1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 106 الى 108

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (۱۰٦) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى‏ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)


بعد أن ذكر اللّه سبحانه و تعالى أنه ينزل الرحمة و الوحي على من يشاء من عباده بيّن سبحانه و تعالى استيلاءه على الحكم بكل ما يشاء من النسخ و الإثبات، لأنه مالك السموات و الأرض و على كل شي‏ء قدير، و في الآيات المباركة رد لمزاعم اليهود الذين يحدّدون قدرته تعالى بحد خاص، و قد ذم سبحانه و تعالى أيضا توجيه كل سؤال ينبعث عن قصور العقول إلى رسوله الكريم كما فعلت اليهود بالنسبة إلى موسى (عليه السلام). و هذا في الواقع يكون ذما للتقليد عن الكفار.

قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ. النسخ يأتي بمعنى إزالة شي‏ء بشي‏ء يتعقبه، يقال نسخت الشمس الظل؛ و نسخ الظل الشمس، و نسخ الشيب الشباب، و يستلزم ذلك أمور:
الأول: النقل كما يقال نسخت الكتاب، و قال تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية، الآية: 29] و هو عبارة عن نقله و ضبطه.
الثاني: مجرد الإزالة إذا لوحظ بالنسبة إلى المنسوخ فقط و عن بعض المفسرين أن منه قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ [سورة الحج، الآية: ٥۲] أي يزيله فلا يتلى و لا يثبت في المصحف، و الظاهر بطلانه لتذييل الآية المباركة بقوله تعالى: ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي يزيل ما ألقاه الشيطان و هو الباطل و يثبت الحق و أما نسخ التلاوة فسيأتي بطلانه إن شاء اللّه تعالى.
الثالث: الإثبات إذا لوحظ بالنسبة إلى الناسخ فقط.
الرابع: هما معا إذا لوحظ بالنسبة إليهما معا فيكون بمعنى التبديل أيضا، و منه اصطلاح العلماء في النسخ المبحوث عندهم أي تبديل ما كان ثابتا من الحكم الشرعي بدليل معتبر على خلافه. و التناسخ المعروف عند أهله أيضا من النقل و الإزالة كما لا يخفى.
و من ذلك يعلم أنّ تخصيص العمومات، و تقييد المطلقات، و القرائن العامة أو الخاصة على خلاف الظاهر ليس من النسخ في شي‏ء لا موضوعا و لا حكما.
و الآية هي العلامة، و تطلق على تمام الآية و على الجزء منها، بل قد أطلق القرآن الآية على ما جاء في الكتب الإلهية السابقة قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ [سورة آل عمران، الآية: 113]، و قال تعالى: أَ لَمْ‏ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ [سورة الزمر، الآية: 71].
و المراد بها العلامات الدالة على وحدانيته تعالى، و صفاته المقدسة و أفعاله الحسنى، و الأنبياء، و القرآن، و سائر المعجزات فلا تختص بخصوص الآيات المباركة القرآنية، و يستفاد هذا التعميم من قوله تعالى في ذيل الآية المباركة أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ، و قال الشاعر:
و في كل شي‏ء له آية تدل على أنه واحد و إن كان شأن النزول- كما في بعض التفاسير- آيات الأحكام الواردة في القرآن، و قد ذكرنا مرارا أن شأن النزول من باب التطبيق لا التخصيص.
فهي قابلة للشدة و الضعف فربما يكون شي‏ء آية له تعالى من جميع جهاته و قد يكون من جهة. و النسخ قد يتعلق بالجميع و قد يتعلق بالبعض.
قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها. من النسيان حذف حرف العلة للجزم بالعطف على «ننسخ» و الفعل «انسى ينسي» بمعنى ترك الحفظ إما لقصور، أو تقصير، أو عن علم و تعمد، لحكم و مصالح تترتب عليه. و من الأول قوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [سورة البقرة، الآية: ۲۸٦]،
و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «رفع عن أمتي الخطأ و النسيان».
و من الثاني قوله تعالى: وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [سورة الجاثية، الآية: ۳٤]، و قوله تعالى: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ [سورة السجدة، الآية: ۱٤]، و قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر، الآية: 19] و التقصير إنما هو من العبد لا منه تعالى، فإنه يجازي المقصرين حسب تقصيرهم.
و من الأخير قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها أي نترك حفظ الآية لمصالح.
و ترك الحفظ تارة: لعدم الوحي مع وجود المقتضي له، لمصالح في الترك تغلب على المقتضي. و أخرى: ترك الحفظ عن قلب نبينا الأعظم‏ (صلّى اللّه عليه و آله) مع صدور الوحي اليه. و ثالثة: بالإزالة عن قلوب المخاطبين مع صدور الوحي على لسان الرسول (صلّى اللّه عليه و آله). و يصح الجميع بالنسبة إليه عزّ و جل فان ما سواه تحت إرادته. و استعمال النسيان في ما ينبغي أن ينسى كثير، و في المثل المعروف «احفظوا أنساءكم» أي التزموا بأنسائها و عدم الالتفات إليها و عدم ترتيب الأثر عليها، و هي عبارة عن ذمائم الصفات التي يرتكبها الشخص في المجتمع على الغير أو يرتكبها الغير عليه.
