۱۹٦- قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ.
مادة (ت م م) تدل على انتهاء الشيء إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه بخلاف النقص و الناقص.
و يطلق التمام على الجواهر و الأعراض و الأمور المعنوية، و يطلق التمام على الكمال مع إمكان التفرقة بينهما في الجملة، كما يأتي.
و الحج هو شعيرة من شعائر الإسلام بل هو أحد أركان الإسلام الخمسة، و قد شرعه إبراهيم الخليل (عليه السلام) و كان عليه العرب في الجاهلية و أقره الإسلام إلى يوم القيامة.
و هو على ثلاثة أقسام:
حج التمتع- و هو أفضل الأقسام.
و حج القرآن.
و حج الإفراد.
و واجباته: هي الإحرام، و الوقوف بعرفات، و الوقوف بالمشعر الحرام، ثم إتيان منى و رمي العقبة و التضحية بها، و رمي الجمرات الثلاث، و طواف الحج، و صلاته، و السعي بين الصفا و المروة، و طواف النساء و صلاته.
و العمرة عبادة معروفة أيضا، و هي على قسمين:
عمرة مفردة.
و عمرة التمتع.
و واجباتها: هي الإحرام، و الطواف و صلاته، و السعي بين الصفا و المروة.
و لكلّ واحد منهما أجزاء و شروط و آداب وردت في السنة الشريفة، و قد شرح أبو عبد اللّه جعفر الصادق (عليه السلام) خصوصيات هذين العملين بما لا مزيد عليه حتى نسب إلى أبي حنيفة أنّه قال: «لو لا جعفر بن محمد ما عرف الناس مناسك حجهم». و تضمنتها كتب الأحاديث و الفقه، و في الحج و العمرة اجتمعت أنحاء العبادات الروحية و البدنية و المالية، الفردية و الاجتماعية.
و المراد بإتمام الحج و العمرة: إتيانهما تامّين بأجزائهما و شرائطهما بحسب ما شرعه اللّه عز و جل، و شرحته السنة الشريفة.
و يستفاد من قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ أنّهما عبادتان يعتبر فيهما قصد التقرب للّه تعالى، فلا يتمّان إلا لوجه اللّه عزّ و جل.
و ذكر بعض المفسرين أنّ المراد من قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي ائتوا بهما تامّين فيكون محض أمر بالإتمام بعد الشروع فيهما، ثم ذكر أنّ العمرة غير واجبة فيكون الأمر بالإتمام للوجوب و الندب، كما تقول: صم رمضان و ستة من شوال.
و يرد عليه أولا: أنّ العمرة واجبة بمقتضى الآية و الروايات، و سيأتي في البحث الروائي ما يدل عليه.
و ثانيا: أنّ حمل الأمر على الوجوب و الندب باطل إلا بالعناية، و قد نبّه عليه هو في تفسير آية الوضوء أيضا، فقال بأنّ تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الألغاز و التعمية.
قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
مادة (حصر) تأتي بمعنى الضّيق و الحبس يقال: حصره العدو في منزله حبسه، و أحصره المرض منعه من السفر.
و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة تناسب هذا المعنى، و في الحديث «هلك المحاصير» أي المستعجلون، لأنّ الاستعجال في الشيء نحو تضييق في الجملة.
و قيل: إنّ الإحصار في المنع الظاهر عن الوصول إلى بيت اللّه تعالى، كالعدوّ، و الحصر، يقال في المنع الداخل كالمرض.
و لكن عن جمع من أهل اللغة أنّه لا فرق بين الإحصار و الحصر فإنّ كليهما يستعملان في الممنوعية عن الإتمام، سواء كان بسبب عدوّ أو مرض، إلا أنّه ورد في الأخبار المعتبرة عن الفريقين أنّ المحصور غير المصدود، فإنّ الأول هو المريض، و الثاني هو الذي يرده العدو.
و الاستيسار من اليسر يقال: يسر الأمر و استيسر، كما يقال صعب و استصعب، و هو السهولة أي: ما تيسّر كلّ فرد بحسب حاله.
و الهدي يصح أن يكون من الهدية و التحفة، و من السوق إلى الرشاد، و هو يرجع إلى الأول، لأنّ الهدية إلى اللّه عزّ و جل نحو سوق لفاعليها إلى الرشاد كلّ بحسبه، فهدايا العباد إلى اللّه جلّ جلاله سياق لهم إلى الرشاد لا سيّما إذا تشرّفت بالقبول.
و المراد به: ما يسوقه الناسك من النّعم للتضحية به في مكة أو في منى.
و المعنى: إن منعتم عن الإتمام بسبب مرض أو غيره فليرسل كلّ ناسك ما تيسّر له من الهدي كلّ بحسب حاله من الإبل و البقر و الغنم، و من موارد ما استيسر من ساق الهدي ثم أحصر فإنّه يكفيه ذلك كما هو المشهور عند الإمامية.
قوله تعالى: وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
الحلق: استيصال الشعر، و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اللهم اغفر للمحلّقين- قالها ثلاثا-».
و المراد بهم في الحج و العمرة، و إنّما قال (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك لأنّ أكثر من حج معه (صلّى اللّه عليه و آله) لم يكن معهم هدي فلما حلق من كان معه هدي، و أمر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من لم يكن معه هدي أن يحلق. و لكنّهم اثروا البقاء على إحرامهم، فتدارك النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك منهم بالدعاء لهم.
و الرأس: معروف و يكنّى به عن أعلى كلّ شيء، و عن الرئيس أيضا.
و المعنى: و لا تحلّوا بالحلق فإنّ الشارع جعل الحلق أول الإحلال حتى يبلغ الهدي محلّه المقرّر شرعا، و قد حددته السنة الشريفة بأنّه منى إن كان حاجا، و إن كان معتمرا فمحلّه مكة و فناء الكعبة أو حزورة.
و يستفاد من الآية المباركة: أنّ للهدي محلا معينا لا يصح أن يذبح في غيره، إلا أنّ السنة حدّدته بمنى أو مكة، كما عرفت.
قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ.
الأذى: ما يصل إلى الإنسان من المكروه في نفسه أو جسمه أو تبعاته.
و كذا بالنسبة إلى مطلق الحيوان.
و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، فقد ورد استعمالها بالنسبة إلى اللّه عزّ و جل و رسوله أيضا، قال تعالى: يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ [الأحزاب- ٥۳]، و قال تعالى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ [الأحزاب- ٦۹].
و الفاء للتفريع على الحكم السابق الدّال على النهي عن حلق الرأس فيكون المراد بالمرض خصوص المرض في الرّأس الناشئ من ترك الشّعر و عدم الحلق، و من مقابلته للأذى يستفاد أنّ الأخير حاصل من غير المرض، كالهوام و غيره، ففي الحديث: «إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). مر على كعب بن عجرة الأنصاري و القمل يتناثر من رأسه، فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أ يؤذيك هوامك؟ قال: نعم- الحديث-».
