقداد مع أنّ المنقول عن الأول أنّه رجع عنه، و الذي استقر عليه رأيه أخيرا الطهارة، و عبارة الثاني غير صريحة»، و عن الشهيد (قدّس سرّه) في الروضة: «و جعله العلامة و جماعة كغيره في انفعاله بمجرد الملاقاة و الدليل النقلي يعضده».
و استدل على المشهور تارة: بما مر من الإجماع.
و أخرى: بأنّ اعتصامه بالمادة مانع عن تنجسه بمجرد الملاقاة بمقتضى المرتكزات التي وردت الأدلة1 على طبقها غالبا.
و ثالثة: بما يقال: إنّ المستفاد من الأدلة كون الأصل في المياه مطلقا عدم الانفعال بملاقاة النجاسة إلا ما ثبت انفعاله بها بدليل مخصوص، و أيد هذا الأصل بقاعدة الطهارة و سهولة الشريعة المقدسة. و لا تجري أدلة انفعال القليل في المقام لاختصاصها بالراكد، بل جملة منها تختص بالظروف كما يأتي نقلها، و سيأتي في [مسألة ۷] من فصل الماء الراكد ما ينفع المقام.
و رابعة: بقول أبي الحسن عليه السلام فيما مر في صحيح ابن بزيع:
«لأنّ له مادة»2، فإنّ المتفاهم منه عرفا علية المادة للاعتصام مطلقا. و لا إشكال في كون التعليل أقوى مما دل على انفعال القليل، فيقدم عليه على فرض شموله للمقام، و لو سلّم التساوي فالمرجع عمومات الطهارة، لأجل أنّ بينهما عموما من وجه.
و قد يستدل أيضا بقول الإمام علي عليه السلام: «الماء الجاري لا ينجسه شيء»3، و بقول الصادق عليه السلام في رواية ابن أبي يعفور: «ماء الحمام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا»٤إذ المنساق منه عرفا اعتصام ماء النهر، فنزل عليه السلام ماء الحمام عليه أيضا، و كذا قول أبي جعفر عليه السلام في صحيح ابن سرحان: «ماء الحمام بمنزلة الجاري»5، فإنّ أجلى صفة الجاري التي تسبق إلى الأذهان هو الاعتصام، و مقتضى الإطلاق عدم الفرق بين كونه بقدر الكر أو أقل. نعم، يعتبر في الحمام كرّيّته بدليل خارجي و ذلك لا يستلزم اعتبار الكرّيّة في الجاري أيضا، فلا وجه لإشكال شيخنا الأنصاري رحمه اللّه بأنّه على خلاف المطلوب أدلّ.
و استدل العلامة رحمه اللّه تارة: بما دل على انفعال ماء القليل بمجرد الملاقاة.
و فيه: أنّها مقيدة بما مر من أدلة عدم انفعال الجاري بمجرد الملاقاة الموافق للمرتكزات. و أخرى: بمفهوم قوله عليه السلام: «إذا كان الماء قد كرّ لم ينجسه شيء»6 الدال على نجاسة الأقل منه بمجرد الملاقاة.
و فيه: ما تقدم في سابقة. و لقد أجاد صاحب الجواهر حيث قال:
«المسألة من الواضحات التي لا ينبغي إطالة الكلام فيها».
تنبيهات:
الأول: إن كان نظر العلامة رحمه اللّه إلى اعتبار الكرية في مجموع ماء المادة مع ما خرج منها، كما هو الظاهر من قوله رحمه اللّه فالنزاع بينه و بين المشهور يكون في بعض الأفراد النادرة، لأنّ في المياه الجارية يكون الماء في عروق الأرض المتصلة بالخارج أزيد من الكرّ، كما تشهد به التجربة، و اعترف به بعض أهل الفن الخبير بذلك، بل قيل: إنّه لا يمكن الجريان غالبا إلا بعد كثرة الماء في باطن الأرض. نعم، قد يجري من مثل النزيز و نحوه، فالظاهر عدم صدق ذي المادة عليه. و إن أراد رحمه اللّه اعتبار الكرّيّة في خصوص ما خرج من المادة مع قطع النظر عما في باطن الأرض مع فرض اتصال الجميع، فللنزاع وجه. لكنّه بلا دليل قطعا.
الثاني: يمكن فرض صحة قول العلامة رحمه اللّه بنحو يتفق عليه الكل و هو أن يقال: إنّ الماء الجاري تارة: يجري عن مادة مستمرة لتكوين الماء بحيث لا تتخلل الفترة أصلا. و أخرى: عن استحالة الأبخرة الأرضية إلى الماء فيجري الماء و تحصل الفترة حتّى تستحيل الأبخرة إلى الماء ثانيا و هكذا، و يمكن منع شمول كلمات المشهور لما إذا كانت الفترات معتدا بها، بل يشكل صدق المادة له أيضا في حال الفترة إلا بنحو المجاز و سيأتي في نقل المحامل لقول الشهيد رحمه اللّه ما ينفع المقام في [مسألة ٤].
الثالث: تقدم ما عن الشهيد رحمه اللّه من نسبة قول العلامة إلى جماعة أيضا و تقدم عن صاحب الجواهر قوله: «و لم أعثر على موافق إلا الشهيد». و لعل المراد بالجماعة في قول الشهيد من ذكر أسماءهم صاحب الجواهر أيضا. و لكن استظهر أنّ عباراتهم لا تظهر منها المخالفة للمشهور فراجع.