و قال بعض المفسرين إن قوله تعالى: نُنْسِها أي نؤخرها من الإنساء، و منه قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «صلة الرحم مثراة للمال، و منسأة للأجل»، و يقال: نسأ اللّه أجلك، و قد انتسأ القوم إذا تأخروا، أو تباعدوا.
و يمكن المناقشة فيه: بأن الكلمة لو كانت من الإنساء بمعنى التأخير لما جاز حذف الياء، لأنها ليست حرف علة و القراءة المشهورة على خلافه، مضافا إلى أن التأخير ملازم للترك أيضا.
و لا تنافي بين هذه الآية المباركة و قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ [سورة الأعلى، الآية: ٦] لأن الأخير بحسب التأييد الإلهي، و الأول بحسب ذات الطبيعة البشرية. بل يمكن أن يقال: إن الآية المباركة لا تشمل نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بالنسبة إلى القرآن، لأنه مؤيد بروح القدس و متصل بالمبدأ القيوم. نعم في الموضوعات الخارجية ورد الإنساء بالنسبة إليه (صلّى اللّه عليه و آله) كما تقدم في قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها [سورة البقرة، الآية: ۳٦] فراجع.
قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها. اي نأت بخير من تلك الآية المنسوخة في الأثر، و أنفع منها في الإقناع و الصّلاح وفق المصالح، لأن الدار دار التكامل، و أفعال اللّه تعالى مبتنية على المصالح التكاملية مع اقتضاء علمه الأتم و حكمته البالغة في ذلك أيضا.
قوله تعالى: أَوْ مِثْلِها. في التأثير ليتذكر الإنسان ما قد نسيه‏ منها.
قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ. هذا بمنزلة التعليل لاستيلائه تعالى على النسخ و الإنساء، فإنّ قدرته التامة غير المحدودة تقتضي ذلك، و هو قرينة على أن المراد من الآية ليس خصوص القرآن، بل تشمل كل آية دالة على وحدانيته و صفاته الحسنى، فتشمل المعجزات الباهرات و منها القرآن الكريم الدالة على نبوة أنبياء اللّه تعالى.
و الخطاب للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) تشريفي، و لأنه (صلّى اللّه عليه و آله) بمفرده بمنزلة الجميع، و لبيان طريق الاستدلال له حتّى يتعلم منه الجميع. و يعتبرونه الواسطة بينهم و بين اللّه تعالى. و الاستفهام تقريري و هو أبين في الإثبات من نفس الاستدلال.
ثم إنه تعالى أراد تثبيت ايمان المؤمنين لئلا يتأثروا بشبهات الكافرين فأقام الدليل الآخر على تمام قدرته.
قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ. أي أنه مالك لهما خلقا و إيجادا، و إرادة و تدبيرا، و النّاس كلهم عبيده يفعل ما يشاء فيهم و يحكم ما يريد لا يعجزه شي‏ء. و الخطاب للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) تشريفا و المراد به غيره.
قوله تعالى: وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ. التفات في الخطاب من الإفراد إلى الجمع لما ذكرناه و الولي هو القائم بالأمر و مدير الرعية و مدبر أمورها. و النصير من يطلب النصرة و التقوية منه. أي: إنّ وليكم و ناصركم هو اللّه تعالى وحده و هو يفعل فيكم بما تقتضيه حكمته البالغة و لا يفوته أحد، فهو الذي يقدر الإنسان على العمل بنحو الاقتضاء، كما أنه المالك للثواب و العقاب فيكون تعالى مبدأ الكل و منتهاه.
و الآية من الأدلة العقلية على تمام قدرته و كمال إرادته، و كما لها نظير في الآيات القرآنية، و فيها إشارة إلى لزوم انقطاع العباد إليه تعالى لانحصار الولاية فيه و الإعانة منه عزّ و جل فهو مسبب الأسباب بما يشاء و إن كان جعلها تحت اختيار العبد و قدرته فلا بد و أن يكون السعي من العبد و النصرة منه عزّ و جل، فإن وافقت نصرته تعالى لسعي العبد فذلك هو الفوز العظيم و إن تخلفت فهو الخسران المبين.
قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ. أم هنا منقطعة بمعنى بل، و تتضمن الاستفهام فتكون إضرابا عن عقائدهم الفاسدة بما هو أفسد. و المراد بالسؤال كل سؤال لا يصدر عن فكر و روية بل يصدر عن عناد و لجاج، و يكون منشؤه الجهل المركب. و قد بيّن سبحانه و تعالى بعض تلك الأسئلة في آيات أخرى، فقال تعالى: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [سورة الإسراء، الآية: 90] و المراد بالسائل كل من تصدى له سواء كان من الكفار أو المشركين أو المنافقين.
و السؤال في الآية المباركة عام يشمل ما وقع في عصر البعثة بالنسبة إلى اصل حدوث الشريعة و ما يقع بعدها إلى يوم القيامة كما قال تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة، الآية: 101] و استنكار إرادتهم للسؤال يستلزم استنكار وقوع المراد بالأولى، فهي أشد من تقبيح المراد و الذم عليه، فيصير نظير قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة القصص، الآية: 83] فنفى تعالى اصل تحقق المراد منهم بنفي اصل الإرادة.