و المعنى: فمن كان منكم في حال الإحرام مريضا يضرّه توفير الشّعر، أو بالرّأس ما يؤذيه كالقمل و نحوه من الهوام، فإنّه يجوز الحلق مع الفدية.
قوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
الصدقة: ما يتطوّع به في سبيل اللّه واجبا كان أم غيره. و مادة «نسك» تأتي بمعنى العبادة، و الناسك العابد، و اختصت بأعمال الحج، كما أنّ النّسيكة تختص بالذبيحة.
أي: إنّ المحرم الذي جاز له الحلق حال الإحرام يفدى بواحدة من هذه الخصال الثلاث: إما الصيام، أو الصدقة، أو النسك. و لم تبيّن الآية حدود كلّ واحدة من هذه الخصال إلا أنّه ورد في السنة المقدّسة ما يبيّن ذلك، فالصيام بثلاثة أيام، و الصدقة إطعام ستة مساكين، و النسك ذبح شاة.
قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ.
الأمن: طمأنينة النفس، و زوال الخوف. و الأمن و الأمان، و الأمانة تستعمل مصدرا تارة، و اسما أخرى و يفرق بالقرائن.
و مادة (متع) تأتي بمعنى الارتفاع و الانتفاع، يقال: متع النهار و متع النبات إذا ارتفع. قال تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ [البقرة- ۳٦]، أي: انتفاع. و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، و غالب استعمالاتها تشعر بالقلّة و الزوال و التحديد، و هو كذلك إذ لا نسبة بين المتناهي من كلّ جهة و غير المتناهي كذلك، و في الحديث: «لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء».
و سمي حج التمتع تمتعا، لأنّ المحرم يحلّ من إحرامه بعد تمام العمرة، فينتفع بما حرّم عليه لأجل الإحرام حتى يهلّ للحج، فهو إحلال بين إحرامين.
و هذه الآية صريحة في تشريع حج التمتع لأنّ الجملة الخبرية أصرح في التشريع من الإنشائيات، و قد أثبتوا ذلك في الأصول و من شاء فليراجع كتابنا (تهذيب الأصول). و لم يخالف في ذلك أحد من المسلمين، و سيأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بذلك.
و الفاء في قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ للتفريع على الإحصار. كما أنّ الباء للسببية.
أي: تمتع بسبب العمرة بأن ختمها و أحل منها، فإنّه يتمتع بما كان محرما عليه حال الإحرام حتى يهلّ بالحج.
و المعنى: فإذا أمنتم بارتفاع المانع من عدوّ، و مرض و نحوهما فمن كان متمتعا بالعمرة بأن أحلّ منها إلى وقت الإهلال بالحج فعليه ما استيسر من الهدي.
قوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
أي: عليه ما استيسر من الهدي يذبحه في منى كلّ بحسب حاله من إبل أو بقر أو شاة.
و الظاهر من الآية المباركة أنّه دم نسك لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحج من الميقات، كما قال به الشافعي.
قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ.
أي: فمن لم يجد الهدي لعدم التمكن من المال لشرائه أو لعدم وجدانه، فعليه صيام ثلاثة أيام من الأيام التي من شأنها أن يقع فيها الإحرام بالحج.
و في جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاد زمانهما، و ذلك لأنّ الزمان الذي يعدّ عرفا من الحج هو من زمان الإحرام إلى الحج إلى الانتهاء عنه، فتكون أيام الصيام هي يوم التروية و ما قبله و ما بعده و من فاته في ذلك فعليه الصيام بعد أيام التشريق، و لا يصح الصيام فيها، و في ذلك وردت روايات كثيرة من السنة المقدّسة، و عليه الإجماع، و سيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.
قوله تعالى: وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ.
التفات من الغيبة إلى الحضور لبيان أنّ السبعة بعد الرجوع لا حينه.
أي: و سبعة بعد الرجوع إلى أهله و وطنه، فلا يكفي إرادة الرجوع، أو حينه.
قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ.
إجمال بعد تفصيل أي: أنّ تلك الأيام الثلاثة في أيام الحج، و السبعة بعد الرجوع إلى الأهل عشرة كاملة في النسك.
و يستفاد من هذه الآية أمور:
منها: أنّ تلك الأيام العشرة تعد نسكا واحدا عند اللّه تعالى لا يضرّ الفصل فيها و إن بلغ ما بلغ.
و منها: أنّه لا يضر إتيان السبعة في غير أيام الحج، بل في غير أشهره.
و منها: أنّه لا يفسدها الصوم في السفر.
و منها: أنّ كلّ واحدة من الثلاثة أو السبعة عمل خاص و تام في حدّ نفسه، و له حكمه و إنّما الأخيرة مكملة للأولى.
و منها: دفع توهم الإباحة و الاستغناء بإحديهما.
و منها: الاهتمام بالعشرة و التأكيد على إتيانها كاملة من دون نقص و لا إغفالها بوجه.
و منها: إفادة أنّ البدل يقع مقام المبدل منه كاملا و أنّه كامل ككمال الهدي و الاضحية.
قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
ذلك: إشارة إلى التمتع بالعمرة إلى الحج، و الأهل يقال: لمن يختص بشيء، سواء كان ذلك الشيء إنسانا أم غيره. يقال: أهل الرجل، و أهل الدار، و أهل الذكر. و الآل لا يقال إلا فيما إذا كان للمختص به شرف، سواء كان دنيويا، كقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر- ٤٦]، أم معنويّا كآل موسى و هارون. أم هما معا كآل محمد (صلّى اللّه عليه و آله).
و حاضري من الحضر- بفتحتين- و الحضور خلاف البعد، و الغيبة، و البدو. و المراد به: المقيم عند المسجد الحرام، و ليس المراد منه مقابل السفر.
و المستفاد من الآية: أنّ المدار صدق الحضور عليه مقابل النائي فيدخل فيه من كان مقيما في الحرم، و قد حدّدته السنة الشريفة بما إذا كان بينه و بين المسجد الحرام بما يعادل أقل من ثمانية و ثمانين كيلو مترا و النائي من يكون أكثر من ذلك.
و حج التمتع وظيفة الآفاقي الذي يأتي من آفاق الأرض، و لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فقد أمر بالإهلال من المسجد الحرام أو غيره بعد الإحلال من إحرام العمرة و جواز التمتع بما كان محرما عليه بسبب الإحرام، ذلك تخفيف من ربّه عليه لتحمّله مشقة السفر و مقاساته لعنائه، و في العبارة من اللطف و العناية ما لا يخفى.
قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ.
أي: اتقوا اللّه بطاعته و امتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه، و يستفاد منه أنّ الحكمة في جعل الأحكام الإلهيّة إنّما هي التقوى، كما في قوله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ [الحج- 37].
