و يمكن تقريره بوجوه:
منها: أنّ اللّه تعالى غني بالذات عن طاعة عباده لا ينتفع منها بشيء أبدا و لا يضرّه عصيان جميعهم و لا ينقص بسبب ذلك منه شيء أبدا و لا ريب في تسلّط الشيطان و النفس الأمارة على الإنسان و إحاطتهما به كما هو محسوس بالوجدان، و حينئذ فالشفاعة كالعفو و الإغماض عن الخطإ و الزلل مع تحقق الشرائط حسن عقلا لا سيّما في عالم تنحصر الأسباب في ذات واحدة و فيه من الأهوال و الشدائد ما لا يحصى، فانحصر رفعها في واحد فقط، فترك العفو و الإغماض عمن يقدر عليهما بمجرد قول: «كُنْ فَيَكُونُ» مع عدم مانع في البين قبيح و هو مستحيل بالنسبة إليه عزّ و جل، فتجب الشفاعة عليه عقلا في النظام الأحسن الربوبي كالرزق الواجب عليه تعالى في عالم الدنيا كلّ بالأسباب المعدة له، و الشفاعة رزق معنوي يكون الناس أحوج إليها بمراتب كثيرة.
و منها: أنّ تنظيم العوالم بالأحسن يجب عقلا على مديرها و مدبرها المنحصر في الحيّ القيوم، و من أهم جهات التنظيم و الترتيب العفو و الإغماض عن العاصي الأثيم بعد وجود الشرائط و ترك ذلك و إهماله موجب لإخلال النظم و هو محال على الحكيم العليم.
و منها: أنّ الشفاعة معلولة لأصل تشريع الأحكام تدور معه أينما دار و حيث إنّ أصل التشريع منحصر باللّه تعالى، فالشفاعة و الثواب و العقاب لا بد أن تنحصر فيه مباشرة أو تسبيبا.
فالكل من نظامه الكياني ينشأ من نظامه الرباني.
و منها: أنّ ترك الشفاعة مع وجود المقتضي لها و فقد المانع عنها نقص في رحمته التي هي عين ذاته تعالى فيرجع إلى نقص الذات و هو من المحالات الأولية بالنسبة إليه جلّت عظمته.
ثم إنّه يمكن إدخال الشفاعة في مفهوم قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفتح- ۱٤]، و قوله تعالى:
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ [العنكبوت- 21]، و قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد- 39]، و ثبوت الاختيار له تعالى في البقاء كثبوته له عزّ و جل في أصل الحدوث و هو مقتضى تمام ملكه و مالكيته و قهاريته.
و يمكن الاستدلال على تحقق الشفاعة بالقاعدة المسلّمة بين الفلاسفة من أنّ الخير المحض بل الخير بالإضافة مقدّم على الشر و قد قرّرها اللّه جل جلاله بقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود- ۱۱٤]، فأنبياء اللّه تعالى- سيّما أشرفهم و سيدهم- و أولياؤه المنقطعون إلى اللّه من كلّ جهة و بتمام معنى الانقطاع من الخير المحض فينعدم بوجوداتهم المقدسة الشر بإذن اللّه تعالى و لا معنى للشفاعة إلا هذا.