قوله تعالى: كَما سُئِلَ مُوسى‏ مِنْ قَبْلُ. فقد طلب فرعون و قومه من موسى (عليه السلام) الآيات الواحدة تلو الأخرى و لم يؤمنوا بها استكبارا منهم و عنادا، و كذلك فعل بنو إسرائيل فإنهم سألوا موسى (عليه السلام) أن يريهم اللّه تعالى جهرة كما حكى اللّه تعالى عنهم، فقال عزّ و جل: إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة، الآية:٥٥]، و قال تعالى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف، الآية: 138] و غير ذلك من اقتراحات بني إسرائيل على موسى (عليه السلام) من قبل.
و قيل: إن بعضهم سأل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أن يجعل‏ لهم ذات أنواط كما كان عند أقوام آخرين. فحقيقة الجهل المركب واحدة و ان اختلفت مظاهرها. و قد أخبر نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بأن ما وقع في بني إسرائيل يقع في هذه الأمة أيضا. و لا ريب أن تلك الأسئلة لا تصدر إلّا ممن طبع على اللجاج و العناد، و عدم الإعتقاد بما جاء به الأنبياء، و لذا أنكر عليهم سبحانه و تعالى.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
التبديل هو جعل شي‏ء بإزاء شي‏ء آخر بدلا منه. و السواء هو الوسط، و سواء السبيل الصراط المستقيم. أي إن من عاند أنبياء اللّه تعالى و لم يؤمن بما جاؤا به بكثرة السؤال فقد اختار الكفر على الإيمان، و من كان كذلك فقد ضل عن الصراط المستقيم.
و المراد بالتبديل حقيقته الأعم من أن يكونوا قد قصدوا ذلك أو لم يقصدوه، و هذه العناية لم توجد في التعبير بالشراء و الاشتراء الواقعين في آيات اخرى.
و السرّ في ذلك ما ثبت في الفلسفة العملية من أن أفعال العباد و إن كانت معلولة للإنسان لكنها مع كونها كذلك لها جهة علّية في نفس الفاعل، فتكون مؤثرة فيه بنحو من الأنحاء فيصير علة لعمله، و عمله علة مؤثرة فيه أيضا، فإذا كان العمل الصادر من الإنسان خيرا أثّر فيه و أوجب صفاء نفسه و نورا في قلبه، و إن كان شرا أوجب ظلمة و كدورة فيها حتّى تصل إلى ما قاله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين، الآية: ۱٤] و حينئذ يرى الفاعل أثر فعله في هذه الدنيا فلا اختصاص لقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزال، الآية: 8] بالآخرة بل يعم جميع العوالم، كما تدل عليه الأحاديث الكثيرة التي تأتي الإشارة إليها في محلها. و عليه فإذا لم يسلك الصّراط المستقيم انسلاكا اعتقاديا أو عمليا فقد ضل عن سواء السبيل.

في تفسير العياشي: «عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها «فقال (عليه السلام) الناسخ ما حوّل، و ما ينسيها مثل الغيب الذي لم يكن بعد قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ قال (عليه السلام): فيفعل اللّه ما يشاء، و يحوّل ما يشاء مثل قوم يونس إذ بدا له فرحمهم و مثل قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ قال (عليه السلام) «أدركهم برحمته».
أقول: ما ورد في الأحاديث في أصل النسخ و في الناسخ كمية و كيفية كثير جدا و متواتر بين الفريقين، و ما ذكره (عليه السلام) في هذا الحديث في النسخ بالمعنى العام أي مطلق التحويل و التغيير الشامل للبداء أيضا كما صرح في الرواية التالية صحيح لا إشكال فيه، و تقدم في تفسير الآية ما يدل عليه أيضا.
و أما قوله (عليه السلام): «و ما ينسيها مثل الغيب الذي لم يكن» يحتمل فيه معنيان- الأول: صدور الوحي إلى قلب النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ثم إنساء ما اوحي اليه قبل بيانه لمصالح فيه. الثاني: ثبوت المقتضي في عالم الغيب للوحي ثم ترك الوحي أصلا لمصالح فيه أيضا. و المنساق من الحديث المعنى الأخير، لأنه باق على غيبه المكنون، و عدم صدوره عن مرتبة الغيب إلى مرتبة اخرى من وحي و غير ذلك، و هذا وجه حسن.
و في تفسير العياشي عنه (عليه السلام) أيضا: «إن من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ و نجاة قوم يونس».
أقول: كون البداء من النسخ بحسب المعنى اللغوي و هو مطلق التحويل صحيح لا إشكال فيه، لكن المنساق من مجموع الروايات الواصلة إلينا أن مورد النسخ التشريعيات، و البداء مورده التكوينيات، و هذا الاختلاف بحسب المتعلق لا بحسب الذات.
و روي أيضا: «إن موت إمام و قيام آخر مقامه من النسخ».
أقول: ظهر وجهه مما تقدم من أن النسخ بمعنى مطلق التحويل أي تحويل الامامة من إمام إلى امام آخر.
و في تفسير النعماني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ذكر عدة آيات من الناسخ و المنسوخ منها قوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ نسخه قوله عزّ و جل: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي للرحمة خلقهم.
أقول: إن المراد من النسخ بالمعنى الأعم أي مطلق التحويل و إلّا فخلق الجن و الإنس ليعبدون أي ليأمرهم بالعبادة كما في جملة من الأخبار، و هو عبارة اخرى عن خلقهم للرحمة بعد امتثال الأمر.
و فيه أيضا قال (عليه السلام): و نسخ قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا قوله تعالى: الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ.