كما يستفاد من الأمر بالتقوى في المقام أنّ هناك مخالفة تصدر و عصيان على هذا الحكم، فأمرهم بملازمة التقوى، و إتيان الأحكام الشرعية على وجهها المطلوب من دون تعيير و تبديل.
قوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
حذرهم من المخالفة و هتك الحرمات، و أوعد عليها لما يعلمه تعالى من عبث الأهواء في هذا الأمر، فإنّ الحج من الأمور التي كانت سائدة عند العرب من عصر إبراهيم (عليه السلام) و قد دخلته عادات و تقاليد لم يمضها الإسلام، فلم يكن التغيير أمرا سهلا على نفوس اعتادت بعض الأمور، و لذا فقد قابلوا الوضع الجديد بالإنكار و المخالفة فكان ذلك هو الموجب لهذا التشديد و التوعيد على المخالفة، و لذلك كلّه تعهّد النبي (صلّى اللّه عليه و آله) هذا التشريع الجديد بوجوه من الكلام في خطبته المباركة تضمّنت كثيرا من أحكام الحج. و أكّد عليه بأنحاء التأكيدات، فأمر (صلّى اللّه عليه و آله) بأنّه حكم أبدي لا يدخله أي تغيير و عام لا يستثنى منه أحد.
197- قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ.
أي: إنّ زمان الحج أشهر معلومات معيّنات، و معروفات عند الناس، و هي: شوال، و ذو القعدة، و ذو الحجة، كما تدل عليه السنة المقدسة، فلا يقع شيء منه في غيرها و إن كان ذلك الإحرام لأنّه من أجزاء الحج، و كذلك عمرة التمتع لأنها من الحج، و يدل عليه الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
فما ذكره بعض الفقهاء من أنّه يجوز تقديم الإحرام في غيرها لأنّه شرط للحج، كالطّهارة للصلاة فيجوز التقديم على وقت الأداء. غير صحيح كبرى و صغرى كما هو مذكور في كتب الفقه.
و المراد من الآية: أنّ مجموع الوقت من الأشهر الثلاثة وقت للمجموع من أفعال الحج فلا ينافي كون بعض الشهر هو زمان الحج فقط، كما لا ينافي اختصاص بعض أفعال الحج ببعض الأيام، لجريان العرف على عدّ جزء من الزّمان منزلة الكلّ، و عدّ جزء من العمل منزلة تمامه، يقال رأيته يوم الجمعة و إنّما رآه في بعضه دون الجميع و كذا اجتمعت معه سنة كذا، و غير ذلك.
و يستفاد من قوله تعالى: مَعْلُوماتٌ أنّه لا يجوز تأخيرها و إنساؤها إلى شهر آخر، كما كان المشركون يفعلونه.
قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ.
مادة (فرض) تأتي بمعنى قطع الشيء الصّلب، و التأثير فيه، قال تعالى حكاية عن الشيطان: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء- 7]، أي: مقطوعا معلوما، و تستعمل في فرائض اللّه تعالى لأنّها تقطع الأوهام و الشكوك و المحتملات بالنسبة إلى موردها.
و يطلق في اصطلاح الفقهاء على المواريث أيضا لأنّها تقطع و تقسم من مال الميت، و نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «تعلموا الفرائض فإنّها نصف العلم».
و في الحديث عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة».
و فرائض اللّه تعالى هي: الأحكام التي أوجبها على العباد، و الفرق بين الفرض و الوجوب من وجوه:
الأول: أنّ الفرض يختص بالنسبة إلى ما فرضه اللّه تعالى فقط بخلاف الوجوب فإنّه أعم، يقال: وجوب عقلي، و لا يقال: فريضة عقلية.
الثاني: الوجوب يطلق و لو على مرتبة الإنشاء، و الفرض لا يطلق إلا على مقام العمل.
الثالث: يطلق الفرض في الشريعة على ما ألزمه اللّه تعالى، بخلاف الوجوب فإنّه أعمّ من السنة و ما فرض اللّه جلّ شأنه.
و المعنى: فمن أوجب على نفسه الحج فيهنّ و ذلك بالشروع فيه بعقد الإحرام إمّا بالتلبية أو الإشعار بالهدي أو التقليد.
قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ.
نفي لجنس هذه الأمور الثلاثة مبالغة و هو يتضمن النّهي عنها، و هذا أبلغ.
أي: إنّ الحج بطبعه و الحكمة في تشريعه يأبى هذه الأمور كما يستفاد من تكرار لفظ «الحج» أيضا.
و تقدم الكلام في الرّفث في آية 187 من هذه السورة، و يراد به كلّ ما يستقبح ذكره من الجماع و دواعيه، و قد يكنّى به عن نفس الجماع، فالرّفث بالفرج الجماع، و باللسان المواعدة عليه، و بالعين الغمز له.
و مادة (فسق) تأتي بمعنى الخروج، يقال: فسق الرطب إذا خرج عن قشره، و يستفاد من موارد استعمالاتها أنّ الفسق خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد، و منه الفسق في الشرع و هو الخروج عن الطاعة، و هو أعم من الكفر، و العصيان أعم منهما، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة فيما يقرب من أربعين موردا كلّها تشعر بالذّم، و في المتعارف يستعمل فيمن عرف بذلك. و يقال للفأرة: الفويسقة، لأنّها تخرج من بيتها مرة بعد أخرى، و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اقتلوا الفويسقة فإنّها توهي السقاء و تضرم البيت على أهله»، و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «خمس فواسق تقتل في الحل و الحرم: الغراب، و الحداءة، و الكلب، و الحية، و الفأرة» و شرح هذا الحديث يطلب من كتب الفقه في مسائل تروك الإحرام.
و المراد بالفسوق هنا: مطلق ارتكاب المناهي، و ما يوجب الخروج عن طاعة اللّه عزّ و جل، و هو و إن كان حراما في غير الحج أيضا و لكن تكون حرمته في الحج أشدّ و آكد، فإنّ قصد الحاج السّفر إلى اللّه تعالى و الإقبال عليه عزّ و جلّ، و مع تلبسه بالفسوق يكون خارجا منه و بعيدا عنه تعالى، و لأنّ في الحج تكون حالة الارتباط و الاتصال بساحة ذي الجلال فما أقبح القطع و الانفصال في مثل هذا الحال.
و الجدال: المفاوضة على نحو المنازعة و المغالبة، و المراء بالكلام، و هو داخل في المصارعة لأنّها إمّا بالآلات الخارجية أو باليد، أو باللسان.
و الأخير يسمى جدالا، و ما كان منه لغير اللّه فهو قبيح، و ما كان لإظهار الحقّ فهو حسن، و ما كان لتثبيته و إيضاحه فهو أحسن.
و قد فسّر الجدال في الآية المباركة في السنة بقول: «لا و اللّه، و بلى و اللّه».
و الظاهر أنّ الآية المباركة تنهى عن أمور كانت متبعة عند العرب في زيارتهم لبيت اللّه الحرام و حجهم له، فقد كانت الأسواق في الموسم تعقد للمفاخرة بين القبائل و كان يجري فيها، التنابز بالألقاب و الخصام و المراء، و غير ذلك من المناهي المتعلقة باللسان فناسب ذلك النهي عن هذه الأمور في الحج و إلا فهي محرّمة في جميع الأحوال، و لبيان أنّ الحج بطبعه لا يقبل هذه الأمور فإنّه السّفر إلى اللّه و الإقبال عليه لغرض أسمى، و لا تناسب بين ما كان كذلك و بين ما هو من شأنه البعد و الفرقة و الانفصال.
قوله تعالى: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.
التفات من الغيبة إلى الخطاب و التكلّم لبيان كمال العطف و الاهتمام و الاقتراب إلى المتعبدين، و فيه من الترغيب إلى فعل الخير، كما أنّ في الآية من التذكير بأنّ أعمال العباد لا تغيب عنه عزّ و جل، فإنّ ما يفعله الإنسان من الخير سواء في الحج أو في غيره يعلمه اللّه و يجازي عليه، و هو الذي لا يضيع أجر المحسنين و لا يهمله عز و جل.
و ذكر الخير بالخصوص مع أنّه تعالى عالم بالخير و الشر، ظاهرهما و باطنهما كما في قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [البقرة- ۲۸٤]، و قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ [النور- 29]، إنّما هو للترغيب إلى الخير و حث الناس عليه، فتكون إرشادا إلى مطلوبيته له تعالى، مع أنّ ظاهر الحال و المكان يقتضي ذكر الخير و لو فرض وجود شرّ من المعاصي في البين فهو مضمحل في جنب ذلك الخير العظيم لغلبته عليه في تلك المشاعر العظام.
و التصريح باسم الجلالة ليكون إثبات الشيء ببرهان.
و فيه من التنبيه إلى أنّ الإنسان لا بد أن لا يفقد روح العمل، و هي الحضور لديه عزّ و جلّ في جميع أفعاله، و أنّه لا بد من التطابق بين العلم و العمل فإنّ أحدهما بدون الآخر لا أثر له في نظر القرآن.
قوله تعالى: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.
الزاد: ما يتهيّأ للسفر، و هو يختلف كمية و كيفية باختلاف حالات السفر، و السفر على قسمين: سفر في الدنيا، و سفر من الدنيا. و في كلّ منهما لا بد من الزاد و زاد الأول هو: الطعام و الشراب و المركب و نحوه، و زاد الثاني: هو معرفة اللّه تعالى و الطاعة، و الاستعداد للآخرة.
و قد بيّن سبحانه أنّ خير الزاد لهذا السفر هو التقوى، أي فعل الطاعات و ترك المعاصي، و ترك ما يوجب سخط اللّه تعالى، و التقوى هي الصراط المستقيم إلى الإنسانية الكاملة و الجنان العالية، و هي الارتباط الوثيق مع مالك الدنيا و الآخرة.
و ذكرها في المقام لبيان أنّ الحاج إذا كان في سفره القصير لا بد له من الزاد و إلا هلك، فكيف بالسفر الطويل البعيد المحفوف بالمخاطر العظام، فيكون احتياجه إلى الزاد أهم و أعظم.
و من تعريف الخبر (التقوى) يستفاد أنّ الأمر مقطوع به، و لا يدخله الشك، و أنّ الحكم على التحقيق كذلك.
و الآية تنحل إلى برهان قويم، و ترجع إلى قول: تزودوا بخير الزاد، و خير الزاد التقوى، فتزودوا بالتقوى، و الكبرى معلومة بالأدلة الأربعة.
ثم إنّ ظاهر الآية المباركة العموم بالنسبة إلى تمام الحالات و الأزمنة و الأمكنة و إنّما ذكر في المقام بالخصوص لاقتضاء الحالة بتزود التقوى لأنّه السفر إلى اللّه تعالى.
و أما ما عن ابن عباس أنّه قال: «كان أهل اليمن يحجون و لا يتزوّدون و يقولون نحن متوكلون ثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت الآية المباركة» فهو من باب ذكر المصداق لا الحصر الحقيقي، و يمكن تعميم الأمر بالتزود في خصوص الحرم الإلهي حتى بالنسبة إلى ما تعارف بين الحجيج من حمل الهدايا معهم إلى بلادهم.
قوله تعالى: وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ.
اللب: هو العقل الخالص عن شوائب الأوهام، خصّهم بالذكر لأنّهم المؤهّلون لذلك، فإنّهم يعرفون حاجتهم إلى التزوّد بالتقوى، و ما للتقوى من فضل عظيم خطير، و أنّ بالعقل يخشى اللّه و تتقى المعاصي.
و من حذف المتعلّق يستفاد أنّه تعالى هو المقصود من التقوى، و ما للتقوى من فضل عظيم خطير، و أنّ بالعقل يخشى اللّه و تتقى المعاصي.
و من حذف المتعلّق يستفاد أنّه تعالى هو المقصود من التقوى، و أنّه لا بد من قطع النظر عن كلّ شيء سواه، و هذا هو الذي يستشعره ذو اللب الخالص و العقل السليم.
و هذا الخطاب جذب لأولياء اللّه تعالى إلى عالم لا نهاية لعظمته و كبريائه و لا غاية لكماله و تقريب لهم إلى صور لا حدّ لجمالها و دلالها كيف فإنّ التقوى مفتاح بركات السماء و الأرض، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ [الأعراف- ۹٦]، و هي أساس الفلاح، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة- 100]، و هي الوسيلة لجلب السعادة للإنسان.
و هذه الآيات تدل على الترغيب إلى اكتساب الفضائل و التجنب عن الرذائل، و التشبّه بربّ الأرباب جلّ شأنه، و استكمال الإنسان بجميع ما أعد له من الكمال، فيترتب عليه جميع ما أعد له من الجزاء الموعود في القرآن و الكتب السماوية ترتب المعلول على العلّة التامة المنحصرة.
198- قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
مادة (ج ن ح) تستعمل في الإثم المائل عن الحق، و يسمّى كلّ إثم جناحا، و قد ورد لفظ جناح في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موردا منفيّا بليس، أو لا، و لكن لم يرد مثبتا فيه و إن ورد بهيئاته الأخرى، مثل قوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال- ٦۱].
و المراد به في المقام: نفي الحرج و الإثم، أي: لا بأس في ابتغاء الفضل من ربّكم، و المراد من ابتغاء الفضل هو طلب الرزق بالكسب و التجارة، نظير قوله تعالى: وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل- ٤۰]، و قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة – 10]. و قد ورد في السنة الشريفة أنّ الابتغاء من الفضل هو الرزق، فالآية المباركة تدل على إباحة البيع و زيادة الرزق بالتجارة.