أقول: هذا من سنخ التخصص بالنسبة إلى الآية الأولى. و لا ينافي ذلك قوله تعالى: كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا لفرض الخروج الموضوعي.
فما في بعض التفاسير من المنافاة بأنه لا وجه لتخصيص القضاء الحتم مغالطة بين التخصيص و التخصص. مع أنه لو كان القضاء الحتم تحت اختياره تعالى من كل جهة حدوثا و بقاء يصح التخصيص بالنسبة إليه أيضا، و إنما أظهره تعالى بصورة التعميم و الحتم لمصالح في ذلك.
و عن الواحدي في أسباب النزول في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها- الآية: إن المشركين قالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه‏ بأمر ثم ينهاهم عنه و يأمرهم بخلافه، و يقول اليوم قولا و يرجع عنه غدا؟ أما هذا القرآن إلّا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه و هو كلام يناقض بعضه بعضا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية و نزل أيضا: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ.
أقول: إن ما قاله المشركون نشأ من عدم فهمهم للقواعد العرفية الدائرة بينهم.
و في الدر المنثور عن قتادة: «كانت الآية تنسخ الآية و كان نبي اللّه يقرأ الآية و السورة، و ما يشاء اللّه من السورة ثم ترفع فينسيها اللّه نبيه؛ فقال اللّه تعالى يقص على نبيه: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي».
أقول: هذه الرواية لا تناسب مقام النبوة و حفظه لما يوحى اليه كما عرفت سابقا.
و عن الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس في قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ- الآية-: «نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أبي أمية و رهط من قريش، قالوا: يا محمد (صلّى اللّه عليه و آله) اجعل لنا الصفا ذهبا، وسع لنا أرض مكة، و فجر الأنهار خلالها تفجيرا، نؤمن بك فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».
أقول: يدل على ذلك ما تقدم من‏ قوله (صلّى اللّه عليه و آله) «بأن ما وقع في بني إسرائيل يقع في هذه الأمة أيضا».

استدل بعض المفسرين بالآية الشريفة ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها على إمكان النسخ و وقوعه في القرآن الكريم، و ذكرنا ان المراد من النسخ في الآية المباركة غير المعنى المصطلح فيه، بل هو بالمعنى الأعم. و لتوضيح ذلك لا بد من البحث فيه و لو على سبيل الإجمال.

النسخ في اللغة هو الإزالة و يلازمها النقل و الإبطال بالوجوه و الاعتبار كما ذكرنا سابقا و بهذا المعنى كان معروفا في عصر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و ما بعده فكانوا يطلقونه على التخصيص و التقييد بل على كل قرينة دلت على الخلاف كما عرفت.
و اما بحسب اصطلاح العلماء فالمشهور بينهم أنه بيان انتهاء أمد الحكم الثابت سابقا. و توضيح ذلك أن كل حكم إذا لوحظ بالنسبة إلى حكم آخر يتصور على وجوه:
الأول: الخروج الموضوعي أي الاختلاف بين الحكمين من ناحية الموضوع، كخروج السؤال و الالتماس عن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [سورة المائدة، الآية: 1] فإنهما ليسا من العقود في شي‏ء و اصطلح العلماء على هذا القسم بالتخصّص.
الثاني: الخروج الحكمي مع بقاء الموضوع كخروج البيع الخياري عن العموم المتقدم فإنه بيع مع أنه لا يجب الوفاء به، و اصطلح عليه بالتخصيص.
الثالث: بقاء الموضوع و الحكم على حالهما، و لكن جعل الحكم كان محدودا بحد معين في عالم الإنشاء، و التشريع، و إنشاء الحكم بصورة الدوام و الاستمرار لمصلحة ما، فإذا انتهت مدة الحكم أقيم حكم آخر مقامه و هذا هو النسخ، و الفرق بين القسمين الأخيرين أن التخصيص خروج فردي و تحديد في الأفراد و الحالات ظاهرا، و النسخ تحديد في الأزمان في الواقع لا ان يكون التحديد في ظاهر الدليل، و إلّا كان تقييدا أو تخصيصا، بل الحكم أنشئ بصورة الدوام و لكنه في عالم التشريع مقيد إلى وقت معين. و لذا قيد العلماء في التعريف الحكم بالثابت أي: الثابت في الواقع، و أما الثابت في الخارج فلا يرتبط رفعه خارجا بالنسخ، لأن فعلية كل حكم تدور مدار تحقق موضوعه في الخارج فإذا وجد يترتب عليه الحكم لا محالة، و إذا ارتفع يرتفع الحكم الفعلي، و هذا لا ربط له بالنسخ بوجه من الوجوه، و لا إشكال فيه من أحد.

لا ريب أن القوانين مطلقا- سواء كانت إلهية أو وضعية- تابعة للمصالح و المفاسد أي: أنها وضعت لتحقيق مصالح الإنسان و درء المفاسد عنه، فقد تقتضي المصلحة جعل القانون ثم تقتضي مصلحة أخرى رفعه أو تغييره، و هذا مما تعارفت عليه القوانين الوضعية، فإذا وضع الحاكم حكما لتنظيم العلاقات الفردية أو الاجتماعية ثم يرى عدم الفائدة في تطبيقه، أو أنه لا يحقق المصالح المتوخاة من جعله يلغي ذلك القانون أو يصلحه بقانون آخر. و لم تخرج القوانين الإلهية عما تعارف عليه بين الناس، بل لنا أن نقول أن النسخ كسائر ما يعرض على القانون من العموم و الخصوص، و الإطلاق و التقييد. و المجمل و المبين من لوازم جعل القانون بحيث لا يمكن تصويره إلّا و معه أحد تلك اللوازم.
و النسخ بهذا المعنى معلوم عند كل أحد لا ينبغي الإشكال فيه و هو بالنسبة إلى القوانين الوضعية صحيح، فإن الواضع الجاهل بحقيقة الحال لا يعرف متى ينتهي وقت العمل بالقانون الذي وضعه و متى يتغير، و لكن ذلك لا يصلح في النسخ بالنسبة إلى القوانين الإلهية فإنه يستلزم الجهل بالنسبة إلى الشارع المقدس، و هو مستحيل، فلا بد و أن يستند النسخ إليه سبحانه و تعالى بوجه صحيح، و عمدة الوجوه المحتملة هي:
الأول: إبداء الحكم بصورة الدوام لمحض المصلحة في الإنشاء و التشريع، ثم تتبدل المصلحة الظاهرية إلى مصلحة واقعية في المتعلق و المجعول تقتضي نسخ ما أنشئ أولا، نظير التكاليف الامتحانية.
الثاني: كون المصلحة الموجودة في المتعلق محدودة بحد معين في الواقع و لكن إنشاء الحكم بصورة الدوام لمصلحة في ذلك ثم إنشاء حكم آخر لمصلحة يقتضيها الوقت. و إنما ظهر من الحكم الثاني ان الحكم الأول كان محدودا بحد معين فانقضى حده، و تبدل الأحكام بتبدل المصالح و المفاسد مما يشهد بصحته الوجدان و البرهان.
الثالث: كون الحكم ذا مصلحة كاملة من جميع الجهات في الإنشاء و المتعلق و الدوام، ثم تبدلت تلك المصلحة بأخرى مساوية أو أقوى اقتضت رفع الحكم الأول و نسخه، فيكون مثل التخصيص إلّا أنه تخصيص زماني كما عرفت.
الرابع: كون الحكم في الواقع هو الحكم الناسخ الذي سيثبت بعد ذلك و إنما أنشئ المنسوخ لمصلحة مقدمية لبيان حكم الناسخ في ظرفه و جميع هذه الوجوه صحيحة في نسخ اللّه تعالى لأحكامه المتعالية، و لا يستلزم منها أي نقص بالنسبة إليه عزّ و جل.
و الحكمة في النسخ واضحة بعد ما عرفت، لأنه من مظاهر ربوبيته تعالى العظمى، فإنه عزّ و جل لم يكلف عباده إلّا بالتدريج و الإمهال متلطفا بهم، و مراعيا أحوالهم، فكانت الشرايع الإلهية خطوات متصاعدة في رقي الإنسان، و تربيته تربية تدريجية متكاملة، فالنسخ يرجع إلى سياسة العباد و التعهد بهم، كما أنه يظهر مقدار طاعة الإنسان، فهو نوع من الامتحان ليميز الخبيث من الطيب. و هو بالأخرة من مظاهر علمه الأتم و حكمته البالغة، فهو و البداء يتفقان في أنهما يكشفان عن علمه السابق إلّا أن الثاني مورده التكوينيات، و الأول مورده التشريعيات فهو عالم بحقائق الأمور و محيط بكل شي‏ء و لكن اقتضت حكمته البالغة أن تكون التكاليف على التعاقب و التدريج، و من ذلك يظهر إمكان النسخ ذاتا بالنسبة إليه تعالى، و عدم الإشكال فيه بوجه من الوجوه.

ذكرنا أنّ النسخ واقع في القوانين الوضعية، و أجمع المسلمون على وقوعه شرعا. و أدل دليل على إمكان الشي‏ء ذاتا هو وقوعه، فيمكن ادعاء إجماع العقلاء على جوازه في الجملة، و لكن خالف في ذلك اليهود، و النصارى، و هم بين منكر لأصل جوازه، أو منكر لوقوعه في شريعة من الشرايع، و استدلوا على ذلك بأمرين:
الأول: أن النسخ يستلزم جهل الباري عزّ و جل، أو عدم حكمته لأنّه إن علم سبحانه بأنّ المصلحة في الناسخ و أنّه يرفع المنسوخ فلا وجه‏ لإظهاره، إذ لا مصلحة فيه، و كل تشريع لم تكن فيه المصلحة يكون منافيا للحكمة. و إن لم يعلم بالناسخ حين إظهار المنسوخ يكون جهلا منه و هو ممتنع بالنسبة إليه.
و الجواب: أنّ اللّه تعالى عالم بالناسخ و المنسوخ و لكن اقتضت المصلحة لإظهار المنسوخ بصورة الدوام، و يكون الناسخ كاشفا عن انتهاء مدة حكم المنسوخ و قيام غيره مقامه، لمصالح في الوضع و الرفع تختلف باختلاف الجهات و المقتضيات كما عرفت.
و الظاهر أنّ الإشكال المزبور نشأ من جعل النسخ من مراتب علمه تبارك و تعالى الذي هو عين الذات الأقدس، و كل تغيير في العلم يستلزم التغيير و التبديل في الذات.