و عليه فتكون الآية المباركة في مقام الاستدراك عما يتوهّم و ينسبق إلى الفهم من الأمر بالتزود من التقوى، و من مخاطبة أولي الألباب بالأمر بالتقوى خلاف ما كان الأمر عليه في الجاهلية من الكسب و التجارة و عقد الأسواق في الموسم لها، و لأجل ذلك كان بعض المسلمين في أول الإسلام يتأثّمون من ذلك فأزال تعالى هذا الوهم، و أعلمنا بأنّه لا بأس بالكسب و التجارة و أنّ ذلك من فضل اللّه تعالى بل يستفاد من قوله تعالى: مِنْ رَبِّكُمْ أنّه داخل في العبادة، و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الكاسب حبيب اللّه».
فتكون الآية المباركة صريحة في عدم المنافاة بين الحج و طلب المال.
و لكن يمكن أن نقول: إنّ المراد من الابتغاء بالفضل هو الأعم من طلب الرزق بالتجارة و من طلب المغفرة كما ورد في بعض الروايات فإنّها المطلوب الأهم للإنسان، فتكون ترغيبا إلى ازدياد الخير بعد الترغيب بالتقوى، و الحث عليها، و إشارة إلى عدم الاعتماد على مجرد التقوى بل الاعتماد كلّه على فضل اللّه تعالى.
قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ.
مادة (فيض) تأتي بمعنى سيلان الماء مع الكثرة، و تستعمل في كلّ دفع مع كثرة كما في المقام، و الاستفاضة هي الشيوع و الكثرة و الانتشار.
و عرفة هي بمعنى الإصابة يقال: عرفه أي أصاب عرفه- أي رائحته- أو خدّه. و عرفات علم للمكان المخصوص المعروف، و هي في معنى الجمع و ليس بجمع شيء، و ما
في بعض الأخبار: «الحج عرفة» إنّما هو باعتبار الزمان لا باعتبار كون عرفة مفرد عرفات، و تنوينه تنوين المقابلة لا تنوين التمكن.
و سمي الزمان و المكان بها لتحقق تعرف في البين إما لأجل أنّ خليل الرحمن (عليه السلام) عرف صدق رؤياه، أو لأجل أنّ جبرائيل عرفه مشاعر الحرام في هذا المكان، أو لأنّ اللّه عز و جل يتجلّى لأهل عرفات، أو لأجل أنّ في هذا المكان يعرف العباد أنفسهم إلى اللّه تعالى بالدعاء و الثناء، أو لأجل أنّ الناس في هذا المكان يعرف بعضهم بعضا، أو لأجل ارتفاع المحلّ ارتفاعا ظاهريا أو معنويا من عرف الدّيك.
و الآية تدل على الوقوف في عرفات بالملازمة فإنّ الإفاضة من محلّ يستلزم الكون فيه لا محالة. مع أنّ الكون فيها كان معهودا في الجاهلية و قرره الإسلام، و إنّما يراد بيان بقية أعمال الحج، فالموضوع مفروض الوجود عند بيان اللواحق و الأحكام.
قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ.
و هو المزدلفة، و جمع. و سمي مشعرا لأنّه معلم لشعائر اللّه تعالى و عبادته، و هو المكان المعروف. و المراد بالذّكر هو الصلاة، و التهليل، و التسبيح، و الدّعاء، و هو ما يعلم الواجب و المستحب.
و الآية المباركة تدل على وجوب الوقوف بالمشعر الحرام و لو بالمسمّى الذي هو الكون لدلالة الذّكر عليه و إن كان بالملازمة.
قوله تعالى: وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ.
تأكيد للجملة السابقة و ترغيب إلى ذكره تعالى و الحث على الإقبال إليه و إرشاد للإنسان إلى أنّه ينبغي أن يكون على ذكره تعالى دائما أي: و اذكروه بالثناء و الشكر على هدايته إيّاكم و أنّكم كنتم من قبل الهدى لمن الضالين.
و ال (واو) للحال و (ان) مخففة من الثقيلة لدلالة اللام عليه، و هي تفيد التأكيد.
و المستفاد من الآية الشريفة: أنّ ذكر المنعم و شكره لا بد أن يكون لأجل نعمته، و لا نعمة أولى و أحسن و أتم و أكمل من الهداية إلى الإيمان و ترك الكفر و الضلال.
199- قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ.
حيث للمكان المبهم يفسره ما بعده، و يمكن أن يطلق على المكان المبهم باعتبار حالة من يحلّ فيه من الوقار و السكينة و الذكر و نحو ذلك.
و المراد من الناس من يصلح للاقتداء و الايتمام به و العالمين بحدود الحج و أحكامه العاملين بها، و هم منحصرون في خليل الرحمن و ذريته القائمين مقامه العاملين بشريعته، فهو (عليه السلام) أول هذه السلسلة و أئمة الحق من ذريته آخرها، و العلماء العاملون الذين يتلونهم علما و عملا حفظة هذه التشريعات.
و إنّما ذكر لفظ الناس ليشمل جميع من له دخل في تشريع هذه المشاعر حدوثا و بقاء و حفظا و إبقاء.
و معنى مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي على الحالة التي أفاض الناس المعهودون في هذا المكان. و يستفاد من قوله تعالى أمرهم بالإفاضة التي يريدها اللّه جلّ شأنه و نبذ الحركة الهمجية في هذه الحالة التي ينبغي فيها ملاحظة الخضوع و الخشوع للّه تعالى.
و ظاهر الآية الشريفة: أنّه إيجاب للإفاضة المعهودة بين الناس، و بعد ذكر الإفاضة من عرفات يستفاد أنّه إفاضة إلى منى بعد الوقوف في المزدلفة.
فيكون قد ذكر سبحانه الوقوفين أحدهما بالصراحة و هو الوقوف بعرفات و الإفاضة إلى المزدلفة بقوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ و الآخر بالملازمة و هو الوقوف في المشعر الحرام و الإفاضة منه إلى منى فتكون (ثم) على الحقيقة لوجود التراخي الزماني بين الإفاضتين.
و في ذلك خلاف ما كانت عليه قريش و حلفاؤها الذين هم (الحمس) فإنّهم كانوا لا يقفون بعرفات ترفعا بل بالمزدلفة، و كانوا يقولون نحن أهل حرم اللّه لا نفارق الحرم و كانوا يمنعون الناس من أن يفيضوا معهم من المزدلفة، فأثبت سبحانه إفاضتين و وقوفين لأنّ الإفاضة لا تكون إلا بعد وقوف و لو بمقدار الذكر، و يدل على ما ذكرنا بعض الأخبار كما يأتي في البحث الروائي.
و قيل- و عليه أكثر المفسرين- أنّ المراد الإفاضة من عرفات كما كان عليه دأب الناس فأمر اللّه تعالى أولئك العرب الّذين كانوا لا يقفون مع غيرهم في عرفات. و بذلك يكون تشريعا للوقوف بعرفات و أنّ الكلام بمنزلة الاستدراك بعد قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ و تكون (ثم) دالة على التراخي الرتبي و الخطاب مع قريش فقط.
و لكن فيه نظر فإنّه بناء على ذلك تكون الجملة تكرارا لمفاد الجملة الاولى و هو لا يليق بكلامه تعالى، فلا بد من حمل الإفاضة إمّا على الإفاضة من المشعر إلى منى كما ذكرنا أو حملها على كيفية الإفاضة في الإفاضتين بأن يكون المفيض على هدوء و وقار بلا تهجم، و للإعلام بأنّ الإفاضة المطلوبة هي الإفاضة المشروعة فإنّها هي من رحمة اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
تحريض على طلب المغفرة و دعوة منه تعالى إلى الجنة لأجل أنّ الزمان و المكان من مبشرات ذلك فهما من أفضلهما، فكما أنّ الوقوف بعرفات و المشعر و أيام منى يوجب تخفيف الذنوب و التقرّب إلى المحبوب و أنّه تعالى يتجلّى لعباده في تلك المشاعر ليتجاوز عن المسيئين و يرفع درجات المخلصين، أمر تعالى بطلب الغفران لينطبق الحال مع المقال و يصير اللسان و المكان جميعا فيضان الرحمة و إفاضة النعمة، فكأنّه تعالى يريد أن يطهّر ضيوفه الواردين إليه عن دنس المآثم و يزيل عنهم شرّ الوسواس الخنّاس ثم يأذن لهم في الخروج عن حرمه و هذا هو أعظم أنواع الهدايا و أشرف أنحاء العطايا منه للعباد.
و في الآية إشارة إلى أنّ ذكر الآباء بمعزل عن هذه الهدية و لا أثر له في هذه العطية و لا ينافي ذلك استفادة العموم من جملة وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ لجميع الناس و في جميع الأمكنة كما تدل عليه العلة التامة الشاملة بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي كثير الغفران و وسيع الرحمة.
و قد ذكر لفظ «الغفور» في عدة آيات كثيرة كلّها مقرونة بالتأكيد و التثبيت مثل لفظ «انّ» و «كان» و مقرون بالرّحيم و الحليم.
و في حال التلبس بأفعال الحج يشملهم استغفار الملائكة أيضا و النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لعظمة الموقف.
و قد كررت هذه الآية في [سورة المزمل- 20]، و قد رغّبت السنة المقدسة في التوبة و الاستغفار مما لا يمكن إحصاؤها و استقصاؤها و لعلّ هذا بعض معاني
ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «عجبت من أقوام يجرّون إلى الجنّة بالسلاسل».
200- قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ.
مادة (قضى) من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بالنسبة إلى الخالق، و الخلق، و القول، و الفعل، و الدنيا و الآخرة و إنّها بمعنى فصل الأمر قولا كان أو فعلا، و يلزمه الإتمام و الفراغ.
و المناسك جمع منسك مصدر نسك و هو: العبادة، و الناسك: العابد، و اختص بأعمال الحج. و تأتي اسم مكان و هي: مواقيت النسك و أعمالها، و النسيكة مختصة بالذبيحة المتقرب بها إلى اللّه تعالى.
و المعنى: إذا فرغتم من أفعال الحج.
قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً.
تحريض إلى ذكر اللّه تعالى و الإكثار منه و المبالغة فيه و عدم الغفلة عنه كما لا يغفل أحد عن ذكر آبائه لا كما اعتادوا عليه من ذكر الآباء و الاكتفاء بهم. و (أو) للإضراب. و (أشد) غير منصرف لوزن الفعل و الوصفية، و الشدة تأتي بمعنى الكثرة في الكيفية و الكثرة في الكمية. أي إنّ ذكركم للّه تعالى إمّا أن يكون كذكر آبائكم أو أشد و أكثر و أعلى.
و الذكر: هو حضور المذكور في القلب و اللسان. و تقدم ما يتعلق به في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ [البقرة- ۱٥۲]، و المراد به في المقام مطلق الذكر في تلك المواطن.
و في الخطاب كمال العناية و اللطف و التآلف حيث أمرهم بالذكر كذكرهم لآبائهم لئلا ينزجروا عن طريقتهم التي كانوا عليها ثم قال: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لتقريب أنّ نعم اللّه عليهم و على ءابائهم أكثر و أجل و أعلى من كل نعمة فلا بد و أن يكون الذّكر بما يناسب جلال اللّه و نعمائه.
قوله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا.
تفريع على ما تقدّم. و هو بيان لبعض أحوال الناس المختلفة، فإنّهم بالنسبة إلى السؤال من اللّه تعالى على أقسام:
فمنهم: من يطلب منه تعالى الدنيا فقط مع الغفلة عن الآخرة.
و منهم: من يطلب الدنيا من حيث كونها طريقا لتحصيل الآخرة.
و منهم: من يطلبهما معا.
و منهم: من يطلب الآخرة فقط. و الثاني يرجع إلى الثالث في الواقع.
كما أنّ الأخير يرجع إليه أيضا لأنّ طلب الدنيا إذا كان للظفر بالآخرة يكون من طلب الآخرة و بقي قسمان قسم يدعو لدنياه فقط و هو الذي ذكره تعالى بأنّه ليس له في الآخرة من خلاق و قسم يدعو لدنياه و آخرته و هو الذي مدحه تعالى، و هذا التقسيم حقيقي واقعي.
و المراد من الناس: مطلق أفراد الإنسان الأعم من المؤمن و غيره فإنّه من يطلب الدنيا و لا يبغيها إلا لأجل المفاخرة.
كما أنّ المراد من القول الأعم من السؤال بالمقال و الطلب بلسان الحال.
و إنّما أجمل سبحانه و تعالى المتعلّق في قوله تعالى: آتِنا فِي الدُّنْيا لاختلاف مراد الناس و لأنّه كالمعلوم و لبيان أنّ الدنيا أكبر همه و هو يريدها بأي وجه كان.
و المعنى: إنّ من الناس من يطلب من اللّه تعالى الدنيا مع الغفلة عن الآخرة.
قوله تعالى: وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.
مادة (خلق) تأتي بمعنى التقدير المستقيم سواء كان من شيء كقوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [النحل- ٤]، و قوله تعالى: خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن- ۱٥]، أو من غير شيء و لا مادة بل إبداعا كقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ [إبراهيم- 32]، بانضمام قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [البقرة- 117] و الثاني مختص به تعالى، بل الأول أيضا إذ لم يطلق في القرآن إلا بالنسبة إلى عيسى (عليه السلام) قال تعالى: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [المائدة- 110]، و لكنّه مقيّد في جميع ذلك بكونه من إذنه تعالى.