و الحق أنّ النسخ من مراتب الإرادة التي هي عين فعله سبحانه و هو قابل للتغير و التبديل مع علمه تعالى بذلك، و لا يلزم من ذلك أي محذور.
الثاني: إنّ رفع الحكم الواقع و إزالته لا يمكن فإن الشي‏ء لا يتغير عما وقع عليه، كما ثبت في الفلسفة.
و الجواب: أنّ ذلك من قياس الإرادة الإلهية على إرادة الفاعل المختار الممكن، و هو باطل لأن فعل الفاعل المختار إذا صدر عنه خرج عن تحت اختياره فلا يمكن تغييره عما وقع عليه. و أما الإرادة الإلهية فالمراد تحت إرادته حدوثا و بقاء، و إيجادا و إفناء لا سيما بناء على ما ثبت في الفلسفة المتعالية أن مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث، و لعلنا نتعرض لهذه المسألة في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.
و هناك وجوه أخرى استدلوا بها على إنكار النسخ إمكانا و وقوعا أغمضنا النظر عنها لوضوح بطلانها.
و يمكن أن نقول: إنّ الغاية من إنكار النسخ هي رد الشرايع السماوية لا سيما شريعة خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) و الاحتفاظ لأنفسهم بالحركة الدينية، و هذا ضرب من غرورهم و جهلهم، و الإيمان‏ ببعض الكتاب و الكفر ببعضه الآخر، كما حكى اللّه تعالى في كتابه المجيد. و كيف يحق لهم الإنكار و هم يذعنون بأن شريعتهم نسخت الشرايع السابقة، ثم كيف يمكن لهم ادعاء استحالة النسخ مع وقوعه في كتب العهدين و هو كثير نذكر منه موردين. أحدهما من العهد القديم، و الثاني من العهد الجديد.
الأول: ورد في الباب الثاني و العشرين من سفر التكوين أن اللّه تعالى أمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح إسحاق (عليه السلام) ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل، فقد ورد فيه: «ثم مد إبراهيم يده و أخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء و قال: ابراهيم ابراهيم فقال: ها أنا ذا.
فقال: لا تمد يدك إلى الغلام، و لا تفعل به شيئا، لأني الآن علمت أنك خائف اللّه، فلم تمسك ابنك وحيدك عني، فرفع إبراهيم عينيه و نظر و إذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم و أخذ الكبش و أصعده محرقة عوضا عن ابنه». و كذلك ورد في الإصحاح التاسع من سفر التكوين: أن كل دابة كانت مباحا في شريعة نوح ثم نسخت في شريعة موسى، فقد ورد فيه: «كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع».
الثاني: ورد في الآية الثالثة عشرة من الإصحاح الثامن من الرسالة العبرانية «فإذا قال جديدا عتق الأول، و أما ما عتق و شاخ فهو قريب من الاضمحلال». و ذكر ياييل في تفسير هذه الآية: «هذا ظاهر جدا أنّ اللّه يريد أن ينسخ العتيق بالرسالة الجديدة الحسنى فلذلك يرفع المذهب الموسوي اليهودي و يقوم المذهب المسيحي مقامه» إلى غير ذلك مما ذكروا من موارد النسخ التي تزيد عن ثلاثين موردا و إنما لم نتعرض لها خوفا من الإطالة.

يظهر من ما تقدم شروط النسخ: و هي ثلاثة:
الأول: أن يكون النسخ في الأحكام الشرعية، فلا يقع في غيرها إلّا بالعناية و المجاز، كما سيأتي.
الثاني: أن يكون النسخ بدليل شرعي سواء كان من القرآن أو السنة أو الإجماع القطعي. فلا يكون من النسخ موارد ارتفاع الموضوع أو انتفاء الشرط.
الثالث: أن يكون دليل الناسخ ناظرا إلى الحكم المنسوخ و معارضا له تعارضا حقيقيا لا يمكن الجمع بينهما، فيكون كاشفا عن رفعه، فليس كل تناف بين الدليلين أو الحكمين من النسخ، و لذا وقع الخلاف في كثير من الآيات المباركة التي ادعي النسخ فيها، و هي ليست كذلك بل من التقييد أو التخصيص، و سيأتي البحث عن كل آية في محلها إن شاء اللّه تعالى.
ثم إنّ الناسخ و المنسوخ يتصوران بحسب الاحتمالات العقلية ثلاثة أقسام: تقارنهما زمانا، تقدم الناسخ على المنسوخ، تقدم المنسوخ على الناسخ، و المتعارف من النسخ، و المنساق منه في الكتاب و السنة هو الأخير. و الأولان من مجرد الإمكان الذاتي.

ذكرنا أنّ النسخ- في الجملة- من لوازم جعل القانون، سواء كان إلهيا أو وضعيا، فلا يختص بشريعة دون أخرى فهو واقع في الشرايع السابقة كشريعة موسى (عليه السلام)، و شريعة عيسى (عليه السلام) بلا فرق بين أن يكون في شريعة واحدة أو في لاحقة بالنسبة إلى الشريعة السابقة، راجع كتب العهدين تجد الأمثلة على كلا القسمين، و قد ذكرنا سابقا ما يدل على ذلك.
و أما بالنسبة إلى شريعة الإسلام فقد دلت الأدلة العقلية على أنها خاتمة الشرايع الإلهية، و ناسخة لجميعها، و لا خلاف بين المسلمين في ذلك قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19] و قال تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ‏ الْخاسِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: ۸٥] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.