و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات شتّى بالنسبة إلى الجواهر و الأعراض، و النبات و الحيوان و الإنسان و الدنيا و الآخرة.
و هيئة (خلاق) لم تستعمل في القرآن إلا في موارد ثلاثة كلّها مضافة إلى الآخرة أحدها المقام، و الثاني قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة- 102]، و الثالث قوله تعالى: أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران- 77]، و هو بمعنى النصيب و تقدير الخير، و يأتي بيان ما يتعلق بسائر هيئات هذه المادة في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و المعنى: إنّه ليس لهذه الطائفة الذين يطلبون من اللّه تعالى الدنيا فقط نصيب في الآخرة، لأنّهم أعرضوا عن الآخرة و لم يعملوا لها فقد استولى على قلوبهم حبّ الدنيا و لم يعملوا إلا لأجلها و حليت الدنيا في أعينهم فكانت هي الحسنة عندهم فقط دون غيرها فلم يرجوا غيرها و لم يدعوا اللّه تعالى إلا إيتاءها و لم يؤمنوا بالآخرة فلم يعملوا لها.
و في الخطاب كمال المعاتبة و التوبيخ في أنّهم سألوا ما هو المتفاني و الزائل و طلبوا أدون المطالب و أعرضوا عن الحياة الباقية و النعيم الدائم و العيش الهنيء.
201- قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً.
أي: و من الذاكرين من يطلب خير الدنيا و الآخرة جميعا. و المراد من الحسنة أنواعها و ليس المراد جنسها، إذ الجنس لا تحقق له بدون الأنواع، و حيث إنّها مختلفة بحسب اختلاف الدواعي و الأغراض في الدنيا و الآخرة، إذ الحسنات المطلوبة لأهل المعرفة الذين أفنوا جميع شؤونهم في اللّه تعالى فحازوا مرتبتي الفناء في اللّه تعالى و البقاء به جلّت عظمته غير الحسنات المطلوبة لغيرهم و لذلك أتى باللفظ مجملا ليشمل الجميع.
و إنّما أورد لفظ الحسنة في هذه الطائفة دون الطائفة الأولى، لأنّهم آمنوا بأنّ في الدنيا حسنة و سيئة و في الآخرة كذلك و لم يسألوا من اللّه تعالى إلا الحسنة.
قوله تعالى: وَ قِنا عَذابَ النَّارِ.
بالعفو و المغفرة و احفظنا مما يؤدّي إليها من الذنوب و المعاصي.
202- قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا.
النصيب: الحظ المنصوب، أي المعنّى و قد ذكرت المادة في موارد من القرآن الكريم قال تعالى: وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود- 109]، و قال تعالى: وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [القصص- 77].
و مادة (كسب) تستعمل فيما يجلب به نفع أو يدفع به مضرّة و ما يناله الإنسان من عمله و تستعمل في الأعم من الصالحات و السيئات فمن الأولى قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الأنعام- ۱٥۸]، و المقام، و من الثانية قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام- 120]، و قوله تعالى: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر- ٤٥]، و يقال: فيما أخذه لنفسه أو لغيره، و لهذا قد يتعدى إلى مفعولين يقال: كسبت فلانا كذا.
و الاكتساب يختص بما أخذه لنفسه فكلّ اكتساب كسب و لا عكس، و يستفاد من قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنّ الكسب يستعمل في الأمور التكوينية إذا كان بعض مباديها اختياريا قال (صلّى اللّه عليه و آله): «أطيب ما يأكله الرجل من كسبه و إنّ ولده من كسبه».
و المعنى: إنّ أولئك الذين يطلبون حسنة الدّارين لهم ما يريدون و يعطون ما يدعون. و سمي الدعاء كسبا لأنّه من الأعمال.
و يستفاد من هذه الآية مع مقابلتها للآية السابقة أنّ أعمال الطائفة الأولى باطلة لا وزن لها عند اللّه تعالى، قال عز و جل: يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ [الأحقاف- 20]، و نظير هذه الآيات المباركة قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى- 20].
قوله تعالى: وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.
السرعة خلاف البطء، و تستعمل في الأجسام و الأفعال و فعل اللّه تعالى، و ترجع في فعله عزّ و جلّ إلى قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل- ٤۰]
و في السنة المقدّسة: «إنّ حساب جميع العباد عنده تعالى على قدر حلب شاة» و هذا من باب ضيق التعبير و إلا فهو أقلّ من ذلك فإنّ جميع الزمان و الدّهر و السّرمد عنده تعالى أقلّ من آن و لمحة البصر و إنّ جميع الممكنات- بجواهرها و أعراضها و روحانيّاتها و مجرّداتها- أقلّ من ذرة ملقاة في فلاة لا حدّ لها فهو أسرع الحاسبين مع هذه الإحاطة و الاقتدار و القهارية.
و سريع الحساب من أسماء اللّه الحسنى، و هو من صفات فعله لرجوعه إلى إرادته التي هي من صفات فعله تعالى أيضا، فيصح تصوير سريع الحساب في مرتبتي القضاء و القدر أيضا لأنّهما من صفات الفعل أيضا، و إن رجعا إلى العلم و الحكمة فيكونان من صفات الذات لكون العلم و الحكمة من صفات الذات، و لا بأس بأن تكون بعض الصفات برزخا بينهما باعتبار منشأ انتزاعهما.
و الأولى جعله من صفات الذات لكونه من أجلى مظاهر علمه التام الكامل جلّ شأنه، و يدل عليه ما عن بعض الأعاظم من المحدّثين و الفلاسفة بل نسب إلى الرواية أيضا: «من أنّ كلّ صفة لا يصح إطلاق خلافها عليه تكون من صفات الذات و ما صح إطلاق خلافها عليه عزّ و جل في الجملة فهي من صفات الفعل» و عليه لا يصح إطلاق خلاف سريع الحساب عليه فهو صفة الذات.
و قد ذكر ذلك في جملة من الآيات الشريفة قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمران- 19]، و المراد به جميع ما يتعلق بيوم القيامة من الجزاء و مقدماته و هو يرجع إلى قهاريته.
و إطلاقه يشمل سرعة مجازاة العباد على أعمالهم في الدنيا و العقبى فهو تعالى يسرع في الحساب و يجازي الصنفين من عباده و لا اختصاص لحسابه بخصوص جزاء أعمال عباده بطائفة دون أخرى أو بعالم دون آخر، بل شؤون جميع الممكنات حدوثا و بقاء داخلة تحت تربيته العظمى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء بل عمّت قهّاريّته من أول حدوث العالم إلى آخر ما يتصوّر من الخلود و هذا هو مقتضى الملازمة بين المبدأ و المعاد.