و قد ذكرنا أن الشرايع الإلهية خطوات متكاملة في سبيل رقي الإنسان، و أنها مدارج كماله، فهي تبتدئ من الأمور الفطرية المودعة في الإنسان الذي بها يتميز عن سائر المخلوقات حتّى تصل إلى أقصى درجات الكمال من جميع الجوانب، فكل شريعة من الشرايع الإلهية خطوة من خطوات تلك التربية الحقيقية الإلهية حتّى تصل إلى الصرح الشامخ الإسلامي الذي يكون جامعا لجميع الحقائق و الكمالات، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة، الآية: 3]،
و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «مثلي و مثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه و أجمله إلّا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل النّاس يطوفون به و يعجبون له، و يقولون هلّا وضعت هذه اللبنة، قال (صلّى اللّه عليه و آله): فانا اللبنة و أنا خاتم الأنبياء»، و في حديث آخر عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
و لا ينافي ذلك قوله تعالى: وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة النساء، الآية: ۱۲٥] و غيرها من الآيات المرغبة إلى اتباع ملة إبراهيم لأنها كالمادة القريبة للملة الإسلامية و هي متمم صورتها.
و لا بد أن يعلم أنّ النسخ في الشرائع الإلهية يقتصر على تلك الأحكام الشرعية التي تتبدل بحسب المصالح و الظروف، فيكون تبدل الأحكام في الشرائع المتعددة كتبدل حالات المصلي في شريعة الإسلام من الصحة و المرض، و السفر و الحضر. و فقد بعض الشروط و وجدانه و نحو ذلك.
فلا مجرى للنسخ في أصول الدين، و كذا بالنسبة إلى الأحكام العقلية التي يحكم بحسنها جميع العقلاء و التي كشف عنها الشارع المقدس و كذلك بالنسبة إلى مهمات فروع الدين- كأصل الصّلاة و الصوم و الزكاة و نحوها- و يدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة، قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [سورة الشورى، الآية: 13].
فما قيل: إنّ الأصل في كل شريعة أن تنسخ ما قبلها، و قد نقل أنه: «لم تكن نبوة قط إلّا تناسخت».
فإن أريد منه على نحو الجملة أو الإجمال فهو صحيح لا ريب فيه، كما تقدم. و أما إذا أريد منه على نحو الكلية فهو باطل، بل لنا أن نقول إنّ كل شريعة لاحقة مقرّرة للشريعة السابقة إلّا إذا علم بنسخها أو بطلانها.

قد ذكر العلماء للنسخ أنواعا و أقساما، و المهم منها ما كان مرتبطا بأركانه و هي: المنسوخ، و الناسخ- و لا يخفى أن الناسخ هو اللّه تعالى و يطلق على الدليل مجازا- و مورد النسخ. و يظهر حكم بقية الأقسام ضمنا.
التقسيم الأول: ينقسم النسخ باعتبار الناسخ إلى أنواع ثلاثة:
الأول: أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن بمثله. و هذا لا إشكال فيه عقلا، و واقع كثيرا، كما يأتي في هذا الكتاب.
الثاني: أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن بالسنة المعتبرة، او الإجماع القطعي، و هذا القسم أيضا لا إشكال فيه عقلا و نقلا، و خالف في ذلك بعض العلماء فذهب إلى أن نسخ الكتاب الشريف لا يكون إلّا بمثله، و استدل بقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [سورة البقرة، الآية: ۱۰٦] بتقريب أن اللّه تعالى أسند إتيان الناسخ إلى نفسه عزّ و جل و ما يأتيه هو القرآن فقط. و هذا الاستدلال موهون جدا، فإن السنة المقدسة أيضا من اللّه تعالى، قال عزّ و جل: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى‏ [سورة النجم، الآية: 3].
الثالث: نسخ الحكم الثابت بالقرآن بالخبر الواحد، و في جوازه و عدمه قولان: نسب إلى المشهور الثاني، و المسألة محررة في الأصول.
التقسيم الثاني: باعتبار المنسوخ و ذكروا له حالتين.
الأولى: نسخ الحكم الثابت بعد حضور وقت العمل به، و هو واقع بلا ريب و لا إشكال.
الثانية: نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل به و فيه قولان: قول بعدم صحته، لعدم الفائدة و المصلحة فيه، و قول آخر بالصحة، و هو المشهور بين الإمامية.
و أورد على القول الأول بأن المصالح و المفاسد لا يعلمها إلّا اللّه تعالى و لا ملزم أن يعلمها كل أحد، مع إمكان دعوى مصلحة الامتحان و الابتلاء فيه. نعم الغالب في النسخ أن يكون بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ، و لكن ليس ذلك من المقومات الذاتية له، فالمدار على وجود المصلحة سواء كان بعد حضور وقت العمل، أو في أثنائه، أو قبله.
ثم إنّهم ذكروا أنّ الحكم الناسخ (تارة) يكون أخف من الحكم المنسوخ مثل قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى‏ نِسائِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 187] بعد تحريم الجماع، و الأكل و الشرب بعد النوم في ليلة الصيام (و أخرى) يكون مساويا له مثل نسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة المقدسة. (و ثالثة): يكون أشد مثل نسخ حد الزنا بالحبس في البيت، و التعنيف بالحد مائة جلدة و الرجم.