و إنّما عبّر عن الجزاء بالحساب لأنّ الجزاء كفاء العمل فهو حساب له.
و لعلّ ذكره في المقام لأجل دفع ما يتوهّم من عدم إمكان الإحاطة بحوائج كلّ واحد من أهل هذا المجمع الذي هو الحشر الأصغر كما في بعض الروايات فأزال سبحانه و تعالى هذا الوهم بقوله جلّ شأنه إنّه سَرِيعُ الْحِسابِ يحيط بهم و بأعمالهم و يجازيهم على إيمانهم.
و في الآية تحريض على الدّعاء و ترغيب إليه، و طلب الحوائج في المواطن الشريفة، و ترهيب عن المعاصي و أنّه تعالى يحاسب العباد في أسرع ما يمكن و يجازيهم على ما كسبوا، و في عالمنا هذا كلّما كانت أجهزة الضبط و الحساب أدقّ كانت النتائج أسرع كما نراه و قد ثبت ذلك في العلم الحديث هذا بالنسبة إلى عالم الماديات فكيف بما إذا كان الحساب و الجزاء بنفس الإرادة أي من إذا قال لشيء كُنْ فَيَكُونُ [يس- 82].
203- قوله تعالى: وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ.
مادة (عدد) تأتي بمعنى ترتب الآحاد أو آحاد مركبة. و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة في مواضع كثيرة يأتي التعرّض لها في محالّها.
و لفظ «معدودات» ورد في القرآن في موارد ثلاثة تقدم مورد منها في آية 184 البقرة و هذا هو الثاني. و يكنّى به عن القلّة- كما هو الشأن في الجمع بالألف و التاء غالبا- و هي في المقام أيام التشريق و هي اليوم الحادي عشر، و الثاني عشر، و الثالث عشر من ذي الحجة و تسمّى أيام النّحر أيضا و هو المستفاد من الآية الشريفة أيضا فإنّه تعالى بعد أن أمر بذكره جلّ شأنه في المشعر الحرام و أمر بذكره تعالى بعد تمام المناسك و أعمال الحج أمر بذكره جلّت عظمته بعد الفراغ من ذلك فيكون بعد العشرة الأولى من ذي الحجة في منى.
كما أنّ كونها ثلاثة يستفاد من قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ إذ التعجيل في يومين لا بد و أن يكون مع ثالث ينفر فيه و هي كانت معهودة في زمان الجاهلية. و على ذلك وردت روايات كثيرة من الفريقين.
و المراد بذكره تعالى: هو التكبير في أيام التشريق من بعد صلاة الظهر من النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، و يأتي صورته و عدده في البحث الروائي، و الأمر محمول على الاستحباب لدلالة السنة عليه كما يأتي.
قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ.
العجلة: طلب الشيء و تحرّيه قبل أوانه، و هي مذمومة في عامة آيات القرآن الكريم، و لذا ورد: «إنّ العجلة من الشيطان و التأنّي من الرّحمن». نعم ورد مدحها في جملة من الموارد مذكورة في السنّة المقدّسة يأتي بيانها في محلّها إن شاء اللّه تعالى، و قوله عز و جل في شأن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة- ۱٦]، يمكن أن يكون من العجلة الممدوحة، و مع ذلك أدّبه اللّه تعالى بأدب نفسه ترغيبا إلى التّأنّي مهما أمكن و يأتي الفرق بين العجلة و المسارعة في قوله تعالى: وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [آل عمران- ۱۱٤].
و الإثم و الآثام: اسم للأفعال المبعدة عن الثّواب و الخير، و يطلق على العقوبة أيضا، و له استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.
و «لا» لنفي الجنس في الموضعين أي: لا إثم على الحاج و قد غفرت ذنوبه بما كان من حجته المبرورة.
و المعنى: فمن تعجّل النّفر من منى في يومين و هما يوم النفر و الذي بعده و من تأخر في النّفر إلى اليوم الثالث عشر لا إثم عليه في الحالتين لأنّه مغفور له سواء استعجل أو تأخر.
و الآية تبيّن أمرين:
الأول نفي الإثم مطلقا عن المتنسّك فإنّه قد غفرت ذنوبه.
و الثاني التخيير في النّفر فإنّ الاستعجال في النفر و التأخير سواء فهو مغفور له على أي حال، و ذلك لدفع توهّم أنّ في التعجيل إثما، فيكون الكلام من باب المزاوجة التي تعد من أنحاء الفصاحة و إلا فإنّ التأخير فضيلة. كما يقال: إن أعلنت الصدقة فحسن و إن أسررتها فحسن أيضا و إن كان الإسرار أحسن و أفضل و لذلك نظائر كثيرة في كلمات الفصحاء.
قوله تعالى: لِمَنِ اتَّقى.
أي: لمن اتصف بصفة التّقوى التي هي من أجلّ المقامات فيكون بالنسبة إليه كلّ واحد من النفر الأول و الثاني على حدّ سواء، و يشمل ذلك التجنب عن محرّمات الإحرام كالصيد و نحوه فمقام المتقين أوجب التوسعة و التخيير لهم في النفر فيكون قوله تعالى: لِمَنِ اتَّقى قيدا لتمام الجملة التي قبله، و يدل عليه بعض الأحاديث أيضا.
و قد يقال: إنّ المراد بقوله تعالى: لِمَنِ اتَّقى الاجتناب عن المحرّمات في الإحرام و يكون على هذا قيدا لخصوص فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني أنّ من اجتنب المحرّمات في إحرامه لا بأس عليه أن ينفر في النفر الأول، و يشهد عليه سياق الآيات الواردة في الحج بعد ملاحظة مجموعها كما تدل عليه جملة من الأحاديث.
و يمكن إرجاع هذا الوجه إلى الأول بعد القول بأنّ إطلاق التّقوى نص في المورد.
قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
أمر بالتّقوى بفعل الطّاعات و الاجتناب عن المعاصي، و الحث عليها و تذكير بالحشر و الحساب فإنّ أمر التّقوى لا يتمّ إلا مع ذكر الحشر و الحساب و الجزاء، فيكون ذلك داعيا إلى العمل و باعثا على ملازمة التّقوى قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ [ص- ۲٦]، و قال جل شأنه: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر- 19]، و إطلاق هذه الآية المباركة يشمل نسيان المبدأ و المعاد فأنساهم أنفسهم.
و في الآية ترغيب إلى ملازمة التّقوى في جميع الحالات و إرشاد إلى عدم الاتكال على الطّاعات التي صدرت منه و عدم الاغترار بما فعل من الحسنات.
و من تكرار الأمر بالتّقوى و الذّكر يستفاد أنّه لا بد من ملازمتهما و تمكين النّفس منهما و عدم الغفلة عنهما بحال. و أنّ قبول الأعمال إنّما يكون بهما.