و لا إشكال في الأقسام الثلاثة إمكانا و وقوعا، بل يمكن تحقق النسخ بلا بدل و إيكال الأمر إلى البرائة العقلية. إن قيل: إن هذا مناف لظاهر قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها. يقال: الحكم البتي العقلي يكون من (مثلها) لفرض أنها مقررة بالكتاب و السنة.
التقسيم الثالث: النسخ في القرآن، و هو أنواع ثلاثة:
الأول: نسخ الحكم فقط، و لا إشكال في إمكانه و وقوعه، بل هو المشهور من النسخ إذا أطلق في القرآن الكريم، و هو كثير مثل نسخ وجوب تقديم الصدقة على مناجاة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ [سورة المجادلة، الآية: 12] و يأتي التعرض للآيات المتضمنة لذلك في محالّها إن شاء اللّه تعالى. و خالف في ذلك بعض المفسرين، بل قال بعدم وقوع النسخ في القرآن. بل في شريعة محمد (صلّى اللّه عليه و آله). و هو مردود عقلا و نقلا.
الثاني: نسخ التلاوة فقط و المشهور بين العامة وقوعه في القرآن الكريم. و استدلوا بآية الرجم «الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» فقالوا: إن هذه الآية لم يعد لها وجود في القرآن، مع أن حكمها ثابت.
و الحق عدم وقوع هذا النوع من النسخ، بل يعد ذلك من التحريف الذي أجمعت الإمامية على نفيه في القرآن زيادة و نقيصة، و ما استدلوا به أخبار آحاد معارضة بروايات أخرى كثيرة تدل على أن الآية ليست من القرآن، مضافا إلى عدم وجود المصلحة فيه إن لم تكن فيه المفسدة.
الثالث: نسخ الحكم و التلاوة و ذهب جمهور المفسرين إلى إمكانه و استدلوا على وقوعه بما ورد عن عائشة أنها قالت: «كان في ما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، و توفي رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هن في ما يقرأ من القرآن».
و يرد عليه ما أورد على النوع السابق، مع أنه لا يتصور معنى معقول للنسخ في هذا النوع، و سوف نتعرض لمسألة تحريف القرآن في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.
ثم إن سور القرآن بالنسبة إلى وجود الناسخ فيها، أو المنسوخ أربعة أقسام:
القسم الأول: السور التي لم يدخلها ناسخ و لا منسوخ كسورة الفاتحة، و يوسف، و يس، و الإخلاص و غيرها، و قيل: إنها ثلاث و أربعون سورة.
القسم الثاني: السور التي فيها ناسخ و منسوخ و هي: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة و غيرها من السور التي عدّوها.
القسم الثالث: السور التي فيها ناسخ و ليس فيها منسوخ و هي الفتح، الحشر، المنافقون و غيرها من السور التي ذكروها.
القسم الرابع: السور التي فيها منسوخ، و ليس فيها ناسخ و هي طه و الرعد و غيرهما من السور التي عدّوها.
و لكن في هذا التفصيل خلاف بين المفسرين، و سيأتي تفصيل كل ذلك في محله إن شاء اللّه تعالى.
و قد حصر بعض المفسرين جميع الآيات المنسوخة في عشرين آية و مع ذلك فيه بحث.

قد تكرر قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ [في آيتي: ۱۰٦- ۱۰۷] و يمكن أن يكون الوجه في ذلك تعدد منشأ النسخ و الإزالة فأطلق تارة بالنسبة إلى الأعراض و الاعتباريات، و أخرى بالنسبة إلى الجواهر و الذوات كما قالت اليهود بالنسبة إلى كل منهما، فزعموا أن قدرته تعالى محدودة بالإحداث فقط فإذا حدث يخرج عن تحت قدرته جل شأنه، كما حكى اللّه تعالى عنهم وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [سورة المائدة، الآية: 64] فأبطل تعالى في المقام كل ذلك، و حكم بأن الأشياء كلها تحت قدرته حدوثا و بقاء أما الحدوث فبقوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ و أما البقاء فلقوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ.
ثم إنّ إطلاق الآية المباركة: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يشمل جميع آياته عزّ و جل من حيث أحكامه تعالى، و من جهة جماله و جلاله، فكل شي‏ء له آية من الجواهر و الأعراض في الأرضين و السموات، و له عزّ و جل في ذلك كله إبداع و إنشاء، فهي من الأمور التشكيكية شدة و ضعفا، كمية و كيفية، فنسخه تعالى يشمل جميع ذلك كله‏ بحيث لأحد للناسخ و لا حد للمنسوخ و لا يحيط بكل واحد منهما إلّا هو تعالى، و في كل شي‏ء له آية، و كل شي‏ء له فيه نسخ و تغيير و تبديل، و لا معنى لما أثبته أكابر الفلاسفة من أن مناط الحاجة هو الإمكان حدوثا و بقاء إلّا هذا، كما لا معنى لكونه تعالى مهيمنا على ما سواه، على الإطلاق، و إن عنده خزائن الأشياء كلها و ما ينزلها إلّا بقدر معلوم إلّا هذا.
و النسخ قد يتعلق بتمام الآية أو الحكم كله، و أخرى ببعض الجهات دون البعض، و الثاني لا ينافي بقاءها من سائر الجهات، و سيأتي التفصيل في هذه المباحث في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"